الفصل العاشر

ابن سينا

AVICENNA

وُلِدَ أبو علي بن سينا في أفشنة بالقرب من بخارى في آسيا الوسطى، وقد سارع كلٌّ من العرب والأفغان والأتراك والفُرْس إلى القول بأنه ينتمي — بموجب مولده — إلى قومهم، ولكنه كتب معظم مؤلفاته باللغة العربية، وقد كتب بعضها بالفارسية أيضًا.

وقد أبدى ابن سينا منذ طفولته استعدادًا مدهشًا للتعليم، فحصَّل معظم علوم زمانه وهو لم يبلغ الثانية عشرة، وهو يقول في تاريخ هذه الفترة من حياته: «ثم رغبت في علم الطب، وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة فلا جَرَمَ أني برزت فيه في أقل مدة، حتى بدأ فضلاء الطب يقرءون عليَّ علم الطب، وتعهَّدت المرضى فانفتح عليَّ من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف … وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة.»

ثم لحق بأمراء السامانيين وكان لهم مستشارًا في كوركنج، ثم متصرِّفًا في الري وهمدان، وبلغ رتبة الوزارة في عهد شمس الدولة، وكان ضحية للأحداث السياسة إذ وُشِي به عند الأمير فأُلْقِيَ في الحبس، ولكنه بالرغم من وجوده في المعتقل لم يألُ جهدًا في التحصيل والتأليف، وكانت له طاقة مدهشة على العمل المستمر واصلًا الليل بالنهار في السفر وفي الإقامة، وكان يملي أشهر مؤلفاته على تلاميذه ليلًا، وتُوُفِّيَ وعمره ٥٨ سنة، وقد دوَّن سيرته الأولى بقلمه.

وقد اشتهر ابن سينا في الوقت نفسه في الفلسفة وفي الطب، أما في الفلسفة فله ثلاثة كتب بالغة الأهمية وهذه الكتب الثلاثة هي:
  • أولًا: الشفاء، وهو كتاب فلسفي بالرغم من اسمه، جمع فيه ابن سينا كل علوم زمانه، ما عدا الطب الذي خصَّص له كتابًا ضخمًا على حدة، ويحتوي الشفاء على أربعة أجزاء: المنطق والطبيعيات والرياضيات والإلهيات.
  • ثانيًا: النجاة، وهو مختصر الشفاء.
  • ثالثًا: الإشارات، هو آخر ما كتب ابن سينا، وفي الجزء الأخير من هذا الكتاب يتجه ابن سينا في فلسفته نحو التصوف.

أما في موضوع الطب، فالكتاب الأساسي الذي ألَّفه ابن سينا هو القانون في الطب، وهي أكبر موسوعة طبية وصلت إلينا من القرون الوسطى.

ويشتمل القانون على خمسة أجزاء أو كتب، أما الكتاب الأول فهو مخصَّص للأمور الكلية من علم الطب: في حد الطب وموضوعاته وفي الأركان والأمزجة والأخلاط، في ماهية العضو وأقسامه والعظام والعضلات.

وفي تصنيف الأمراض وأسبابها بصفة عامة من جهة النبض والهضم وتدبير الصحة وقوانين المعالجات: المسهلات، الحمامات … إلخ.

والكتاب الثاني خاص بالمفردات الطبية أو الأدوية الغير المركبة، وهو قسمان: القسم الأول درس دقيق في ماهية الدواء وصفاته ومفعوله وطريقة حفظه وتسهيلًا للاستفادة من البيانات العديدة الموجودة فيه، يعطي ابن سينا مجموعة من الألواح مبيِّنة أثر كل دواء على كل عضو، والقسم الثاني يحتوي على المفردات نفسها مرتبة ترتيبًا أبجديًّا.

وفي الجزء الثالث يدرس ابن سينا الأمراض الجزئية الواقعة بكل عضو على حدة، مبتدئًا من الرأس إلى القدم.

وفي الكتاب الرابع دراسة للأمراض الجزئية التي إذا وقعت لم تختص بعضو مثل الحميات، ويعالج مسائل مثل الأورام والبثور والجذام والكسر والجبر ويخصص بابًا للزينة.

وأخيرًا، يدرس ابن سينا في الكتاب الخامس الأدوية المركبة أو الأقرباذين، وهذا في مقالتين: مقالة علمية يشير فيها إلى أصول علم التركيب، وإلى جملتين: جملة في المركبات الراتبة في القراباذينات وجملة في الأدوية المركبة المجربة في مرض مرض.

