الفصل الخامس

وظيفة المحتوى

إذا كان تأثير السلطة على قرارات التدريس المُتمركِز حول المتعلم مُبهمًا ويَصعب تقديره، فلمُحتوى المادة الدراسية تأثيرٌ مباشِر وواضح؛ حيث إنَّ أساليب هذا النوع من التدريس أقل فاعليةً من أساليب التدريس التقليدية القائمة على الحفظ والتلقين، كما أنها تَستغرق المزيدَ من الوقت، وهو ما يُقلِّل حجم المحتوى الذي يمكن تغطيتُه أثناء دراسة المادة، ويَصعُب معه على كثير من أعضاء هيئات التدريس الدفاعُ عن تلك الأساليب؛ فحجمُ المحتوى الخاص بالمادة الدراسية هو مسألةٌ تمسُّ مصداقيةَ المُحاضِر، وسُمعة البرنامج الدراسي، والمسئولية المهنية التي تقع على كاهل المعلمين. وإذا لم يُغطَّ المحتوى المنصوص عليه في خطة المنهج الدراسي، فإن الطلاب يواجِهون صعوبةً في دراسة المواد التالية، بل الأسوأ من ذلك أنهم سيَرسُبون في الاختبارات التي تشهد على تأهُّلهم لشغل وظائفهم المستقبلية. والمَخاوف المتعلقة بالمحتوى ليست بشيء هيِّن بالنسبة إلى مَنْ يُلزِمون أنفسهم بتغطية المحتوى، وبالنسبة أيضًا إلى مَنْ يريد منَّا أن يُغيِّر طريقةَ توظيف المحتوى لدراسة المواد.

يبدأ هذا الفصل بالرد على الآراء المترسِّخة عن المحتوى؛ ليس عن طريق التوصية بدراسة المواد دون تخصيصِ قدرٍ كبير من المحتوى، وإنما عن طريق عرض الأسباب وراء اعتبار أن الآراء الحالية بخصوص تغطية المحتوى لم تَعُد منطقية. يَستعرض هذا الفصل أيضًا كيف يتَّسع مفهوم وظيفة المحتوى عندما تكون أساليبُ التدريس مُتمركزةً حول المتعلِّم، كما يقدِّم الفصل مجموعةً متنوِّعةً من الأمثلة التوضيحية، ويُختتَم بالأسئلة التي تُثار عندما يضطلع المحتوى بدور ممتدٍّ عبر دراسة المادة.

قبل بضعة أشهر، أرسَلَ إليَّ أحدُهم نسخةً من حوارٍ جرى على شبكة الإنترنت بين مجموعةٍ من أعضاء هيئات التدريس الذين قرءوا الطبعةَ الأولى من هذا الكتاب؛ حيث كتب أحد المشاركين يقول: «لقد واجهتُ جميعَ أنواع المشكلات فيما يخص الفصلَ الذي يتناول المحتوى؛ فتدريسُ محتوًى أقلَّ من شأنه أن يُقلِّل من تماسُك مناهجنا، ومن مستوى المعايير الأكاديمية، ويُضعِف مستوى إعداد الطلاب لخوض حياتهم المهنية.» هل هذا ما سيُحدِثه تغييرُ وظيفة المحتوى؟ هل تخلُّ أساليب التدريس المُتمركِز حول المتعلِّم بالمحتوى الذي يتعلَّمه الطلاب وبطريقةِ تعلُّمهم إياه؟ لنضع هذين السؤالين في الاعتبار أثناء استكشافنا الدورَ المختلف للمحتوى في تجارب الطلاب التعليمية.

(١) ما الذي يحتاج إلى التغيير؟

ما يحتاج إلى التغيير هو طريقة تفكيرنا في المحتوى، ولا سيَّما فكرة أن المحتوى هو شيء «نُغطِّيه»، وافتراض أنه كلما زاد حجم المحتوى، كان ذلك أفضل دومًا. و«تغطية» المحتوى جزءٌ متأصِّل من طريقة تفكيرنا وغيرُ قابل للنقاش. كم مرة أبدَيْنا تعليقاتٍ كهذه أو سمعناها؟ تعليقات على غرار: «اليوم سنُغطِّي …» «لقد غطيتُ تلك المادةَ العلمية قبل آخِر امتحان مباشَرةً.» «مع هذه التغييرات المنهجية، علينا أن نقرِّر ما الذي سنُغطِّيه في كل مادة دراسية.» «لا أصدِّق الكمَّ الذي غطَّتْه المعلمة من المحتوى منذ آخر امتحان!»

إن «تغطية» المحتوى هو تشبيهٌ مجازي؛ فنحن لا نُغطِّيه بالمعنى الحرفي للكلمة، بل نتحدث هنا مجازيًّا. ويوضِّح كلٌّ من ويجينز وماكتايت (٢٠٠٥) ما يتضمنه هذا التشبيه المجازي بقولهما: «تُشير كلمة «تغطية» إلى شيء موجود على السطح، كمفرَش السرير مثلًا. وعند استخدام هذا التشبيه في مجال التدريس، فإنه يوحي بشيء سطحي؛ فعندما «نغطِّي» المادة العلمية … ينتهي بنا الحال إلى التركيز، دون قصدٍ منا، على التفاصيل السطحية دون التعمُّق في أيٍّ من هذه التفاصيل» (ص٢٢٩). وكلمة «تغطية» تأتي كذلك بالمعنى الحرفي حين نقصد تغطيةَ مساحة من الأرض؛ أيْ قَطْع مسافةٍ محدَّدة في سبيلِ رحلةٍ ما؛ «فعندما نتحدَّث عن تغطية مساحة كبيرة، سواء أكنا نَقصد المعنى الحقيقي كمُسافرين، أو المعنى المجازي كمُعلِّمين، نكون قد قطعنا شوطًا، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أننا استخلصنا أيَّ معنًى أو فكرةٍ بارزة من «رحلتنا» هذه» (ص٢٢٩).

والتغطية لا تُساوي بالضرورة التعلُّم؛ وهو أمرٌ يُدركه معظم المعلمين، ﻓ «التدريس في حدِّ ذاته لا يُسفِر أبدًا عن تعلُّم، وإنما المحاولاتُ الناجحة من جانب المتعلِّم في سبيل التعلُّم هي ما يُسفِر عن تعلُّم حقيقي. والتحصيلُ الدراسي يأتي نتيجةً لنجاح المتعلم في جعل أسلوب التدريس المُقدَّم له ذا مغزًى وفائدة» (ويجينز وماكتايت، ٢٠٠٥، ص٢٢٨). إننا نُدرك هذا الأمر، ولكن تغطية المحتوى صارت مسئوليةَ المعلم على أي حال. ربما يُخفِق الطلاب في تعلُّمِ أو استيعابِ ما قُمنا بتغطيته، ولكن هذه مُشكلتهم وليست مشكلتنا. ويمكننا أن نواجه أنفسنا وزملاءنا والعاملين في هذا المجال مُفصِحين عن أننا أنجزنا ما يُفترَض بالمعلمين إنجازه، ولكن نادرًا ما نواجه أنفسنا بحقيقةِ أنه عندما يُسفِر أسلوبُ التدريس عن قدرٍ قليل من التعلُّم، أو لا يُسفِر مطلقًا عن تعلُّم أي شيء، فإنه بذلك يحقِّق عددًا قليلًا من الأهداف، أو لا يُحقِّق أيًّا منها على الإطلاق.

وبدلًا من أن تكون تغطية المحتوى موضوعًا مطروحًا لنقاش مُمنهَج، فإنها عادةً ما تكون نقاشًا جانبيًّا لموضوعاتٍ مختلطة ومُتشابكة. فيدور النقاش حول كيف أخفقْنا في الحفاظ على مستوى الأداء المرغوب فيه؛ غالبًا لأن الطلاب ليسوا مُتفانين في استيعاب المحتوى كما يجب عليهم أن يكونوا، وكيف يتسنَّى لنا بأي حال من الأحوال أن نَنتهي من شرح المحتوى كله قبل أن ينتهي الفصل الدراسي، ومعظمُ أعضاء هيئات التدريس على استعدادٍ للاعتراف بأن المواد التي يدرِّسونها تتضمَّن كَمِّية مُفرِطة من المحتوى، والبعضُ يعترفون (استنادًا إلى عدد موضوعات النقاش المطروحة) بأنهم يودُّون أن يُقلِّلوا حجم المحتوى الذي يغطونه، إلا أن هذه المناقشات لا تحظى بتأثير كبير على طريقةِ تفكيرنا في المحتوى، أو أسلوبِ استغلالنا للمُحتوى في المواد التي ندرسها.

ولم يُكتَب عن هذا الموضوع بانتظامٍ في الأدبيات التربوية، على الرغم من وجود بضعة استثناءات، فخلال السنوات التي تلتْ إصدارَ الطبعة الأولى من هذا الكتاب، نُشِرَت بعض المقالات المثيرة للاهتمام في دورية «ذا جورنال أوف أمريكان هيستوري» (وهي ليست دورية تربوية في حد ذاتها، ولكنها تحتوي باستمرارٍ على قسم للمقالات التي تتناول التدريس)، وقد تناولتْ هذه المقالات موضوعَ تغطية المحتوى في دراسة تمهيدية موجزة لمواد التخصُّص الدراسي. ويَذكر أحد المقالات (سيبريس وفويلكر، ٢٠١١) أن «الانتقادات الخاصة بأسلوب التدريس الموجَّه نحو تغطية منهج مادة التاريخ، يزيد عمرُها على قرن من الزمن.» ثم يُواصل المقال عرض «أصل أسلوب تغطية المنهج» (ص١٠٥١)، بدايةً من المخاوف التي أُعرب عنها في أواخر القرن التاسع عشر. وفي مقال نُشِر عام ٢٠٠٦، كتب كالدر يقول: «عندما أقول إن الدراسة التمهيدية الموجزة المثالية والموجَّهة نحو تغطية المنهج هي طريقةٌ مضلِّلة لتعريف الطلاب بجمال التاريخ وأثره البالغ، فأنا لا أقول شيئًا مُنْكَرًا أو مستجدًّا. ولكن الجمود يُصيب الأوساطَ التربوية على أية حال. وفي حين أن كل شيء يمسُّ الدراسة قد تغيَّرَ — عُدْ بذاكرتك إلى تلك الأيام حين كان يُقصَد بتكنولوجيا قاعة الدراسة الخرائطُ المُنسدلة والسبورة السوداء — ظلت الأساليبُ العتيقة لتغطية المنهج كما هي على حالها» (ص١٣٥٩).

وهذا التغيير لا يتناول الموادَّ الدراسية التي تخلو من محتوًى قويٍّ يمثِّل تحدِّيًا فكريًّا، وأقول هذا لأنني أشعر بالحاجة إلى تكرار التأكيد على ذلك الأمر، وإنما هذا التغييرُ مرتبطٌ بتحدِّي التشبيه المجازي لتغطية المنهج؛ أيْ فكرة أن هذا النوع من التَّعلُّم، الذي نؤيِّده، يحدث عندما «يغطي» أعضاءُ هيئة التدريس المحتوى عن طريق تلقين الطلاب. ويقول فينكل (٢٠٠٠) إن «تلقين الطلاب بدقة ووضوح شيئًا لم يكونوا يعرفونه من قبلُ» هو بالنسبة إلى أعضاء هيئات التدريس «أسلوبٌ أساسيٌّ للتدريس» (ص٢). وهذه هي طريقة التفكير التي بحاجةٍ إلى التغيير. إنَّ اعتبار المحتوى شيئًا موجودًا «لتغطيته»، يجعلنا لا نستغلُّ المحتوى بطرق تشجِّع التعلُّمَ أو تنمِّي مهارات التَّعلُّم المهمة.

يقترح التشبيهُ المجازي المُعارِض أن «يكشف المعلمون الغطاء» عن المحتوى، فكما تقول العبارة المكتوبة أسفل رسم كاريكاتوري لأستاذٍ يَقف مباشَرة أمام سبُّورة سوداء مكتوب على أحد جانبيها أجزاء من مسألة: «ليس هدفك هو تغطية المحتوى، وإنما كشف الغطاء عن جزء منه.» وعلى الرغم من أن هذا التشبيه المناقِض يصفُّ بدقة جوهرَ فكرةِ التدريس المُتمركِز حول المتعلِّم حيال المحتوى، فإن التغيير الضروري يَصير أوضحَ إذا ما وضعنا التشبيهات المَجازية بجميع أنواعها جانبًا. فالأمر لا يتعلَّق بتغطية المحتوى، وإنما يتعلَّق باستغلال ذلك المحتوى لتحقيق هدفين، فنحن نستغلُّ المحتوى لنطوِّر قاعدةً معرفية، كما يتعيَّن علينا دومًا. ولا يتعيَّن على الطلاب أن يدرسوا موادَّ خاصة بعلم الأحياء أو علم الاجتماع أو الفيزياء، أو أي تخصُّص آخَر مُدرَج في شهاداتهم التعليمية، وهم لا يعرفون شيئًا عن هذه المجالات. كما أننا نستغلُّ المحتوى لتنمية مهارات التَّعلُّم التي يحتاج إليها الطلابُ على مدار حياتهم التعليمية التي تنتظرهم بعد إنهاء الدراسة الجامعية.

