الفصل الأول: عصر النهضة

بعد أن انتهى حكم الصفويين في إيران قامت دولتا الأفشاريين والزَّند وظلتا تحكمان زهاء سبعين عامًا. ولم يكن للأدب شأنٌ يُذكر في عهد هاتين الدولتَين. وفي أواخر القرن الثامن عشر (١٧٩٦م) استطاع محمد أغا القاجاري، أول ملوك القاجاريين أن يلي عرش بلاده موحدة، فبدأت البلاد تستعيد مجدها الغابر، وانتعشت الآداب والفنون. ولم يطُلْ عهد محمد شاه أغا في الحكم؛ فقد مات بعد سنة تقريبًا من تنصيبه ملكًا، ولو أنه في الواقع كان الحاكم الحقيقي لإيران منذ وفاة كريم خان. وقد خلفه ابن أخيه «فتح علي شاه»، وقد سمي باسم جده الذي كان ينافس نادر شاه أيام الصفويين، والذي رأى نادر أن يتخلص منه كي يخلو له الجو بعد القضاء على السلطان الصفوي الضعيف؛ فقتله. وكان عهد «فتح علي شاه» قلقًا، فإن روسيا وتركيا طمعتا في بلاده بعد أن مات زعيم الدولة محمد أغا، فاضطر «فتح علي» إلى محاربتهما، ولم يكن موفَّقًا. فعقد الصلح معهما بمعاهداتٍ خاسرة. وكان الإنجليز والفرنسيون يتطلعون إلى إيران ويتنافسون في الحصول على «المركز الممتاز» بها، فبعث كلٌّ منهما البعثات إلى البلاط، تقرُّبًا وزلفى، لعل الفرصة تواتي للتمكن والسيطرة. واكفهرَّ الجو السياسي بعد مقتل رئيس البعثة الروسية وأعضائها؛ فإن الشعب كان ساخطًا على الروس أشد السخط، فانتهز فرصة وجود البعثة في بلاده فثار وقتل أفرادها واضطر الملك إلى الاعتذار. ولم يكد الملك يستريح من الحروب والكروب السياسية حتى فوجئ بموت ولده «عباس ميرزا»، ساعده الأيمن في الحرب، والأمير الذي أدخل «المطبعة» في إيران ورعى الشعراء ونشر المؤلفات. ولم يحتمل السلطان فجيعة ولده فمات بعده بسنةٍ واحدة تاركًا العرش لحفيده محمد شاه بن عباس ميرزا الذي اضطر إلى الاستعانة بالإنجليز والروس ليقضي على منافسيه في العرش؛ عمه وأخيه. فهو مدينٌ بعرشه إلى مجهود قائدٍ إنجليزي وجماعة من الروس. ولكنه مع ذلك لم يتهاون في حقوق بلاده وحارب الإنجليز وقت حصار هراة ولو أنه اضطر إلى الصلح معهم، وقد تميز عهده بحادثَين، أولهما ثورة الإسماعيليين، والثاني ظهور الباب (١٨٤٤م).

وخلفه ابنه ناصر الدين شاه، أظهر ملوك القاجاريين، ويمتاز عهده الطويل (١٨٤٨–١٨٩٦م) بكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية والعلمية والأدبية، وكان السلطان نفسه شاعرًا يجيد فهم الآداب، وقد تعلم اللغة الفرنسية من طفولته فأجادها وقال بها الشعر، وأحب أوروبا حبًّا شديدًا فرحل إليها ثلاث مرات. وكان شديد الثقة في مستشاريه من أهل الغرب وكان لمشورتهم أثرٌ كبير في نهضة إيران. وقد اضطر في بدء ولايته إلى مواجهة «البابية» وكان خطرهم قد تزايد وبدءوا يقاومون جند الدولة في بعض الجهات، كما بدأت دعوتهم في الانتشار وحمل التعصبُ بعضَ البابية على محاولة قتل الشاه ففشلوا؛ فأدى ذلك إلى جمع قوى الدولة للقضاء على هذا المذهب وأهله. وبعد أن استراح من البابية التفت إلى الإصلاح الداخلي وكان أبرز أعماله الإصلاحية إنشاء الجامعة في إيران (دار الفنون) وجلب الأساتذة الأجانب للتعليم فيها، وإيفاد صفوة الشباب الإيراني إلى أوروبا، إلى فرنسا خاصة، لتلقي سائر أنواع العلم في جامعاتها. وكثرت في عهده الصحف، سواء ما ينشر منها في إيران نفسها أو في الخارج ويُرسَل سرًّا أو جهرًا إلى إيران. وأدخل التلغراف فأدى إلى كثير من الإصلاح في إدارة الدولة، كما ساعد على اطلاع الناس على أخبار أمم العالم باستغلاله في الصحافة. وكانت رحلات الشاه إلى أوروبا، يصحبه جماعة من أهل العلم والأدب، من أسباب تعريف الغرب بإيران، كما أن الشاه نفسه ومن سافروا معه كانوا رسل المدنية الغربية إلى بلادهم. وقد أدى هذا الاتصال إلى إيقاظ الإيرانيين فبدأ شعورهم بالوعي القومي يظهر، وأخذوا ينتقدون الشاه وحكومته في طريقة الحكم الذي لا يقوم على الشورى، كما بدءوا يظهرون التذمر من هذه الامتيازات التي تمنح للشركات الأجنبية لاستغلال منابع الثروة في إيران مع عدم المبالاة بصالح الشعب الإيراني نفسه. وكان للصحافة والجامعة أبعد الأثر في تنوير الأذهان لهذه الأفكار الجديدة.

