الفصل الثاني: الحياة الأدبية

يقول شبلي في كتابه شعر العجم (ج٣، ص١٨٩) إن الشعر الإيراني الذي بدأ برودكي قد انتهى بشعر صائب وإن قا آني، أعظم شعراء القرن التاسع عشر، ومعاصريه لم يفعلوا شيئًا غير تقليد الشعراء المتقدمين وخاصة فروخي ومنوجهري. ويري رضا قولي خان أن الشعر الإيراني لبث زمنًا طويلًا في حالة تدهور، وأنه بلغ الغاية في هذا التدهور قبيل قيام الدولة القاجارية. وإن الشعراء القاجاريين، وخاصة الأُوَل منهم، قد قلدوا الشعراء الفرس العظام ممن ظهروا قبل سقوط الخلافة العباسية؛ فظهرت أشعار قُلِّد فيها شعر خاقاني وفروخي ومنوجهري والفردوسي وسعدي ونظامي وناصر خسرو وغيرهم. أما عن الشعراء المتأخرين، أي بعد سقوط بغداد، فلم يقلدوهم؛ لأنهم لم يعجبوا بأشعارهم، مثل جامي وعرفي وصائب، كذلك لم يقلدوا «حافظ» وإن قدروه كل التقدير وأعجبوا به كل الإعجاب وحفظوا شعره وتمثلوا به؛ لأن له طريقةً خاصة في الشعر عَزَّت على التقليد.

والواقع أن تقليد الشعراء العظام لم يكن بدعًا، فإن الإيرانيين بوجهٍ عام يحبون شعراءهم، يحفظون جيد شعرهم ويرتِّلون مختاراته، ويكثر الشعراء منهم بوجهٍ خاص من حفظ الشعر وتلاوة الرائع منه.

وقد نصح نظامي عروضي وهو من أوائل من كتبوا باللغة الإيرانية عن فن الشعر، نصح من يطمح في أن يكون شاعرًا بأن يحفظ في صباه عشرين ألف بيت من أشعار المتقدمين، وأن يذكر عشرة آلاف كلمة من آثار المتأخرين، وأن يداوم على قراءة دواوين عظماء الشعراء وإنما يتوافر لهذا الطموح أدواته حين تستقر الحكومة في الدولة ويطمئن الناس إلى حياتهم ومعاشهم ويرون في القائمين بأمرهم من يشجع أهل الفن والعلم فيزدهر الأدب وتحيا العلوم ويظهر الشعراء ويقبلون على استذكار جيد الشعر مما قال المتقدمون كي تنمو ملكتهم ويصلوا إلى الدرجة التي يبتغون بلوغها، كما يظهر العلماء ويتناولون شتى فنون العلم بالبحث والتأليف والنشر. وهكذا كان الحال أيام القاجاريين، فقد استقرت أمور إيران بعد اضطرابٍ دام أكثر من سبعين عامًا، وولي الأمر جماعة من الأمراء أحبوا الشعر وكان بعضهم ينظمه، فشجعوا الشعراء وقرَّبوهم وولوهم بعض الوظائف الهامة وخلعوا عليهم من ألقاب الإمارة والملك ما حبب إليهم الطموح لبلوغ الغاية فيه. وليس عجبًا أن يقلد هؤلاء الشعراء من تقدمهم من عظماء الناظمين؛ فإن فنون الشعر لم تتغير عند قيام الدولة القاجارية فلم يكن بد من أن يكون الجديد ترديدًا للقديم من حيث الموضوع.

ولكن الذي يلفت النظر ويدعو إلى التوقف قبل التسليم بقول شبلي ورضا تسليمًا مطلقًا، هو أن عظماء الشعراء في عهد القاجاريين كانوا يقلدون تقليدًا مقصودًا واضحًا وأنهم نبغوا في هذا التقليد وأبدعوا. لم يكن قصدهم من التقليد أن ينسجوا على منوال مَن يقلِّدون فحسب، إنما قصدوا إلى إحياء الآثار الأدبية الرائعة التي انتقلت من إيران إلى الهند والتي لم يعبأ الأمراء المتعاقبون بإحيائها في إيران حتى كانت الدولة القاجارية. وهم قلدوا الشعراء العظام وأبدعوا، حتى فاقوهم في بعض الأحيان. ﻓ «فصبا» عندما ألف كتابه «شاهنشاهنامه» على نسق شاهنامة الفردوسي قصد إلى إحياء أدب الفردوسي قصدًا ولكنه نبغ في تقليده للفردوسي حتى كان الحديث، في نظر بعض النقاد، خيرًا من القديم. وقا آني حين يقلد كلستان سعدي فيؤلف على نسقه كتابه «بريشان» — خواطر — يرى أنه وإن كان يقلد كتاب سعدي إلا أنه «لم يأخذ كلمةً واحدة من سعدي أو غيره إنما كان الكتاب كله من صنعه وليست فيه عارية وأنه خاصٌّ به فكل ما فيه من قوله وحده.» وإذن فتقليد الشعراء القاجاريين لم يكن عجزًا منهم عن التجديد، إنما قصدوا إلى التقليد قصدًا لأن أساس دراستهم هو الرجوع إلى استذكار القديم ولأن الفنون الشعرية لم تتغير، ولكنهم لم يقتصروا على التقليد بل إن جديدهم فاق القديم عند بعض النقاد.

على أن الشعراء في القرن التاسع عشر لم يقتصروا على التقليد؛ فإن الحياة في إيران قد تطورت، وتفتحت للشعر والكتابة موضوعاتٌ جديدة، واتسعت فنون الشعر فوسعت من المواضيع ما ترتب على تطور البلاد نحو المدنية الغربية. لم تكن الحياة الإيرانية تعرف شيئًا عن أوروبا وما فيها من نظمٍ سياسية واجتماعية واقتصادية، وما كان فيها من موضوعات الأدب، شعرًا ونثرًا وقصصًا، وما فيها من جامعات ومدارس. وقد عرف الإيرانيون كل هذا في القرن التاسع عشر، فقد أخذت دول أوروبا تتقرب من الملوك في إيران، فأوفدت البعثات المختلفة إليها، وكثر استعانة الملوك بالمستشارين من أهل الغرب، وتعلم كثير من الإيرانيين اللغتَين الفرنسية والإنجليزية، وكان ناصر الدين شاه نفسه يجيد الفرنسية ويقول بها الشعر كما قلنا. وظهرت «المطبعة» فنقلت إلى الناس كثيرًا من الكتب في التاريخ والأدب والفقه الإسلامي ونشرت بينهم القرآن، ثم نقلت إليهم تراجم الكتب الأدبية في أوروبا وأذربيجان، فقرءوا لفولتير Voltaire تواريخ بطرس الأكبر، وشارل الثاني عشر ملك السويد، والإسكندر، وقرءوا لإسكندر دوما Alexandre Dumas الفرسان الثلاثة، والكونت مونت كريستو، والملكة مرجُت، ولويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر، وقرءوا لموليير Molière  الطبيب بالقوة Le Médecin malgré lui والنفور Le Misanthrope والحمار L’Ane. وقرءوا تراجم لقَصصٍ كُتب في أذربيجان باللهجة الأذرية، سنذكر منه قصة الكيماوي في القصص. كل هذا عدا ما ذاع بينهم من تراجم الكتب العلمية والتاريخية. وكثرت الرحلات إلى أوروبا، وقد ارتحل ناصر الدين شاه ثلاث مرات إليها، وكان بصحبته جماعة من ذوي الرأي والشعراء والكتاب. وأُوفدت البعثات العلمية بكثرة، وإلى فرنسا خاصة؛ أدى هذا كله إلى صبغ الحياة الإيرانية بصبغةٍ خاصةٍ جديدة، وقد أخذ الناس يجمعون بين ما يستطيعون تطبيقه من الجديد الذي رأوه أو سمعوا به في الخارج وبين القديم الذي لا يستطيعون إلى تبديله سبيلًا، وكذلك وجد الأدباء، شعراء وكتابًا، موضوعاتٍ جديدةً للشعر والكتابة.

فحديث الشعراء عن الحرية، وحق الشعب في أن يشارك في إدارة الدولة، والمناداة بأن الناس سواسية قد خلقهم الله أحرارًا لا سيد ولا مسود، وبأن الأمر شورى بينهم ليس من حق رجلٍ واحدٍ أن ينفرد به؛ هذا وأمثاله لم يكن يُتاح لرجال الأدب أن يتحدثوا عنه في العهود السابقة على القاجاريين، فهو تجديد في موضوع الشعر الإيراني وليس تقليدًا للمتقدمين من شعراء إيران.

والشاعر الذي يتحدث عن باريس وأنوارها ويعجبه مبدأ المساواة والإخاء بين الناس ويدخل الحوانيت فلا يرى غير السعر المحدد، مثل هذا الشاعر مجدد وليس مقلدًا ولو أن تجديده لا يعدو ذكر أوضاع أعجبته في الغرب فنظمها لأناسٍ يؤثرون الشعر على النثر.

وكذلك دخلت اللغةَ الإيرانية ألفاظٌ من اللغات الأجنبية، الفرنسية خاصة، وظلت مستعملة بها حتى الآن. ولا شك أن هذه الألفاظ الأجنبية بمدلولاتها الجديدة قد أدخلت على الأدب الإيراني لونًا جديدًا. وظاهرةٌ أخرى امتاز بها الشعر الايراني في القرن التاسع عشر هي ظهور «الشعر الفدائي» عند البابية.

ومن هذا نرى أن القول بأن الشعر أيام القاجاريين كان قاصرًا على تقليد فحول شعراء إيران قبل سقوط بغداد صحيح إلى حدٍّ ما، ولكن القائلين بهذا الرأي لم يأبهوا بما جدَّ على الشعر من التطور نتيجة لتطور الحياة في إيران نفسها وما استتبع هذا التطور من مظاهر التحديد.

وسأتحدث عن الشعر فالكتابة ثم القصص، بادئًا الحديث أشهر شعراء القرن التاسع، وهو الشاعر قا آني.

(أ) الشعر

(١) قا آني

وهو أشهر شعراء القرن التاسع عشر ومن أعظم شعراء إيران، مثله كمثل حافظ وسعدي وفردوسي، تجري أشعاره على الألسن ويحفظ له كثير من الإيرانيين. مال منذ صباه إلى تحصيل العلم والأدب ونال منهما ما تمنى، وكان أبوه ميرزا محمد علي الملقب «ﺑﮕلبشن» شاعرًا أيضًا؛ فورث الولد حب الشعر عن أبيه وأخذ ينظم ويجيد حتى بلغ القمة. قال فيه رضا قولي خان، وكان معاصرًا له «وقد أمضيت بصحبته سنوات وسمعت منه جيد الشعر، والحق أنه شاعرٌ فاضل وكاتب كامل.» التحق ميرزا حبيب بخدمة حاكم خراسان ميرزا حسن علي شجاع السلطنة، فغير هذا الحاكم اسمه وسماه باسم ولده «أوكتا قا آن» فأصبح معروفًا بقا آني. وقد صحب هذا الأمير زمنًا في خراسان وكرمان وهو الذي قدمه إلى «فتح علي شاه».

وانتقل بعد ذلك إلى طهران حيث ذاع صيته واتصل ببلاط محمد شاه وناصر الدين شاه.

وقد سار هذا الشاعر على النهج الذي بينَّا في التقليد ولكنه استطاع أن يصبغ شعره بصبغةٍ خاصة وقد أفاد من إجادته الفرنسية واطلاعه على آدابها، وقد امتاز في القصيد والغزل على السواء، وكذلك في المسمط والترجيع بند. وقد قال رضا زاده شفق في كتابه تاريخ أدبيات إيران (ص٣٨٦) «إن حلاوة العبارة في شعره كثيرة، والمعاني الفلسفية والخلقية قليلة.»

وله ديوانٌ كبير يبلغ سبعة عشر ألف بيت، كما أن له كتاب «بريشان» — خواطر — نحا فيه منحى سعدي في اﻟﮕلستان.

وكان يبدأ أشعاره بالوصف الذي أجاده وأبدع فيه، ومن ذلك قوله في الربيع، مسمط:

ها هي سحابة الربيع قد عادت فعلت الجبل، وها هو السيل يجرف الصخر من علٍ،
وها هي الطيور تهيج من كل فج، فتسمع اليمام وأبو المليح، والصلصل والحجل والبلبل والببغاء والطاووس والبط والسُّرخاب والزرزور،
أهو البنفسج رسول أرديبهشت؟١ إنه ينمو في الحدائق أكثر من كل الزهور،
وترى الجداول كالجنان من أريجه، كأن ربك قد خط بالمسك على خده:
«كن يا ذا الشذى بشير الربيع.»
وعيون النرجس في الحديقة وسنانة، وطرة السنبل في الحديقة ملأتها التجاعيد،
وكان الماء متجمدًا كأنه الفضة، فصار كالزئبق، كأنه حين هب نسيم الربيع ملئ الرعب فذاب.
وفجأة ولَّى فرارًا في منتصف الليل.

وقا آني كما قلت شاعرٌ مقلد وهو عظيم في تقليده، قلَّد أنوري في قصيدته المشهورة التي قال فيها:

إذا لم تكن شئون الدنيا موكولة إلى القضا
فكيف تجري الأمور على غير ما نرضى.

فقال:

إذا كانت الدنيا بأيدي القدر
فلم نخضع لما به الشاه أمر؟

وهو يقلده أيضًا في قصيدته التي مطلعها:

أحقيقة ما أرى أم حلم يا ربي
إني أرفل في النعيم بعد طول عذابي.

فيقول:

أرى في اليقظة ما لا يرى أحد في المنام
فإني في وقتٍ واحد مستريح معنًّى.

وهو يقلد منوجهري فيقول على غراره:

الوقت طرب واليوم خمر والفصل ربيع، والروح نشوى والقلب خالٍ والحبيب قريب ونسيم السحر عبق، إنه يخرج من مجمرة الورد المستعر، وكأن أرض الحديقة مرآة، لما يجري فيها من ماء.
أرجع البصر ترَ كوكبةً من السرو والسوري،٢ وما سمعت ستنعم بنغم الصلصل والزرزور.
ماذا يشبه السوري؟ إنه كبيضة من ماس؛ بيضة ملئت من عود القمار.٣

وهو يقلد أيضًا حين يتحدث عن الربيع حديث منوجهري فيقول:

هل الربيع وصوت البلبل في البستان يشجينا
وهذا الطير المولَّه، تغريده من المروج يجيء.
حتى لنقول من كثرة ما تسمع من تغريد التدرج والصلصل والدراج والزرزور:
إنها أمسكت الأرغول ووقفت تغني فوق أغصان وأوراق الزهور.
إن رائحة الزهر تتأرج من الحديقة فتحيى الروح
ويهفو القلب حين يصدح الطير فوق الغصن وينوح.
نغم العندليب وصوت الزرزور وتأوُّه القمري
مرة من الورد وأخرى من السرو ومن الصنوبر حينًا يجيء.
وترى البعض يمسك الشقائق كأنها الأقداح،
والبعض يهيم بالورد فمنه رائحة الحبيب تجيء.
يرى أحدهم المرج فيقول مرحبًا، غير ملتفت،
ويشم البعض السمن،٤ ويحار من صنع الذي خلق،
يطأ أحدهم الشقائق فقد أخذت من الخمر اللون،
ويرى آخر الورد فيأخذه الوجد، بخٍ بخٍ، منه رائحة الحبيب تجيء.
واحد يتمرغ على السندس، وآخر يرقص على الشقائق،
واحد يفقد الوعي، والآخر إليه الصواب يجيء.
شاع في كل ناحية نغم الأرغول والجنك والناي
وصدى البربط والطنبور والقار من كل فجٍ يجيء.