ثمَّة افتراضٌ مُرتبط بالتدريس المُتمركِز حول المتعلم ومُناقِض له على حدٍّ سواء؛ أَلَا وهو: كلما زاد حجم المحتوى كان ذلك أفضل دائمًا. تزدحم المناهجُ الدراسية «الجيدة» بالمحتوى، حتى في جامعات البحث العلمي — حيث تَكثُر الخطايا التربوية — ثمة خطأٌ تدريسيٌّ يَجدر تجنُّبه؛ أَلَا وهو: تدريس المواد بكمية كبيرة من المحتوى المعقد. كان كتاب مادة «مقدمة إلى علم الكيمياء» التي درَستُها يتكون من ٨٣٨ صفحة، وبلغ حجمُ صفحات هذا الكتاب ٢١٫٥٩ سنتيمترًا × ٢٧٫٩٤ سنتيمترًا، وكُتِب المحتوى داخله بخطٍّ بلغ حجمه ٨ نقاط. كان كتابًا ضخمًا، وقد انتهينا من دراسة ثلاثة أرباعه فقط، على الرغم من أن دراسته كانت أشبهَ بخوضِ سباق ماراثون مُرهِق.

والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه بشأن المحتوى ولكنَّنا لا نطرحه أبدًا هو: ما الحجم الكافي؟ وهو سؤالٌ غاية في الأهمية حين نسأل عن دراسةِ موادَّ تمهيديةٍ موجَزة، تمثِّل من الناحية النموذجية التعامُلَ الوحيدَ للطلاب مع أحد التخصُّصات الدراسية. إن استعراضَ أيِّ تخصُّص دراسي خلال خمسة عشر أسبوعًا أشبه بالتحليق فوق المحتوى على ارتفاعٍ شاهق وبسرعة فائقة. وتنقسِم هذه المجالات التخصُّصية إلى مجالات فرعية واختصاصات أخرى، وأحيانًا تنقسم إلى تخصُّصات دراسية جديدة تمامًا.

ماذا لو كانت محاولاتنا لتقديم مجالاتنا الدراسية إلى الطلاب تحظَى بخصائص تقديم الأفراد بعضهم لبعض تقديمًا جيدًا؟ فالتقديم الجيد لشخصٍ ما يَمنحُكَ بضعة تفاصيل تجعل ذلك الشخص يبدو مثيرًا للاهتمام بالنسبة إليك؛ بمعنى أنك تراه شخصًا تودُّ مقابلته، وربما التعرف عليه أكثر. والتفاصيلُ المثيرة للاهتمام جزءٌ متأصِّل من كلِّ تخصُّص دراسي؛ ولهذا السبب نحبُّ تخصُّصاتنا حبًّا جمًّا. كما أن التقديم الجيد يحدِّد بعض النقاط المشتركة بين الطرفين؛ على غرار: «كلاكما ينتمي إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة.» «وكلٌّ منكما يشارك الآخَر اهتمامَه بالنبيذ الذي تُنتجه شركةُ نورثويست.» «كما أنَّ لكما عددًا من الأصدقاء المشتركين.» مثل هذه النقاط المشتركة تسهِّل بدْءَ الحوار على نحوٍ أكبر، وبالطريقة نفسها يُمكننا أن نربط بين الطلاب والمحتوى الذي نُدرِّسه لهم. إليك هذه المقدمة: «ستُثير مادةُ الكيمياء اهتمامَكم؛ لأنكم تَلتهمون عدة مواد كيميائية متنوعة كلَّ يوم. كم واحدًا منكم يتناول حبوبَ الإفطار؟ هل سبَق لكم أنْ قرأتم قائمةَ المكونات الموجودة على العُلبة؟ تلك الكلماتُ التي لا تستطيعون تهجِّيها، إنها كيماويات، أليس كذلك؟ ما هي؟ وهل ينبغي لكم أن تتناولوها على وجبة الإفطار؟» إنني أعيدُ صياغةَ هذه المقدمة الرائعة لمادة الكيمياء، والتي سمعتُها ذات مرة في إحدى المحاضرات. أما المقدمات السيئة فهي تلك التي تسرد قصةَ حياةِ المرء بأكملها، وتشتمل على مئات التفاصيل التي يبدو الكثير منها غيرَ مثير للاهتمام أو غير ذي أهمية من الأساس.

لقد أحببتُ محتوى مادة الكيمياء التي دَرَستُها؛ حيث إنها جعلتني أفهم الأساسيات الخاصة بظاهرة الاحتباس الحراري، وظاهرة استنزاف طبقة الأوزون. وأعددتُ مشروعي البحثي للتخرج في نهاية الفصل الدراسي عن الأمطار الحمضية في منطقة جبال آديرونداك. لقد عرفتُ السبب وراء ضرورة قيادة سيارة اقتصادية وتجديف القوارب خاصتنا، ولكنني كثيرًا ما شعرتُ أنني الطالبة الوحيدة في قاعة الدراسة التي ترى العلاقةَ بين الكيمياء والحياة اليومية، أما باقي الطلاب فكانوا يَدرُسون المادةَ من أجل اجتيازها بصفتها مادةً إجبارية بالنسبة إليهم. وبحلول الوقت الذي انتهَوْا فيه من دراسة مادة الكيمياء، وبعد أن تعرَّفوا عليها، أدركوا أنها لم تُعجِبْهم؛ ومن ثَمَّ باعوا كتابها، وتمنَّوا أن ينسوا كلَّ شيء ربما تعلَّموه فيها. ولا يُمكننا أن نتحمَّل المشكلات الخطيرة الناجمة عن انتهاء الطلاب من دراسة مادة الكيمياء أو الأحياء أو علم النفس أو الاقتصاد أو أي تخصُّص دراسي آخَر دون تحصيل شيء من هذه الدراسة سوى أقل قدر من المعرفة، والخروج بتوجهات من ذلك النوع.

ما الحجم الكافي للمحتوى؟ هذا السؤال ليس مجرد سؤالٍ مرتبطٍ بالمواد غير التخصصية؛ وإنما هو سؤال مرتبط بكل مادة نُدرِّسها، كما يجب علينا أن نطرح هذا السؤالَ عند تدريس برامجنا الأكاديمية والمواد الإجبارية للحصول على شهادةِ إجازةِ مُزاوَلةِ المهنة. وعلى الرغم من أن السؤال ذو صلة بالموضوع، فإنَّ عددًا قليلًا للغاية من المعايير، إنْ وُجِدتْ من الأساس، يوفِّر خطوطًا إرشادية تُساعد أعضاءَ هيئات التدريس على تحديدِ الحجم المناسب للمحتوى. لنضع جانبًا الافتراضَ القائل بأنه كلما زاد حجم المحتوى كان هذا أفضل للطلاب، ولن يكون لدينا أدنى فكرة عن حجم المحتوى الكافي لتدريسِ أيِّ مادة. إنها ليست بمُناقَشة لم نطرحها من قبلُ فحسب، وإنما هي مُناقَشة تأخَّر طرحُها طويلًا؛ وذلك للأسباب التي سنَستكشفُها في القسم التالي.

ما الذي يَحتاج إلى التغيير؟ الإجابة عن هذا السؤال بسيطة؛ أَلَا وهي: طريقة تفكيرنا في المحتوى. لماذا لا تتغير هذه الطريقة؟ والإجابة عن هذا السؤال ليست بسيطة؛ إذ لا يمكننا أن نُغيِّر شيئًا لم نفكِّر فيه قطُّ أو لم نتحدَّث عنه على نحوٍ موضوعي. لقد خلَطْنا بين تغطيةِ المحتوى وعنصرَيْن آخَرين؛ أَلَا وهما: هُوِية المُدرس وسُمْعة المادة. وإذا ما غيَّرْنا وظيفةَ المحتوى، فإننا نخاطر بالمساس بمصداقية كِلا العنصرين الآخَرين. المحتوى هو شيء نعرفه ونحبُّه، فلماذا نرغب في تدريسِ قدرٍ أقلَّ منه بأي حال من الأحوال؟ ثمة أسباب، ودعونا نرى ما إذا كانت مُقنِعة أم لا.

(٢) لماذا يجب أن تتغيَّر طريقةُ تفكيرنا؟

يجب أن تتغيَّر طريقة تفكيرنا في وظيفة المحتوى؛ وذلك لعدة أسباب، بدءًا من حقيقةٍ (وهي حقيقةٌ فعلًا) مفادُها أن تغطية المنهج فحسب لا تشجِّع التعلُّمَ العميق والمستمر. ويُبدِي كارفاليو (٢٠٠٩) ملاحظةً في محلها قائلًا: «نحن — بصفتنا مُعلِّمين — منشغلون بالتأكُّد من أننا نقدِّم للطلاب أكبرَ قدرٍ من المعلومات المتاحة، متجاهِلين عادةً إلى أيِّ مدًى يكون طلابنا قادرين على تطبيقِ هذه المعلومات على أرض الواقع؛ إذ يخطِّط المعلمون لاستغلالِ وقتِ محاضراتهم لصالح تغطية المادة العلمية تغطيةً شاملةً على حساب توفير فرصة التعلُّم والتطبيق العملي» (ص١٣٢-١٣٣).

تثبت الأبحاث أنه عندما يواجه الطلاب طوفانًا من المعلومات، فإنهم يتذكَّرون التفاصيلَ ويَسترجعونها أثناء أداء الاختبارات، ثم ينسَوْنها بعد ذلك غالبًا. «لقد أثبتت الأبحاث التربوية على مدار الخمس والعشرين سنةً الماضية، بما لا يَدَع مجالًا للشك، حقيقةً بسيطة؛ أَلَا وهي: ما يُنقَل إلى الطلاب عن طريق المحاضرات، لا يُختزَن في ذاكرتهم لوقت طويل. استرجِعْ تجرِبتَك الشخصية، ما الذي تتذكَّره من كلِّ ما تعلَّمته في المرحلة الثانوية والمرحلة الجامعية؟» (فينكل، ٢٠٠٠، ص٣).

لنُلقِ نظرةً على مثال واحد مميز من الأبحاث؛ حيث أجرى باكون وستيوارت (٢٠٠٦) دراسةً على طلاب متخصِّصين في مجال التسويق، ويَدرسون مادةَ سلوك المستهلك؛ وهي مادة في مجال دراستهم المُختار، تبدو ممتعةً وذات محتوًى وثيقِ الصلة بالممارسة المهنية، وباستخدام منهج الدراسة الممتدة الممتع، وجَد الباحثان أن معظم المحتوى الذي تمَّتْ تغطيته لدراسة المادة قد نُسِي بعد مرور عامين. ومِن بين مجموعةٍ من التوصيات، اقترَحَا أنه يتعيَّن على أعضاء هيئات التدريس أن يضحُّوا بطول المحتوى لصالح التركيز على عُمْق ذلك المحتوى. وتوصَّلا إلى ما يلي: «من الأهمية بمكانٍ تذكُّرُ أنه على الرغم من أننا نكره «التخلي عن» بعض الموضوعات المفضَّلة لدينا، فإن الموضوعات التي تغطَّى بصورة عابرة فقط لا تُختزَن بطريقة ذات مغزًى؛ وهكذا نكون قد تخلَّيْنا عنها بالفعل، كلُّ ما في الأمر أن هذا لم يكن واضحًا. ومن أجل تجنُّب التخلِّي عن كل شيء، يجب علينا تغطية عددٍ قليل من الموضوعات المهمة بمزيدٍ من العمق» (ص١٨٩).

ولا يحتاج أغلبنا إلى قائمة طويلة من المراجع التي توثِّق قدرَ المحتوى الذي يَنساه الطلاب بعد الانتهاء من دراسة المادة، إننا نرى الأدلةَ والبراهينَ بأنفسنا؛ فعندما نطلبُ من الطلاب، بعد مرور أسبوعَين على اختبار المادة، تذكُّرَ مصطلح «تعلَّموه»، يبدو عليهم الارتباك، ويظنون أنهم ربما سمعوا المُصطلَح من قبلُ، ولكن الصمت يطولُ في محاولةٍ منهم لتذكُّرِ ماذا يعنيه ذلك المصطلح بالضبط، واسترجاعِ الصلة التي تَربطه بما نتحدَّث عنه الآن. ويتكرَّر الشيء نفسه عند دراسة المادة التالية في سلسلة المواد الأساسية؛ حيث يَجلس أمامك الطلاب الذين حصلوا على تقديرات ممتاز وجيد جدًّا في المادة الإجبارية التي تُعتبَر شرطًا أساسيًّا لدراسة المواد التالية، وحين تطرح سؤالًا يَستفسِر عن معرفتهم السالفة لمعلومةٍ معيَّنة، ستكون سعيدَ الحظ إذا ما وجدتَ طالبًا يجازف ولو بالتخمين. فتغطيةُ المحتوى لا تُنمِّي القاعدةَ المعرفية أو تُنمِّي مهاراتِ التعلُّم التي يحتاج الطلاب إلى اكتسابها من تجرِبة التعليم العالي؛ وهذا هو أهمُّ سبب وراء ضرورة التفكير في قيامنا بشيءٍ حيال المُحتوى بخلاف تغطيته، ولكن ليس هذا السببَ الوحيد.

