الفصل الرابع

الأماكن المقدسة لماذا لم تحتفظ ببساطتها

(١) بساطة الأماكن المقدسة

سبق أن أشرت إلى أن الفكرة التي أوحت بإقامة الأماكن المقدسة تستمد وجودها من الأديان السماوية الثلاثة التي نزلت بهذا الشرق الأوسط: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، وأن مصدر هذه الفكرة هو الالتجاء الروحي إلى مكان بذاته، يعتبر في نظر الذين يحجونه موئلًا لأرواحهم، وملاذًا لقلوبهم المتعطشة إلى التطهر، ترجوه حيثما تكون من بقاع الأرض، ثم لا تطمئن إلى أنها أدركت حظها منه حتى تحج هذا المكان.

فإذا أتم هؤلاء حجهم آمنوا بأن الله قَبِل توبتهم، وحط عنهم أوزارهم وذنوبهم، لقاء ما توجهوا إليه منيبين مخلصين، وما سعت نفوسهم حين الحج إلى ذرى المعاني الروحية.

والواقع أن الصادقين في حجهم، من أهل هذه الأديان، يخالج وجدانهم حين الحج شعور فياض بمعانٍ تسمو كل السمو على ما ألفوا فيما سبق من حياتهم.

هذه المعاني تختلف باختلاف منازع الناس، ومبلغ ثقافتهم، وألوان تفكيرهم، تختلف عند الرجل الساذج عنها عند الرجل الذي ألف التفكير، ثم شعر كما شعر ذلك الساذج، بمكان الحج يدعوه إليه ليطهر عنده، لكنها عند الرجلين سمو بالنفس إلى ما فوق نفسها، وحرص على الاتصال بالملأ الأعلى من ملكوت الله، ورجاء في وجهه الأكرم أن ييسر هذا الاتصال، لنكون في غدنا خيرًا مما كنا في أمسنا، فنبلغ بذلك مكان النفس المطمئنة، ترجع إلى ربها راضية مرضية، تدخل في عباده وتدخل جنته.

وقد رأينا كيف كانت هذه الأماكن أول أمرها بسيطة كل البساطة، وكيف تطور أمرها على تعاقب القرون، فبلغت من الفخامة والمهابة والجلال أعظم مبلغ.

وهذه ظاهرة نراها في الأماكن المقدسة في أنحاء الأرض جميعًا، بل نراها ظاهرة في أماكن العبادة كلها في الأديان المختلفة، تبدأ هذه الأماكن بسيطة، ثم تتدرج شيئًا فشيئًا إلى الفخامة، وذلك أمرها بنوع خاص حين تقام ذكرًا لأمر تاريخي جسيم الخطر.
  • ما سبب هذا؟

  • لم لا يحتفظ الناس لهذه الأماكن المقدسة ببساطتها الأولى لينعموا بما للبساطة من روعة ومهابة؟

السبب واضح، فالفكرة التي أقامت هذه الأماكن فكرة خالدة، ولذلك تبقى جديدة أمام كل جيل جديد.

طبيعي أن يلتمس الناس لذكر الفكرة الخالدة مظهرًا يبقى على الدهر أطول زمن، يستطيع الإنسان أن يضمن بقاءه عليه.

هذا هو السر في تشييد المصريين القدماء الأهرام والمعابد التي لا تزال باقية تشهدها أعيننا رغم مر السنين وكر القرون، إنهم شادوها رمزًا لمعانٍ باقية، فيجب أن يكون لها من حظ البقاء ما لهذه المعاني.

وقد بقيت آثار القدماء المصريين عمرًا أطول من عمر المعاني التي قامت تخلدها، فَحُقَّ أن تبقى الأماكن المقدسة عمرًا يوازي عمر هذه المعاني الجليلة التي شادتها، والتي لا يجيء عليها الزمان.

فإذا عجز الإنسان عن أن يقيم هذه الأماكن للخلود، فليقمها لتعمر على القرون ما استطاع علمه وفنه أن يحفظها خالدة على القرون.

تُرى لو أن مسجد النبي العربي بالمدينة بقيت عمارته كما شاده عليه السلام، أفكان مقدرًا له أن يبقى على وجه الزمان، أم أنه كان يعرَّض لأعاصير الحدثان مما شهدته الأيام وما لا تزال تشهده أعيننا؟

لذلك قوى عثمان بن عفان عمارته كما رأينا، وإن لم يفكر في زينته كما فكر عبد الملك بن مروان، وكما فكر المسلمون على القرون التي تعاقبت من بعده.

وما يقال عن مسجد النبي بالمدينة يصدق على غيره من الأماكن التي شيدت لتخلد فكرة عظيمة، بدأت كلها بسيطة بساطة الفكرة التي دعت إلى إقامتها. وأكثر الأفكار قوة أكثرها وضوحًا وأكثرها لذلك بساطة؛ لذلك تنغرس في نفوس الناس وتستولي عليهم، فيزدادون شعورًا بقوتها، فيزيدهم ذلك حرصًا على تقوية الأثر الذي يذكرها.