واستمع إليه وقد أبصر الربيع فحار في تصويره فقال:

في الحق لا أحد يدري من أين نجمت
كل هذه النقوش والصور في فصل الربيع؟
إن العقول تحار كيف تنمو هذه الأزهار الجميلة
من هذه التربة القاتمة البوار؟
مَن هذا المصور الماهر الذي أبدع هذه الصور
بغير علة أو آلة ولم يقلد في صنعه أحدًا؟
كيف لا تسأل من أين ظهرت هذه التماثيل؟
كيف لا تبحث من أين ظهرت هذه التصاوير؟
مِن عشق مَن اصفرَّ لون الخيري٥ في الحديقة؟
والشقائق مِن حُب مَن احترقت في البستان؟

ويمضي قا آني على هذا النحو واصفًا خضرة الرياحين وحمرة الشقائق البرية ثم يقول:

والريح لا عنبر فيها، كيف تفوح بالعنبر؟
والسحاب لا جوهر فيه، كيف ينثر الجوهر …

وقد شارك قا آني شعراء إيران في بكائهم الحسين، ولكنه يبكيه بطريقته الخاصة فيجعل رثاءه في صورة أسئلة وأجوبة، ويروي قصة الحسين. وقد رأيت أن أنقلها لطرافة أسلوبها. يقول:

ماذا يهطل؟ الدم؟ من أين؟ العين! كيف؟ ليل نهار! لماذا؟
من الغم. أي غم؟ غم سلطان كربلاء.
ما اسمه؟ حسين. من نسل مَن؟ من علي.
مَن أُمه؟ فاطمة. من جده؟ المصطفى.
كيف حدث؟ استشهد. أين؟ في دشت مارية.٦
متى؟ عاشر محرم. سرًّا؟ كلا بل على الملأ.
أقُتِل ليلًا؟ لا، نهارًا. أي وقت؟ وقت الظهر.
أقَطَعوا رأسه من عنقه؟ كلا كلا، من القفا.
أقُتِل مرتويًا؟ كلا. ألم يعطه أحدٌ الماء؟ أعطاه.
من؟ شِمر. من أي عين؟ من عين الفناء.
أظُلم الشهيد؟ بلى. أأجرم! كلا.
ماذا كان يعمل؟ الهداية. ومن حبيبه؟ الله.
من الذي ظلمه؟ يزيد. من يزيد هذا؟
من أبناء هند. من أي زوج؟ من نطفة الزنا.
أأقدم على هذه الفعلة بنفسه؟ كلا، بل أرسل كتابًا.
لمن؟ إلى ابن مرجانة الذي لا يُعرف أبوه.
أكان ابن زياد ابن مرجانة؟ نعم.
ألم يرجع عن قولة يزيد؟ لا.
أقَتَل هذا اللعينُ الحسينَ بيده؟
لا، إنه سير الجيش نحو كربلاء.
من كان أمير الجيش؟ عمر بن سعد.
أمزق ابن فاطمة العزيز؟ لا، شمر الذي لا يستحي.
ألم يستح الخنجر من قطع رقبته؟
استحى. فلماذا قطع؟ سبق القضاء بما قضى.
لماذا؟ كي يكون شفيعًا للناس.
ما شرط شفاعته؟ النوح والبكاء.
أقُتِل معه أحد أبنائه؟ بلى، ولدان.
ومن الآخرون؟ تسعة إخوة. ومن الآخرون؟ الأقرباء.
ألم يكن له ولدٌ آخر؟ نعم. ومن هو؟
السَّجاد. من هو؟ هو الذي ابتلي بالغم والبلاء.
أبقي في كربلاءِ أبيه؟ لا، بل ذهب للشام.
بالعز والوقار؟ لا، بالذل والعناء.
وحده؟ لا، مع سيدات الحرم. وما أسماؤهن؟
زينب وسكينة وفاطمة وكلثوم البائسة.
أمن كساء يستر جسده؟ بلى، غبار الطريق.
أمن عمامة على رأسه؟ نعم، عِصِي الأشقياء.
أكان مريضًا؟ بلى. فماذا كان الدواء؟ دمع عينه.
بعد الدواء ماذا كان الغذاء؟ دم قلبه.
أكان له رفيق؟ بلى الأطفال الذين فقدوا أباهم.
ومن الآخرون؟ الحمى التي لم تبارحه.
ماذا بقي هناك من زينة النساء؟ شيئان.
طوق الظلم في الرقاب، وخلخال الغم في الأرجل.
أيقترف هذا الظلم كافر؟ كلا. مجوسي أو يهودي؟ كلا.
هندوسي؟ كلا. عابد صنم؟ كلا. يا ويلتاه من هذا الجفاء!
أينظم قا آني هذه الأشعار؟ بلى.
ماذا يريد؟ الرحمة. ممن؟ من الحق. متى؟ وقت الجزاء.

ولم يكن قا آني بعيدًا عما يجري في البلاد من خطوب، فهو معاصر للبابية متأثر بها، وقد أعجبته مبادئ الباب في أول ظهوره، وظن أن المهدي «المنتظر» قد ظهر، وأن على الناس أن يتجهوا إليه، وأن الدولة نفسها قد تميل إليه وتؤيده، فقال قصيدةً يحبذ فيها المذهب الجديد بادئًا بقوله:

إن قدوة الإنس والجن قد ظهر
وإمام هذا وذاك المنتظر.

ولكنه لم يلبث أن رأى الدولة جادة في محاربة المذهب، وأن الباب نفسه قُتل، فيعدل عن تأييد البابية. ورأى ثلاثة منهم قد اعتدوا على السلطان ناصر الدين فأسرع إلى قلمه يصف الحادث الشنيع وقد قال في هذا:

لقد خرج كسرى آخر شوال يصطاد،
السماء في عنانه والشمس في الركاب.
ففجأه ثلاثة رجال من كمين،
وصوَّبوا النار على كسرى مالك الرقاب.

وهو في قصيدةٍ أخرى يتغنى بهذا الحادث ويدعو الناس إلى أن يجعلوا منه عيدًا كعيد الأضحى:

عيدوا آخر شوال منذ اليوم،
وادعوا خدم الملك من كل حي،
نادوا الحبيب ودعوا الزاهد،
ومروا الخازن ببذل العطاء.
ألا أيها الساقي أدر الكئوس.
ألا أيها العازف أطرب،
وخلِّ أهل الغناء يغنون.
سموه عيد قربان الملك،
واذبحوا أعداءه ذبح الخراف
في طريق الملك المظفر.

ولم يكن هذا التحول من بابيٍ يمدح الباب ويشيد بمذهبه إلى عدوٍ للمذهب ينظم الشعر في مدح قاتل الباب وعدو المذهب الذي أخرج رؤساءه من إيران وعذب أتباعه تعذيبًا؛ لم يكن هذا عجيبًا من قا آني؛ فإن المعاني الأخلاقية كما قال رضا قولي، لم تكن تظفر بعنايةٍ كبيرة من هذا الشاعر. وقد حدث أن كان يمدح الوزير حاجي ميرزا أقاسي الذي وزر لمحمد شاه بعد مقتل وزيره الكاتب الأديب القائمقام «أبي القاسم» والذي أُقصي عن السلطة بعد ولاية ناصر الدين شاه. فحين أُبعد هذا الوزير وولي مكانه ميرزا تقي خان، قال قا آني يمدح الوزير الجديد:

لقد ذهب الظالم الشقي، وجاء العادل التقي، الذي يفخر به المؤمنون الأتقياء.

•••

ولقا آني قصيدةٌ مشهورة تصور الحديث بين شيخ وطفل ألكنَين، وقد رأيت أن أكتبها بنصها ليرى القارئ كيف استطاع الشاعر أن ينظم الحديث كما جرى بينهما:

ﭘﻴﺮكي لال سحرﮔﺎه بطفلي الكن
ميشنودم كه بدين نوع همي راند سخن
«ك اي ز زلفت صَ – صَ – صبحم شَ – شَ – شامِ تاريك،
واي زﭼﻬﺮت ش – ش – شامم صَ – صَ – صبح روشن!
تَ – تَ – ترياقيم، وازش – ش – شهدِ لَ – لبت
صَ – صَ – صبروتَ – تَ – تايم رَ – رَ – رفت ازت – ت – تن».
طفل ﮔﻔﺘﺎ: «مَ – مَ – من را تو – تقليد مَ مكن!
گ – گ – ﮔم شوز بَرَم، ا ي ك – ك – كمتراززن
مِ – مي خواهم مَ – م – مُشتى بِ – ك كلت ب – زنم
كه بيفتدمَ – مَ – مغزت م – ميانِ – د – دهان؟»
ﭘﺒﺮﮔﻔﺘﺎ: «وَ – وَ – والله كه معلوم است اين
كه كه زا دم من ﺑﻴﭽﺎره ز مادر الكن!
ﻫَ – ﻫَ – هفتاد وهشتاد وسي سال – است فزون
گ – گ – ﮔﻨﮓ ول – ل – لا اَ بَ – بِ – خلاق زمن!»
طفلي ﮔﻔﺘﺎ. «خَ – خدارا صَ – صَ – صد بارش – شكر،
كه بِ – رستم بجهان از م – لَ – لال ومَ مِحن!
مَ – مَ – مَن هم ج – جَ ﮔﻨﮕم م – م – مثل – ت – ت – تو:
تُ – تُ – توهم جَ – ج ﮔﻨﮕﻲ مَ – مَ – مثل – م – م – من!»

والقصيدة تمثل حديثًا جرى بين طفل وشيخ وقت السحر، وكانا ألكنَين. فقال الشيخ: يا من صار صبحي ليلًا بهيمًا من زلفك، ومن جمال وجهك أضاء ليلي كالصبح إذا تبلَّج. أنت ترياقي ومن شهد شفتَيك يزول الصبر والحمى عن جسدي. فقال الطفل غاضبا: لا تقلدني، واذهب عني يا أقل من امرأة! أتريد أن أضربك بقبضتي ضربةً توقع مخك وسط فمك؟ فقال الشيخ: والله إن أمي ولدتني ألكن، ولقد مضى والله أكثر من ثمانين سنة وأنا ألكن. فقال الطفل: شكرًا لله مائة مرة إذ أنجاني من الملال والمحن، فإني ألكن مثلك وأنت مثليَ ألكنُ …

•••

وكما قلد قا آني عظماء الشعراء في شعره فكذلك قلد سعدي في كلستان، فكتب كتابه المسمى «بريشان» ضمَّنه ثلاث عشرة ومائة حكاية وثلاثًا وثلاثين نصيحة «ميكيافيلية» للملوك. وقد نفى عن كتابه شبهة التقليد، فقال إنه كله من عنده.

(٢) مجمر

وشاعرٌ آخر من مشاهير شعراء القرن التاسع عشر الذين امتازوا بطابعٍ خاص هو مجمر الأصفهاني «سيد حسين الطباطبائي». وقد نجح هذا الشاعر في أن يحظى برضاء «فتح علي شاه» وإعجابه حين قدمه إليه «منشي الممالك» ميرزا عبد الوهاب. وقد مات مجمر شابًّا، ويقول رضا قولي خان: «إنه لو طال عمره للقي نجاحًا عظيمًا.» وقد خلع ناصر الدين شاه عليه لقب مجتهد الشعراء. ومن أشعاره الطريفة قوله في الألغاز. قال في لغز الريح:

من هذا الرسول المبارك المقدم السعيد الجناب،
الذي يجري آناء الليل وأطراف النهار ويسارع السنين والأشهر،
في ذيله النافجة وفي عبه العبير،
في جيبه العنبر وفي كمه المسك الأذفر،
سيَّار بلا قدم أو رأس، مجنون بلا عقل أو وعي،
عاشق لا بيت ولا مأوى، هائم لا أكل ولا منام،
لا يدري أحد أي عشق أفقده القرار،
ولا درى أحد أي هجر أورثه العثار،
يخرج منه الماء خروج قلب العاشق من زلف الحبيب،
تارة في السلاسل، وتارة في العذاب،
تارة يميت الأرض، وطورًا يحييها،
كالقُوَى في الهَرَم، والطبيعة في الشباب؟

وله في لغز القلم:

أنا سحابة تمطر الجوهر على حديقة ورد النفس الناطقة؛
أمطر السكر، أنثر العنبر
مثل شفة الحبيب وزلف الرفيق،
وأنا المعبر عن طبع «الدستور»،٧ وأمر السلطان
حين أنثر الدر، وأمطر الجوهر؟

وقد امتاز مجمر بقصائده في مدح السلطان والأمراء وكان يقلد فيها مدائح السابقين.

(٣) أسرة وصال

ومن المشاهدات التي تشاهد في أدب القرن التاسع عشر أن تجد الأسرة وقد حافظت على إمارة الشعر فيها، فتجد الوالد وأبناءه وكلهم شاعرٌ مجيد، مع أن منهم من لا يتخذ الأدب وقول الشعر صناعة بل يشتغل بالطب مثلًا فلا يُلهيه الطب عن قول الشعر والنبوغ فيه. وتجد من الأسرة الواحدة من يقول الشعر فيقلد الأقدمين من الشعراء ويسير سيرتهم، ومنهم من يرتحل إلى أوروبا فيصف أشياء لم يعرفها الناس في إيران ويُدخل اللغةَ ألفاظًا أجنبية ليست منها. حقيقة إن وصف هذه الأشياء لا يخرج القول عن أن يكون وصفًا، والوصف غرض من أغراض الشعر المعروفة لدى الفرس، ولكن الأفكار الجديدة التي يصورها الشاعر والألفاظ الجديدة التي يستعيرها للدلالة على معانٍ ليست موجودة في بلاده؛ كل هذا يكسب وصفه جدةً تميزه وتجعل له طابعًا خاصًّا.

وخير مثال لهذه الأُسر التي تسلسل فيها الشعر وحافظ أفرادها على ما كسبوا من ألقابٍ أسرتا «وصال» و«صبا».

كان وصال (ميرزا شفيع الشيرازي المشهور بميرزا كوجك) من أشهر شعراء القاجاريين. وقد اهتم به رضا قولي خان فتحدث عنه في ثلاثة من كتبه، كما عُني به بسمل في كتابه «تذكرة دلكشا» وقال عنه إنه كان صاحب فن، يجيد الخط والعزف، ويقول جيد الشعر، ولكنه كان سريع الغضب، وإنه كان مخلصًا لأصدقائه، ويجمل القول فيه فيقول «كان عديم المثال.» كذلك رضا قولي خان يرى فيه مثل رأي صاحبه، وكلاهما كان صديقًا لوصال، ويقول رضا إنه كان شديد التأثر إلى حدِّ أنه غضب حين أراد السلطان أن يبدي إعجابه به، فقال له إنك أسرفت في الكمال. وقد كتب ديوانًا بلغت أبياته نحو اثني عشر ألف بيت معظمه في الغزل الذي يُعتبر الفن الذي آثر النظم فيه فبزَّ وأبدع. وقد أجاد في المثنوي أيضًا ويشهد بذلك كتابه «بزم وصال»، وقد أتم «فرهاد وشيرين» التي بدأها «وحشي». ويقول بعض النقاد إن التكملة خير من الأصل. ثم إنه اشتغل بالترجمة فنقل إلى الإيرانية كتاب «أطواق الذهب» للزمخشري.

ومن أشعاره التي يقلد فيها منوجهري قوله في وصف الزلزال:

إن هذا البلد، من كثرة هزات الزلازل، قد تقطعت منه المفاصل.
وارتفع من شقوق الأرض بخارٌ نتن كرائحة السحر من بئر بابل.
وقُضي على رسوم هذه الديار فدرست كما تُمحى من النفوس الفضائل.
وترى وجوه الغيد تحت الثرى، فليس يقال إن الطين دون الشمس حائل.

ومن أبياته التي حوت معنًى لطيفًا قوله:

تنبَّه فلا تُغضب منك أي قلب؛ فلكل قلب إلى الله طريق.

وقوله:

فاض دمعي حتى غرقت به، والنار تكويني؛
عجبًا لحالي، كيف الحريق وأنا في الدمع غريق؟

وكان لوصال أبناء يقولون الشعر، وقد اشتهر منهم وِقار وداوري ويزداني وهمت وحكيم وميراز أبو القاسم فرﻫﻨﮓ وقد تحدث أحدهم عن الخمر، وآخر عن رحلة صيد للسلطان وثالث تناول الفنون الشعرية كما تناولها من سبقه من الشعراء، ولكن الأخير منهم تحدث يصف باريس مستعملًا في هذا الوصف ألفاظًا فرنسية، متناولًا ما رآه في هذا البلد الجميل المتلألئ الذي فاض بالجمال وظهرت به المدنية الغربية في أحسن مظهر لها بين مدن أوروبا، والذي استهوى ولا يزال يستهوي الكثيرين من أهل الفكر. على أن باريس كانت جديدةً حينذاك بالنسبة لإيران كل الجدة، فإن الرحلات إلى الغرب لم تكن قد كثرت بعدُ، وإذا كانت البعثات العلمية قد بدأت توفد في ذلك الحين إلى باريس فإن الشباب المبعوث كان منهمكًا في العلم دائبًا على التحصيل في المعاهد المختلفة وفي المكتبات الكثيرة التي تلحق هذه المؤسسات العلمية. أما الأديب الذي كان يبحث عن المعاني الحقة للمدنية فقد بهره ما رأى وآثر أن يجعل هذا في قالبٍ شعري. فكانت قصيدته التي نتحدث عنها. إنه معجب بسكان هذه المدينة الأحرار الذين تلمس الحرية عندهم في كل ما يشعرون ويفعلون، إنهم جميعًا سادة فلا سيد ولا مسود، ستقرأ ما شئت أن تقرأ بغير حظر أو قيد وستتنقَّل ما شئت التنقل بلا رقيب أو حسيب، وستُحسُّ حريتك التي خلقت بها وليس لبشر عليك سلطان، فإنك حرٌّ بين قومٍ أحرار. وستجد كلًّا في عمله دائبًا عليه يجني منه ما يعيش به كريمًا، وترى دولةً ترعى هؤلاء الذين يكسبون قوتهم بأيديهم، فهي توفر لهم سبل العمل وتحميهم من صاحب هذا العمل؛ فتراهم جميعًا يعملون وليس بينهم من لا يجد عملًا أو من يبحث عن قوت.