ففي الوقت الحالي، يوجد قدر كبير جدًّا من المحتوى لتعليم الطلاب كلَّ شيء يَحتاجون إلى معرفته عن أيِّ شيء، وتزداد المعرفة باستمرار وبأضعافٍ مُضاعَفة في مجالات تخصُّصنا؛ فبعدَ الانتهاء من الدراسة الجامعية، يظلُّ الطلاب يتعلَّمون طوال حياتهم. عندما التقيتُ بنابر (وايمر، ١٩٨٨) لأول مرة في مقابلة شخصية للحديث عن كتابٍ ألَّفه، بالتعاون مع كروبلي، تحت عنوان «التَّعلُّم مدى الحياة في مرحلة التعليم العالي» (١٩٨٥. متوافر الآن في طبعته الثالثة، ٢٠٠٠)؛ وصَفَ طريقة تفكيرنا في تعليم الطلاب ما يحتاجون إلى معرفته بأنها أشبهُ ﺑ «التعليم عن طريق التطعيم»، موضِّحًا أن إعطاء الطلاب «جرعةً» من المحتوى على أملِ أن يكون هذا كلَّ ما يَحتاجون إليه، هو طريقة مَعِيبة للتفكير. يجب أن يتخرَّج الطلاب من الجامعة وهم مدركين فكرةَ «تعلُّم» المحتوى بنفس قدر استيعابهم للمحتوى نفسه.

كما أن أعضاء هيئات التدريس لطالما افترضوا أن الطلاب يَلتقِطون مهارات التَّعلُّم التي يحتاجونها أثناء عملية التَّعلُّم؛ بمعنى أنهم أثناء حلِّهم للمسائل يُنمُّون مهاراتِ حلِّ المسائل، أو عندما يلاحظون أحد أعضاء هيئات التدريس يفكِّر بطريقة نقدية، فإنهم يستنتجون أنها الطريقة التي يتعيَّن عليهم التفكير بها. وهذا هو السبيل الذي قطَعَه معظمنا لكي نصير متعلِّمين متمرِّسين، ولا يزال هذا هو السبيل الذي يسلكه بعض الطلاب أيضًا. يَميل هؤلاء الطلاب لأن يكونوا أذكى الطلاب، ومُعظمنا يعرف حقَّ المعرفة أن هؤلاء لا يُمثِّلون أغلبيةَ الطلاب الجامعيِّين اليوم، فجميعُ الطلاب (حتى الأذكياء جدًّا منهم) يُنمُّون مهارات التَّعلُّم على نحوٍ أفضل حين تُدرَّس لهم مباشَرةً كيفيةُ تنميةِ مهاراتِ التَّعلُّم المرغوب فيها؛ أيْ عندما لا تُترَك تنميةُ هذه المهارات لمحض الصدفة، وإنما تُدمَج باعتبارها جزءًا مقصودًا وهادفًا من عملية التدريس. فالمعلمون الذين يتَّبعون أسلوبَ التدريس المُتمركِز حول المتعلِّم يُنمُّون القاعدةَ المعرفية والمهارات التي يحتاج إليها المتعلمون المُتمرِّسون.

بالإضافة إلى عدم فاعلية تغطية المحتوى والقدر المتاح لتدريسه من المنهج الدراسي، والحاجة إلى التدريس الهادف إلى تنمية مهارات التعلُّم مباشَرةً، يوجد سبب أخير وراء ضرورة تغيير التوجُّه حيال اعتبار المحتوى شيئًا يجب تغطيته؛ ففي الوقت الراهن، تُتيح التكنولوجيا كميات هائلة من المحتوى؛ حيث لم أَعُد بحاجةٍ إلى الذهاب إلى المكتبة، فيُمكنني تتبُّع جميع المقالات التي أريد قراءتها عبر شبكة الإنترنت، والكثير من هذه المقالات تحتوي على روابط خارجية تقودُك مباشَرةً إلى المصادر. وإذا قرأتُ لمؤلِّف أعتقد أن أعماله ذات مستوًى جيد، فالبحث السريع يَعرض الأعمالَ الأخرى التي ألَّفها، فالفوارقُ التي أحدثَتْها التكنولوجيا مذهلة، كما أنها أثارت أيضًا سلسلةً كاملة من الأسئلة المتعلِّقة بوظيفة المحتوى في المواد الدراسية والتعليم الجامعي.

فحَجْم المعرفة المُتاحة، بالإضافة إلى سهولة الوصول إليها، يعنيان أن المتعلمين بحاجة إلى تنميةِ مهاراتِ إدارة المعلومات؛ حيث تقودنا محركاتُ البحث الفعَّالة إلى أيِّ شيء قد نرغَب في معرفته، ولكنها لا تقودُنا دومًا إلى أفضل المعلومات. إذَن، كيف نصلُ إلى تلك المعلومات؟ ما الذي يفصل المصادرَ المعتمَدة عن تلك المصادر غير المعتمَدة؟ كيف نَعرف أن لدينا القدرَ الكافي من المعلومات؟ كيف يمكن تنظيم كميات المعلومات الهائلة المتاحة في أي موضوع تقريبًا؟ وكيف يُمكن دمجُها، بل جعلها مفيدةً أيضًا؟

تتَّسِم بعض الأسئلة التي أثارتها التكنولوجيا بكَوْنها فلسفيةً أكثر، فهل سهولةُ الوصول إلى المعلومات تعني أنَّ الأمر قد يَنتهي بمعرفة الطلاب قدرًا أقل؟ هل عليهم أن يعرفوا تاريخَ صفقة لويزيانا أو ما تَبِعها من مقتضياتٍ ما دام يمكن التوصُّل إلى الإجابة عن هذين السؤالين في غضون ثوانٍ؟ ويعارض سانجر (٢٠١٠)، الشهير بكونه أحدَ المشاركين في تأسيس موسوعة ويكيبيديا، فكرةَ معرفةِ قدْرٍ أقل؛ فعندما كتب سانجر عن موضوعٍ بخصوص شبكة الإنترنت، ذكر أن المعلومات التي يمكن الوصول إليها لا تغيِّر ما يتطلَّبه الفهم والاستيعاب. «إن التحلِّي بالقدرة على قراءة «أي شيء» بسرعةٍ عن موضوعٍ ما (أو الاطِّلاع عليه)، يُمكن أن يوفِّر للمرء المعلومات، إلا أن اكتسابَ المعرفة أو استيعابَ الموضوع يتطلَّب دومًا دراسةً نقدية. ولن تُغيِّر شبكةُ الإنترنت من هذه الحقيقة مطلقًا» (ص١٦).

أما فيما يتعلَّق بما إذا كانت هذه الأسباب مقنعة أم غير مقنعة، فأجدُ أن من الصعب تخيُّلَ أسبابٍ أقوى من تلك التي ذُكِرت للتغيير، غير أن هذه الأسباب (التي يعرفها معظم أعضاء هيئات التدريس) لم تغيِّر ما تقوم به الأغلبية حين يُصمِّمون المناهجَ الدراسية ويُدرِّسونها، ومعظم أعضاء هيئات التدريس لا يُرجِّحون اختيارَ كتب دراسية أصغر حجمًا، أو اختيارَ قدرٍ أقل من المنهج لتناوُله في المحاضرات. لقد أشرتُ إلى ما يجعل المدرِّسين يُواصلون التركيز بشدة على المحتوى، إلا أننا بحاجة إلى استكشاف ذلك التوجه بمزيد من التفصيل.

(٣) لماذا لا تتغيَّر طريقةُ تفكيرنا؟

يبدأ الشعور بالالتزام والولاء تجاه المنهَج في كليات الدراسات العليا؛ حيث إنَّ العمل لسنوات طوال على تدريس المنهج يَزيد من المعرفة بالمحتوى بصورةٍ شبه حصرية. فالمعلم الأكاديمي النموذجي يبدأ مشوارَه المهني ويُنهِيه بمعرفةِ قدرٍ هائل من المحتوى، ومعظم الأكاديميِّين يبدءون مشوارهم المهني ويُنهونه بحبِّهم لمادتهم العلمية حبًّا جمًّا. كما أن المعلم الأكاديمي النموذجي يبدأ حياته المهنية ويُنهيها بقدرٍ قليل جدًّا من المعرفة عن أساليب التدريس والتَّعلُّم في حدِّ ذاتها (وبالطبع توجد استثناءات). جزء من تلك المعرفة يتراكَم على طول الطريق، إلا أن معظم ما يُعرَف عن أساليب التدريس والتَّعلُّم يتضاءل مقارَنةً بمحتوى المادة الدراسية في حد ذاته (وأكرِّر مرةً أخرى: مع وضع الاستثناءات في الاعتبار).

ونظرًا لأننا نشعُر بالراحة حيال ذلك المحتوى، فإننا نَنجذب نحوه؛ فنحن نستوعب المفاهيم، ويُمكننا شرح كيف تؤتي ثمارَها، ولماذا تمثِّل أهميةً، وما الذي يجعلها رائعة فعلًا. ولكن حاوِلْ أن تشرَح التفكيرَ النقدي؛ أيْ ما هو التفكير النقدي؟ ولماذا يتَّسم بالأهمية؟ وكيف تمارسه؟ فعندما تُكتسَب المعرفة من الممارَسة العملية وتتَّسِم التصرُّفات بكونها ذات طابع آلي (كما هي الحال مع التفكير النقدي بالنسبة إلى معظم الأكاديميِّين)، فإنه ليس من السهل على الإطلاق تعليمُ أحدٍ كيف يكتسبها؛ ولهذا السبب يتمسَّك الكثير من أعضاء هيئات التدريس بما يَعرفونه حقَّ المعرفة، وما يُحبونه بشدة.

إلا أن الشعور بالالتزام والولاء تجاه المحتوى يعتمد على ما هو أكثر من مجرد تمنِّي تفادي التدريس خارج منطقة الراحة خاصتنا. وكما ذكرنا من قبلُ، فقد صار المحتوى أداةً لقياس مستوى مصداقية كلٍّ من المادة الدراسية ومعلم المادة؛ فوجودُ قدرٍ كبير من المحتوى الصعب بالمادة يُكسِب المادةَ سمعةَ الصَّرامة والجدِّيَّة على المستوى الأكاديمي، وتقليلُ المحتوى — بأيِّ قدرٍ كان — يأتي في منزلةٍ مُساوية لخفْض مستوى المعايير، وتراجُع مصداقية المعلم. هذه مُخاطرة، وعدد قليل للغاية من أعضاء هيئات التدريس (منهم الأساتذة المُتفرِّغون) على استعدادٍ لخَوضها. وفي تلك المناقشات الجانبية، قد يتقبَّل أعضاء هيئات التدريس المبدأ المُنادي بالحاجة إلى تغيير وظيفة المحتوى، ولكن ما دام التوجُّه الحالي حيالَ المُحتوى هو السائد، فإنهم لن يَرغبوا في المبادَرة بتغيير الطريقة التي يُوظَّف بها المحتوى في المواد التي يُدرِّسونها. وثمة بعضُ المخاوف المبرَّرة في هذا المقام.

إذا كانت المادة جزءًا من سلسلةِ موادَّ أساسيةٍ وتُدرَّس في تخصُّص دراسي يَعتمد فيه المحتوى الجديد على محتوًى سابق (مثل مادة الرياضيات)، فإن تغطيةَ عشرة فصول فقط بينما تبدأ المادة التالية في سلسلةِ المواد بالفصل الثالث عشر، ستضرُّ بمصلحة الطلاب، وإذا كان اختبارُ إجازةِ مُزاوَلةِ المهنة، الذي يجب على الطلاب اجتيازه ليَصيروا ممرِّضين مُعتمَدين، يشتمل على أسئلة معرفية بخصوص وظائف الكُلَى المتنوعة، وقرَّرَ أعضاءُ هيئات التدريس تغطيةَ موضوع الكُليَتين على نحوٍ أقلَّ شمولًا؛ فربما يُخفِق الطلاب في الإجابة عن تلك الأسئلة وغيرها من الأسئلة؛ ممَّا يُسفِر عن الرسوب في هذا الاختبار، وهذا يعرِّض سُمْعةَ البرنامج الدراسي للخطر.

إنني حقًّا أحذِّر من التجارب الانْتِقالية التي يجد فيها أعضاءُ هيئات التدريس أن الأسبابَ التي تدعو إلى تغيير طريقة التفكير في تغطية المحتوى شديدةُ الإقناع، وتدعوهم إلى المخاطَرة واختيار عدم تغطية نصف الكتاب الدراسي. ربما يكون المحتوى الموجود في المقرَّر الدراسي ضِعفَ ما ينبغي أن يكون عليه، لكنْ إلى أن تكون لدينا — على مستوى الأفراد والجماعات — إجاباتٌ عن السؤال الخاص بتحديد القدر الكافي من المحتوى، وإلى أن يواجِه عددٌ أكبر من أعضاء هيئات التدريس والتخصُّصات الدراسية والبرامج الدراسية الطريقةَ السائدة للتفكير في المُحتوى، فإنه من المفيد أن نتحلَّى بالقدرة على إطلاق الأحكام السديدة حيال ما يَبقى من المقرَّر الدراسي وما يُحذَف منه.