أما الصحافة فقد ظهرت بعد إدخال «المطبعة» إلى إيران، وقد دخلت أول مرة أيام «فتح علي شاه»، فقد أوفد ابنه عباس ميرزا بعض الفرس إلى روسيا، سنة ١٨٢٤م، كي يتعلموا فن الطباعة وليحضروا من آلاتها ما تفتتح به المطبعة في بلاده. وكانت أول مطبعة في تبريز التي اشتهرت باسم «باصمه خانه» أي دار الطباعة. ولم تلبث المطبعة أن انتقلت إلى طهران حيث رعاها معتمد الدولة ميرزا عبد الوهاب الذي قام بنشر مجموعة من الكتب اشتهرت باسم «مطبوعات معتمد الدولة»، ومن ثم انتشرت المطبعة في كثير من مدن إيران مثل شيراز وأصفهان.

وإذا كان القرآن الكريم قد حظي بالأسبقية في الطبع المتقن، فإن الكتب الأخرى، وخاصة كتب التاريخ لقيت من العناية الشيء الكثير، وكذلك بدأت التراجم من اللغات الأجنبية إلى اللغة الإيرانية، ومن أقدم ما طبع منها تاريخ بطرس الأكبر، وشارل الثاني ملك السويد، والإسكندر الأكبر، وقد أمر بترجمتها ونشرها عباس ميرزا. كذلك طُبعت كتبٌ أدبية لسعدي والفردوسي وناصر خسرو وألوري وغيرهم.

وبجانب هذه الكتب الأدبية ظهرت مؤلفاتٌ سياسية كان لها أبلغ الأثر في توجيه الناس نحو الاستقلال الحقيقي الذي تبدو فيه حرية الفرد مكفولة لا تخضع لغير سلطان الحق، منها كتاب «يك كلمة» أي كلمة واحدة تناول فيه مؤلفه يوسف التبريزي حقوق الإنسان وقارنها بما جاء في القرآن والحديث والقانون الروماني.

ومنها «آزادي جه جيز است» (ما هي الحرية) لطالبيوف.

ولكي يستعين المثقفون باللغة الفرنسية ويتزوَّدوا بما كتب بها ظهر القاموس الفرنسي، والمحادثة الفرنسية الإيرانية، والأفعال الفرنسية باللغة الإيرانية.

•••

وقد أدت هذه الحركة الثقافية التي نتجت عن «المطبعة» إلى التطور الفكري والتنبه إلى الإفادة من الغرب وحضارته، فبدأت الحكومة تفكر في إصدار «الجريدة» التي أخذت ترقى وفق ارتقاء الأفكار. وكذلك بدأ الأهالي ينشئون لأنفسهم جريدةً على نمط الجريدة الحكومية ومن ثم بدأت الجرائد تكثر وتنتشر.

ولم تكن فكرة «الجريدة» مألوفة في إيران قبل عهد ناصر الدين شاه، إنما شاع فيها وريقاتٌ صغيرة يتداولها رجال الدولة الرسميون ويكتبها «وقائع ﻧﮕﺎر». وفي السنة التالية من ولاية ناصر الدين شاه (١٨٤٩م) ظهرت الجرائد في إيران بأمر وإشراف «أمير النظام»، ثم بدأ الأهالي والحكام ينشرون جرائدَ خاصة بهم.