وشوارع باريس جميلة قد زينتها الأشجار فبدت كأنها حديقة إرم، ففي كل ناحية ترى السرو والصنوبر، وتراها قد تلألأت بالنور، فإن الحكومة لم تتوانَ عن إضاءتها، فأكثرت المشاعل والمصابيح والشموع، وقد كثرت فيها البساتين التي امتلأت بخمائل الزهور؛ فأينما سرت ترى الورد والنسرين وترى في كل طرف الورد والزهار حتى أصبحت باريس من كثرة ما فيها من الورد والعطر ورائحة الريحان كأنها «مجمع عطور». ويدخل الشاعر الحوانيت ليشتري ما يريد فإذا به لا يجد من يناقشه الأسعار، إنه يشتري بثمنٍ واحد لا خلاف عليه، وهو مطمئن لهذا الثمن الذي يدفع، فلا كذب ولا تحايل. إنهم قوم يقولون الصدق ويخلصون في العمل، فإن الصدق عندهم شعار.

وهم على دينٍ واحد، عيسويون، وقد أخذوا عن المسيح خُلقه، فهم يتحلون بخير الخُلُق، فهم صادقون، وكلٌّ منهم يؤثر صاحبه على نفسه؛ ولذلك ساد الأمن في المدينة بغير سلطان، وصلح الناس من غير قوامة الإنسان على أخيه الإنسان. وهم متضامنون متآزرون، الأمر بينهم شورى فإذا تمت كلمة أيدوها وعملوا بها، فلا تنافر ولا تخاذل، إذا قاموا فليس من قاعد، وإذا عزموا فلا مثبط لهم.

ويعجبه انتشار العلم فيهم ورقي هذا العلم الذي ذلَّل لهم كل صعب، وكشف لهم عن كل سر.

والحقيقة أن دراسة هذه القصيدة لا تقف عند حدِّ سرد وقائع أُعجب بها الشاعر فعددها واحدةً واحدة، وإنما قصد الشاعر إلى ذكر المظاهر التي تنقص بلاده، فهو حين يشيد بالحرية الشخصية وكرامة الفرد في المجتمع إنما يقصد المطالبة بالعمل بهذا المبدأ في بلاده حيث سلطة الحاكم مطلقة لا قيد لها من دستور أو قانون. وهو حين يتحدث عن العمال وتيسير العمل إنما يقصد واجب الحكومة الإيرانية في أن تشجع الصناعة وتعمل على توفير العمل للعمال حتى لا يكون بينهم متعطل، وأن تحمي هؤلاء العمال من أصحاب العمل فتكفل لهم من الأجر ما يهيئ لهم أسباب العيش الكريم. وكذلك يقصد العناية بطهران كما عُنيت الحكومة الفرنسية بباريس؛ فتقيم فيها الحدائق الغنَّاء، وتغرس في شوارعها الأشجار، وتشيد بها المدارس وتنشر دور العلم. وهو حين يتحدث عن الشورى وإجماع الأمر على ما يقرره نواب الأمة إنما يقصد ما كان ينادي به المستنيرون من الإيرانيين في ذلك الزمان. فقد التمس جمال الدين الأفغاني من ناصر الدين شاه أن يسمح بمشاركة الشعب في الحكومة عن طريق مجلسٍ نيابي، ولكن صوت السيد قد ضاع سُدًى؛ فلم تكن العقلية الحاكمة تقيم لمثل هذه الآراء وزنها الواجب، واضطر إلى الهجرة كثير من أحرار الفرس كي يتاح لهم النداء بهذا الرأي في الخارج، وكذلك أخذ الشعراء والكتاب يكتبون تصريحًا وتلميحًا، وفق ما يقتضيه الحال، ومن هذا ما كتبه فرﻫﻨﮓ عن الشورى التي سادت الحكومة في فرنسا.

هذه أمثلة من الأفكار التي بثَّها الشاعر في قصيدته الطويلة تبين الاتجاه الجديد الذي سار فيه الأدباء في ذلك الوقت، وهو الاتجاه الذي أدى في أوائل القرن العشرين إلى ثورة انتهت بمنح الإيرانيين دستورًا يتيح للشعب أن يشارك بعض المشاركة في توجيه الحكومة.

(٤) أسرة صبا

وأسرةٌ أخرى نبغ فيها الشعراء واحدًا بعد آخر هي أسرة صبا، ملك الشعراء. واسمه «فتح علي» كاسم جد القاجاريين وكاسم ثاني ملوكهم. وقد تحدث عنه رضا قولي خان، وكان من المعجبين به فقال إنه لم يدانِه شاعر في إيران طوال سبعة قرون. وهو الذي يؤثر بعض النقاد كتابه «شاهنشاه نامه» على شاهنامة الفردوسي نفسها. وكما قلد الفردوسي في شاهنامته فكذلك قلد كتب سِيَر الملوك التي أخذ عنها الفردوسي وغيره من المؤرخين المسلمين الذين كتبوا عن إيران، وهي الكتب المعروفة باسم «خداي نامها» أي كتب الملوك؛ فألف صبا كتابًا على مثال هذه الكتب سماه «خداوند نامه» أي كتاب الملك، وجعله على وزن الشاهنامه. وله أيضًا «عبرت نامه» و«ﮔلشن صبا» ثم له ديوان شعر. وقد شارك هذا الشاعر في الحكومة فكان عاملًا على قم وكاشان، ولكنه قصر الجهد آخر الأمر على خدمة مولاه فتح علي شاه الذي لقبه بملك الشعراء.

•••

وكان لهذا الشاعر ولد هو حسين خان الملقب بعندليب، وكان شاعرًا مجيدًا خلف والده كملك للشعراء أيام فتح علي شاه ثم ظل محافظًا على لقبه حتى عهد ناصر الدين.

•••

ثم أنجب ولدًا سماه محمودًا وقد صار ملك الشعراء أيضًا في زمن ناصر الدين شاه. وهكذا حافظ ثلاثة من أسرةٍ واحدة على هذا اللقب.

(٥) محمود خان ملك الشعراء

كان يجيد الشعر ويسير سيرة الأُوَل فيه. وهو مع نبوغه في الشعر لم يكن يقتصر عليه بل تبحَّر في علوم الحكمة والحديث والتفسير والأدب، كما أجاد صناعة الخط والنقش والترصيع، وقد قربه ناصر الدين شاه وخلع عليه اللقب الذي حمله أبوه وجده من قبلُ.

وهذه الأبيات من شعره في حلول النوروز وهلول الربيع دليل على قدرته في النظم على نهج المتقدمين وما له من الذوق الجميل والقريحة الصافية. يقول:

تعال معي، لحظةً يا حبيبي في الحديقة
وقت السحر، حين يغرد القمري؛
إني ذاهب إليها غدًا
حين يبتسم السوري.٨
من ناحية ترى الأرض زرقاء مما تفتح من بنفسج،
ومن ناحية تراها بيضاء من زهر النَّفَل.٩
الرعد ينحب والسندس بالنحيب يطرب،
ويبكي السحاب والمرج من البكاء يضحك،
حيثما تسير تجد الشقائق البرية،
وترى الشمعة الوضاءة علت القدح الأخضر،
وجانب الجدول مليء بالشقائق والمرزنجوش،١٠
فاسترح وأقم مخيمك يا حبيبي بجانب الجدول.
وتوسل بالفرح في موسم الزهر،
وخلص النفس من الحزن والغم.
فالحزن فاكهة مرة لا تقربها،
واجتث شجرته التي تثمره من أساسها،
ولا تفكر في الليلة الحبلى؛
فلا يعلم أحد ماذا تلد غدًا.

(٦) ثنائي

وما دمنا بصدد الشعر فإني ذاكرٌ كلمةً عن أحد كبار الكتاب في إيران في القرن التاسع عشر؛ فقد قال الشعر أيضًا باسم ثنائي، وكان مجيدًا فيه إجادته في النثر، إلا أن شهرته في الأخير أبعد وأمكن، هذا هو الشاعر الكاتب ميرزا أبو القاسم القائمقام، الذي كان وزيرًا لفتح علي شاه، مدبرًا لسياسته مسطرًا لكتبه للملوك، والذي أدبر حظه أيام محمد شاه فعُزل ثم قُتل.

ويمتاز هذا الشاعر بمعرفة الحالة السياسية في البلاد التي كان وزيرها، فهو يبغض الروس والإنجليز لأنه يعرف خبيث نواياهم وقد رأى الروس يهزمون جيوشَ بلاده أيام فتح علي شاه، ورأى نفسه مضطرًا أن يكتب معتذرًا إلى قيصر الروس لأن بعثته قد قُتلت على بكرة أبيها في إيران، وقد كتب ينبه قومه إلى أن لا يأس مع الحياة، فإن الحرب كرٌّ وفرٌّ، وإذا كان الروس قد غَلبوا اليوم فإنهم غدًا سوف يُغلَبون. قال:

إن الزمان تارة يعز وتارة يذل،
وللفلك الدوار كثير من هذه اللعبات.
إذا أقبل فكثيرًا ما يخطئ المكان والزمان،
وإذا أدبر فطالما آلم وأهان.
إنه يعطف أحيانًا على ضباط الروس.١١
وأحيانًا يسقي ضباط إيران النصر بالكئوس.
يريد حينًا أن يكون الجيش بيد ذئب مفترس،
ويدع البلاد طورًا في يد مجرب يسوس.
يسوق على تبريز، مرة، جيشًا يريق الدم من بطرسبورج،
ويسيِّر أحيانًا جيشًا جرارًا من خراسان إلى تفليس.

(٧) أدب البابية

وقبل أن أختم الحديث عن الشعر الفارسي في القرن التاسع عشر أشير إلى أدب البابية. والبابيون هم أتباع المذهب الذي ابتدعه ميرزا علي محمد الذي اشتهر بالباب.

معنى كلمة الباب: ظهر في إيران أيام محمد شاه سنة ١٨٤٤م رجل اسمه ميرزا علي محمد ولقَّب نفسه «بالباب»، وإليه نُسبت الجماعة فقيل لهم «البابية». وقد قصد بهذه التسمية أنه هو الباب الذي يدخل منه المؤمنون لمعرفة الإمام الثاني عشر. وينسب الشيعة إلى النبي أنه قال: «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها.» فكما أن عليًّا هو الباب لمدينة العلم التي هي محمد فكذلك ميرزا علي محمد هو «الباب» لمدينة العلم التي هي الإمام. ولم يكن هذا الرجل أول من تسمى «بالباب» بهذا المعنى، فقد سبقه إليه في الإسلام الشلمغاني الذي قتله الخليفة الراضي بتهمة التسمي «بالباب» والقول بالتناسخ، وكذلك تسمَّى به أبو القاسم الذي عدَّه أتباعه واحدًا من «الأبواب» المؤدية لمعرفة صاحب الزمان، ويذكر الاسم كثيرًا عند الباطنية.

وكان ميرزا علي محمد طفلًا يتيمًا تعهده خاله وكان تاجرًا، فعلَّمه القراءة والكتابة وبعض قواعد الحساب. وقد كان به انحرافٌ عصبي منذ طفولته فكان يعتكف في بيت خاله وينقطع إلى رياضة نفسه حتى ضعف وهزل وتعرض لنوباتٍ شديدة كان يفقد فيها الوعي، فرأى خاله أن خير وسيلة لشفاء هذا «الولي» أن يرحله إلى كربلاء ليحضر دروس السيد كاظم تلميذ الشيخ أحمد الأحسائي صاحب مذهب «الشيخية». وهناك توفر الشاب على الدرس والتحصيل ومارس رياضة النفس، ودأب على المجادلة فلم يصبر الناس على جدله، فتركهم وسافر إلى شيراز حيث أعلن أنه «الباب».

وإذا تصفحنا تاريخ إيران نجد أن ميرزا علي محمد ليس أول من خرج على دين الدولة، فمن قبلُ عمل الساسانيون الأُوَل على جمع الكلمة في إيران فوحدوا إقليمها واتخذوا من الأوستا دينًا واحدًا لها. فلم يمضِ على ذلك كثير حتى ظهر ماني بقواعدَ جديدة جمعت بين دين زردشت الذي جمع في الأوستا وبين أصول الدين المسيحي وأخذ يبشر بمذهبه واستطاع أن يقنع عددًا كبيرًا من الأشراف به؛ حتى إن سابور خليفة أردشير كان بين مصدق له ومكذب، إلى أن خُشيت الفتنة من دعوته فقتلوه. ومن بعده ظهر مزدك الذي دعا إلى الإصلاح على أساس دينٍ جديدٍ جمع فيه بين قواعد الأوستا وبين النظام الاجتماعي المثالي الذي يقوم على المساواة بين الناس. وقد لقيتْ فتنة مزدك من نفوس العامة استعدادًا كبيرًا فأخذ كلٌّ يفسر الدين الجديد حسب هواه، وانتهى أمر الرجل بقتله، أما أتباعه فقد تشتتوا وسكنوا الجبال والأطراف البعيدة وظلوا على معتقداتهم حتى دخل الإسلام إيران فظهر من هؤلاء خارجون عليه من أمثال سنباد.

وقامت الدولة الصفوية ورأى الشاه إسماعيل أن يتخذ مذهب الشيعة الاثني عشرية مذهبًا رسميًّا للدولة، كي يخلص من التبعية الروحية للخليفة العثماني، وقد حفزه على هذا عامل السياسة وشجعته عليه دول أوروبا، فلما آل أمر إيران إلى نادر شاه بدأ اضطهاد المذهب الشيعي والتفكير في العودة إلى المذهب السني بل ذهب إلى التفكير في خلق دينٍ جديد للدولة.

وقبل مائة سنة من مقتل نادر شاه ظهر «الباب» في إيران بمذهبٍ جديد، مزج فيه ما تعلم — وكان علمه ضئيلًا — من قواعد الأديان المشهورة، الإسلام والنصرانية واليهودية والمجوسية وجعل لنفسه كتابًا سماه «البيان» وخرج على دين الدولة داعيًا الناس إلى دينه. ولم يتح للباب أن يتصل بالناس ويدعوهم بنفسه فإنه كان — حتى قتل سنة ١٨٥٠م — سجينًا معظم الوقت. فأخذ يؤلف الكتب المذهبية وهو سجين، بينما أخذ أتباعه يدعون له ولمذهبه في حماسة وقوة، حتى استطاعوا القيام بثوراتٍ مسلحة وأحرجوا الحكومة. وقد أخذ أتباعه يزدادون، وساعد على ذلك أن من الشيعة من يرى أن للإمام المهدي «أربعة أبواب» يتصل بواسطتهم بأتباعه المؤمنين أثناء «الغيبة الصغرى». وقد نادى «الشيخية»، وقد تعلم «الباب» على إمامهم، بوجود «واسطة» بين الإمام المستور وأتباعه في كل زمان.

على أن ميرزا علي محمد لم يقنع بما ذهب إليه من أنه واسطة بين المؤمنين وإمامهم، بل ذهب أبعد من هذا (بالاتر رفت) فسمى نفسه «النقطة العليا» أو «نقطة البيان» أو «النقطة الأولى» ثم «القائم» و«شجرة الحقيقة» و«ذات الحروف السبعة» — حروف علي محمد — ثم «حضرة الأعلى» وغير هذا من الأسماء. وازداد أصحابه غلوًّا فتسمى بعضهم ﺑ «الله» وسموه هو «خالق الآلهة» (خدا آفرين). وحين أدرك علي محمد أنه أخطأ إذ حسب نفسه «الباب» وأنه أعلى قدرًا من أن يكون «بابًا» أصبح لقب الباب ولا حامل له فخلعه على أخلص أتباعه الملا حسين بشرويه، فسماه البابية «جناب الباب» وسماه بعضهم «جناب باب الباب».

ولما ازداد غلوُّ «البابية» وخُشيت فتنتها رأى ناصر الدين شاه أن يقتل «الباب» فقتلوه سنة ١٨٥٠م. وخلفه ميرزا يحيى الذي هرب إلى بغداد وسمى نفسه «صبح الأزل» ولكنه لم يكن قويًّا واضطره أخوه حسين الملقب «ببهاء الدولة» إلى الاعتكاف والصمت وانفرد هو برياسة المذهب وأصبح أقوى رجل فيه. وفي سنة ١٨٦٣م ادَّعى بهاء الله أنه هو الذي «يظهره الله» ودعا البابيين كافة ليستجيبوا له فاستجابت كثرتهم. ولكن صبح الأزل وصحبه عصوا، ومن ذلك الوقت انقسمت البابية إلى فرقتَين: «الأزلية» أو «البيانية»١٢ و«البهائية» نسبة إلى بهاء الله. وكان الأخوان قد انتقلا من بغداد إلى إستنبول ثم إلى أدرنة (أرض السر) وهناك حدث الانقسام فنفت الحكومة العثمانية صبح الأزل إلى قبرص حيث مات سنة ١٩١٢م، ونفت بهاء الله وأتباعه إلى عكا حيث مات سنة ١٨٩٢م فخلفه ابنه «عباس أفندي» الذي استطاع أن يكسب للمذهب أنصارًا في أوروبا وأمريكا.