ومع ذلك، لا أريد أن أمنح أحدًا عذرًا للاستمرار في تغطية المحتوى دون التفكير فيما يُنجَز، ولماذا يُنجَز على هذا النحو؛ فحتى إنْ كانت المقررات الدراسية التي يتمُّ تدريسها تعدُّ جزءًا من سلسلةِ مواد أساسية أو مقرَّرات دراسية في برنامج دراسي تكون فيه كَمِّيةُ المحتوى خاضعةً لما تُملِيه اختباراتُ مُزاوَلة المهنة، فإنَّ باقي هذا الفصل يقترح طُرقًا للاستعانة بالأساليب المُتمركِزة حول المتعلم — حتى ولو في إطار زمني محدود جدًّا — وطرقًا لإدارة وقت المحاضرة بمزيد من الفعالية، وطرقًا لجعل الطلاب يتحمَّلون المزيد من المسئولية تجاه تعلُّمِ المادة العلمية اعتمادًا على أنفسهم. وبإمكان المعلمين أن يَزيدوا أو يُقلِّلوا من السَّيْر في اتجاه استغلال المحتوى بدلًا من تغطيته، المُهمُّ في الأمر أن يَشْرعوا في التحرُّك. إنَّ مُواصَلةَ اتباعِ التوجُّه المَعْنيِّ بالتركيز على المحتوى، كما هو حالنا الآن، تُؤثِّر بالسلب على مصداقية المنشأة التعليمية كثيرًا؛ أكثر ممَّا سيؤثر تقليص حجم المحتوى.

(٤) كيف يؤدِّي المحتوى وظيفتَه في مادةٍ تُدَرَّس بالأسلوب المُتمركِز حول المتعلِّم؟

في المواد التي تُدَرَّس بالأسلوب المُتمركِز حول المتعلم، تتمثَّل وظيفةُ المحتوى في تحقيق هدفَيْن؛ هما: بناء قاعدة معرفية، وتنمية مهارات التَّعلُّم. ومن أجل بناء قاعدة معرفية، يختار المعلمون الذين يَتَّبعون هذا الأسلوبَ من التدريس الاستعانةَ بالاستراتيجيات التعليمية التي تشجِّع التعلُّمَ العميق والدائم، فهؤلاء المعلمون يُريدون من الطلاب أن يفهموا المحتوى؛ بحيث تزداد احتماليةُ تذكُّرهم للمنهج وسهولة تطبيقه على أرض الواقع. وبالوضع في الاعتبار الأبحاث التي أُلقِيَ الضوءُ عليها في الفصل الثاني، يدرك المعلمون أن أفضل طريقة لتشجيع التعلُّم العميق تكون عن طريق السماحِ للطلاب باستخدام المحتوى لإنجازِ عملٍ على نفس مستوى ما تمَّ إنجازه في التخصُّص الدراسي؛ ومن واقع هذه التجارب، يتعلَّم الطلاب كيف يفكِّرون مثلما يفعل المتخصِّصون في المجال.

معظمنا يعرف بالتجربة المباشرة أن المبتدئين لا يفكِّرون في المحتوى أو يستغلُّونه بطريقة المحترفين نفسها؛ وهذا يعني أنه يجب على المعلمين أن يكونوا واقعين بخصوص مستوى العمل الذي سيُؤدِّيه الطلاب في التخصص الدراسي. ويكتب كالدر (٢٠٠٦) عن طلابه في مادة مقدمة تمهيدية للتاريخ يقول: «هل يمكن للطلاب المُستجدِّين أن يتعلموا التاريخَ بطريقة المحترفين نفسها؟ بالطبع لا، ولكن دراساتي توصَّلت إلى أن بإمكانهم تعلُّمَ تطبيقِ مجموعةٍ أساسية من الخطوات الضرورية لتنميةٍ عقليةٍ واعية بالتاريخ» (ص١٣٦٤).

عندما يتعلَّم الطلاب عن طريق استخدام المادة العلمية، يواجه المعلمون فوضى في عملية التَّعلُّم؛ ففي محاولاتهم الأولى لمُمارَسة النقد الأدبي أو استخدام الطرق العلمية أو تحليلِ دراسةِ حالة، يَرتكب الطلاب جميعَ أنواع الأخطاء، ومعظمها أخطاء فادحة. وقد يصعُب على الخبراء التعامل مع ذلك النوع من عدم الكفاءة. هذا الأسبوع كنتُ أحاول تعليمَ أخي الذي يعاني من إعاقةٍ في النمو كيف يَستخدِم السكِّين لتقشير التفاح بمزيد من الحرص وبأمان. حاولتُ ألَّا أَصرخ فيه وأنا أقول له: «كلا! ليس هكذا! ستقطَع إصبعك.» كيف أجعله يفهم؟ ما وجه الصعوبة البالغة فيما أوضحتُه توًّا؟ سيكون من الأسهل كثيرًا أن أقشِّر له التفاح بنفسي. إن التعامل مع أخطاء المبتدئين يتطلَّب مهاراتِ تدريسٍ نادرًا ما يُستعان بها في قاعات التدريس المتمركِز حول المعلِّم. يجب أن يعمل المعلمون مباشَرةً مع الطلاب، ويجب أن يكونوا قادرين على منح الطلاب تقييمًا بنَّاءً، وعليهم التحلِّي بالصبر والتعامل مع الإحباطات (الخاصة بهم وبالطلاب)، واقتراح أساليب أخرى، وتَشجيع المحاولات المتكرِّرة، والاحتفال بالإنجازات حتى لو كانت صغيرة.

من حُسْن الحظ أن تعلُّمَ طريقة التعامل مع الطلاب أثناء دراستهم للمُحتوى هو موضوعٌ تناولتْه مجموعةٌ كبيرة من الأبحاث التي أُجرِيت على التعلُّم النَّشِط، بالرغم من أن الاهتمام المبدئي بالتعلُّم النَّشِط لم يكن مَعْنيًّا بتوفير الفُرص للطلاب لكي يطبِّقوا المحتوى تطبيقًا عمليًّا. معظمُ استراتيجيات التَّعلُّم النشط تتمركز حول المتعلِّم، إلا أن المعلمين لم يَشرعوا في الاستعانة بها؛ لأنهم أرادوا التركيز أكثر على عملية التَّعلُّم، واعتبروا الاستراتيجيات تِرْياقًا للمتعلمين السلبيِّين. وفي أثناء الاستعانة بهذه الاستراتيجيات، كان هناك الكثير من المعلمين الذين أدركوا كيف حفَّزوا الطلاب بفعالية، وشجَّعوا نوعًا مختلفًا من التَّعلُّم؛ وكنتيجة لذلك ظل الاهتمام بالتعلُّم النَّشِط مُتزايدًا على مدار عدة عقود؛ لدرجةِ أن الأدبيات التربوية تزخَر باستراتيجيات التعلُّم النَّشِط، بما فيها الكثير من الاستراتيجيات التي تمنَح الطلاب فرصًا مصمَّمة بحرصٍ لاستغلال المحتوى بطرق تُنمِّي قدرةَ الطلاب على فهمه واستيعابه. وهذه الأدبياتُ تقدِّم أيضًا نصيحةً مُفيدة للمعلمين الذين يَبحثون عن طرق للتدخُّل بطريقة بنَّاءة، عندما يعمل المُبتدئون على محتوًى جديدٍ بالنسبة إليهم.

وبنفسِ قدرِ أهميةِ تشجيعِ الفهم العميق للمحتوى داخل البيئات التعليمية المتمركِزة حول المتعلِّم، يُستغَلُّ المحتوى أيضًا بهدفِ تنميةِ مهاراتِ التَّعلُّم في تلك البيئات. وكما لُوحِظ بالفعل، يمثِّل تحقيقُ هذا الهدف تحديًا صعبًا، ولعله يكون أصعبَ من ممارَسة التدريس بهدف إفهام الطلاب المحتوى. ويَكتشف معظم المُعلِّمين أن افتقار الطلاب لمهارات التَّعلُّم الأساسية أمرٌ مُحبِط، ففي الوقت الذي يصل فيه الطلاب إلى المرحلة الجامعية، ينبغي أن يكونوا قد تعلَّموا القراءة والحساب والتواصُل الكتابي. وتتمثَّل المناقشات المفضَّلة لدى أعضاء هيئات التدريس في انتقادِ تراجُعِ مستوى التعليم الأساسي، ورثاءِ الحالة التي وصل إليها، إلا أن أية آراء تَفقد أهميتَها في ضوءِ حقيقةٍ واقعية أخرى؛ فعندما يتخرَّج الطلاب في الجامعات وهم ما زالوا يفتقرون إلى تلك المهارات الأساسية، يُلقِي المشرِّعون وأربابُ العمل وأولياءُ الأمور بالمسئولية على عاتق التعليم العالي بكلِّ وضوح.

لذا، يجب أن تتغيَّر طريقةُ تفكيرنا في تنمية المهارات الأساسية لدى الطلاب، ويذكر جاردينر (١٩٩٨) أن ١٤ بالمائة فقط من عينة بحثية مكوَّنة من ٧٤٥ خريجًا جامعيًّا صرَّحوا بأنهم قد تعلَّموا كيف يَستذكرون. ويطرح كيورا (٢٠٠١، ص٤)، الذي قضى حياته المهنية في إجراء أبحاثٍ على مهارات التَّعلُّم، هذا السؤالَ الاستقرائي: «كيف يُمكن تصحيحُ نهجِ التدريس الاستراتيجي لو لم يُطبَّق هذا النهج قطُّ في المقام الأول؟ الحقيقة أن نهْج التدريس الاستراتيجي غير خاضع للتصحيح والتقويم، وإنما هو نهجٌ باعثٌ على الإثراء.» فلا يُمكِن أن يُتوقَّع منك تدوينُ الملاحظات لو لم تتعلَّم قطُّ كيفيةَ القيام بذلك، فالأمرُ بهذه السهولة بالنسبة إلى جميع أنواع المهارات التي يتعيَّن على الطلاب الجامعيِّين التحلِّي بها، ولكنهم يفتقرون إليها.

بالإضافة إلى تدارُك غياب المهارات الأساسية ومُعالَجة هذا الأمر، يأخذ المعلمون المتَّبعون للتدريس المتمركِز حول المتعلِّم تنميةَ المهارات الأكثر تطوُّرًا على محمل الجد؛ تلك المهارات المميزة لتخصُّص دراسي معين والمهارات الأكثر شمولًا، التي تميِّز جميعَ المتعلمين المستقلين المتَّسمين بالتوجيه الذاتي. أشيرُ دائمًا إلى التوصيف الرائع الخاص ﺑ «كاندي» (١٩٩١، ص٤٥٩–٤٦٦) للمتعلم الذاتي التعليم؛ والذي يذكر فيه أكثرَ من مائة قدرة مُثبَتة بالأبحاث يتحلَّى بها المتعلمون المستقلون، تَشتمل هذه القدرات على مهاراتٍ مثل: القدرةِ على التحلِّي بالمنهجية والتنظيم، ومهاراتٍ متطوِّرة لتحصيل المعلومات واسترجاعها، والقدرةِ على التحلِّي بالمرونة والابتكار.

ويستعين المعلمون، الذين يتَّبِعون أسلوب التدريس المُتمركِز حول المتعلم، بالمحتوى؛ ليساعدوا الطلابَ على تطوير قاعدة معرفية، وليُصحِّحوا أوجُهَ القصور الخاصة بالمهارات الأساسية، ولينمُّوا لديهم مهاراتِ تعلُّمٍ أكثر تطورًا، ولكن كيف يتسنَّى لهم القيام بكل هذه المهام في غضونِ عشرة أسابيع أو خمسة عشر أسبوعًا؛ مدةِ دراسةِ المادة؟ إنني ألمسُ في هذا السؤال شعورًا متزايدًا بالذعر. في القسم التالي من هذا الكتاب، ثمة نصائحُ ومقترحاتٌ محددة، ولكن ينبغي أولًا أن نفهم أنه على الرغم من أن الهدفَين المَعْنيَّيْن باستخدام المحتوى لحثِّ الفهم والاستيعاب وتنمية مهارات التَّعلُّم هما هدفان مُنفصلان في حد ذاتهما، فإنه يمكن تحقيق هذين الهدفين في آنٍ واحد عن طريق القيام بالأنشطة نفسها. ويكون التعاملُ مع تدريس المحتوى وتنمية مهارات التَّعلُّم على اختلاف أنواعها أصعبَ عندما نفكِّر في الأمرَين بمعزل أحدهما عن الآخَر، فإمَّا أن نتعامل مع المحتوى، أو نُنمِّي المهارات. وفي بيئة التدريس المُتمركِز حول المتعلم، يمكن أن يُؤتيَ هذان الهدفان ثمارَهما بطُرق معزَّزة على نحو مُتبادَل.

إليك مثالًا بسيطًا يوضِّح كيف يؤتي هذا الأمر ثماره، يتعلَّق المثال بآخِر خمس دقائق من زمن المحاضرة، والتي تمثِّل تحدِّيًا من ناحية التدريس؛ حيث يتأهَّب الطلاب لإعداد أنفسهم — على المستوى الذهني والمادي — للانصراف. معظم المعلمين يُخصِّصون ذلك الوقت للتلخيص (على الرغم من أن عددًا قليلًا منهم يواصِل تغطيةَ المحتوى أثناء هذه الفترة الزمنية)، وفي معظم قاعات الدراسة يكون المعلم هو الذي يلخِّص موضوعات المحاضرة. هل يتعلَّم الطلاب مهارةَ التلخيص عندما يستمعون إلى تلخيص معلِّمِيهم فحسب؟ الآن، أنت تعرف الإجابةَ على الأرجح؛ إنهم يتعلَّمون تلخيصَ الموضوعات على نحوٍ أفضل حين يَعتادون على إعداد التلخيصات بأنفسهم؛ فلعلهم يَستعرضون ملاحظاتهم ويضعون خطًّا تحت أبرز النقاط، ولعلهم يتناقشون مع أحد الزملاء بخصوصِ مسألةٍ لم يتوصَّلوا إلى حلٍّ لها؛ وهي مسألةٌ مشابهة لتلك المسائل التي قُدِّمت في المحاضرة، ولكنها مختلفة قليلًا، ولعلهم يُثيرون أسئلةً من المتوقَّع مجيئها في الاختبار. وأيًّا ما كان النشاط، فإنه يُشرِك الطلاب في دراسة المحتوى؛ حيث إنهم يستعرضون المادةَ العلمية التي قُدِّمتْ في هذه المحاضرة، ويفعلون ذلك عن طريق الاستعانةِ بأنشطةٍ تُنمِّي قدرتَهم على التلخيص.