وقد لخَّص ابن سينا قانونه في قالب شعري فألف «الأرجوزة في الطب» وهي تشتمل على ١٣٢٩ بيتًا، وقد كانت بمثابة دستور للطب في مختلف أقسامه، ويشغل القسم الخاص بالأدوية الأبيات من رقم ٩٩٧ إلى ١١١٩، وقد تُرْجِمَت هذه الأرجوزة إلى اللاتينية في العصر الوسيط، وأحرزت شهرة متفوقة مدة قرون، وقد نُشِرَت أخيرًا مع ترجمة فرنسية وتعليقات.١

ويحسن بنا الآن أن نعرض بشيء من التفصيل لمعالجة ابن سينا للعقاقير: ما مدى علمه بالأدوية؟ وما قيمة هذا العلم بالنسبة إلى علمنا الحديث؟ ولكي نستطيع أن نجيب عن هذين السؤالين يجب أن نميز بين أمرين: أولًا المبادئ التي تقوم عليها نظرية ابن سينا في معالجة الأمراض، وبالتالي في تركيب الأدوية؛ وثانيًا التجارب العملية التي اهتدى إليها.

أما المبادئ فهي مرتبطة كل الارتباط بنظرية القدماء الموروثة عن أرسطو عن تكوين العالم، ويمكننا أن نلخصها كما وردت في القانون فيما يلي: تتركَّب جميع الكائنات المادية من أربعة أركان بسيطة أساسية تسمى العناصر أو الأسطقسات وهي: الأرض والماء والهواء والنار، ومن أربع كيفيات أساسية متضادة اثنين اثنين: اليبوسة والرطوبة والحرارة والبرودة، الأرض باردة يابسة في طبعها ووجودها في الكائنات يفيدها الاستمساك والثبات وحفظ الأشكال والهيئات، والماء كيفية باردة رطبة ووجودها في الكائنات يجعلها سلسلة سهلة التشكيل والتخطيط والتعديل، والهواء حار رطب ووجوده في الكائنات يفيدها التخلخل والتلطف، أما النار فهي حارة يابسة ووجودها في الكائنات ينضج ويلطف.

إن جميع الكائنات مكوَّنة من هذه الأركان الأربعة، ونتيجة التركيب يُسمى «المزاج»، والأمزجة تختلف باختلاف نِسَب العناصر فيها، فالمزاج المعتدل بالحقيقة هو الذي تكون فيه المقادير من الكيفيات المتضادة متساوية متقاومة، ويكون المزاج كيفية متوسطة بينها وبين الخفيف، والمزاج غير المعتدل هو الذي يكون فيه زيادة من عنصر إلى عنصرين، ويُطلَق عليه اسم العنصر الزائد، فيقال: مزاج حار أو مزاج حار يابس.

غير أن المعتدل الذي يستعمله الأطباء في مباحثاتهم مشتق، لا من هذا التعادل الذي هو التوازن بالتسوية بل من العدل في القسمة، وهو أن يكون قد توفَّر في الممتزج — بدنًا كان أو عضوًا — من العناصر القسط الذي ينبغي له في المزاج الإنساني على أعدل قسمه ونسبة.

وليس هذا الاعتدال شيئًا مطلقًا ينطبق على كل إنسان يتمتع بصحة جيدة، بل يختلف باختلاف الأقاليم والأجناس والأزمنة … إلخ، وفي الجسم الإنساني نفسه يختلف المزاج باختلاف الأعضاء، فللقلب مزاج وللدماغ مزاج وللعين مزاج … إلخ.

ونظرية المزاج محور العلاج أيضًا، إذ هي تنطبق على الأدوية، غير أن مزاج الأدوية لا يُؤخذ مطلقًا، بل يؤخذ بالنسبة إلى البدن الإنساني.

يقول ابن سينا: «إنَّا إذا قلنا للدواء: إنه معتدل، فلسنا نعني بذلك معتدل على الحقيقة فذلك غير ممكن، ولا أيضًا إنه معتدل بالاعتدال الإنساني في مزاجه، وإلا لكان من جوهر الإنسان بعينه، ولكنا نعني أنه إذا انفعل عن الحار الغريزي في بدن الإنسان فكُيِّفَ بكيفيته لم تكن تلك الكيفية خارجة عن كيفية الإنسان إلى طرف من طرق الخروج عن المساواة، فلا يؤثر فيه أثرًا مائلًا من الاعتدال وكأنه معتدل بالقياس إلى فعله في بدن الإنسان.