•••

والذي يهمنا في هذا الحديث هو أدب البابية لا دينها؛ ولذا فإنا نترك موضوع الدين للأدب فنتحدث عن شاعرة من شعراء البابية.

(٨) قرة العين

كانت قبلة الأنظار وموضوع الحديث لدى الناس، فقد كان لها من الجمال والكمال وعلو الهمة وسلامة المنطق والقدرة على الحديث والإبداع في الشعر ثم الحماسة التي لا توصف للمذهب البابي ما جعل الناس ينظرون إليها ويعجبون بها ويشفقون عليها. سمع بها ناصر الدين شاه كما سمع بها الناس فأعجبه ذكرها، وراق له أن يستمع لها، فطلب أن يلقاها في الوقت الذي اشتد فيه طغيان البابية وسددت الدولة قواها للقضاء على حركتهم، واقتادت جماعة منهم إلى طهران لتقتلهم جهارًا حتى يكون مقتلهم للناس عظة وعبرة، فأتوا بها إلى الشاه من محبسها، فدخلت عليه غير هيابة ولا وجلة، مؤمنة برسالتها، معتزة بما تعتقد أنه الحق، فحدثته واستمع إليها وطال استماعه. فلم يقوَ الشاه الذي أمر بقتل البابية قتلًا وتعذيبهم عذابًا لم يره أحد، إلا أن ينظر إلى وزرائه وقد أحاطوا به ليأمرهم ألا يقتلوا هذه السيدة التي سحرته ببيانها وثباتها وحلو حديثها:

لقد أعجبتني؛ دعوها تعيش.

ولكن السياسة هي السياسة وقد اقتضى الأمر أن تقتل قرة العين، فلم يكن من الحكمة أن يخلي سبيلها، وهي أخطر الدعاة على الدولة ودينها، في الوقت الذي يقتل فيه من ليس له في الدعوة مثل شأنها، فقادوها إلى الجلاد وأمروه أن يلقي بها حية في النار، حتى تلقى بعض ما لقيه أصحابها من العذاب. وينظر الجلاد إليها فلا يقوى على أن يطعم هذه السيدة الفذة النار، ولكنه لا يجد مفرًّا من أن ينفذ فيها حكم القضاة، فإنه لا يملك غير التنفيذ، ويحاول إلقاءها حية فلا تطاوعه يداه، ويراها تعينه في شجاعة وجلد وعزة على ما لا يستطيع أن يقدم عليه، فيتراجع ويفكر ويدبر في لحظة لا سعة فيها لتدبير أو تفكير، ثم ينقض الرجل، وقد فقد وعيه، على السيدة الجميلة التي امتلأ قلبه شفقةً ورحمة عليها فيخنقها بيديه حتى لا تتعذب في النار وحتى تصلاها جثةً هامدة قد خلت من هذا الروح المتوثب الذي لم يكن يعرف غير القوة فيما يعتقد أنه الحق والذي أقدم على جلاده رافع الرأس، متزن الخطى، ثابت الجنان.

•••

نشأت هذه السيدة في بيئةٍ دينية، فأبوها من رجال الدين وعمها من أشد شيوخ الدين حمية ومن أكثرهم سخطًا على الشيخية والبابية، ولكنها وجدت في عمٍّ ثالث لها ما شجعها على المضي في درس علوم الدين متجهة نحو المذهب الشيخي الذي كان هذا العم يميل إليه. ولم يرَ أبوها بدًّا من أن يهيئ لها وسائل التحصيل، فقد كان لها من الذكاء والاجتهاد ما لم يُتَح للسيدات في ذلك العهد، فأرسلها إلى كربلاء حيث كانت مدرسة الشيخية وعلى رأسها السيد كاظم تلميذ الشيخ أحمد الأحسائي. وكان السيد كاظم يحاضر تلاميذه ويُبين لهم صدق ما ذهب إليه شيخه من وجود «واسطة» بين الإمام والمؤمنين في كل زمان، مضيفًا إلى هذا أن «الواسطة» سيظهر قريبًا، وأن ظهوره موقوت بموت السيد كاظم نفسه. وكان من بين الحضور شابٌّ متحمس يتطلع إلى أستاذه في اقتناع وإيمان. ومن وراء ستار جلست الفتاة التي رحلت من قزوين لكي تستمع إلى درس السيد وكلها آذانٌ مصغيةٌ واعية لما يقول. أما الشاب فهو السيد حسين بشرويه (الذي لقبه صاحب الدعوة بالباب فيما بعدُ، والذي يسمى في كتب البابية جناب الباب أو جناب باب الباب) وأما الفتاة فهي زرين تاج التي اشتهرت فيما بعدُ ﺑ «قُرَّة العين» أو جناب الطاهرة والتي كان يسميها «الباب» فاطمة في بعض كتبه.

ومات السيد كاظم وسافر تلميذه بشرويه إلى شيراز لعله يلقى «الواسطة» المنتظر، وكتبت إليه قرة العين أن يبشرها باسم «صاحب الظهور» وأن يحدثها عنه إذا هو لقيه. واتصل بشرويه ﺑ «الباب» وأطلعه على خطاب الفتاة التي تنشد وجوده وتنتظر «ظهوره»، فأعجب بها وراقه ما رأى من كتابتها فجعلها من بين الحروف «الحية» الثمانية عشر التي تكوِّن «الوحدة الأولى» من المذهب البابي. وكتب بشرويه إليها ينبئها بظهور «الباب» وبما بلغت من منزلة عنده. فآمنت بما سمعت وأصبحت من أشد دعاة البابية حماسة.

وكانت قرة العين في ذلك الوقت تجلس في مسجد كربلاء من وراء ستار قد تجمَّع التلاميذ أمامه فكانت تتحدث إليهم حديث الأستاذ الراحل، ولكنها زادت عليه أن نقلت إليهم بشرى ظهور «الواسطة» وأنه «الباب» في شيراز. وأخذت تدعو إليه والناس يستمعون إليها ويتكاثر عددهم يومًا بعد يوم. ويخاف الوالي من ظهور الفتنة في كربلاء ويحاول أن يقبض على قرة العين ولكنها تهرب إلى بغداد فتسرع إلى بيت المفتي وتوضح له مذهبها وتجادل عن رأيها تريد أن تدخل الرجل فيه، وأن تظفر بالسماح لها بأن تلقي دروسها وتبثَّ دعايتها في المسجد. ولكن مفتي بغداد يخاف الفتنة كما خافها والي كربلاء فيبصِّر الحكومة العثمانية بمغبة ما تدعو إليه فيأمر الوالي بإبعادها فتخرج إلى كرمانشاه. وكانت في رحلتها تدعو الناس، كلما استطاعت التحدث إليهم، إلى الدين الجديد، ودخل الكثيرون فيه. ولكن بعضهم أشفق على الدين من دعاية سيدةٍ محجبة؛ فإن هذا عمل الرجال، فلم يكن الإيرانيون قد ألفوا أن تقوم في وسطهم سيدة تدعوهم إلى مثل هذه الدعوة، فكتبوا إلى «الباب» مستنكرين من قرة العين ظهورها أمامهم وتحدثها إليهم بصوتٍ عالٍ. فبعث الباب إليهم كتابًا مثنيًا على جهادها مزكيًا إيَّاها مسبغًا عليها لقب «جناب الطاهرة» فندم الشاكون على ما شكوا. ومن ذلك الوقت ازدادت نظرة البابيين إليها علوًّا وأصبحت السيدة الأولى في المذهب.

وبلغت همدان فلم تقنع، كما يفعل سائر الدعاة، بدعوة الناس. إنما رأت أن تقنع الشاه نفسه بالدين الجديد كي تدخله فيه. وكان يجلس على العرش حينذاك محمد شاه، وكان ساخطًا على من يتحدث في الخروج عن مذهب الدولة الرسمي أشد السخط، فإنه لم يكن قد استراح بعدُ من إخماد حركة الإسماعيلية، وكان يحاول أن يقضي على فتنة البابية التي بدأت في الظهور، وسمع أبوها بما تقصد إليه فخاف عليها أن يقتلها الشاه إذا هي حدثته بمثل ما عزمت فبعث جماعة من أتباعه إلى همدان ليحملوها إلى بيتها في قزوين.

هناك يزوجها أبوها من ابن عمها المجتهد الذي لا يألو جهدًا في محاربة البابية. وكان الولد كأبيه من أشد الناس سخطًا على بدعة «الباب» ومن يدعو إليه. فلم يكن زواج قرة العين موفَّقًا ولم يدم طويلًا، واضطرت أن تهجر بيت زوجها وأن تعود إلى بيت أبيها الذي ودَّ لو شغلها البيت والولد عما هي فيه من حماسة للدعوة البابية. والحكومة في ذلك الوقت ترقب حركات قرة العين وتلاحظ ما يكون من أمرها بعد الزواج فلما عادت إلى أبيها اشتدت الرقابة عليها وأوجست الحكومة منها خيفة. ويزداد موقف السيدة سوءًا بمقتل عمها المجتهد فقد قتله جماعة من البابية الذين دخلوا الدين الجديد بدعوة منها وهي في طريقها إلى بلدها، فتتطلع الأنظار إليها، وتتناقل الألسن اتهامها بالاشتراك مع قتلة عمها، ويثور الشيعة، ويلقبون القتيل «بالشهيد الثالث»، وتقبض الحكومة على قرة العين، ولكن تثبت براءتها من دم عمها فيطلق سراحها، ولو وجد حاكم قزوين شبهة يستند إليها للإيقاع بها لما تردد. أما الجناة فقد سيقوا إلى طهران فكانوا أول قتلى البابية.

وتغادر قرة العين قزوين، حيث لا يحلو العيش بعد الذي كان، وتسافر إلى خراسان وتلقى «الباب» في بدشت فتزداد به ولوعًا. وبعد قليل يُقبض على «الباب» ويُقتل، وترحل هي من بلد إلى بلد حتى تُحمَل مقبوضًا عليها إلى طهران، فتُحبس في بيت حاكم المدينة، ولكنها كانت تقابل من تشاء من الناس. ويأمر السلطان بأن يراها فيتحدث إليها ويعز عليه قتلها فيقول دعوها تعيش، ولكنها تقتل بعد حين.

وكانت قرة العين، إلى جانب نشاطها في الدعوة البابية، شاعرة يتناقل البابيون أشعارها ويروونها في إعجاب وإكبار. ولو أن الناقد لا يستطيع أن يغفل القَصص الكثير الذي حيك حول هذه السيدة وما جاء في هذا القصص من شعر ينسب إليها. ولها ديوانٌ صغيرٌ مطبوع. وكانت تبدأ أشعارها باللغة العربية ثم تكملها بالفارسية والعربية الغريبة معًا ومن ذلك قولها:

لمعات وجهك أشرقت وشعاع طلعتك اعتلى،١٣
لم لا تقول «ألست بربكم» فإنك، بلى بلى.
إن صدى «ألسْتُ» ليحيي على الأرض دوي ما نلقى من البلاء،
لقد أقمت على باب قلبي خيمةً لجيش الغم وخدم البلاء؛
كفاني عشق هذا الجميل الذي حين صُلِّت عليه البلاء
قابله نشيطًا مقهقهًا قائلًا «أنا الشهيد بكربلاء».
إنه حين سمع نواح موتي أعدَّ لي عدتي وجهازي
«فمشى إليَّ مهرولًا وبكى عليَّ مجلجلًا».
ماذا لو أضأت قلة «طور» قلبي بنار الحيرة،
«فسككته ودككته متدكدكًا متزلزلًا»١٤
إن صدى «الصفير المهيمن» يبلغ أقدام مائدة عشقه من خيل الملائكة
وإنه ليصيح: الصلاة أيتها الفرقة البائسة.
أتستطيع صدفة من سمك الحيرة، مثلك، أن تأمل الغناء في بحر الوجود،
ألا فاجلس «كطاهرة» واستمع الحوت يردد «لا».

ومن أشعارها:

«جذبات شوقك ألجمت بسلاسل الغم والبلاء.»
من حطمت قلوبهم من عشقك وفدوك بالروح ولاء
إذا حلا لحبيبي أن يقتلني وأنا بريئة
«لقد استقام بسيفه فلقد رضيت بما رضي»
لقد زارني هذا الجميل في فراشي وقت السحر
«وإذا رأيت جماله طلع الصباح كأنما»
إن زلفه المسكي هو الذي يذكي نافجة خُتن،
وإن سحر عينَيه حطم الدين الذي حاربه الكفار عبثًا.
يا من غفلت عن الخمر والحب من أجل العابد الزاهد
ما حيلتي معك؟ وأنت ترى في خلوص نية الأصفياء، الكافر الجاحد.
إنك لا تعنى بغير زلف حبيبك وحصانك والسرج المعرق،
ولقد قضيت العمر منكرًا «المطلق» غير مبالٍ بالفقير والمسكين.
ليكن لك ملك الإسكندر وجاهه ولي طريق القلندري (الدرويش) ورسمه.
فاغتنم ذلك ما حلا لك، أما أنا فهذا يكفيني ولو ساء.
واهجر منزل «نحن وأنا» واختر لك وطنًا في فلك الفناء.
«فإذا فعلت بمثل ذا فلقد بلغت بما تشاء.»

(ب) النثر

أما النثر فقد أخذ طابعًا جديدًا في سهولته ووضوحه وانتقاء الألفاظ التي تعبر عن المعنى المقصود بغير تكلف أو الْتواء. ولا شك أن الكتَّاب الذين استخدموا الجرائد لنشر ما يكتبون قد أخذوا عن كتَّاب الغرب من فرنسيين وإنجليز أسلوبهم السهل وأفكارهم الجديدة عن الحرية وحق الشعب في أن يحكم نفسه وأن تكون الحكومة منه وأن يكون مصدر السلطات. وقد شاعت هذه الآراء في كتابات الجرائد التي كانت تصدر في خارج إيران باللغة الفارسية.

ومن أبرز الكتاب في هذا القرن الذي نتحدث عنه رضا قولي خان الذي كان أول مدير للجامعة، والقائمقام الذي تحدثت عنه بين الشعراء باسم ثنائي.

(١) رضا قولي خان

هو أحد أفراد آل كمال أبناء الشاعر الشيخ كمال خجندي الذي عاصر «حافظ الشيرازي» والمتوفى سنة ١٣٨٩ﻫ في تبريز التي اتخذها مقامًا لأسرته.

وكان جده إسماعيل كمال بك كبير أعيان جارده كلاته من نواحي هزار جريب، وكان يدين بالولاء للقاجاريين فقتله زكي خان الزندي لأنه لم يخضع له. وقد روى رضا قولي خان حادث مقتل جده غدرًا وخيانةً في كتابه سفارة خوارزم (سفارتنامۀ خوارزم) (ص١٣٣-١٣٤، طبعة بولاق) فقال:

«وكان أهالي هذه الولاية (جارده كلاته) ميَّالين إلى الأسرة العلية العالية القاجارية منذ خرج بها السلطان محمد حسن خان (كشورستان) بن فتح علي خان القاجاري القوانلوي. ولما ولي كريم خان سلطنة إيران رفض أهالي جارده كلاته الخضوع لقواده لأنهم أحبوا القاجاريين وأخلصوا لهم، وكان من جملتهم جدي محمد إسماعيل بك المشهور بإسماعيل كمال الذي كان رئيس الرؤساء لهذه الجماعة، فلم يذعن لزكي خان، ابن عم كريم خان الوكيل (وكيل خدمت) فأخذ زكي خان يضيق عليهم حتى تجمع واحد وأربعون من رؤسائهم في جهةٍ محكمة وأخذوا يذودون عن أنفسهم فبعث إليهم رسالةً وأقسم على القرآن المجيد قائلًا: تعالوا عندي فإني لن أقتل منكم أحدًا. فخدعهم هذا القَسَم واطمأنوا وخرجوا من الحصن. فأطلق زكي خان سراح واحدٍ منهم، تبريرًا لقسمه، وأمر بقتل الأربعين وأن تُبنى من جماجمهم منارة تخلد ذكر هذه الواقعة. فطالب جدي إسماعيل أن يجعل رأسه فوق الرءوس جميعًا لأنه كبير القوم. فعمل زكي خان بوصيته. ولا تزال المنارة باقية حتى اليوم. فلما سمع «الوكيل» بهذا غضب …»

والتحق محمد هادي خان — ابن إسماعيل — بخدمة جعفر قولي خان قاجار، فلما مات الأمير التحق بخدمة أغا محمد شاه وصار خازنه وكاتم أسراره. وفي سنة ١٨٠٠م بينما كان محمد هادي يحج إلى مشهد أتاه نبأ مولد ابنٍ له فعاد إلى خراسان مسرعًا وسمى المولود رضا تيمنًا باسم الإمام الذي كان يزور مشهده. وولي فتح علي شاه العرش فجعل محمد هادي ملتزمًا للخراج في فارس، ولكن الأجل لم يمهله فتوفي تاركًا وراءه ولده سنة ١٨٠٢م. وانتقل الطفل اليتيم إلى طهران ثم إلى مازندران حيث عُني به بعض أقاربه في بارفروش، وشبَّ الطفل فرحل إلى فارس حيث أخذ يتلقى العلم على مربٍّ فاضل هو محمد مهدي خان شهنه. فلما أتم الدرس التحق بوظيفة في شيراز مستظلًا بنفوذ والي خراسان الذي كان يرعاه ويشجعه. وكان رضا ينفق وقت فراغه في القراءة والكتابة وقرض الشعر، وقد اتخذ لنفسه لقب شاكر ثم جعله «هدايت» فيما بعدُ.