إن الاستعانة بنشاطٍ واحد لتحقيقِ كلا الهدفَين هي حيلة لتوفير الوقت، بل أكثر من ذلك أيضًا؛ إذ إنَّ الأمر أشبهُ قليلًا بزِيجةٍ ناجحة؛ حيث إن الدمج بين الهدفين في نشاط واحد يجعل الاثنين معًا أفضلَ ممَّا لو كان كلٌّ منهما مُنفصِلًا عن الآخَر. إن تحمُّلَ المسئولية حيال إعدادِ ملخَّص واستعراضِ النقاط المهمة يزيد من وعي الطلاب بأنفسهم كمتعلِّمين. وأثناء استعراض ملاحظاتهم، يكتشفون أن بعض النقاط التي دَوَّنوها لا تبدو منطقية؛ فربما لم يُدوِّنوا القدرَ الكافي من الملاحظات، أو صار ما دَوَّنوه لا يعني أيَّ شيء بالنسبة إليهم. ولعلهم يكتشفون أن الحديث مع أحد الزملاء يُعَدُّ طريقةً مفيدة لتوضيحِ ما تم فهمه، أو أن صياغةَ سؤالٍ متوقَّعٍ في الاختبار يبدو منطقيًّا أكثر من حفظ الإجابات. ويُبيِّن الكثير من الأمثلة التالية إلى أيِّ مدًى يستطيع المعلمون بقدر قليل من الرعاية الفائقة والتحفيز أن يُعظِّموا ويدعموا ما قد يكتشفه الطلابُ عن التعلُّم وعن أنفسهم — باعتبارهم متعلِّمين — حين يَشرعون في أداء مهامِّ التَّعلُّم بدلًا من أن يؤديَها المعلم بنفسه.

في افتتاحية هذا الفصل، أكَّدتُ على أن هذا التغيير في وظيفة المحتوى لم يقلِّل من أهمية دوره، بل إنه في الحقيقة جعله دورًا أكبر، وهذا القسم يوضِّح كيف حدَث ذلك؛ فالمحتوى لا تتمُّ تغطيته في قاعة الدراسة التي تتبَع التدريس المُتمركِز حول المتعلم فحسب، وإنما يُستعان به على نحوٍ هادف لتشجيعِ نوعٍ من التعلُّم العميق الذي نَربطه بالفهم والاستيعاب، ويُستعان به أيضًا لتنميةِ مجموعةٍ من مهارات التَّعلُّم، وهذا دورٌ أكبر للمحتوى لا دورٌ أصغر.

(٥) الخطوط الإرشادية لتنمية مهارات التَّعلُّم

إن الطريقة التي يوظِّف بها المعلمون والطلاب المحتوى لتطوير الفهم والاستيعاب تميل لأن تكون محدَّدةً بإطار التخصُّص الدراسي؛ حيث يستطيع المعلمون الذين يعرفون المحتوى (ومعظمُ أعضاء هيئات التدريس يتمتَّعون بخبرة كبيرة في تدريس المحتوى)، اختيارَ أفضل الأمثلة والنظريات والمفاهيم والقراءات والمسائل التي يستطيع الطلابُ استخدامَها؛ لتُساعِدهم على إتقان تعلُّم المادة العلمية. والنصيحةُ التي يُمكِن لكتابٍ كهذا تقديمها تتناول قضايا أكثر جوهريةً؛ مثل: حاجة المعلمين إلى التخلِّي عن الإفراط في التلقين، والبدء في السماح للطلاب بأن يستعينوا بالمحتوى؛ لاكتشاف الآليات المُطبَّقة داخل التخصُّص الدراسي. وكتابٍ كهذا يستطيع أن يوضِّح لأعضاء هيئات التدريس كيف يمكن استخدام المحتوى لتنميةِ مهاراتِ التعلُّم لدى الطلاب؛ حيث إن القسمَيْن التاليَيْن مخصَّصان لهذا الغرض. ومع ذلك، عدد قليل جدًّا من التجارب المعروضة في القسمَيْن التاليَيْن يفصل تنميةَ مهارات التعلُّم عن تحصيلِ المحتوى وفهمه، وهذه هي الأمثلة المتعلِّقة بالاستعانة بنشاطٍ واحد لبناء المعرفة التي يُقدِّمها محتوى المادة الدراسية وتنمية مهارات التعلُّم كذلك.

يقدِّم القسم الأول مجموعةً من الخطوط الإرشادية بخصوص تنمية مهارات التَّعلُّم، وهي — من وجهة نظري — مُفيدة لسببَيْن؛ فأنا مُدرِكة تمامًا — على الرغم من اعتراضاتي على كمية المحتوى الموجود في المقررات الدراسية — أن معظم أعضاء هيئات التدريس لا يستطيعون تقليلَ كميات كبيرة من محتوى المقرَّر الدراسي، إلا أنهم سيكونون أكثر استعدادًا للتخلِّي ولو عن أجزاء صغيرة ومتفرِّقة منه، وتَفترض هذه الخطوط الإرشادية أنه لا يزال هناك قدرٌ كبير من المحتوى لتدريسه، إلا أن القائمين على تدريس ذلك المحتوى مُهتمُّون الآن، إنْ لم يكونوا مُلتزِمين، برؤية إلى أيِّ مدًى يُمكِن استغلال هذا المحتوى لتنمية مهارات التَّعلُّم لدى الطلاب. وعلاوةً على ذلك، أنا مؤمنة الآن، أكثر ممَّا كنتُ أثناء تأليفي الطبعةَ الأولى من هذا الكتاب، بأنَّ تنميةَ مهارات التعلُّم الجديرة بالاهتمام يمكن تحقيقها بزيادةٍ تدريجية، وفي أقل فترةٍ زمنية ممكنة. بالطبع، كلما زاد القدر كان أفضل، إلا أنه في بعض الأحيان يكون القدرُ القليل أفضلَ من لا شيءَ على الإطلاق، وفي هذه الحالةِ الأمرُ كذلك فعلًا.

ثانيًا: قد تكون الخطوط الإرشادية مفيدةً لهؤلاء المستجدِّين على التدريس الهادف لتنمية مهارات التَّعلُّم مباشَرةً، وبعضُ الأمور التي يمكن القيام بها لتنميةِ مهارات التَّعلُّم وزيادةِ وعي الطلاب بأنفسهم كمُتعلِّمين تتَّسِم بأنها سهلة ومباشِرة. هكذا، لا تتَّسِم جميع مهارات التَّعلُّم بأنها معقَّدة؛ فهناك بعض المواضع السهلة ليبدأ من عندها المعلمون والطلاب، وآمل أن يجعل ذلك الخطوطَ الإرشادية التالية مُفيدةً ومحفِّزة:

فَكِّر تفكيرًا تطويريًّا: يبدأ التفكير التطويري بفهم واضح لهذه المَهارات التعليمية التي يتحلى بها الطلاب، أو التي يفتقرون إليها؛ فأنتَ تُريد أن تبدأ هذا المسار التطويري من حيث يوجد الطلاب — حتى لا تُضَيِّع الوقت في الخطب والمواعظ حول المستوى الذي ينبغي أن يصلوا إليه، ودون أن تتوهَّم أن بإمكانهم الانتقال إلى مستوًى متطور من المهارات قبل أن يُتقنوا المهارات الأساسية أولًا — ولكن بعد التحقُّق من تقييم المستوى الذي هم فيه، وتحديد المستوى التالي الذي عليهم الانتقال إليه.

ويَعني التفكير التطويري أيضًا: التفكير في سلسلة من الأنشطة والواجبات الدراسية والفعاليات التي ستجعل الطلاب يُحرزون تقدمًا على مسار تنمية المهارات. فمُعظم الطلاب لا يتعلمون طرح الأسئلة الاستكشافية، أو صياغة الحجج التحليلية، أو دمج المعرفة التخصُّصية كلها دفعةً واحدةً. تتسم هذه العملية بأنها تدريجية، ولكنها عملية تتسارع وَتِيرَتُها عندما يكون هناك نظام محدد، كما هي الحال في سلسلة الفعاليات المُخطَّط لها مسبقًا التي يجتازونها. ويوجد المزيد من التفاصيل عن تجارب التَّعلُّم المتسلسلة في الفصل التاسع المُخَصَّص لمناقشة المشكلات التطويرية.

اهْدُفْ إلى تَنمية المَهارات: سنبدأ إذَن بتحديد المهارات التي بحاجة إلى التنمية. في المهارات العديدة التي يَفتقر إليها الطلاب يسهُل عليك أن تُعدَّ قائمة طويلة بذلك، ولا بأس في إعداد قائمة، ولكن يجب أن تُحدِّد الأولويات بعد ذلك. ما أكثر المهارات التي يحتاج طلابك إلى إتقانها، مع الوضع في الاعتبار محتوى هذه المادة الدراسية! وهاتان المهارتان أو الثلاث مهارات هي ما ينبغي أن يعمل عليه الطلاب. إنَّ محاولة القيام بالكثير من المهام في الوقت نفسه يُقلِّل من الأثر الكبير الذي يُمكن تحقيقه عن طريق مجموعة من الأنشطة المتكاملة المصمَّمة لاستهداف بضعة جوانب تعليمية شديدة الأهمية. وتوجد الكثير من العيوب المتعلقة بتنمية المهارات يُعاني منها معظم الطلاب الجامعيِّين، ولكن لا يُمكن إنجاز كل شيء في مادة دراسية واحدة، حتى في تلك المواد التي يُدرِّسها معلِّم عظيم مُتفانٍ في تنمية مهارات الطلاب.
أَشْرِك الطلاب دَوْرِيًّا في أنشطةٍ قصيرة لتنمية المهارات: لا يستطيع معظم المعلمين أن يخصصوا محاضرات كاملة لتنمية المهارات؛ وجزء من السبب الذي يجعل الأنشطة القصيرة تستحقُّ الجهد المبذول فيها هو أن التعامل بانتظام مع المشكلات المتعلقة بمهارات التَّعلُّم يخلق توقُّعات؛ فالطلاب يبدءون في استيعاب أنهم يتعلمون المحتوى، ويتعلمون أيضًا طريقة تعلُّمهم للمحتوى، ويَشرعون في زيادة الوعي بأنفسهم باعتبارهم متعلِّمين. وتَعتمد الرسائل التذكيرية المُستمرة والأنشطة القصيرة بعضها على بعض؛ لخلق تأثير مُتراكم أكبر من ذلك التأثير الذي تُحدثه الأنشطة الفردية القائمة بذاتها.
استفد من تلك اللحظات التي يتمتَّع فيها الطلاب باستعداد عالٍ للتعلم: هناك فترات أثناء دراسة المادة يتمتَّع فيها الطلاب باستعداد عالٍ للتعلُّم، وتكون الفترات التي تسبق الاختبارات أو تتلوها مباشرةً هي أكثر الأمثلة وضوحًا على تلك الفترات. وبالإضافة إلى مساعدتهم على تصحيح الأخطاء المعرفية، يُمكن أن تكون هذه الفترات بمنزلة فرصة لاستكشاف الأساليب المتَّبعة للمذاكرة. هل تُعد الاستعانة ببطاقات العرض السريع خيارًا جيدًا لدراسة هذا المحتوى؟ ما المستفاد من إعادة نسخ الملاحظات المُدوَّنة في المحاضرة؟ عندما يتغيَّب الطالب عن المحاضرة ويطلب الملاحظات من طالب آخر، هل يهم مِمَّن يحصل على الملاحظات؟ هل يفهم هذه الملاحظات مثلما يفهم الملاحظات التي يُدوِّنها بنفسه؟ أنت تلاحظ الآن أن المعلم لا يُملي على الطلاب أن يتخلوا عن استخدام بطاقات العرض السريع، أو إعادة كتابة الملاحظات بأسلوبهم الخاص، أو حضور المحاضرات، وإنما يَطرح المعلم الأسئلة التي يشجع بها الطلاب على الاعتراف بما يفعلونه والدفاع عنه.
ادْخُلْ في شَراكة إيجابية مع خبراء مراكز التعلُّم: تقريبًا في كل كلية وجامعة، يستطيع المُدرِّسون أن يدخلوا في شراكة مع خبراء مراكز التَّعلُّم، فمِن الرائع أن تحظى بزملاء هناك يَدعمون ما يعمل أعضاء هيئات التدريس عليه مع الطلاب داخل قاعات الدراسة. وللأسف، بعض أعضاء هيئات التدريس يَعتقِدون أن وجود مراكز التَّعلُّم يُعفيهم من مسئولية العمل مع الطلاب على أوجه القصور الخاصة بالمهارات. وسيُخبرك خبراء مراكز التَّعلُّم بأنهم يعملون على نحوٍ أكثر فاعلية في تنمية مهارات التَّعلُّم عندما يُوحِّدون الجهود مع أعضاء هيئات التدريس، وتُؤكِّد أبحاث كثيرة على صحة هذا الاستنتاج، ويحتوي القسم التالي على أمثلة توضِّح كيف يمكن لهذه الشراكة أن تحقق نجاحًا.