ولما كانت الفكرة تتصل دائمًا برجل أُلهِمَها أو أُوحِيَ إليه بها، فذِكر هذا الرجل يتصل بذكر الفكرة العظيمة التي تُنسب إليه، من ثم تقام للعظيم آثار كالآثار التي تقام لفكرته.

أشرنا إلى مسجد النبي العربي، هذا المسجد الذي أقامه النبي بسيطًا، فجعله المسلمون من بعده مثال المتانة والجلال والجمال.

كذلك الشأن في كنيسة المهد، وكنيسة القيامة، هما يقومان ذكرًا للمسيح — عليه السلام — يوم ولد، ويوم توفاه الله ورفعه إليه، وهما لذلك آية في المتانة والروعة.

هذه الآثار التي تقام للعظماء، تضارع الآثار التي تقام تخليدًا للفكرة التي جاءوا بها، فبيت الله الحرام بمكة، والمسجد الأقصى ببيت المقدس، يقومان ذكرًا لفكرة التوحيد من يوم هدى الله أنبياءه ورسله إليه، وألقى عليهم أن يبلغوا الناس فكرته.

فهذان الأثران المقدسان تضارعهما الآثار التي أقيمت لمن هَدَوا الإنسانية إلى فكرة التوحيد قوةً وجلالًا وعظمةً.

لا يكتفي الناس بتقوية الأماكن المقدسة لتقاوم الزمان وأحداثه، بل هم يضفون عليها من ألوان البهاء والجمال والجلال غاية ما يهديهم إليه عملهم وفنهم.

لماذا؟

لأن الفكرة العظيمة لها — على بساطتها — من البهاء والجمال والجلال ما يبهر اللب ويأخذ بمجامع القلب.

(٢) الصورة المادية للمعاني المجردة

بهاء الفكرة معنوي، وجلالها روحي.

وبهاء الأماكن التي تذكرها، وجلال هذه الأماكن وجمالها مادي، فكيف يقاس المادي بالمعنوي؟

لك أن تسأل هذا السؤال، وجوابنا عليه أن من طبيعة الإنسان أن يخلع الصورة المادية على المعاني المجردة؛ لأن الإنسان قلما يدرك المعنى المجرد إلا أن تقوم له في نفسه صورة مادية.

فإذا استطاع المفكرون أن يجردوا المعاني، وأن يدركوها لذاتها، وأن تتمثل أمامهم حقائق لها صورتها الواضحة كوضوح الصورة المادية في نظر سواد الناس، فإن هذا السواد لا سبيل له إلى امتثال الصورة المعنوية أو الروحية إلا أن يقيم لها في أطواء نفسه صورة مادية.

لما فتح رسول الله مكة ودخل الكعبة، ورأى جدرانها صورت عليها الملائكة نساء ذوات جمال، فأنكر هذه الصور لأن الملائكة ليسوا ذكورًا ولا إناثًا، وليس لهم في النفس التي تدرك المعاني المجردة صورة مادية، لذلك أمر النبي فطُمست هذه الصور.

على أن للذين صوروها عذرهم الذي سبق بيانه، فالصورة المجردة لا يمكن أن تثبت في نفس السواد قائمة بذاتها، بل لا بد لها من جسد تستقر فيه لتحيا به في تصورهم كحياة الروح في الجسم.

ولقد رأينا المصورين الأوروبيين في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر يصورون الملائكة على نحو يقرب مما كان على جدران الكعبة، ولا يزال هذا شأن أهل الفن إلى يومنا. ذلك بأن الصورة المجردة لا يمكن أن تثبت أمام حواسنا إلا إذا اتخذت الصورة المادية لباسًا لها تستقر عليه الحواس.

ودليل أكثر وضوحًا على أن السواد لا يستطيع تمثل الصورة المعنوية إلا في صورة مادية، عبادة الأصنام، فهذه الأصنام كانت تُعبد عند العرب، وعند غير العرب، على أنها صورة للإله على ما كان يتصورها أهل تلك العصور.

وليس بين المعاني التي تقوم بالنفس ما يسمو على كل صورة مادية كمعنى الألوهية السامي. مع ذلك عجز السواد في الماضي عن تصور هذا المعنى مجردًا من المحسوسات المادية، فاتخذوا من الفن وسيلتهم إلى تمليق هذا العجز في نفوسهم دون الاعتراف به صراحة وجهرًا.

لهذا يضفي الناس على الأماكن المقدسة أروع صور الفن وأبدعها وأجملها.

ولهذا أوحت المعاني الدينية إلى الفن، وألهمت أربابه خير ما خلفوا للإنسانية من تراثهم البارع.

ولقد رأيت الشيء الكثير من هذا الفن حين تحدثنا عن مسجد النبي وقبة الصخرة، وعن كنيسة المهد وكنيسة القيامة.