وجاء فتح علي شاه إلى شيراز فقدم إليه رضا فأحسن استقباله، وكان يعرف ما لآبائه من طيب الصلات بالبيت القاجاري، وأنعم عليه بلقب أمير الشعراء وأمره بأن يحضر إلى البلاط في طهران، ولكن المرض يحول دون ذهاب الشاب الطموح إلى العاصمة. ويموت فتح علي شاه ويليه على العرش حفيده محمد شاه، فيثور عليه والي خراسان وأخوه، وكان رضا قولي خان يعمل عندهما، ويخمد السلطان الثورة وتتوثق الصلة بين رضا والوالي الجديد.

وتتاح الفرصة لرضا من جديد؛ فإن شهرته تسبقه إلى طهران وقد أوفد إليها في عملٍ ديواني، فرحَّب به الوزير حاجي ميرزا آقاسي وقدَّمه للسلطان الذي سُرَّ به وبما له من وافر الذكاء وواسع العلم وأدب الحديث؛ فأمره بالإقامة في طهران ونصبه رائدًا لابنه عباس ميرزا نائب السلطنة (سمي باسم جده)، وأجزل له العطاء وخلع عليه إقطاعات من ماله الخاص، ولقبه بلالا باشي (الرائد). ويموت السلطان عام ١٨٤٨م فلا تكون الظروف مواتية للأمير الذي يربيه؛ ويضطر عباس ميرزا إلى الهرب من طهران، ويلي الحكم ناصر الدين شاه، فيعتكف رضا ويقبع في داره منكبًّا على قرض الشعر والكتابة والتأليف، ولكن عزلته لا تطول؛ فإن السلطان الجديد يعفو عنه ويراه خير من يوفد سفيرًا إلى خيوه عام ١٨٥١م. وحينما عاد من سفارته عُيِّن مساعدًا لوزير المعارف ومديرًا لدار الفنون، فظل في منصبه هذا زهاء خمس عشرة سنة، عين بعدها رائدًا لولي العهد مظفر الدين وكان حاكمًا على أذربيجان. وبعد سنوات من الالتحاق بهذا الأمير استأذن رضا في العودة إلى طهران فأذن له، وهناك مرض ومات بين يدَي أبنائه في ٣٠ يونيو ١٨٧١م.

أعماله العلمية

ولرضا قولي خان آثارٌ علمية وأدبيةٌ كثيرة، منها ما هو نَشْر ومنها ما هو تأليف، ثم هناك الأشعار والرسائل:

المؤلفات

  • (١)

    «نژاد نامۀ ﭘﺎدشاهان إيراني نژاد» تناول فيه الملوك الإيرانيين الذين حكموا إيران، وقد جعله في ثمانية عشر فصلًا، ولخص في الخاتمة أهم حوادث التاريخ الإسلامي منذ حياة النبي عليه الصلاة والسلام حتى العصر الذي كتب فيه الكتاب. ثم ذكر المراجع التي أخذ عنها والتي ذكرها في حواشيه.

  • (٢)

    «فهرست التواريخ» وقد قدمه لناصر الدين شاه قبل سفره إلى خيوه. وقد طُبع جزء منه في طهران.

  • (٣)

    «أجمل التواريخ» وهو كتابٌ مدرسيٌّ ألَّفه لولي العهد الأمير مظفر الدين لخص فيه أحوال الملوك ابتداءً من البيشداديين حتى ناصر الدين شاه.

  • (٤)

    «سفارتنامۀ خوارزم» وهو من أحسن ما كتب بالنثر الفارسي وسنتحدث عنه على حدة.

  • (٥)

    «تتمة روضة الصفا»، وكان ميرخوند قد ألف روضة الصفا مؤرخًا لإيران وما حولها، فرأى رضا قولي خان أن يُتم هذا الكتاب فأضاف الجزء السابع وكان غير معروف، وقد جاء في أسطره الأولى ما يدل على أنه من تأليف ميرخوند وموضوعه تاريخ أبي الغازي سلطان حسين ميرزا وأبنائه وذلك حتى سنة ١٥٥٢م. وكان رضا معجبًا بهذا الكتاب فأتم حوادثه حتى بداية عهد ناصر الدين شاه، ورجع في كتابة هذه التتمة إلى مراجع لم تكن معروفة، منها تاريخ عبد الغفار القزويني، وروضة الطاهرين لطاهر محمد السبزواري، وتاريخ الصفوية لميرزا صادق الأصفهاني خازن مكتبة الشاه عباس. ورجع في كلامه عن عهد الزند والسنوات الأولى من عهد فتح علي شاه إلى كتاب ميرزا صادق. ومن ناحيةٍ أخرى كان في متناول يده وهو يكتب تاريخ إيران الحديث منذ بداية القرن التاسع عشر الوثائق الرسمية التي تُبين صلة إيران ببعض دول أوروبا وآسيا حينذاك. وقد سطر النص الكامل لبعض هذه الوثائق وعلق عليها. وهذا الكتاب الذي صيغ في أسلوبٍ سهلٍ رقيق يمد القارئ بمعلوماتٍ واسعة عن الجغرافية والتراجم والآداب. وقد قدمه لناصر الدين شاه في عشرة أجزاء، سبعة لميرخوند وثلاثة من تأليفه، وقد طُبع في مجلدَين كبيرَين بين سنتَي ١٨٥٣–١٨٥٦م في طهران.

  • (٦)

    «رياض العارفين» في تراجم الشعراء المتصوفة، وقد ذكر نُبذًا منه في سفارتنامۀ خوارزم.

  • (٧)

    «مجمع الفصحا» وهو من أهم مؤلفات رضا. وأهميته الخاصة ترجع إلى روايته للنصوص الشعرية وللتفصيلات الكثيرة التي أفادها من مؤلفاتٍ تاريخية وكتب تراجم من الأهمية بمكانٍ كبير. ويحوي الكتاب مقدمة في تاريخ الشعر الإيراني الذي لم يندثر بعد الفتح العربي، بل ظهرت بوادره في خراسان وبلغ درجةً لا بأس بها أيام الخليفة المأمون. ويقول إنه حدث في سنة ١٩٨ﻫ/٨١٣م أن قدم السيد أبو العباس المروزي إلى الخليفة قصيدة من الشعر الفارسي بها كلماتٌ عربية فأُعجب بها الخليفة وأمر للشاعر بصلة ألف دينار. ويتحدث رضا عن الشعر الفارسي أيام الطاهريين والصفاريين والسامانيين والغزنويين والديلميين ثم السلاجقة، وقد جعله أربعة أركان: الأول في الشعراء من الملوك والأمراء وخصَّ صفحاته الأولى بأشعار ناصر الدين شاه، والثاني في الشعراء من سنة ١٧٣ﻫ/٧٨٩م حتى ٨٠٠ﻫ/١٣٩٧م، والثالث في الشعراء المتوسطين، والرابع في الشعراء المعاصرين. وامتاز الكتاب برجوع صاحبه إلى كتبٍ نادرة وبمعلومات لم يسبقه إليها أحد.

    على أن الرغبة في الإحاطة بكل شيء جعلته يتورط أحيانًا في أخطاء كان يستطيع أن يتفاداها. وقد عاب عليه القزويني (محمد) في حواشي «جهار مقاله» عدة عيوب، منها أنه ذكر أن البهرامي الشاعر كان معاصرًا لسبكتگين ولكنه حدد وفاته في سنة ٥٠٠ﻫ/١١٠٦م وهو سهو واضح لأن سبكتگين مات سنة ٣٨٧ﻫ/٩٩٧م.١٥ ومنها أنه غيَّر في قصيدة للأزرقي، اسم طغانشاه بن محمد (ألب أرسلان) بطغانشاه بن مؤيد لتكون القصيدة في مدح هذا الأخير؛١٦ ذلك لأن معظم المؤرخين يجهلون طغانشاه بن ألب أرسلان محمد بن جغري بيك الذي كان حاكمًا لخراسان أيام ألب أرسلان وهو الذي مدحه الأزرقي. ولم يعنَ كتاب التذاكر بتحقيق شخصية هذا الحاكم وظنوا أنه هو طغانشاه ابن مؤيد آي ابه (٥٦٩–٥٨١ﻫ/١١٧٣–١١٨٥م)، ومن هؤلاء رضا قولي خان الذي لم يكتفِ بالخلط بين الأميرين بل صحح الاسم كي يستقيم مدح الأزرقي مع ما ذهب إليه بغير تحقيق.

    عندما تحدث عن عثمان المختاري الشاعر الذي مدح ملكًا اسمه عضد الدولة لم يتحقق منه رضا خان فذهب إلى أنه عضد الدولة الديلمي الذي توفي سنة ٣٧٢ﻫ/٩٨٢م أي ما يقرب من ثمانين ومائة سنة قبل وفاة المختاري، وقد وضع صاحب مجمع الفصحا اسم مغيث الدين فناخسرو، وهو اسم عضد الدولة الديلمي، مكان معين الدين بن خسرو الذي مدحه المختاري.

    على أن هذه المآخذ لا تنتقص من قدر الكتاب والجهد الذي بذله المؤلف لإحياء الأدب الإيراني الإسلامي، من نشأته حتى الزمن الذي كتب فيه. وقد طبع الكتاب في جزأين في طهران سنة ١٨٧٨م.

  • (٨)

    «فرﻫﻨﮓ أنجمن آراي ناصري» وهو آخر عملٍ علمي اشتغل به رضا، وكان قد قرأ قبل تأليف كتابَيه مجمع الفصحا ورياض العارفين دواوين الشعراء القدماء والمحدثين، وأخذ منهم ما يقرب من مائة ألف بيت ذكرها في كتابَيه، ورجع لكثير من المعاجم لفهم بعض هذه الأبيات فوجد في هذه المعاجم من النقص ما حمله على عمل معجمه هذا الذي رأى ألا يذكر فيه غير الكلمات الفارسية، ذاكرًا معانيها مؤيدة بما يستشهد به من الشعر الموثوق به. وقد قدم لكتابه بذكر ما كان من عمل السابقين عليه في هذا المضمار. وبعد ذلك بحث عن الكلمات الفارسية المعرَّبة أو التي أخذها العرب وعن المصطلحات الأجنبية التي دخلت اللغة، وما طرأ على الكلمات الفارسية والعربية من التغيير، ثم ذكر العبارات التي أساء فهمها علماء اللغة فعرَّفوها تعريفًا ناقصًا. وكتب فصلًا مفصَّلًا عن الأجرومية الفارسية. وقد قسم المعجم إلى قسمَين الأول يتناول الأسماء والصفات والثاني شرح المصطلحات تشبيهًا ومجازًا وأيَّد المعنى الذي ذهب إليه بأبياتٍ مختارة من دواوين الشعراء المتقدمين.

الأشعار

وله أشعارٌ كثيرة منها ديوانه، ويحوي أكثر من خمسين ألف بيت، ومن أشعاره بعض رسائلَ دينيةٍ مثل بحر الحقائق الذي قلَّد فيه سنائي، ومنهاج الهداية (هدايت نامه) وأنوار الولاية الذين قلد فيهما مخزن الأسرار لنظامي، ثم مفتاح الكنوز ومعراج البلاغة.

ونظم كتابا سماه «كلستان إرم» أو «بكتاش نامه» وهو نظم في أسلوبٍ سهل يحكي قصة عشق بكتاش بن حارث لربيعة بنت كعب والنهاية الحزينة لهذين العاشقَين.

النثر

وفي أثناء إقامته الطويلة في شيراز حصل على مخطوطٍ قديم به جزءٌ من أشعار منوجهري المتوفى سنة ٤٢٠ﻫ/١٠٢٩م فجد في البحث عن بقية أشعار هذا الشاعر وهو في فارس وطهران وأعد للطبع ديوانه أو بالأحرى ألفين وثلاثمائة بيت من شعره. وقد طبع في طهران بعد وفاة رضا. كما نشر «قابوس نامه» للأمير عنصر المعالي كي كاوس بن اسفنديار.

والحقيقة أن إيران لم تشهد في الحقبة التي نتحدث عنها عالمًا أديبًا خصص للبحث من الوقت والجهد مثل رضا قولي خان. وقد كان من التوفيق أن يكون على رأس أول جامعة أُسست في إيران. فإن ثقافته الواسعة ورغبته في الإصلاح عن طريق الثقافة قد ساعدتاه على ألا يدخر وسعًا في تشجيع الناشئين من الأدباء وبعث المتفوقين من الشبان إلى أوروبا للتعلم في جامعاتها.

سفارتنامۀ خوارزم

وإذا أردنا أن نتخذ مثلًا للكتابة في القرن التاسع عشر نجد أن كتاب رضا قولي خان «سفارتنامۀ خوارزم» خير مثل على النثر الفني الفارسي حينذاك.

كانت خوارزم تابعة لإيران إلى حدٍّ ما، وكان ملوكها يبعثون الهدايا ويدينون بالولاء للملوك القاجاريين، وكان محمد أمين خان، والي خوارزم، قد أراد التقرب من محمد شاه القاجاري فبعث إليه بأمير من البيت المالك، كان التركمان قد أسروه، وأرسل معه رسولًا من خيوه يحمل الهدايا وخطابًا وديًّا للشاه حسب ما جرى به العرف بين البلدَين. وسُرَّ محمد شاه لعودة قريبه الأسير، ورحب بالهدايا التي بعثها إليه والي خيوه وابتهج بخطابه إليه، ثم ردَّ عليه ردًّا جميلًا وخلع عليه لقب ملك خوارزم (خوارزمشاه). ومات محمد شاه وخلفه ناصر الدين شاه فلم يرسل ملك خوارزم سفيره مهنئًا السلطان الجديد بولايته، ولكنه بعد قليل علم بمقتل حسن خان سالار أحد زعماء ثورة خراسان، فخشي أن يسترسل في غيه فيلقى ما لقي صاحبه، فبعث بضابطه آتانياز محرم يهدي ناصر الدين جياد الخيل والصقور. ورأى رجال السلطان أن الرسالة التي يحملها الرسول ليست معبرة عن صادق الولاء. ورأى الوزراء أن يوفدوا إلى خيوه سفيرًا مثقفًا ذا مركزٍ ممتاز لكي يعبر لملكها عن استياء الحكومة الإيرانية من رسالته، ولكي يستميل هذا الملك إلى إيران ويعيد الصلة بينه وبين الشاه إلى ما كانت عليه من ولاء وود وينتهز فرصة وجوده فيعمل على إطلاق سراح الرعايا الإيرانيين الذين كان التركمان قد اختطفوهم من خراسان ومازندران وباعوهم كما يباع العبيد في خيوه.

واختارت الحكومة رضا قولي خان؛ وأعطوه ألفَي تومان١٧ لنفقات رحلته، وهدية للملك، بندقية وغدارتَين على أن يقدمهما كهديةٍ شخصية.

وأدى رضا قولي خان سفارته وعاد فرفع إلى ناصر الدين شاه تقريرًا عنها هو هذا الكتاب الذي نتحدث عنه؛ سفارتنامۀ خوارزم.

وقد بدأ رضا كتابه بمدح السلطان ثم بيَّن كيف استعدَّ لرحلته وأقام خارج بيته لإعداد ما يحتاج إليه، وفقًا للرسم عندهم إذا قصدوا رحلةً بعيدة، ووصف مشاهد جبال البرز ودماوند والولاية التي سميت به إلى أن حدثنا عن لقائه لوالي خيوه خوارزمشاه؛ محمد أمين خان:

ذكر ملاقاة محمد أمين خان والحديث معه

«وقد ترامى إلى سمع الخان ما طلبتُ عن أسرى الإيرانيين فبعث في طلب آنا نياز محرم، رسوله الذي عاد معي من دار الخلافة (طهران)، وكان في ذلك الوقت قائمًا على معاملات كهنه أوركنج. جاء إلى خيوه، وجعله ثالثنا، وأخذ يستوضحه ما أشكل عليه. وبعد عدة أيام من مجيء محرم بعث في طلبي محدِّدًا موعدًا لم أخبر به، وكان العلماء والأمراء قد حضروا في أبهى زينة، وكنت مضطرب المزاج ولم يكن في وسعي أن أذهب إلى هذا الجمع الحافل، فاعتذرت بعلَّتي وقلت إنني لا أقدر على تلبية الدعوة فقد تجرعت مسهلًا، وليس في طاقتي العبور فضلًا عن الحضور.