بعض أعضاء هيئات التدريس يُقلِّلون من قيمة الجهود المبذولة في مراكز التَّعلُّم عن طريق تصويرها على أنها مكان لا يَرغب أحد في الذهاب إليه، فتجدُهم يُعلنون داخل قاعات الدراسة قائلين: «أي طالب يحصل في الاختبار على درجة أقل من ستين يجب عليه الذهاب إلى مركز التَّعلُّم ويَحصل على مساعدة من هناك.» «إذا كنتَ تَرتكب جميع أنواع الأخطاء النحوية، يجب أن تأخذ هذه الورقة إلى مركز التَّعلُّم وتصلح مشكلات الكتابة لديك.» وتعليقات كهذه تجعل قرار الحصول على مُساعدةٍ قرارًا سلبيًّا ومُحبِطًا، وكنتيجة لذلك لا يسعى الكثير من الطلاب للحصول على مساعدة.

بالطبع، يجب على الطلاب أن يَنضجوا ويُواجهوا الحقيقة، ولكن معظمنا يعرف من واقع الخبرة أن الطلاب الذين يحتاجون إلى المساعدة لا يَطلبونها عادةً. وإذا كنا نرغب في مساعدة أولئك الطلاب على مواجهة الحقيقة، إذَن يجب أن نفهم، على نحو أفضل، المشكلات المتعلقة بالسعي للحصول على المساعدة. ولطالما أوصيتُ بكتاب كارابينيك الممتاز (١٩٩٨، ومتاح أيضًا ملخَّص له منشور على مدونة www.facultyfocus.com بتاريخ ١١ نوفمبر، ٢٠١١)؛ حيث فرَّق بين هدفَيْن مختلفَين لمن يسعون إلى الحصول على المساعدة: «إنجاز المطلوب»، وهو أن يحصل على إجابات المسائل الرياضية؛ بحيث لا يضطر هو إلى حلِّها، و«معرفة طريقة الإنجاز»، وهي أن يتعلم كيف يؤدي العمل بنفسه.

يَدْرُس كارابينيك وزملاؤه عملية السعي للحصول على المساعدة، ويَستكشفون العوامل التي تؤثر على القرارات في كل خطوة من هذه العملية. تبدأ العملية باعتراف الطلاب بوجود مشكلة، وإدراك أن الحصول على المساعدة قد يخفِّف من حدة هذه المشكلة. والخطوة التالية هي القرار المعقَّد إلى حدٍّ ما، المتمثل في اختيار الحصول على المساعدة. إننا نعيش في ثقافة تُكافئ القدرة على اكتشاف المشكلات بأنفسنا، وإذا لم تَستطع القيام بذلك، فإن طلب المساعدة يُقوِّض الشعور بالكفاءة الشخصية، ويُسبِّب الإحراج، فلعلك تشعر بالإحراج لأنك تحتاج إلى المساعدة، وتخشى أنك حين تطلبها تجد أن الفهم لا يزال مُستعصيًا عليك، أو تجد نفسك غير قادر على التطبيق. وإذا أمكنك التغلب على هذه المشاعر وألزمتَ نفسك بطلب المساعدة، فإن السؤال التالي يتعلق بمَن ينبغي لك أن تطلب منه المساعدة. ولقد درس كارابينيك كلًّا من: المصادر «الرسمية» للمساعدة، كتلك التي يقدمها طاقم العاملين بمراكز التَّعلُّم والأساتذة أثناء ساعات عملهم، والمصادر «غير الرسمية»، كتلك التي يقدمها الطلاب الآخرون أو أفراد الأسرة. إنَّ المصادر غير الرسمية أقل كفاءة في تقديم المساعدة، ولكن طلب المساعدة من تلك المصادر أسهل كثيرًا.

إن قرار عدم السعي للحصول على المساعدة عندما تحتاج إليها هو قرار غير ناضج، ويشي بعدم تحمل المسئولية، ومع ذلك، فهو قرار يتخذه الكثير من الطلاب. غير أن بإمكان المعلمين أن يؤثروا على ذلك القرار؛ فما يقولونه بخصوص الحصول على المساعدة قد يحفِّز الطلاب أو يصدُّهم عن السعي للحصول عليها، فإذا ما قدم المعلمون مراكز التَّعلُّم باعتبارها مورد مساعدة، أي مكان يوجد فيه أشخاص مُتفانون في مساعدة الطلاب على التَّعلُّم، ومكان يراه الكثير من الطلاب مفيدًا بالنسبة إليهم، فإنَّ ذلك يجعل أخذ قرار طلب المساعدة من تلك المراكز أسهل كثيرًا.

قد يظن بعضكم أن هذه محاولة لتدليل الطلاب، وربما يكون الأمر كذلك، ولكن كيف نجعل أعضاء هيئات التدريس، الذين يحتاجون إلى مساعدة بخصوص أسلوب تدريسهم، يسعون إلى الحصول على هذه المساعدة؟ هل نخبرهم بأنهم يحتاجون إليها؟ نظرًا لأن معظم أعضاء هيئات التدريس أكثر نضجًا من الطلاب، فإنهم ربما يسعون إلى الحصول على المساعدة، ولكنهم لا يتحلُّون بتوجُّه إيجابي كثيرًا بخصوص التحسن والتطور. ألسنا جميعًا نعرف بعض الأشخاص الذين أُخبروا بذلك منذ سنوات وما زالوا لم يَحصلوا على المساعدة بعد؟ أنا على استعداد للتدليل على أن هذا سيَجعل الطلاب يعملون على مهارات التَّعلُّم الضرورية لنَجاحهم في الدراسة الجامعية.

استخدمْ موادَّ إضافيةً لدعم تنمية مهارات التَّعلُّم: جميع أنواع المواد الإضافية مُتاحة للطلاب ليستعينوا بها أثناء المضيِّ قدمًا في سبيل تنمية مهارات التَّعلُّم لديهم. ويمكن تخصيص استخدام هذه المواد العلمية خارج قاعة الدراسة، وهذا يعني أنها لا تَستغرق من وقت المحاضرة التقليدية، كما أن هناك فائدة إضافية تتمثَّل في أن الاستعانة بها تشجع الطلاب على تحمل مسئولية تنمية مهاراتهم. يستطيع المعلمون أن يطوِّروا بعض هذه المواد الإضافية، والميزة في ذلك أن المواد التي يُطوِّرها المعلمون يمكن أن تستهدف المهارات اللازمة لدراسة المادة، ويمكن تطويرها لدعم واجبات دراسية وأنشطة بعينها. يحتوي الملحق الثاني على مجموعة متنوعة من العينات التي طوَّرها المعلمون، وجميعها يُقدِّم نصيحة جيدة (بعضها نصائح محدَّدة، والبعض الآخر نصائح عامة أكثر) بأسلوب راقٍ يحوز على الاحترام.

عيب المواد الإضافية التي يُطوِّرها المعلمون أنها تَستغرق وقتًا لابتكارها، ولا تَظهر تلك المشكلة مع الموارد المطوَّرة بطريقة احترافية، والكثير منها متاح أيضًا؛ فبعضها متاح على المستوى التجاري، ويجب شراؤه. وتتمثَّل الميزة في أن هذه المصادر لها سجلٌّ تتبُّعي تجريبي، ويُمكن أن تقدم مرجعًا لقياس مستوى مهارات كل طالب على حدة، وكذلك مهارات الفرقة ككل. إنني أُوصي باستمرار بقوائم مثل «قائمة التَّعلُّم ومهارات المذاكرة» (المعروفة أيضًا باسم استبيان استراتيجيات التَّعلُّم والمذاكرة؛ فاينشتاين وشولت وبالمر، ١٩٨٧)، التي تعطي الطلاب نظرة عامة وشاملة وبنَّاءة عن مهارات المذاكرة لديهم. كما أنني أوصي بقائمة التصورات والتوقعات والانفعالات والمعارف الخاصة بالدراسة الجامعية (فاينشتاين وبالمر وهانسون، ١٩٩٥)، التي تساعد الطلاب على تقييم أفكارهم ومعتقداتهم وتوقعاتهم بخصوص التغيرات الشخصية والاجتماعية والأكاديمية، التي من المحتمل أن تحدث أثناء فترة الدراسة الجامعية. إنها أداة رائعة لمساعدة الطلاب على تبنِّي توقعات دقيقة بخصوص ما يستلزم تحقيق النجاح في الدراسة الجامعية، ويَمتلك طاقم العاملين بالمراكز التعليمية عادةً مجموعة من الاستطلاعات والقوائم، كتلك المذكورة آنفًا؛ بحيث يمكنهم التوصية بها، وأحيانًا يقدِّمون النتائج ويُسجِّلونها ويُناقِشونها مع الطلاب.

ويَذكر كتابِي «التدريس الجامعي المُلهِم» (وايمر، ٢٠١٠) مصدرًا آخر للمواد الإضافية، في الفصل الرابع المعنون: «تقييم للمعلمين يُحسِّن مستوى عملية التَّعلُّم بالنسبة إلى الطلاب». ويُقدِّم الفصل مراجع ووصفًا لمجموعة متنوِّعة من الأدوات المُطورة لاستخدامها في المشاريع البحثية. وفي ذلك الكتاب، أوصي أعضاء هيئات التدريس بالاستعانة بها باعتبارها أساليب بنَّاءة للتقييم؛ حيث تُقدِّم هذه الأدوات رُؤًى قيمة عن الطلاب وعملية التَّعلُّم، وتأثير طريقة التدريس على كليهما، غير أن النتائج الواقعية تُنمِّي أيضًا وعي الطلاب، على نحو فعَّال، بأنفسهم كمُتعلمين. على سبيل المثال، يُوجد استبيان يُحدِّد خصائص الواجبات الدراسية التي تُشجِّع على المماطلة والتسويف (إيكرمان وجروس، ٢٠٠٥). إن الدراسة المتأنية لهذه الخصائص تُقدِّم لكلٍّ من أعضاء هيئات التدريس والطلاب معلومات مفيدة.

(٦) استراتيجيات تُنَمِّي مهارات التَّعلُّم

الهدف من وراء هذه المجموعة من الأمثلة هو إبراز التطبيقات العملية لهذه الخطوط الإرشادية؛ حيث تُركِّز معظم هذه المجموعة على تنمية مهارات التَّعلُّم الأساسية، تلك المهارات التي يَفتقر إليها الطلاب عادةً. ومعظمها يسهل تطبيقه حتى بالنسبة إلى المعلمين المُستجدِّين على أسلوب التدريس الهادف لتنمية مهارات التَّعلُّم مباشرةً. ويُمكنك أن تُنوِّع في الفترات الزمنية المخصصة لتنمية هذه المهارات استنادًا إلى الظروف المتاحة، والبعض منها سيؤتي ثماره في أطُر زمنية قصيرة.

تنمية مهارات القراءة: إنه اليوم الأول لمحاضرات مادة أساسية للطلاب المستجدِّين، وتجد كثيرين منهم يَفتقرون إلى مهارات القراءة الضرورية لمستوى الدراسة الجامعية، ومِن ثم، تُحدِّد واجبًا دراسيًّا خاصًّا بالقراءة وتَطلُب من الطلاب أن يُحضروا كتبهم في المحاضرة التالية، ويُنجزوا هذا الواجب قبل المجيء إلى المحاضرة. في اليوم التالي، تفتح الكتاب على الصفحة رقم ٣، مبينًا للطلاب أنك وضعت خطًّا تحت الجملة الثانية من الفقرة الأولى. وإذا كان طلابك كمُعظم الطلاب الجامعيِّين، فلن تجد الكثير من الكتب في قاعة الدراسة، ولكن ستجد الطلاب يتحمَّسون في ابتهاج متسائلين: «أي صفحة كانت هذه؟ أي فقرة؟» هكذا يلاحظ معظم الطلاب ما الذي وضعتَ تحته خطًّا، ولك أن تتخيل عدد الكتب الهائل الذي تجد فيه خطًّا تحت هذه الجملة بالذات بعد هذه المحاضرة.

تتَّضح تبعات ذلك في المحاضرة التالية؛ إذ تُلاحظ الآن عددًا كبيرًا من الكتب وأقلام التحديد في يد الطلاب. يظنُّ الطلاب أن هذه المحاضرة هي محاضرة أحلامهم؛ فتلك المحاضرة التي يخبرهم فيها المعلم بما يضعون تحته خطًّا في الكتاب بالضبط، ولكنها ليست كذلك؛ فاليوم لديك طلاب قرءوا الصفحات من ٣٦ وحتى ٣٩، وتسألهم عما وضعوا تحته خطًّا، لتجد نفسك تعلِّق عليهم: «لقد وضعت خطًّا تحت كل شيء موجود في صفحة ٣٦؟ هل كل المعلومات تتساوى في مستوى الأهمية؟ إذَن، دعونا نتحدَّث لبضع دقائق بخصوص ما تُقرِّرون وضع خط تحته.»