وأنت ترى منه الشيء الكثير في المساجد والكنائس حيثما ذهبت من أنحاء العالم، ترى فن العمارة بالغًا غاية عظمته وجلاله، وترى سائر الفنون متجلية في التماثيل والصور في الكنائس وفي السجاجيد والخط الجميل في المساجد.

ذلك لأن الفكرة العظيمة التي أقامت هذه المعابد الفخمة حركت الوجدان الإنساني للعناية بها عناية تتفق مع جلال هذه الفكرة وعظمتها.

(٣) نظرة المفكرين للتجسيد المادي

ذكرت أن المفكرين قديرون على تصور الفكرة المجردة لذاتها، وأنها تتمثل لبصائرهم في صورة واضحة كوضوح الصورة المادية في نظر سواد الناس، وهم يسمون بالفكرة عن أن تلبس اللباس المادي سموًّا كبيرًا، بل هم يرون في إلباسها هذا اللباس حدًّا منها وتضييقًا لآفاقها، يصلان في كثير من الأحيان إلى إفسادها.

فكيف يرضون عن النزول بها في الأماكن المقدسة، وفي غير الأماكن المقدسة إلى أن تصور صورة مادية؟

وكيف يسكتون على ذلك ولا يحاربونه؟

ثم كيف يحض الحاكمون وأولو الأمر عليه ويشجعونه؟

لِمَ لا يصنع المفكرون ما صنع النبي العربي حين طمس الصور التي كانت على جدران الكعبة، وحين حطم الأصنام القائمة فيها؟

لا أراني بحاجة إلى القول بأن السمو إلى مقام الرسالة أمر غير ميسور، إلا لمن اختارهم الله لها.

وأزيد على ذلك أن أولي الأمر ليسوا دائمًا من المفكرين الذين يسمو تفكيرهم إلى مقام التجريد وتمثل الفكرة في حيويتها الذاتية غير كاسية ثوب المادة.

وسيان منهم من سموا إلى هذا المقام ومن لم يسموا إليه، هم جميعًا ينظرون إلى أمور الحكم بعين الواقع لا بعين التجريد والبصيرة المطلقة من قيود هذا الواقع.

وهم يقدرون أن الرسول النبي العربي قد عفى على ما وجد بالكعبة من الآثار حتى لا يبقى لعبادة الأصنام في النفوس أثر.

أما وقد بلغ الأمر من ذلك مداه، ولم تبق لهذه العبادة في النفوس باقية، فلتكن معاني الحكم قريبة من متناول إدراك السواد حتى يطمئن الناس إلى هذا الحكم ويرضوا عنه. ومن أسباب الرضا أن تقرب إلى أذهانهم المعاني النفسية في صور مادية؛ ولذا أنفق عبد الملك بن مروان وغيره من الملوك والأمراء وبالغوا في الإنفاق على عمارة الأماكن المقدسة، حتى يصل بها الفن إلى أبهى صور الجمال والجلال.

أما المفكرون، فلا يحاربون هذا التجسيد المادي للمعاني الذهنية والروحية؛ لأنهم يرونه ظاهرة من ظواهر الحياة الإنسانية لا غنى للناس عنها، بل لعلهم يرون في هذا التجسيد إبقاءً على المعاني السامية في نفوس السواد؛ لأنه لا يستطيع أن يدرك هذه المعاني دون أن تلبس هذا الثوب.

هؤلاء على الأقل هم المفكرون أولو الأفق الفسيح في تصور الحياة وما تنطوي عليه، أما المتزمتون فلا يذهبون مذهبهم.

ألسنا قد ذكرنا ما كان من إنكار بعض المسلمين لعمل عثمان بن عفان حين زاد في رقعة مسجد النبي، وانتقل بعمارته من البساطة التي كان عليها في عهد النبي وفي عهد أبي بكر وعمر إلى بعض الفخامة والزينة؟

ألم نذكر كيف ضج المسلمون حين أُدخلت بيوت النبي في مسجده رغم ما كان من إبداع عمر بن عبد العزيز في عمارة الحجرة النبوية وفي زينتها؟

هذا، ثم إن للفن الجميل مقامه السامي عند المفكرين، قبل أن يكون له مثل هذا المقام عند غيرهم. فإذا كانت الفكرة السامية حقيقة جديرة بالخلود، فالفن الذي يخلد هذه الفكرة في نفس الإنسانية جدير بأن يُشجَّع وألا يُحَارب، وهو إنما يشجع لذاته. فإذا أدت آثاره إلى أن تندس إلى النفوس معانٍ وثنية قامت الفكرة للقضاء عليها كما هو الشأن في الأديان التي قامت في الشرق الأوسط، فإنما تعلَن الحرب على هذه المعاني الوثنية لا على الأثر الفني الذي تُنسب له.

وهذا ما قام به المفكرون من قبل، وما يقومون به اليوم، وللجهود التي يبذلونها في هذا السبيل أثرها القيم لا ريب، هذا الأثر الذي كفل بقاء فكرة التوحيد في نفوس السواد، لا تطغى عليها الصورة الوثنية طغيانًا يهدد كيانها أو يُخشَى خطره عليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