فجاءني رسولٌ آخر يقول إن خان الحضرة يعني خوارزمشاه ينتظر حضوركم، وإن أعيان المملكة يرمقون طريقكم. فقلت إني غير مستعد وقد كان عليكم إخباري بالأمس إذا كنتم تريدون دعوتي اليوم، ولو علمت لما تجرعت المسهل فإني اليوم أجدني غير قادر على الخروج وقد بدأت أشعر بأثر الدواء.

والخلاصة أن المجلس قد انفضَّ، وأنهم حملوا عذري على الكبرياء و«التفرعن» والتجلل، ورموني بالجسارة وإساءة الأدب؛ لأن حكم الملك في هذه الولاية بمنزلة الوحي لا يخالَف. ولكنهم سمحوا لي، حين يتحسن حالي ويصحُّ مزاجي، أن ألتمس المقابلة.

وبعد بضعة أيام، وكان الخان في حديقة أﻧﮕور نيك المشهورة باﻧﮕريك،١٨ التمستُ المقابلة وصحبت آتا نياز محرم. فلما دخلت حيَّيتُ الخان فحياني. وبدأ يسأل باللغة التركية وكان معه ترجمان ديلمي لأنه تظاهر بعدم فهم الفارسية، فأنكرت معرفتي التركية لينقل الوسيط الحديث بيننا. فسألني عن أيام اعتكافي وكيف أمضيتها. فقلت: أمضيتها متراخيًا محمومًا، ولم يكن لديَّ طبيب يداويني والمدينة التي ليس بها طبيب هي عند الحكماء بعيدة عن التمدن ولا تروق لهم. قال: فكيف برئت بعد سقم؟ قلت: بما دبرت لنفسي من دواء وافق قبول القضاء. قال: أفي إيران وطهران كثرة من الأطباء؟ قلت: نعم، في كل شارع ومحلة عيادات يطرقها أهل البلاد والغرباء فيصحون بعد مرض، ويتقاضى معظم أطباء هذه العيادات أجورهم من السلطان، ثم إن في كل فوج من أفواج الجيش القاهر طبيبًا يصاحب الفوج في السفر والحضر، وهناك أطباء يعيِّنهم الديوان الأعلى مهمتهم تسجيل أسماء الأطفال وإجراء ما يلزمهم لدفع مرض الجدري عنهم، حتى لا يصابوا بالعمى. فتعجب الخان من روايتي وتحيَّر من انتظام الأمور في إيران. قلت: وأفواج الجيش مائة ألف لكل فوج طبيب، ومن هؤلاء الأطباء ميرزا علي نقي الذي كان طبيب فوج الأفشار، وهو اليوم في خيوه لا يجد لنفسه عملا.»

وهكذا استثار رضا قولي خان فضول خوارزمشاه فسأله عن أفواج جيش إيران، فأجابه السفير إجابةً مفصلة حيَّرته. فقال الخان: لسنا بجاهلين أحوال إيران وسلاطين قاجار وقيزل باش، ونحن نعرف أحوال بلادكم أيام فتح علي شاه ومحمد شاه رحمهما الله. فأخذ رضا يبين له حالة الجيوش أيام هذين السلطانَين وما هي عليه أيام ناصر الدين شاه من كثرة العدد والعُدد الحديثة وحسن النظام والتناسق بين الضباط على مختلف رتبهم وبين الجند، إلى أن قال:

«وقد علم رسولكم آتا نياز محرم بعض ما ذكرت ورأى ميدان المعسكر السلطاني الذي يحوي طابقَين في كل طابق أربعمائة غرفة لسكن الجند، وأمام كل غرفة مدفعان مجهزان بأدواتهما من عرادات وبارود وذخيرةٍ أخرى، فإذا كنت لا تعتقد في صحة ما أقول فسله يبين لك الصحيح من السقيم.»

«وهناك اثنا عشر ألف رجل، على عدد الأئمة الكرام، يقيمون في معسكرهم بدار الخلافة ويتدربون صباح مساء، وينقدهم رجال القصر أجورهم كل شهر. ثم إنهم يسرحون بعد مدة ويحل محلهم غيرهم. أما هم فيعودون إلى بلادهم ويشتغلون بما يهيأ لهم من أعمال.»

وقد كان الخان يسمع حديث السفير «وهو يتفكر ويتدبر، وكان من فرط غيرته ونهاية حيرته يرفع يديه إلى صدره ويصيح ثلاث مرات «يا حافظ». لقد ألجأه الفزع والجزع إلى الله الحفيظ.»

•••

ويرفع الخان رأسه ويسأل السفير عن عمر السلطان فيقول السفير إنه ولد في السادس من صفر سنة ١٢٤٦ﻫ/٢٨ يوليو ١٨٣٠م، فهو في الثانية والعشرين، وإن المنجمين قد تنبئوا بأنه سيحكم أربعين سنة محاطًا «بالحشمة» والجلال. فيقول الخان إن السلطان إذن شابٌّ جاهل. فيجيب السفير بأنه شابٌّ كحظه السعيد وإنه ناضج الروح وله تجارب الشيخ الكامل، وإنه ليس جاهلًا، كغيره من الملوك، فهو عالم بالفطرة وعقله هبة من الله. وهو من ناحيةٍ أخرى قد تحلى بالكمال صورةً ومعنًى وتخلى عن النقص ظاهرًا وباطنًا. وهو منذ ألقي إليه بعبء الملك قد صرف الهمة إلى الطاعة والعبادة فهو يتضرع إلى ربه ويخشع. وفي كل ليلة، بعد تلاوة الأوراد والأذكار، توقد في غرفته الشموع المنصوبة على عمدٍ مطعَّمة بالجواهر، فليحترق بها أعداؤه كما يُحرَق الفراش حول النار، وتوضع أمامه كتب الأخبار والأحاديث ودفاتر القصص والتواريخ. فينفذ بصره إليها ويتأمل فيها، ويفيد من سير الأولين حكمة وعلمًا. وهو يشتغل بدراسة أحوال الأقاليم السبعة فهو يعرف عن ديار الفرنج والروم والروس والهند وتوران أكثر مما يعرف أهل هذه البلاد. وقد كان يدل سفيره قبل سفره على الطريق الذي يسلكه مبينًا له المنازل التي فيها الماء الحلو والأخرى التي لا يُشرب ماؤها، فلما اجتاز السفير الطريق رأى صحة حديث السلطان.

وكان الخان يتأثر بهذا الحديث ويصيح: التوبة التوبة، والحفيظ الحفيظ.

وبعد أن يتحدث رضا عن ناصر الدين شاه وبأنه أشرف ملوك الأرض طرًّا، وأنه أكثر أصالة ممن تقدمه من آل قاجار، لأنه ملكي النسب من ناحيتَي أمه وأبيه، ينتقل الحديث إلى العداوة بين خوارزمشاه والسلطان.

قال ملك خيوه إنه بعث آتا نياز محرم سفيرًا إلى طهران كي يحمل إلى السلطان إخلاصه وصداقته، وكذلك بعث السلطان رضا قولي إلى خوارزم سفيرًا، وفي هذه الأثناء يرى خوارزمشاه جيوش إيران تسير نحو سرخس واستراباد وهذا لا يتفق والشعور بالصداقة بين حاكمَين.

فأجاب رضا بأن سير هذا الجيش يهدف إلى إقرار الأمن عند الحدود وإلى رفع غائلة التركمان. «وهذه التعبئة لا تمس بلادك ولا من يخضع لك من القبائل.» وأما بلوغ النواب حسام السلطنة سرخس «فإنه واضح أن هذا البلد لا يدين لك بالولاء، مثله كمثل مرو، وأنهما أصبحا بؤرة للفتن، ولو عرف أن أهل سرخس من رعاياك لما سار إليهم أحد. ومن ناحيةٍ أخرى فإن هذه الحملة لم تُسيَّر بأمر وزراء إيران، إنما أقدم عليها حسام السلطنة بإلحاح خواقين خراسان. والدليل على أن الشاهنشاه لا يعرف أمر هذه الحملة أنكم حين عرضتم سحب جندكم إذا انسحب عسكر حسام السلطنة، قَبِل هذا أن ينسحب. ولو كان يستمد الأمر في هذه الغزوة من السلطان، «روحنا فداه»، لما تراجع بهذه السهولة.»

ثم يقول رضا: وحين سار حسام السلطنة نحو سرخس لم ينم أهل خوارزم ليلهم … ولو لم يكن هناك مراعاة للمصافاة والصداقة من قبل السلطان «روحنا فداه» لدخل الجند سرخس بإشارةٍ واحدة، ولجعلوا عاليها سافلها. ثم يحدث الخان عن الوضع السياسي لخوارزم فهي من ناحية عرضة لغارات أهالي بخارا ومرو وهراة، وهي من ناحيةٍ أخرى عرضة لغارات الروس. ثم ينبهه إلى أن حدود خوارزم قريبة من استراباد وبقية الحدود تلتقي عند دره كز وخراسان. وينصح الخان أن يتفكر فيما هو أجدى عليه. فمن الذي يستطيع عونه إذا أعوزه المدد؟ ويقول له إذا رأيت حكومةً أجنبية تعرض عليك صداقتها فاعلم أنها تقدم إليك ما يتفق مع مصلحتها، والدولة التي هي أقرب إليك صديقة لأمير بخارا وهو عدوك، وأقرب دولة إلى بخارا تتودد إليك وهي لا ترجو غير مصلحتها وضرب المسلمين بعضهم ببعض. مصراع.

من أي طرف يكون القتل (قتل الكفار) فالفائدة للإسلام.

«إن من بيده الأمر في بلدك لا يفكرون في واجبهم، ولا ينظرون إلى خير الدولة، وهم يبذرون بين المسلمين الشقاق والنفاق حتى أصبحوا في عين المسلمين لا يساوون حبة شعير. إن أهل إيران يسافرون إلى كل أمة، من ترك وروس وهند وفرنج، يذهبون ويعيشون أعزاء ويعودون بالعافية، إلا في بلادكم فإنهم يُنهبون ويفتح رجالك أبواب الإيذاء والإجرام في وجوه أهل القبلة. وذلك مع أن لنا قرآنًا واحدًا وقبلةً واحدة ورسولًا واحدًا وإلهًا واحدًا، ولم يأتِ في آيةٍ أو حديثٍ شيءٌ مما تفعلون.»

فأجاب الخان بأن علماء الدين في بلده يقولون إن سبَّ الشيخَين (أبي بكر وعمر) كفر، وجزاء الكافر معلوم. وقد ابتدع أهل إيران البدع وسبُّوا أكابر الصحابة ولعنوهم، ولذا فهم، بفتوى المفتين في بخارا وخوارزم، روافض كفرة، فلزم أخذ أموالهم ونهبها ثم لزم أسرهم.

فأجاب رضا قولي:

إنني من رجال بلاط ملك إيران وأتحدث بلسان الدولة. إنما تكون الأسئلة والأجوبة في أمور الدين مع علماء المذهب، وليس لي درايةٌ كبيرة بهذا البحث. فإذا كان المقصود تحقيق المذهب والبحث فيه لوجب بعث أحد القضاة أو المفتين. والواقع أن الحديث في هذا الموضوع قد دام سنوات وتبودلت فيه، بين الطرفَين، الرسائل والمقالات والكتب والخطابات ولم ينتج هذا كله شيئًا. مصراع.

هذا خيط بعيد الطرف.

وبعد أن تحدث رضا عن مذهب الفرس أيام الخلفاء وأنهم كانوا من أهل السُّنَّة والجماعة، وذكر الحرب بين علي ومعاوية ثم مقتل الحسين وقال إن هذا أوضح من الشمس، وبعد أن تحدث عن العباسيين وكيف اضطهدوا أئمة الهدى علنًا وخفية قال:

«وإذن فقد كان بين الخلفاء خلاف، ولم يكن العباسيون متفقين مع الأمويين في الرأي، ومع هذا فإن أهل السُّنَّة والجماعة قد اعترفوا بهم جميعًا وبأنهم أولو الأمر وخلفاء الله ورسوله.

وأما السبُّ والرفض فقد صدر أولًا عن معاوية وبني أمية في حق حضرة أمير المؤمنين أسد الله الغالب، فقد سبُّوه ولعنوه من فوق المنابر سبعين سنة، حتى منع عمر بن عبد العزيز هذا السبَّ. ثم كثرت المذاهب كما هو موضح في الملل والنحل. ظهر الخوارج والمعتزلة والأشعرية وطائفة الزيدية والإسماعيلية والأفطحية. ووجد الإمامية أن «الأمور خراب وأن البحار سراب» فعملوا بالحديث: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق.» فركبوا سفينة الولاء لأهل البيت كي ينجوا من طوفان الخلاف.

أما قصة الرفض والسب فكانت في قديم الأيام وخاصة أيام الدولة الصفوية، فقد برزت وظهرت حتى حرمها نادر شاه الأفشاري فزالت هذه البدعة من بين المسلمين. وجاء من بعده السلاطين الألوارية (الزند) ولم يكن لديهم علم بما يدور، فغالى جهلاء العلماء في هذا الأمر. ومع ما كان يبديه حضرة الخاقان صاحب القرآن نوَّر الله مرقده «فتح علي شاه» من حب علماء الدين وتشجيعهم فإنه منع بعض قواعد الرفض.

وجاء محمد شاه طاب ثراه فأمر أمرًا نافذًا بتحريمه.

وفي عهد هذا السلطان حامي الإسلام «ناصر الدين شاه» لا يجرؤ أحد أن يقول مثل هذا القول الواهي، وإذا أطلق أحد لسانه بالتشنيع على الخلفاء فإن رأسه يُقطع.»

قال الخان وقد أعجبته سيرة آل قاجار في هذا الموضوع: «إذا كان الأمر كذلك فهو خير.»

ويسأل الخان فيقول: إن سبب عداوتنا لأهالي إيران هو اتهامنا لهم بالرفض والسب، فما سبب عداء القزلباش لنا؟ فأجاب رضا: إنه كما قيل لكم إن أغلب الإيرانيين رافضة فاتخذتموهم أعداءً لكم فكذلك قيل لأهالي إيران إنكم وأهل ولايتكم لا تحبون أمير المؤمنين أسد الله الغالب علي بن أبي طالب وأولاده الأمجاد.

فقال الخان: نعوذ بالله أن نكره عليًّا، إنا نُقرُّه بأنه رابع الخلفاء وأعلمهم، ولو أخذوا بمشورته وعملوا برأيه لما نشب بينهم خلاف. وإن ذكر الخلافة والخلفاء مشروح بالتفصيل في روضة الصفا.

فانتهز السفير هذه الفرصة ليشرح المذهب الديني في إيران ومذاهب الغلاة التي بها وهي المذاهب التي لا يقرُّها أهل الرأي في الدولة، ولكنهم يغمضون العين عما تقول به لأنهم يستغلون غلو أهلها في التشيع لعلي وآله وبغضهم الشديد لأهل السُّنة فتتخذ الدولة منهم جنودها كلما دعا الأمر لقتال الترك أو التركمان السُّنِّيين، قال:

لقد ولدت في إقليم فارس وشببت فيه، وتنقلت في سواحله وبنادره وبها نحو ثلاثين ألف نفس على مذهب الشافعي، وكذلك يكثر أهل السُّنَّة والجماعة في لارستان وسائر أنحاء فارس، وهم يعيشون في سلم وهدوء تامَّين، وقد عشت بينهم على عقيدتي وما أحببت بحث موضوع المذاهب.

وفي إيران طائفة تسمى الإمامية، وهي على حق فيما تذهب إليه، ويفحم علماؤها علماء أهل السُّنة كلما تناظروا. وهم يقولون إن النبي، وهو في مرض الموت، طلب دواة وقرطاسًا ليكتب وصيته حتى لا تضل الأمة من بعده، فمنعه عمر بن الخطاب منعًا صريحًا. وهذا أمرٌ مشهور. ثم إنهم يقولون إذا كان عمر مخلصًا لرسول الله فلماذا تركه ميتًا وجرى إلى سقيفة بني ساعدة وأخذ يحمل الناس على اختياره خليفة؟ وأكثر من هذا فإن الخلافة إذا كانت بالوصية فإن الرسول قد أوصى بعلي من بعده في غدير خم، فلماذا لم يمكنوه منها؟ وإذا كانت بإجماع العامة فلماذا عدل أبو بكر عن الإجماع وأوصى بأن يكون عمر خليفة من بعده؟ وإذا كانت الوصية هي الوسيلة للخلافة فلماذا عدل عمر عن الوصية وعن الإجماع وأمر بالشورى في أمر من يولَّى بعده؟ وفي إيران مثل مشهور يقول باستحالة وجود جوين على سقفٍ واحد؛ وهكذا تجد على هذا السقف أهواءٌ كثيرة.

وطائفة الإمامية هذه ترى النجاة في حب الرسول وآله ويقولون بالأئمة الاثني عشر ويسيرون وفق آيات القرآن والحديث وفيهم زهاد وعبَّاد وعلماء وفضلاء كثيرون.

فلما سمع الخان هذا البيان تفكر قليلًا ثم قال: إنهم يعجبون بعلي.

قلت:

وفي إيران طائفة غلوا في الولاء لعلي وفضلوه على الخلفاء الثلاثة ويسمون بالمفضلية.