وفي اليوم الثالث، تُلقي محاضرة قصيرة. يتبعها مجموعة من الأسئلة على غرار: «إلى أي مدًى يوجد رابط بين المادة العلمية التي أُقدِّمها لكم وبين ما قرأتموه الليلة الماضية؟ هيا نُلقي نظرة عما إذا كان بإمكاننا توضيح العلاقة! هل ما قلته يُناقض ما هو مذكور في الكتاب أو يتَّفق معه؟ هل قدمتُ أمثلةً لتوضيح المفاهيم المعروضة في الكتاب؟ هل كررتُ ما هو مذكور في الكتاب؟ لماذا قد يمثل فهم العلاقة بين المادة العلمية المقدمة في المحاضرة والمادة العلمية المذكورة في الكتاب أمرًا مهمًّا؟»

لا يمكنُك أن تُنمِّي مهارات قراءة متطورة خلال ثلاث محاضرات قصيرة كهذه، ولكنك تبدأ عملية تنمية المهارات على أي حال، وإذا قارن الطلاب بانتظام «الطريقة» التي يُمارسون بها مهارة القراءة، وكذلك ما يخرجون به من هذه القراءات، فإن الوعي لديهم يزداد. وإذا كنتَ على استعداد لتخصيص المزيد من الوقت والطاقة لاكتساب مهارات قراءة جيدة، بل ومتطوِّرة، يوجد عدد من التوصيفات الرائعة للواجبات الدراسية التي يمكن التوصية بها (هاورد، ٢٠٠٤، يامان، ٢٠٠٦، روبرتس وروبرتس، ٢٠٠٨، توماسيك، ٢٠٠٩، باروت وشيري، ٢٠١١). وتحتوي هذه المقالات على أوصاف تفصيلية للواجبات الدراسية والأنشطة المرتبطة بها. لا تقلق من أن هذه المقالات كتبها أعضاء هيئات التدريس في تخصُّصات دراسية أخرى. وأستطيع أن أؤكد لك أن هذه التصميمات الخاصة بالواجبات الدراسية ستُحقِّق نجاحًا مع مجموعة متنوعة من النصوص، ونوعيات أخرى من الواجبات الدراسية الخاصة بالقراءات. وأفضل ما في الأمر على الإطلاق أنها تُشرِك الطلاب في عمل يُنمِّي مهارات القراءة لديهم، ويجعلهم يَحضرون المحاضرات وقد انتهوا من قراءة الأجزاء المطلوبة، وعلى استعداد لمناقشتها معك.

تُوضِّح هذه الطرق الخاصة بتنمية مهارات القراءة بضعة جوانب خاصة بالتدريس المُتمركِز حول المتعلم، سبق التنويه إليها من قبل، وجديرة بإعادة ذكرها مرةً أخرى؛ فمُعظم الطلاب لا يأتون إلى المحاضرات وقد انتهوا من قراءة الأجزاء المطلوبة فقط لأن المعلم طلب منهم ذلك؛ فلقد طُلب منهم ذلك في الكثير من المواد الأخرى، ولكنهم اكتشفوا أنه لا شيء يَحدُث إذا ما جاءوا المحاضرة دون التحضير المطلوب. وفي بعض هذه المواد استطاعوا الحصول على تقدير جيد جدًّا في الاختبارات دون تأدية الواجبات المتعلقة بالقراءة من الأساس. ولكن إذا ما حضروا هذه المحاضرات التي يستغلُّ فيها المعلم تلك القراءات بالإشارة إلى صفحات معينة، ومناقشة النقاط المذكورة فيها، فإن هذا التصرف يَنقل رسائل تُشدِّد على أهمية الكتاب الدراسي. كما أنه يوضِّح أيضًا أن الإقلال من التلقين والإكثار من التطبيق العملي قد يُهيِّئ مناخًا يشجع الطلاب على تحمُّل المزيد من المسئوليات؛ إذ يَحضرون المحاضرات ومعهم كتبهم، ويضعون خطًّا وعلامة إلى جوار الفقرات التي نُوقشت في قاعة المحاضرات. في الواقع، بعض الطلاب يؤدُّون الواجبات الخاصة بالقراءة قبل المجيء إلى المحاضرة، وواجبات دراسية كهذه تُعدُّ مثالًا آخر على الدمج الناجح بين المعرفة وتنمية المهارات، فالطلاب يقرءون المحتوى الذي يجب عليهم تعلمه، ويتعلمون كيف يقرءون بطرق تُسهِّل عليهم عملية التَّعلُّم أيضًا.

الدخول في شراكة مع مراكز التَّعلُّم: لديَّ زميل يُدرِّس مادة التاريخ دعا إحدى الموظَّفات بمركزٍ للتعلم لحضور محاضرة له. قدَّم هذا الزميل المادة العلمية، بينما جلس الطلاب وهذه الموظفة يُدوِّنون الملاحظات. قدم الطلاب نسخة من ملاحظاتهم إلى الموظَّفة التي حضرت المحاضرة التالية، ومعها بعض التقييمات على تلك الملاحظات مشتملةً على أمثلة (نموذجية وأخرى بعيدة عن كونها نموذجية) من ملاحظاتهم وملاحظاتها الخاصة. وُزِّعت مادة علمية بخصوص استراتيجيات تدوين الملاحظات المتنوعة، ونُوقِشت بإيجاز، واستغرق العرض التقديمي حوالي عشرين دقيقة. استغلَّ المحاضر هذه المناسبة لتنمية مهارات تدوين الملاحظات، ولجعل الطلاب مطلعين على كافة الطرق التي تستطيع بها مراكز التَّعلُّم دعم جهودهم للتعلم.

ونشاط كهذا يُمكن أن يُصاغ ليتناسب مع مناسبات وفعاليات دراسية أخرى؛ مثل الاختبارات، فقبل خوض الاختبار يَستطيع الطلاب، ربما عبر شبكة الإنترنت، أن يَصِفوا بإيجاز كيف استعدوا للاختبار، وربما يستعرض أحد موظَّفي مركز التَّعلُّم الوصف الخاص بهم، بالإضافة إلى النتائج الإجمالية للاختبار ومناقشتها، والهدف من النقاش هو الإجابة عن هذا السؤال: استنادًا إلى ما تعرفه حاليًّا بخصوص الاختبارات في هذه المادة، ما أفضل طريقة للاستعداد لخوض الاختبار التالي؟ أو قد تنتهي محاضرة المراجعة قبل الاختبار بخمس دقائق من النصائح (الموضَّحة بمزيد من الاستفاضة في المواد الإضافية المنشورة على الموقع الإلكتروني الخاص بالمادة) بخصوص التعامل مع قلق الامتحانات.

الإلمام بفكرة تعلُّم الطلاب بعضهم من بعض: أحيانًا تكون الرسائل الخاصة بطريقة التَّعلُّم أكثر فاعلية حين تأتي من شخص آخر غير أستاذ المادة. طلب أحد أساتذة مادة الفيزياء — الذي حضرت له محاضرة ذات مرة بهدف رصْد أسلوب التدريس — من الطلاب الذين أبلوا بلاءً حسنًا في اختبار مادة الفيزياء أثناء الفصل الدراسي السابق، أن يَكتبوا مجموعة من المقترحات الخاصة بالمذاكرة لطلاب الفرقة التالية، ثم وزَّع هذه المقترحات في الأسبوع الذي سبَق الاختبار، مع وضع درجات المادة الخاصة بالطلاب السابقين المشاركين (كان قد حصَل بالطبع على الإذن منهم)، ولقد كنتُ حاضرة صدفةً في محاضرته في ذلك اليوم الذي قام فيه بتوزيع هذه المادة العلمية. كان رد ُّفعل الطلاب رائعًا جدًّا؛ إذ قرأ الجميع مذكرة المُقتَرحات، ووضعها الطلاب بحرص في حقائب الدفاتر والكتب خاصتهم. خمِّن ما نوعية النصائح التي أسداها الطلاب السابقون؟ كانت النصائح عبارة عن الجمل المعتادة التي يردِّدها المعلمون بانتظام! جمل على غرار: «احرصوا على حل مسائل الواجبات الدراسية كل ليلة، لا تَنتظروا وتحاولوا حل جميع المسائل في ليلة الامتحان.» «أفضل طريقة للاستعداد للامتحان هي حل المسائل العملية.» «لا تُفوِّتوا هذه المحاضرة! يجب أن تُشاهدوا المعلم وهو يحلُّ المسائل.» «اطرحوا الأسئلة داخل قاعة الدراسة.» «اطلبوا منه حلَّ المزيد من المسائل إذا لم تَفهموها.»

يطلب بعض أعضاء هيئة التدريس من طلاب إحدى المواد أن يكتبوا خطابات لطلاب الفصل الدراسي التالي. وتُقدِّم هذه الخطابات للمعلمين تقييمًا رائعًا، كما أنها مُهمة بالقدر نفسه بالنسبة إلى الطلاب الذين يَدرسون المادة. ويمكن تحضير مذكرة ممتازة من المقتطفات المُجمعة، أو يُمكن نشر هذه المقتطفات على الموقع الإلكتروني الخاص بالمادة أو إضافتها إلى خطة المنهج الدراسي. يدعو عضو آخَر بأعضاء هيئات التدريس ثلاثة أو أربعة طلاب من فرقة سابقة لحضور أولى محاضرات الفرقة الجديدة، وبعد أن يُقدِّم هذه النخبة من الطلاب إلى الفرقة الدراسية ويُوضِّح أن كل طالب منهم أبلى بلاءً حسنًا في المادة، ثم يُشجِّع الطلاب الحاليِّين أن يطرحوا أسئلة مُتعلقة بالمادة على هذه النخبة. ومن أجل ضمان أن الطلاب يَطرحون أكثر الأسئلة التي يحتاجون إلى الإجابة عنها، يترك المعلم قاعة الدراسة، مُخصِّصًا الخمس عشرة دقيقة الأخيرة من زمن المحاضرة لهذا النقاش. وكما اكتشفتُ حين جربتُ هذه الاستراتيجية، فإن الأمر يتطلَّب قدرًا كبيرًا من الشجاعة للسماح بإجراء هذا النقاش دون أن يكونَ المدرس داخل قاعة الدراسة، وهذا يستلزم أيضًا اختيار نخبة الطلاب بعناية، إلا أن هذا الأسلوب يُضفي قدرًا معينًا من الموثوقية على النقاش. إنني أقلق من احتمال أن يَعتبر الطلاب هذا النقاش فرصةً للخروج مبكرًا من قاعة الدراسة، ولكن في كلتا الحالتين اللتَين استعنتُ فيهما بهذه الاستراتيجية، استمر النقاش حتى نهاية المحاضرة.

السؤال التعليمي: هذه استراتيجية أخرى قد تستغرق فترة قصيرة جدًّا، ولكنها تكون فعَّالة جدًّا عند تطبيقها بانتظام، أُطلق عليها «السؤال التعليمي»، وهو ما أخبر الطلاب بأنه عبارة عن سؤال تشجيعي ليس معنيًّا بما يتعلمونه في حد ذاته وإنما معنيٌّ بالاستفسار عما يتعلمونه عن أنفسهم كمتعلمين. إنني أطرح هذا السؤال التعليمي بعد انتهاء معظم الفعاليات الدراسية؛ حيث أطرح أسئلةً على غرار: «إذَن، ماذا تعلمتم من العمل مع الطلاب الآخرين في مجموعة الاختبار الجماعي؟» «إذَن، ماذا تعلمتم عن المناقشة من المناظرة التي أجريناها أمس؟» «هل تعلمتم أي شيء بخصوص التوصل إلى استنتاجات من نتائجكم في اختبار الاستدلال النقدي؟» وفي بعض الأحيان أكتب السؤال التعليمي على السبورة، وأشير إليه عند بدء المحاضرة، وأطلُب من الطلاب التزام الصمت لمدة ثلاثين ثانية ليُفكِّروا في هذا السؤال التشجيعي وطريقة إجابتهم عنه. وأحيانًا، أجعلهم يُدوِّنون إجاباتهم، ثم أجمعها منهم. واستنادًا إلى الوقت المتاح أمامي أقرأ جميع الإجابات أو بعضها، وربما أشارك عددًا من أفكارهم النَّيِّرة في المحاضرة التالية. إنها استراتيجية بسيطة يمكن الاستعانة بها بعدة طرق مختلفة. وكلما زادت الطرق والمرات التي يُستعان فيها بهذه الاستراتيجية، زادت فاعلية تأكيدها على الرسالة الضمنية التي مفادها أنك متعلِّم تتمتَّع بمجموعة من مهارات التَّعلُّم التي تستطيع أن تكتشفها وتُنمِّيها بنفسك.
التَّعلُّم من نتائج الاختبارات: يَخضع الطلاب لاختبارات يضعها المعلمون؛ لأنهم يجب أن يصدقوا رسميًّا على ما إذا كان الطلاب قد أتقنوا المادة العلمية أم لا، إلا أن تجربة الاختبارات تُعدُّ فرصة للتَّعلُّم؛ أي لتعلم محتوى المادة الدراسية ومهارات التَّعلُّم الأكثر تطورًا، فالاختبارات تشجع الطلاب على التَّعلُّم، ويناقش الفصل السابع طرق تعظيم إمكانية التَّعلُّم من الاختبارات، التي من بينها أنشطة المراجعة والخضوع للاختبار في حد ذاته، ومراجعة الإجابات عند إعادة أوراق الإجابة على الاختبار بعد تصحيحها.