وكذلك إذا قلنا: إنه حار أو بارد فلسنا نعني أنه في جوهره بغاية الحرارة أو البرودة، ولا أن جوهره أحر من بدن الإنسان أو أبرد … ولكننا نعني به أنه يحدث منه في بدن الإنسان حرارة أو برودة فوق اللتين له؛ ولهذا قد يكون الدواء باردًا بالقياس إلى بدن الإنسان حارًا بالقياس إلى بدن العقرب وحارًا بالقياس إلى بدن الإنسان باردًا بالقياس إلى بطن الحية، بل قد يكون دواء واحد أيضًا حارًّا بالقياس إلى بدن زيد فوق كونه حارًّا بالقياس إلى بدن عمرو؛ ولهذا يُؤمر المعالجون بأن لا يقيموا على دواء واحد في تبديل المزاج إذا لم ينجح» (القانون، طبعة بولاق، ج١، ص٨-٩).

والمهم في معرفة الأدوية إدراجها في أحد الأمزجة؛ إذ قواها وفعلها متوقف على طبيعة مزاجها، ويشير ابن سينا إلى طريقتين لنعرف هذه القوى: طريقة بالتجربة وطريقة القياس.

أما التجربة فلا تهدي إلى معرفة موثوق بها إلا بمراعاة شرائط يمكننا أن نعدَّها دستورًا للاختيار العلمي، وهذه الشرائط سبعة:
  • أولًا: أن يكون الدواء خاليًا من كيفية مكتسبة مثل الحرارة أو البرودة.
  • ثانيًا: أن يكون المجرب عليه علة، مفردة … لا علة مركبة.
  • ثالثًا: أن يكون الدواء قد جُرِّب على المضادة حتى إن كان ينفع في التصديق لم يحكم أنه مضاد للمزاج لمزاج أحدهما، وربما كان نفعه من أحدهما بالذات ومن الآخر بالعرض.
  • رابعًا: أن تكون القوة في الدواء مقابلًا بها ما يساويها من قوة العلة.
  • خامسًا: أن يُراعى الزمان الذي يظهر فيه أثره وفعله.
  • سادسًا: أن يراعي استمرار فعله على الدوام وعلى الأكثر، فإن لم يكن كذلك فصدور الفعل عنه بالعرض.
  • سابعًا: أن تكون التجربة على بدن الإنسان.

ويعطي ابن سينا طبعًا أمثلة لهذه الشرائط شارحًا إياها مما يدل على أنه أجرى بنفسه هذه التجارب.

أما معرفة أمزجة الأدوية المفردة بالقياس فهي تؤخذ أولًا: من سرعة استحالتها إلى النار والتسخن وبطء استحالتها، ومن سرعة جمودها وبطء جمودها، ثانيًا: من الروائح، ثالثًا: من الطعوم، رابعًا: من الألوان، خامسًا: من أفعال وقوى.

ولم يغب عن ذهن ابن سينا أن هذه العلامات غير يقينية أو بحسب تعبيره:

«إن قال إنسان في هذا شيئًا فإنما يقوله على وجه التخمين»، غير أن الطعوم تفوق — في هذه الدلالة — الروائح لأنها تصل إلى الحس بملاقاة: «فهي أول ما يوصل من جميع أجزاء الدواء قوة»، وقد ميز ابن سينا تسع طعوم بسيطة: التفه، وهو العادم الطعم والحلاوة والمرارة والحرافة والملوحة والحموضة والعفوصة والقبض والدسومة.

وزيادة عن الكيفيات الأربع المعلومة وهي: البرودة والحرارة والرطوبة واليبوسة والروائح والألوان، يوجد للأدوية صفات أخرى أشهرها اللطافة مثل التي توجد في الزعفران والدارصيني، والكثافة مثل كثافة القرع، واللزوجة مثل لزوجة العسل، والهشاشة، وهي سهولة التحول إلى راب مثل الصبر الجيد، والجمود مثل جمود الشمع، والسيلان مثل سيلان المائعات، واللعابية مثل لعابية بزر القطونة والخطمي، والدهنية مثل دهنية الحبوب، والنشف مثل نشف النورة الغير المطفأة … إلخ.