وطائفةٌ أخرى جعلت عليًّا في مرتبةٍ واحدة مع الرسول ولا تفرق بينهما إلا بما بين النبوة والولاية من فرق.

فقال الخان: إن اعتقادهم عجيب.

قلت:

وطائفةٌ أخرى تجعل من علي إلهًا وتسميه موجد الكل.

فغضب خان خوارزم، وقال: نعوذ بالله من هذا الاعتقاد الفاسد، إن هذه الطائفة كافرة، فلماذا لا يقضي ملك الإسلام بقتلها.

قلت:

إنهم لا يجهرون بعقيدتهم وهم يوافقون المسلمين في الظاهر. ثم إن لهم أتباعًا في سائر البلاد. وهم في إيران كثيرون فهم أكثر من مائة ألف أسرة وغالبهم يشتغل في الديوان وعند السلطان وبعضهم فرسان، ومنهم عشرون أو ثلاثون ألفًا موظفون في الدولة، وآخرون يعملون في الجيش كمشاة. فكلما أشار السلطان ذو الجاه بأن تحارب هذه الطائفة أهل الروم (الترك) أو أهل بخارا أو التركمان، فإنهم يقدمون بشوق ما بعده شوق، وعداوة لا توصف، على حرب أهل السُّنة، لأنهم يرون في قتلهم ثوابًا عظيمًا ويستحلُّون دماءهم، وذلك من غير أن ينقدهم السلطان أجرًا أو يُجري عليهم شيئًا.

فثارت من ذلك أوهام الخان واضطرب خاطره فوضع يده على صدره في غير وعي وأخذ يكرر: التوبة التوبة والحفيظ الحفيظ، وقال:

لماذا لا يأمر سلطان إيران بإهلاك هؤلاء القوم وإبادتهم؟

قلت: إن قتل مائة ألف من رعاياه وخدمه ليس أمرًا يسيرًا. وهو يبعث في البلاد فتنةً عظيمة. ثم قلت:

وفي إيران أناسٌ على كل الملل، من النصارى واليهود والمجوس والهنود، ولهم في كل مدينة شوارعهم وبيوتهم ومعابدهم وكنائسهم، وهم يعملون بتعاليم أديانهم ويدفعون الجزية. ولهذا إذا سمعتم أن في إيران جماعة من الرافضة فاعلموا أن أهل إيران جميعًا ليسوا من هذه الفرقة، ففي إيران كثير من كل الملل والنحل، بيت.

ليس في الطوق قتل الناس ولا في المكنة القضاء على العالم.

ثم أخذ الخان يسأل السفير عن مذهب الخوارج، واستطرد السفير فحدَّثه عن الخلفاء الإسماعيلية في مصر والمغرب ومحاربتهم للعباسيين ثم حدثه عن ملاحدة قوهستان وعن البابية والقضاء عليهم.

وقد انتهى هذا الحديث بإعجاب الخان بالسفير وودَّ لو استطاع أن يبقيه في بلاطه لتفيد منه البلاد في أمور الدين والدنيا. ثم أخذ يسأله عن طرق خوارزم وعن الأولياء الذين زار قبورهم، وكان رضا يجيبه ويقرأ عليه بعض أشعار للشيخ نجم الدين كبرى الذي زار قبره. فقال الخان إنه لم يأتِ إلى خيوه سفير كهذا الرجل … ثم شكره لأنه أزال ما علق بنفسه من سوء الظن بالمذهب الذي يتبعه الإيرانيون، وسأله أن يتحدث في بلاده بما يرفع الشبهة في أهل خوارزم «قل لهم إنا مسلمون نسير على جادة السنة والجماعة، وإن الغلو الذي هو من جملة البدع التي لا نفع فيها محرم في ولايتنا، وإنا لا نعاقب أو نقتل النفس بغير إجازة الشرع وفتوى القاضي، وإنا مخلصون لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ولأولاده.»

وانتقل الحديث بين الخان والسفير عن أَسْر الإيرانيين فتنصل الخان من تبعته … ثم طلب السفير أن يعيد الخان هؤلاء الأسرى إلى إيران كهدية منه إلى السلطان. فإن الاصطبلات السلطانية مملوءة بأحسن الخيول النكِّية، وكذلك حوت خزائنه كل ما يُشتهى، فإهداء رعاياه الأسرى خير ما يهدى إليه. وحين سأل الخان عن طريقة استرداد هؤلاء الأسرى ممن اشتروهم من الفلاحين (البخارا) أجابه السفير بأن يشتريهم بنقد من عنده وألا ينظر إلى نفع أو ضرر فإن السلطان قادر إذا أزم الخان أمر أن يعينه بعشرة آلاف أو عشرين أو ثلاثين ألفًا من جنده، وأنه قادر على أن يخضع مدينة مرو وينزل له عنها «وكذلك طلبتم أن ينسحب النواب حسام السلطنة عن سرخس ففعل، وما هرع إليكم أهل سرخس إلا لخشيتهم جنود إيران.»

فاقتنع الخان بما قال السفير ووعد بأن يزداد صلةً بآل قاجار؛ فقد جاملوه في سرخس. وأجاب السفير إلى طلبه.

•••

وقد ذكر رضا قولي خان في كتابه ما لقيه في الطريق، فوصف المزارات التي زارها وذكر أشعار أصحابها إذا كانوا شعراء فمن ذلك وصفه لقبر الشيخ نجم الدين كبرى، ولقبر فخر الدين أبي عبد الله القرشي التميمي البكري، وقد ذكر بعض رباعيات لهما. وذكر كيفية تولية الخان عرش بلاده، فإنه حين يموت الخان يحضر القضاة والعلماء والأمراء والوزراء للتعزية ثم يختارون ابنه الأرشد ليَلِيَ العرش، فيظهر هذا الاجتناب والاستغناء فيلحُّون عليه حتى يقبل ما داموا مجمعين على اختياره وخاضعين لأمره حتى لو كان بالقتل. ثم يأتون ببساطٍ أبيض ويضعونه في وسطه ثم يرفعونه وقد أمسكوا بأطرافه ويلقون الخان الجديد على العرش بقوة، فيقع على وجهه أو تسقط عمامته. وحينئذٍ يقطع كل منهم بسكين معه قطعة من هذا البساط ويأخذها معه.

ويتحدث عن الجيش وطريقة جمعه وصلة الخان بملازميه، ويقول إن الرقيق من الإيرانيين في خوارزم أكثر من أهلها، وقد رأى عند أحد الأزبكيين خمسين رقيقًا من الإيرانيين. قال ولو وجد هؤلاء تأييدًا من حكومة إيران لثاروا ضد سادتهم.

ويصف ما لقيه من مصاعب في الطريق:

«وكنا نسمع في مسيرنا بثورة يموت١٩ وقيامهم بثورة على حاكم استراباد، وشاع وتواتر أنهم ينتظروننا ليمنعونا من السفر ويأسرونا؛ ولذا رأيت من الحزم ألا أبعث أمامنا رسولًا إلى بكلر بكي، فإن التركمان سيعلمون من ذلك يوم مجيئنا فيسرعون إلينا. وبعد أن اقتربنا من نهر إترك، حيث يسكن غالب التراكمة، وهم يعيشون على قطع الطريق والغارات، تناولنا العشاء ورأينا أنه لا يجدر بنا أن ننام. فلما انقضى من الليل ساعتان أو ثلاث عزمت على عبر نهر إترك مع رفاقي ومن صاحبوني في السفر، وذلك بغية الوصول إلى جرجان واستراباد. فلم نكد نسير في الطريق قليلًا حتى ظهرت آثار سنابك الخيل كثيرة، فدلَّت على أنهم جاءوا من حولنا ومضوا. فبدا لكلٍّ منا ظن فقال ما أراد. وخطر لي من القرائن الخارجية والدلائل العقلية والسمعية المتواترة أن تراكمة إترك الثائرين قد خال لهم أن يأسروني، فوجب أن نسير في طريق غير مألوف من حول منازل هذه الطائفة. فلما بلغنا نهر إترك كانت ضوضاء أهل القافلة من بخارى وخيوقي (نسبة إلى خيوق أو خيوه) وكابلي وهدير الجمال وصهيل الخيل وغلغلة الحضور، كل هذا كان له في الجبل والنهر صدًى أي صدًى. وعلى أي حال فقد سرنا في الطريق الأيسر وكانت أرضه ملحةً وولينا من هذا المكان المخوف ولو أن كل هذه المسالك خطرةٌ مفزعة، متوكلين على الله، وقصدنا جرجان واستراباد.»

وكان قد عرف زعيم يموت، آتاباي قراخان، وتعرف عنده بالأمراء والقاضي فرأى أن ينزل عند واحد منهم، وكان يجهل ما يجري في استراباد. وفي هذه الأثناء قابله رجل فأنبأه بأن بكلر بكي قد قبض على قراخان وأن أمامهم ألفين من الثوار يسيرون لتخريب جسر نهر جرجان، «فبُهت رسول الخان ومن معي وتحيروا جميعًا. فقال أحدهم إن الأولى أن نسير في الطريق الأيسر لأنه غير مطروق فأمامنا فرسان سيلاقوننا، وإن دردي قولي خان قد ألقى خيامه هناك، وإنه سيسعد بورودنا مخيمه، وإذا ألجأتنا الضرورة فإنه يصحبنا وفرسانه إلى استراباد.

ولاحت لنا من بعيد خيام وسرادقات فاتجهنا نحوها وحثثنا السير إليها، عبثًا، لقد ظننا السراب ماءً والقطران كافورًا عبقًا، فبعثنا من لدنَّا رسولًا يستطلع الخبر فعاد يخبرنا بأن الخيام ليست لدردي قولي خان ولكنها خيام يلقاي. وكان العرف عند التراكمة أن من يفد عليهم من عدوهم فهو آمن ولم يكن بد من التقدم نحوهم، بين اليأس والأمل، وترجلنا. فأحضروا لنا خبزًا وأكرمونا. وكان من بينهم كثير من الأسرى، من أهل أردو (إيرانيين) … وآثرنا الرحيل على المكث، ولما ابتعدنا مرحلتَين أو ثلاثًا وجدنا أنهم سرقوا بندقية محمد شريف باي في الفترة القصيرة التي توقفنا فيها عندهم، وأنهم أنبئوا الأعداء بأمرنا.»

وسار رضا قولي خان فرأى هذه القبيلة من ورائه تسير، تبغي سرقته وتدَّعي حراسته. وفجأة قام عليهم التركمان الأعداء وأرادوا أن يأسروه فقاتلهم ثم جمع أمره ورجاله واستعدوا للقتال من جديد، حتى إذا جن الليل تدبر موقفه فرأى القوم لم يناموا ليلتَين وأن الطعام نفد وليس في جرارهم ماء، وأبصر فوجد أهل القافلة يتطلعون إليه وقد ترقرق الدمع في أعينهم وأنه هو سبب هذا البلاء كله فأخذ يفكر في أن يسلم نفسه أسيرًا، ويكفي الله المؤمنين القتال. ولكنه كان قلقًا، فإن الحكومة الإيرانية ستبحث عن سفيرها وتنقذه من الأسر كي تدفع الإهانة التي لحقتها بالعدوان عليه. ولكنه يخشى أهل السوء من الحكام، فمنهم من لم يكن راضيًا بسفارته هذه؛ وإذن فقد تعدل الحكومة عن البحث عنه وتتركه يلقى ذل الأسر وهوان الرق بحجة أنه لم يكن موفقًا في سفارته بل إنه زاد الأمور تعقيدًا. أخذ يفكر في هذا كله وهو متعب مضنًى، وقد جلس بين الجمال يتفكر ويتدبر ويترقب. وإذا بالقاضي الذي لقيه عند قراخان يحضر إليه ويعرض المساعدة، ويتصل أمره بزعماء القبائل ويُنقَذ ومن معه ويبلغ استراباد.

•••

وقد انتهى أمر خان خوارزم بالقتل وعاد من سلم من رجاله إلى خوارزم، أما رأس الخان فقد حمل إلى طهران. ويختم رضا قولي خان رسالته فيقول ناظمًا:

شاع النواح والأنين في خوارزم كلها.
وترددت الآهات والبكاء في كركانج.
إن تركستان تغط بالحسرات كأنها جيحون،
كلها، من بخارى حتى فرخار.
أناتهم «باردة» كرياح آذر (نوفمبر-ديسمبر)،
وعيونهم «مشبعة بالدمع» كسحاب آزار (مارس).
إنهم كالبوم في الخراب الشوم،
قد أضناهم فرط الألم.
وقد تذلل الصعب من هذا الأمر،
من تخت كسرى وتدبير الدستور.٢٠

القائمقام

وهو الشاعر الذي تحدثنا عنه في آخر فصل الشعر، والذي امتاز برسائله التي كتبها أثناء وزارته لفتح علي شاه، ومنها رسالته المشهورة التي بعث بها هذا السلطان إلى قيصر روسيا معتذرًا عن قتل الإيرانيين البعثة السياسية الروسية في إيران، وقد بعث بهذه الرسالة مع ولي عهده عباس ميرزا نائب السلطنة. قال فيها:

وقد بينَّا في كتابٍ صادق، مرقوم ومعلوم، مفاجأة هذا الحادث، وأن أمناء الدولة لم يعرفوا من أمره شيئًا. وثانيًا فإنه لما بين هاتين الدولتَين البالغتَين السماء علوًّا، من الوحدة التامة والوفاق فقد أخذنا على عاتقنا أن نثأر لهذه البعثة فأوقعنا الجزاء على كل من لحقته أدنى شبهة من أهل هذا البلد في المشاركة في هذا الجرم القبيح والإثم الشنيع، بالزجر والحد والإخراج من البلد. وأخذنا محافظ المدينة وعمدتها بأنهما علما بالحادث متأخرَين، ولأنهما لم يحكما الأمر في المدينة قبل وقوعه، فعاقبناهما بالعزل والتعزير. وأكثر من هذا فإنا عاقبنا ميرزا مسبح، مع ما بلغ في دين الإسلام من مرتبة «المجتهد»، وهو قدوة الخاصة والعامة، وذلك لأن أهل المدينة كانوا ملتفِّين حوله في المجلس وقت اغتيال البعثة. ولقد عملنا بما بين الدولتَين من اتحاد فلم نعفُ أو نغمض العين ولم نقبل أي شفاعة أو وساطة من أجله. وإذ رأينا لزامًا علينا أن ننبئ الأخ الطيب السيرة فقد حررنا هذا الكتاب معبرًا عما نُكنُّه من الصداقة، وتركنا التفصيل لولدنا المؤيد الموفق نائب السلطنة عباس ميرزا. آملين من أعتاب الله أن يسدد وداد هاتين الدولتَين الأبديتَي البناء، نحو الترقي والازدهار، وأن تتصل روابط الصداقة والإخاء بين الحضرتَين وأن يتأكد بعث الرسل وتبادل الرسائل ويتضاعفا والعاقبة بالعافية.

وأكتفي بهذا القدر عن الكتابة وأنتقل إلى القصص.

(٢) القصص

وليس القصص جديدًا في الأدب الفارسي، فمنذ زمنٍ بعيد والإيرانيون يعنون بالعاشر من محرم ويذكرون فيه قصة الحسين ويبكون، ومنذ زمنٍ بعيد أيضًا والفرس يعنون بالتاريخ القصصي ويأخذون في هذا من كتبٍ سابقة على الإسلام وهي كتب «خداوند نامه» أي سير الملوك، ونظم الشعراء قصصًا مأخوذًا عن اللغة اليونانية، مباشرةً أو بالواسطة، كقصة سلامان وأبسال التي ذكرت في الجزء السابق من قصة الأدب، كما نظموا قصصًا دينيًّا كيوسف وزليخة، هذا عدا الحكايات التي قصد بها ضرب المثل في الأخلاق.

ولكن القصص الإيراني في القرن التاسع عشر أخذ طابعًا جديدًا، فإن الأدبيات الفرنسية ومعظمها قصصي، قد نقل إلى اللغة الإيرانية، فقرأ الأدباء قصصًا لموليير وفولتير وغيرهما، وأراد البعض أن يأخذ موضوعًا اجتماعيًّا ويضع عنه قصة على المنوال الذي رآه عند أدباء أوروبا. ومن هذا القبيل ما نشر باللغة الإيرانية من قصص، وقد ظهرت هذه القصص أولًا في أذربيجان، باللهجة الأذرية، ثم نُقلت إلى الإيرانية ونُشرت في طهران سنة ١٨٧٤م، في مجلد يحوي سبعًا منها.

ولست في حاجة إلى تلخيص كل هذه القصص. وحسبي أن أذكر فكرةً عن واحدةٍ منها لنرى طريقة التفكير والهدف الذي يرمي إليه الكاتب، وقد اخترت قصة الملا إبراهيم خليل الكيماوي.