وحينما أنشئت دار الفنون — الجامعة — بدأت الدوريات العلمية في الظهور، فنشرت الجامعة «روزناﻣﮥ ﻋﻟﻣﻳﮥ دولت ﻋﻟﻳﮥ إيران» وهي خاصة بأبحاث أساتذة الجامعة، كما ظهرت المجلة العلمية «روزناﻣﮥ علمي» سنة ١٨٧٦م.

على أن السير السريع نحو التمدن لم يكن يلقى روحًا سمحًا من الحكومية؛ فقد كانت النظم القديمة التي سارت عليها الحكومات المتوالية في إيران تخاف من انتشار الآراء الحرة عن طريق الصحافة، ولم تُتِح الحرية بعض الشيء إلا في أواخر عهد ناصر الدين شاه حين كان الشعور القومي يفيض بمعاني الحرية والحق والمساواة، وكانت أصداء هذه الأفكار الجديدة تتجاوب في الشرق الإسلامي كله، وخاصة في تركيا وإيران ومصر. واضطر كثير من الفرس الأحرار إلى الهرب من بلادهم حيث لم تكن حرية القول مكفولة، وأقاموا في أوروبا أو تركيا أو مصر أو الهند، وهناك أصدروا الجرائد بلغتهم الإيرانية وسطروا بها كل ما تجيش به صدورهم، وما تطمح إليه نفوسهم من الحرية والأماني نحو وطنهم وأهله. وقد تحمَّل أصحاب هذه المجالات من الأزمات والإرهاق ما يتحمله الأحرار في سبيل الواجب الذي لا يعدله شيء من ناعم العيش وترف الحياة، مثلهم في ذلك مثل سائر الأحرار في مصر وتركيا حينذاك. وكان دخول بعض هذه المجالات إلى إيران محرمًا، إنما كانت ترسل خفية إلى الناس.

وقد أصدر ميرزا ملكم خان (نظام الدولة) مجلة في لندن اسمها «قانون» سنة ١٨٩٠م كان يحررها بالفارسية بنفسه في أسلوبٍ سهل يحبِّب القراءة إلى من يطلع عليها، وقد بث فيها أفكاره الإصلاحية فلاقت نجاحًا كبيرًا في إيران، وبفضل هذه المجلة دخلت اللغةَ الفارسية عدةُ مصطلحاتٍ جديدة مثل القانون بالمعنى الحديث والتنظيمات وأصول الإدارة وغيرها. وقد ترددت هذه الألفاظ كثيرًا في كتابات الناس وعلى ألسنتهم، كما تأثرت أفكارهم بما تنطوي عليه من المعاني. وكانت هذه المجلة لسهولة أسلوبها أروج المجلات الإيرانية وأقوى الجرائد على بعث اليقظة في إيران في القرن التاسع عشر؛ فقد أحيت في نفوس الناس من الأفكار السياسية ما لم يكن من اليسير بثُّه بينهم في إيران نفسها، كما كان لها أثرٌ أدبي إذ أخذ الكتاب يقلدون أسلوبها السهل الذي لا عوج فيه.

وفي الوقت الذي بدأت المطبعة تخرج الآثار الأدبية والعلمية المختلفة ظهرت أيضًا الجامعة (دار الفنون) فقد أنشأها ناصر الدين شاه سنة ١٨٥١م في طهران، وكانت تُلقى بها دروس بالفارسية واللغات الأجنبية المختلفة، يلقيها جماعة من علماء الفرس ولفيف من الأساتذة الأجانب، يعلِّمون الشبان الإيرانيين الطب قديمه وحديثه والرياضة والتاريخ والجغرافية وغيرها من فروع العلم.١
١  يقول Browne في كتابه A Year Amongst the Persians، (ص١٠٣-١٠٤): إن دار الفنون تقع في ميدان «شمس العمارة» وإن التلاميذ يتفاوت عمرهم من أولاد صغار إلى شبان في الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، يمتازون بزيٍّ يشبه اللباس العسكري. وهم لا يتلقَّون التعليم مجانًا فحسب بل يتناولون وجبة من الطعام كل يوم وبذلتَين كل عام على نفقة الدولة، وذلك عدا المكافآت التي ينالها المتفوقون في الأخلاق والعلم في نهاية العام. ولم يكن تعليم اللغة العربية وعلوم الدين والميتافيزيقا ضمن المناهج الجمعية بل درست هذه المواد في المدارس القديمة التي كانت تلحق بالمساجد ويُصرف عليها من الهبات، وكان أحسن هذه المدارس في أصفهان لا في طهران.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