وقد افتنَّ ابن سينا في التدقيق في ملاحظة أفعال الأدوية، فيشير مثلًا إلى ارتباط بعض الأفعال بالصفات، فيذكر أن أفعال الحلو: الإنضاج والتليين وتكثير الغذاء، وأفعال المرارة: الجلاء والتخشين، وأفعال العفوصة: القبض إن ضعف والعصر إن اشتدَّ، وأفعال الملوحة: الجلاء والغسل والتجفيف ومنع العفونة … إلخ.

  • (١)

    المسخن والملطف والمحلل والحاد والمخشن والمفتتح والمرخي والمنضج والهاضم وكاسر الرياح والمقطع والجاذب والمحكك والمقرع والأكال والمحرف واللاذع والمفتت والمعفن والكاوي والمقشر.

  • (٢)

    والمبرد والرادع والمغلظ … والمخدر.

  • (٣)

    والمرطب والمنفخ والغسال والموسخ للقروح والمزلف والمملس.

  • (٤)

    والمجفف والعاصر والقابض والمسدد والمدمل والمنبث للحم والخاتم.

  • (٥)

    والقاتل والسم والمسهل والمدر والمعرق.

ثم يبحث ابن سينا في أحكام تعْرِض للأدوية من خارج وتغير كيانها مثل الطبخ والسحق والإحراق بالنار والغسل والإخماد في البرد والوضع في جوار أدوية أخرى والممازجة، ثم يعطي نصائح في طريقة التقاط الأدوية وادخارها.

وبعد هذه الدراسة العامة للأدوية المفردة ينتقل ابن سينا إلى دراستها بالتفصيل واحدًا واحدًا، وتسهيلًا لدرسها وضع الشيخ الرئيس اثني عشر جدولًا (وهو يسميها ألواحًا) لتسجيل أفعال الأدوية وخواصها في أعضاء أو أحوال خاصة، معطيًا في كل لوح عددًا كبيرًا من هذه الأفعال، وهذه الألواح تشمل: الزينة والأورام والبثور والجراح والقروح وآلات المفاصل وأعضاء الرأس وأعضاء العين وأعضاء النفس والصدر وأعضاء الغذاء والحميات والسموم.

وعلى سبيل المثال أذكر أن ما ورد في لوح الزينة ستون فعلًا للأدوية في هذا الباب، فيقول مثلًا عن الدواء الذي يصفه أنه: ينقي أو يكدر أو يزيل السفوع، أو ينفع من البهق والأسود، أو ينفع من البرص، أو يحمر اللون أو يقلع الوشم من الثأليل أو يسمن … إلخ.

وبعد هذه المقدمات الدقيقة ينتقل إلى الأدوية المفردة نفسها واحدًا واحدًا، وهو يذكرها حسب الحروف الأبجدية في ثمانية وعشرين فصلًا، وهو يكاد يذكر لكل دواء: الماهية والاختبار والطبع والخواص والأفعال حسب كل لوح من الألواح المذكورة.

لم يكن ابن سينا مجرد جمَّاع لكتب سابقيه، بل كان أيضًا مبتكرًا بفضل تجاربه الخاصة، فقد ميَّز بين التهاب المنصف الصدري أو الحزيم mediastinitis والتهاب البلورا pleurisy، واكتشف طبيعة السل المعدية، ونشر الأوبئة بالماء والأرض وقد تحقَّق بطريقة تجريبية قوة الثوم ضد سم الحية.
وترجم القانون إلى اللاتينية جيرار دي كريمون Gérard de Crémone، وظل أثر هذا الكتاب الضخم على أوروبا دون منافس حتى القرن السابع عشر، فقد فُسِّر مرارًا وعُلِّقَ عليه ولُخِّصَ فأصبح الكتاب المدرسي classic book مدة قرون، مما جعل الدكتور أوسلر osler يقول:
The Canon-has remained a medical Bible for a longer period than any other book.
١  AVICENNE, Poème de la mèdicine—Urjuza fit tib—Cantica Avicenne: النص العربي والترجمة الفرنسية والترجمة اللاتينية، حقق النصوص وقدم لها وعلَّق عليها هنري جاهييه Henri JAHIER وعبد القادر نور الدين من جامعة الجزائر، باريس، ١٩٥٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