وقد قصد مؤلف القصة، ميرزا فتح علي در بندي، إلى محاربة فكرة استخراج الذهب والفضة من النحاس، وكانت شائعة في إيران في ذلك الوقت، شيوعها في مصر وبلاد الشرق عامة. وكانت هذه الصناعة قائمة على الدجل والاستخفاف بعقول الناس وابتزاز أموالهم. فأخذ المؤلف الفكرة وجعل روايته في أربعة فصول:

قصة الكيماوي

١

يجري المنظر الأول في بيت الحاج كريم الصائغ، وقد دعا إلى بيته جماعةً من أصدقائه ليتعارفوا إلى الشيخ صالح. وكان الحاضرون من الطبقة الوسطى في إيران، فمنهم من كان أبوه من رجال الدين «مُلَّا» وأخذ عن أبيه وقار المظهر، ومنهم طبيب يعتمد على ضِياع زوجه، ومنهم رجل من المُلَّاك. فلما اجتمعوا دخل عليهم شاعرٌ لم يكن رب الدار دعاه، هو الشاعر نوري، ولكنهم رحبوا به فدخل وجلس بينهم.

وأخذوا يتحدثون عن الملا إبراهيم الخليل وكيف يجعل النحاس فضةً ويبدل فقر الناس غنًى، ويضاعف لهم الثراء مرات. فأخذ كلٌّ منهم يتفكر في كيفية الحصول على أكبر قدرٍ ممكن من النحاس، ليُصيِّره الكيماوي بإكسيره فضةً برَّاقة.

وقال ابن الملا، الوقور، إنه يعرف رجلًا يقرضهم من المال ما يشتهون ويتقاضى فائدة قدرها ١٢ في المائة واسمه الحاج رحيم، فاطمأن الجمع وأخذوا يتزايدون في القرض الذي يطلبون.

وفي هذه الأثناء يبلغ ضجر الشاعر أقصاه، فينبري فجأة إلى قراءة قصيدة كتبها في غزوة حدثت منذ ستين عامًا. ويغضب الحاضرون، ويطلب المضيف من الشاعر أن يطوي الشعر فليس هذا أوانه، ويدافع الشاعر بشاعريته عن القصيدة، فيحدثه المضيف عن الكيمياء والإكسير والثراء فينكر الشاعر هذا القول ويرفع الصوت قائلًا إن مهنة كل رجل هي إكسيره، وهي الوسيلة لعيشه. وأخذ يبين عيوب الحاج إبراهيم الخليل ويكشف عن خداعه. وعاب على الشيخ صالح قسمه بأنه رأى الكيماوي بعينَيه وهو يُصيِّر النحاس ذهبًا.

ويهزأ الحاضرون بقول الشاعر ويسأله كلٌّ منهم عن عجز الإكسير الذي له عن أن يهيئ له الحياة الهادئة.

أما الصائغ فيسأل الشاعر كيف ينكر وجود الإكسير الساحر، ويأخذ عليه قوله إن مهنة كل رجل هي إكسيره. قائلًا إني صائغ وأعجز عن كسب ما يفي بنفقات بيتي اليومية فأين إكسيري؟

ويجيب الشاعر بأن الصائغ لم يتحرَّ الأمانة في صناعته وأنه كان يبدل الذهب الذي يُعهَد إليه به بالنحاس والقصدير، فكشف الناس زيفه وولَّوا عنه، فكسد سوقه، ولو كان أمينًا لأثرى من صناعته.

فيسأله الطبيب عن التضييق في رزقه؟

فيقول الشاعر: إنك تركت مهنتك وامتهنت ما ليس لك به علم. لقد كان أبوك حلاقًا بارعًا فجمع من صناعته ثروة، ولقد رباك ونشَّأك لتخلفه في مهنته ولكنك آثرت اتباع طريقة حلاقي تفليس، فاشتغلت بالطب ولا دراية لك به، فقتلت من الأنفس ما قتلت فانصرف الناس عنك. وها أنت نسيت حرفتك الأولى ولم تفلح في الحرفة الثانية.

وهنا يسرع الرجل الوقور ابن الملا ويقول لو صحَّ قولك لكنت أنا «قارون»، وها أنت تراني لا أملك شروى نقير.

فيقول الشاعر: إن لك من صحتك وبنيانك ما يؤهلك لأن تكون مكاريًّا، ولكنك رأيت أباك «ملا» فاخترت أن تكون «ملا» مثله. ولقد كان أبوك مجدًّا في التحصيل قادرًا على الإفادة من القراءة فكان من حقه أن يكون «ملا». أما أنت فتجهل كتابة اسمك فكيف تتعلَّم ثم تُعلِّم. لقد حسبت كفاءة العلم كهذا الثوب من الفراء الذي ورثته عن أبيك، فلم تلقَ من الناس تقديرًا، ولو عملت على كسب قُوتك مما وهبك الله من بسطة في الجسم وقوة وعملت مكاريًّا لكسبت في حياتك ما يكفيك ويُغنيك.

فانبرى صاحب الأملاك يسأله عما حال دون ثرائه.

فقال الشاعر: كان عليك أن تنمي ثروتك بمراعاة زرعك وحصادك، ولكنك قضيت وقتك في سخف الحديث، وإنك لتقدم على أمر فلا تتمه وتنصرف إلى سواه، تغتاب الناس وتثقل على الحكام بما تبذل من وساطة لحماية أهل السوء وإيذاء الأبرياء. وقد آل أمرك، لسوء سيرتك، إلى الحبس ثلاث سنوات، فبذلت من أموالك لتفكَّ قيدك، أتريد أن تنفق من رأس مالك ثلاث سنوات وأن تزداد ثروتك وينمو دخلك! وها أنت تبحث عن الثراء عن طريق الاستدانة وتبديل النحاس. مثلك كمثل مشهدي الجبار؛ التاجر الذي دفعه حرصه على جمع المال، إلى أن يقرض الناس بالربا الفاحش ليصبح من ذوي الثراء، هيهات له اليوم أن يسترد ما قدم للناس.

وهنا يصيح الصائغ ويسأل الحاج نوري الشاعر، بأنه وقد بين عيوب الحاضرين جميعًا وانصراف كلٍّ منهم عن الطريق السوي للعيش الهادئ الناعم، أن يبين لهم سر فقره وأنه إذا حصل على العشاء لا يجد ما يفطر به. فأين الإكسير والشاعرية في برجها لم تضل؟

فيقول الشاعر: إن شاعريتي هي إكسيري في الحياة. ولكنها كهذا الإكسير الذي تتحدثون عنه يلزمها المعدن الذي تتجلى عليه. والمعدن عندي هم الرجال الذين يستمعون إلى الشعر ويقدرونه ويكافئون الشاعر على إبداعه، فإذا كان الناس من أمثالكم فهل تريد لهذه الشاعرية أن تسد حاجتي وتسعدني كما سعد الشعراء من قبلُ؟

وصاح الجميع بالشاعر وطردوه فخرج وهو يطوي القصيدة، ويقول: إن قول الحق مر.

واتفق الحاضرون على تهيئة النقد النحاسي واقتراضه من الحاج رحيم والذهاب إلى الملا إبراهيم الخليل.

٢

وينتقل المنظر الثاني إلى تلٍّ تبدو فيه الطبيعة وقد بلغت غاية الجمال، وهناك خيمتان، وعلى بُعدٍ قليلٍ منهما كوخ من الخشب يُرى في داخله موقدٌ كبير، وبجانبه كور وسبائك نحاس متكتِّلة. وأمام الخيمتين خيمةٌ ثالثةٌ صغيرة. أما الخيم فواحدة لسكن الملا خليل إبراهيم، والثانية لمساعده الملا حميد، والثالثة للخادم الدرويش عباس، وقد امتلأت بالأدوات والعدد.

وكان الكيماوي يعلم بمجيء الجماعة في هذا اليوم فاتفق مع مساعده على أن يقابلهم وأن يخبرهم أن الفضة قد بيعت، وأن الدفعة التالية قد وعد بها جماعة أخرى، وأنه لا يقبل منهم نحاسًا قبل ثلاثين يومًا. فإذا طلبوا مقابلة الكيماوي فعلى المساعد أن يخبرهم أنه معتكف ثلاثة أيام يصلي فيها ويدعو ربه ولا يقابل أحدًا.

ويحضر الجماعة في المساء فيخبرهم المساعد بما اتفق عليه مع الكيماوي، ولكنهم ينتظرون.

وفي هذه اللحظة يخرج الدرويش عباس من خيمته، وهو شابٌّ في الثلاثين من عمره أصفر الوجه، يتدلى شعره على كتفَيه، وقد أطلق لحيته وحلق شاربه، ولبس فوق رأسه طرطور الدراويش، وظهره مغطًّى بجلد نمر، وقد أمسك بإحدى يديه بوقًا وتحت إبطه ديكٌ أحمر الريش، وكان يصيح بصوتٍ عالٍ:

يا هو يا حق!

ثم سار بجوار الخيام وعلى مسافةٍ قصيرة منها دق وتدًا ثم نفخ في البوق ثلاث مرات فكان للصوت صدًى بعيد تردد في الوادي الفسيح. ثم شد الديك إلى الوتد، وتلا بصوتٍ عالٍ ثلاثة أبيات من شعر سعدي. ثم نفخ في بوقه ثلاث مراتٍ أخرى وخلع جلد النمر وطرحه على الأرض على عشر خطوات من الديك ثم جلس وأخذ يصيح في صوتٍ رهيب: يا حق يا هو. ثم جلس على ركبتَيه فوق الجلد.

ورأى الجماعة هذا المنظر وسمعوا الدرويش فوقفوا مشدوهين. فلما خيَّم السكون على المكان أخذوا يلحُّون في الأسئلة على المساعد. وسألوه عن الدرويش والديك فقصَّ عليهم أمرهما وهو يضحك من جهلهم. إن هذا الحشيش الذي ترونه هو عنصرٌ أساسي في الإكسير وهو لا يوجد في غير هذه التلال. ولا يعرفه أحد غير الملا إبراهيم الخليل، وهو ينمو أثناء صياح الديك، فواجب هذا الدرويش هو أن يأخذ الديك كل ليلة ثم يتلو المراسم ويربطه ثم يراقبه طول الليل ليبعد عنه الثعلب وابن آوى. فيتعجب الجماعة ويصيحون في نفَسٍ واحد الله أكبر والحمد لله.

٣

والمنظر الثالث في خيمة الملا إبراهيم الخليل، وهو يجلس إلى القبلة وفي يده مسبحة بها ألف حبة، وهو يتمتم بالصلاة وأمامه مساعده وقد وضع يديه على صدره.

ويتحدث إليهم الكيماوي ويعتذر إليهم بما سبقه مساعده إليه، ويقول إن الإقبال على الفضة شديد وإن الناتج يُباع مقدمًا، وإنه لم يخبر الملا حميد مساعده بصفقة عقدها مع اليهود لأنه يبغضهم، ولكنه قد وعدهم ووعْد الحر دَينٌ عليه. وهنا يحاول الملا حميد أن يقاطعه مظهرًا التحامل على اليهود، فيُسْكته الكيماوي الذي يبدأ في شرح كيفية استخراج الإكسير مؤكدًا لهم أنها مسألةٌ علمية بحتة وليست إلهامًا يُلهَم أو وحيًا يوحى، وأنه بشر، بشر مثلهم، لا يبغي غير صحبة الأتقياء ويطمح إلى تأدية صالح الأعمال، فيرضي ربه أولًا ويتعمق في علم الكيمياء ثانيًا.

ويتوسط الملا حميد، المساعد، لدى أستاذه بحجة أنهم مسلمون وأنه وعد اليهود ولا يستوي المسلم واليهودي، ويأبى عليه سيده هذا التعصب، ويؤكد أنه لا يعدل عن كلمته ولو أخذ مليونَين مقابل الخُلف … ولكنه في نهاية الأمر يرى أمرًا وسطًا، ثم ينظر إلى الجماعة ويبدي عدم المبالاة بنقدهم ويقول أعطوه للملا حميد وعدوه له وعودوا بعد ثلاثين يومًا ويستأذنهم كي يصلي صلاة الظهر.

وينصرف الجماعة بعد أن هدأت نفوسهم بالحل السعيد.

٤

وتنقضي الأيام الثلاثون ويرى الملا إبراهيم الجماعة قادمة من بعيد في الصباح الباكر فيسرع إلى ارتداء ثوبٍ أبيض ثم يشمر أكمامه … ويخرج من مخيمه وينادي الملا حميد.

ويعد هذا الموقد وتشتعل النار وبجانبها أدوات المعمل والبوتقة فوق النار تفور، والملا إبراهيم منهمك في العمل بكل وعيه.

وأقبل الجماعة فحيوا بتحية الإسلام، فتجهم وجه الملا إبراهيم وصاح: لماذا لماذا؟ ماذا جاء بكم اليوم، يا للمصيبة، أي بلاء يُصَبُّ فوق رأسي انصبابًا، أجئتم لتفسدوا عملي، أجئتم لتضيعوا سدًى جهدي من أجلكم، وا مصيبتاه! وا مصيبتاه!

ويتساءل الجماعة في دهشة: ماذا حدث؟ فيخبرهم الكيماوي بأنهم جاءوا في اللحظة التي يتفاعل فيها الجوهر فيخرج الإكسير، والشرط ألَّا يقرب أحدٌ البوتقة قدر فرسخ، وإلا تحوَّل الإكسير إلى غازٍ متصاعد لا خير فيه ولا جدوى.

وفي حسرة وخيبة أمل وسوء طالع يقول الجماعة إنهم أتوا في الموعد المضروب.

فيقول الملا إبراهيم إني قلت بعد ثلاثين يومًا فالموعد غدًا وليس اليوم، ثلاثين يومًا كاملة. ويتساءلون. هل من مخرج من هذا المأزق؟ فيجيب بأن عليهم ألا يغادروا المكان وأن يصلحوا ما دبرته الصدفة السيئة، وذلك بأن ينتظروا الفترة التي يعدُّ فيها الإكسير في البوتقة، على ألا يتخيلوا القرد أو صورةً له أو شبيهًا به، وإلا فإن الإكسير الذي بذل شهرًا كاملًا في إعداده يصبح في لمح البصر هباءً منثورًا. فأجاب الجماعة بأن الأمر يسير التحقيق. ولكن الطبيب لا يقدر أن يبعد صورة القرد عن مخيلته فيصرح للكيماوي بما يرى فينهره هذا ثم يأمر مساعده بأن يشتد في نفخ الكور، وتتراءى صورة القرد أمام الجماعة فيصيحون بما صاح به زميلهم … وبينما هم في حيرة وذهول من صورة القرد التي تقفز أمام أعينهم من شدة ما فكروا في إبعادها عن خواطرهم إذا بالملا إبراهيم يلقي بعض المواد في البوتقة فتنفجر ويخرج الإكسير فيدوي صوته دويًّا شديدًا، ويرتمي المساعد إلى الوراء فزعًا، أما الملا إبراهيم فيلقي بنفسه على الأرض ويضرب ركبتَيه، ويلتفت إلى الجماعة ويدعو الله أن يخرب بيوتهم ثم ينهال عليهم شتمًا وسبًّا، وأخذت الجماعة تهدئ من ثورته، وأخيرًا يأمرهم بالانصراف إلى القرية القريبة وبأن يحضروا في اليوم الواحد والثلاثين بعد اليوم وبأنه سيعطيهم فضةً بدل ما تبقى من نحاسهم، وسيعطيهم مقابل الفوائد عن نقدهم المحجوز؛ فإن قليلًا من الفضة لا يضيره شيئًا وهو يفيد الجماعة فائدةً جمة. وانصرف إلى مخيمة مطأطئ الرأس يقول لنفسه: نعم اذهبوا وانتظروا دعوتي ولعل الله أن يهيئ في هذه الفترة الوسيلة للخلاص منكم!

١  الربيع الثاني، ٢١ أبريل–٢١ مايو.
٢  وردٌ أبيض.
٣  عودٌ ذكي الرائحة.
٤  نوع من الزهر.
٥  زهرٌ أصفر.
٦  صحراء مارية.
٧  الدستور هو الوزير.
٨  الورد الأبيض.
٩  ورد.
١٠  الورد الأبيض. والكلمة معربة أصلها مرزنكوش.
١١  يقول الشاعر رتب الضباط، فالروس: بلكنيك، كبيتان، أفيسر. والفرس: سرهنك (بكباشي)، سرتيب (أميرلاي)، سردار (قائد).
١٢  نسبة إلى كتاب البيان.
١٣  احتفظنا بأبياتها العربية كما هي وترجمنا أبياتها الفارسية نثرًا.
١٤  إنك قوَّيت قلبي بالمعرفة وأوحيت إليه بنشاط وحماس ثم سحقته وأخضعته بالحب، أليس من الخير أن تضيئه الآن كما أضاءت على قلة الطور آيةُ إِنَّنِي أَنَا اللهُ.
١٥  ج١، ص١٧٣.
١٦  ج١، ص١٤٥؛ والحواشي على جهار مقاله، ص١٧٢-١٧٣.
١٧  عملةٌ فارسية.
١٨  أي العنب الطيب.
١٩  اسم قبيلة.
٢٠  بمعنى الوزير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