وفي هذا المقام، أودُّ أن أُلقي الضوء على بعض الاستراتيجيات التي يُمكن الاستعانة بها لمساعدة الطلاب على مواجهة ما ينبغي لهم تعلمه من نتائج الاختبارات، لا سيما حين تكون النتائج غير جيدة. فعندما لا يُبلي الطلاب بلاءً حسنًا في الاختبارات، يكون هناك نزعة لإلقاء اللوم على الامتحان نفسه لتبرير النتيجة؛ تبريرات مثل: الأسئلة كانت خادعة، أو لم تكن مثل الأسئلة الواردة في الواجب المنزلي، أو كانت مُفرطة الصعوبة، أو غير متوقَّعة. ربما تكون هذه التبريرات حقيقية أحيانًا، ولكن في أغلب الأحيان تكون الأسباب الكامنة وراء ضعف مستوى الأداء مُتعلِّقة بطريقة استعداد الطلاب للاختبار (أو بالأحرى عدم استعدادهم له). كان من المُمكن ذكر هذه الأسباب في الفصل السابع، إلا أنني ذكرتُها هنا؛ لأنها توضِّح مجموعة أخرى من الأنشطة المباشرة القصيرة التي تُواجه الطلاب بعواقب اتخاذ الإجراءات أو عدم اتخاذها.

وكما هو موضَّح في الفصل السابع، أنا لا «أَستعرض سريعًا» الأجزاء التي كثيرًا ما يُغفَل عنها، فالطلاب هم مَن يقومون بذلك؛ لأنهم هم من يَغفلون ويُفوِّتون تلك الأجزاء، لا أنا. يبدأ الطلاب بإعداد قائمة برقم كل سؤال من الأسئلة الواردة في الاختبار، التي أخفَقوا في الإجابة عنها. ثم أُحدِّد أربعة أو خمسة أسئلة كثيرًا ما يَفوت الطلاب الإجابة عنها، وأشير إلى اليوم الذي قُدِّمَ فيه ذلك المحتوى داخل قاعة الدراسة، وأجعل الطلاب يُلقون نظرة على ملاحظاتهم التي دوَّنوها في تلك الأيام: هل كانوا موجودين في قاعة الدراسة؟ هل حصلوا على الملاحظات من طالبٍ آخَر؟ هل حصلوا على ما احتاجوا إليه من هذه الملاحظات (أو الملاحظات الخاصة بالطالب الآخر) للإجابة عن السؤال؟ إنني أستعين بهذا النشاط؛ للتصدِّي للاعتقاد المترسِّخ على نطاق واسع لدى الطلاب، بأنه يُمكنك أن تُفوِّت محاضرة، وتَحصل على ملاحظات دَوَّنها أحدهم، وتُغطِّي النقاط التي عُرضت في هذه المحاضرة، وتُقارن مدى فاعلية (أو في أغلب الأحيان عدم فاعلية) الممارسات الخاصة بتدوين الطلاب للملاحظات.

بعد ذلك يَسترجع الطلاب قائمة الأسئلة التي أغفلوا عنها، وأقرأ القائمة الخاصة بأرقام أسئلة الاختبار التي جاءت مباشَرة من الكتاب الدراسي، وأطرح عليهم هذا السؤال: «هل أخفقتُم في الإجابة عن الأسئلة التي تغطي المادة العلمية المقدمة داخل قاعة الدراسة أو الأسئلة الخاصة بالمادة العلمية التي يُغطيها الكتاب الدراسي؟» وفي معظم الوقت، يفوت الطلاب الأسئلة التي تأتي من الكتاب الدراسي أكثر. أطلب من الطلاب الذين لم يُفوتوا الكثير من أسئلة الكتاب أن يُطلعوا الطلاب الآخرين على طريقة مذاكرتهم للكتاب الدراسي. وأسألهم كم منهم انتظر حتى ليلة الامتحان ليؤدي الواجب المنزلي الخاص بالقراءة. أحيانًا، يعزو أحد الطلاب مستوى أدائه الجيد للحظ السعيد. فأسألهم قائلة: «كم واحدًا منكم راضٍ عن إيعاز نجاحه في هذا الاختبار لضربة الحظ؟» و«هل تعتبرون الحظ شيئًا ترغبون في الاعتماد عليه في الاختبارات القادمة؟»

في النهاية، أجعل الطلاب يُلقون نظرةً على تلك الأسئلة التي غيَّروا إجابتهم عنها وعدد المرات التي أخفَقوا فيها عن الإجابة، أو أجابوا فيها بإجابة صحيحة بعد أن غيَّروا الإجابة. (وإذا كانت الاختبارات قد أُجريت على شبكة الإنترنت، فلربما عجز الطلاب عن تتبُّع هذه التغيرات). وأتحدث معهم قليلًا عن نتائج الأبحاث المُتباينة حول هذه النقطة، وأُشجِّع الطلاب على إجراء تقييم فرديٍّ لهذا الاختبار والاختبارات التالية في هذه المادة، واختبارات المواد الأخرى. والمتعلمون الماهرون يعرفون ما إذا كان من المفيد أن يُغيِّروا الإجابات حين لا يعرفون الإجابة أو حين لا يستطيعون تحديدها.

وفي نهاية محاضرة تصحيح إجابات الاختبار (التي تشتمل على أنشطة أخرى مذكورة في الفصل السابع)، أجعل الطلاب يَكتُبون ملاحظة قصيرة بهذا الشكل:
مِن: أنا
إلى: أنا
بخصوص: الأشياء التي تعلمتُها من هذا الاختبار، التي أودُّ أن أتذكرها عند الاستعداد للاختبار التالي.

معظم الطلاب يَستحضِرون هذا الهدف أثناء الدقائق الخمس المُخصَّصة لأداء ذلك النشاط الكتابي. أجمع هذه الملاحظات القصيرة، وربما أقرأ عددًا منها، ولكني لا أُعطي درجةً عليها. أعيدها إليهم في بداية محاضرة المراجعة للاختبار التالي، وتُراجع أغلبية طلاب الفرقة ما كتبوه باهتمام بالغ.

الكتابة من أجل التَّعلُّم وتعلم الكتابة: أنا من كبار مؤيدي فكرة سِجِلِّ سَيْرِ التَّعلُّم؛ حيث يمكن الاستعانة به لتحقيق مجموعة متنوعة من أهداف المادة الدراسية. وكما تعلمنا من حركة تضمين نشاط الكتابة في المناهج الدراسية، عندما يَكتب الطلاب عن المحتوى، فإنهم يَنخرطون في نشاط يساعدهم على تعلم المحتوى ويُحسِّن من مستوى مهارات الكتابة لديهم. ويتميز سِجِلُّ سير التَّعلُّم بفاعلية استثنائية لتنمية الوعي بالذات لدى المتعلم؛ حيث يستطيع الطلاب أن يكتبوا عن نشاطٍ حدث داخل قاعة الدراسة؛ فعلى سبيل المثال، بعد الانتهاء من تدريب جماعي، يمكنهم أن يُلخِّصوا ما قررته المجموعة أو أنتجته، ويمكنهم أن يكتبوا عن مستوى إجادة المجموعة للعمل، بل والأهمُّ من ذلك، يمكن أن يُسْأَلوا عما أنجزوه عن طريق المشاركة بالعمل الجماعي، ما الذي أسهموا به؟ وكيف ساعدوا المجموعة؟ هل كان هناك شيء يَتمنون إنجازه بطريقة مختلفة بعد أن انتهوا من النشاط؟ إنَّ نجاح سجلِّ سَير التَّعلُّم في تشجيع هذا النوع من الأفكار المُلهمة يعتمد على الأسئلة التشجيعية. وكما تعلمت، فالأمر يستغرق وقتًا ومراجَعات متكرِّرة للتوصُّل إلى أسئلة تشجيعية تحثُّ على الوعي الذاتي، ولكن حين تكون الأسئلة التشجيعية ذات مستوًى جيد، فإنَّ هذا يُسْفِر باستمرار عن أفكار مُلهِمة رائعة.

الكثير من المعلمين يتجنَّبون سجلات سَير التَّعلُّم؛ لأنها تستهلك وقتًا طويلًا لقراءتها، ويَصعب وَضْع درجات عليها، خاصة حين يَكتب الطلاب عن مشاعرهم أو آرائهم أو تجاربهم. وبعض المعلمين لا يستطيع أن يتخيل كيف ستُؤتي سجِلَّات سير التَّعلُّم ثمارَها في مواد دراسية يكون فيها النشاط الأساسي هو حل المسائل مثلًا. ويقدم مهراج وبانتا (٢٠٠٠) مثالًا ممتازًا على واجب دراسي مدوَّن في سجلِّ سير التَّعلُّم طُوِّر واستُخدِم في دراسة إحدى مواد الميكانيكا الهندسية.

طوَّر معلمون آخرون طرقًا فعالة للتعامل مع الواجبات الدراسية الخاصة بسجلِّ سَير التَّعلُّم. من الممكن تجميعها في عدة أوقات محدَّدة، لا كل يوم، ويمكن التحكم في عدد الواجبات الدراسية الكتابية وطولها، ولا يجب أن تُقرأ وتُصحَّح بنفس صرامة الأوراق البحثية. إنني أقرأ المُدْخَلات المسجلة في سجلِّ سير التَّعلُّم من آنٍ لآخر وأضع حدًّا لعدد التعليقات التي أتركها. ولقد حالَفَني الحظ في استخدام استراتيجيةٍ شارَكني إياها أحد الزملاء قائمةً على النصيحة التالية: لا تَكتب تعليقات، اكتب أسئلة، ثم دع الطلاب يسجلون إجابتهم عن واحد من الأسئلة أو جميعها. ويُمكن وضع تقييمات لمُدْخَلات سجل سير التَّعلُّم وَفق قواعد تقيم مجموعة كاملة من المُدْخَلات، مقارنةً بكل مُدْخَل فردي على حدة.

ويَقترح مقالان حديثان أن يُراجع الطلاب مجموعة من المُدْخَلات الخاصة بسجلِّ سَير التَّعلُّم (وفي كلتا الحالتين كان الطلاب قد كتبوا عن الواجبات الدراسية الخاصة بالقراءة)، ثم يقدِّمون بحثًا يُعبِّرون فيه عن كيف تغيرت طريقة تفكيرهم في محتوى المادة الدراسية، وكيف زاد استيعابهم لموضوعات معيَّنة، وعن أي أدلة تُثبت نضوجهم وتطورهم كمفكِّرين (هَد وسمارت وديلوراي، ٢٠١١؛ باروت وشيري، ٢٠١١). هذا البحث الأخير هو ما يُصحِّحه المعلم ويَضَع عليه تقديرات. إنَّ التصميم المدروس لكتابة مُدْخَلات سجل سَير التَّعلُّم يُمكن أن يُسْفِر عن واجب دراسي يُشجِّع التَّعلُّم على عدة مستويات، كما أنه يخضع لسيطرة المعلمين.

(٧) مشكلات التطبيق

أهم وأصعب سؤال يَبرز أمامنا حين نشرع في «استغلال» المحتوى بدلًا من «تغطيته» هو: «ما القدر الكافي من المحتوى؟» على الرغم من أنني كتبتُ عن هذا الأمر باستفاضة في هذا الفصل، فإنه لا يَزال باستطاعتي أن أكتب قسمًا آخر عن أهمية هذا السؤال، وإلى أي مدًى يجب أن يُطرَح هذا السؤال، وإلى أي مدًى تَنقصنا الإجابات. إن الافتقار إلى الإجابات هو أمر مُزعج للغاية عند إحداث التغيُّرات على أرض الواقع، لكن يَنتهي المطاف بتغطية قدر أقل مِن المحتوى. وهنا يُساورنا القلق حيال ما أغفلنا عن تغطيته من المحتوى، ونتساءل عما إذا كان ينبغي لنا الشعور بالذنب، لا سيما حين نرغب حقًّا في حذف المزيد من المحتوى في ضوء جودة هذه الأساليب الجديدة في إشراك الطلاب في عملية التَّعلُّم. لكن بدلًا من أن نعيد التفكير في سؤال طُرِحَ بالفعل، دعونا نفكر في سؤال آخر وثيق الصلة به.

(٧-١) كيف نُغيِّر التوجهات السائدة حيال وظيفة المحتوى؟

بالنسبة إلى معظمنا ممن طبقوا أساليب التدريس المُتمركِز حول المتعلم، ولاحظوا نوعية النتائج التي أسفرت عنها هذه الأساليب، فإن التحول من تغطية المنهج إلى استغلاله وتوظيفه هو أمر منطقي، ولكنه ليس بتغيير منطقي بالنسبة إلى الكثير من زملائنا. وعلى الرغم من أنَّ مُناقشة عملية التَّعلُّم مستمرة عبر قطاع التعليم العالي، لا أظن أنني سمعتُ أحدًا من قبل يقترح أن تنمية مهارات التَّعلُّم قد تتسم بالقدر الكافي من الأهمية لتُبرِّر تغطية قدر أقل من المحتوى. كيف يتسنى للطلاب أن يتعلموا المزيد إذا ما غطيت قدرًا أقل من المحتوى؟ السؤال هنا يتعلق بكيفية تغيير هذه التوجُّهات المترسِّخة منذ زمن طويل حيال المحتوى؛ لأنَّ تغطية قدر أقل من المحتوى سيكون قرارًا يَنطوي على مخاطرة حتى تتغير هذه التوجُّهات، وهو ما يَعني من الناحية الواقعية أن بعض الملتزمين منا بهذه الأساليب سيَحذفون جزءًا من المحتوى، ولكن ليس بالقدر الذي يُمكننا أن نحذفه، أو بالقدر الذي ينبغي أن نحذفه.

لا يُمكنني التفكير في طريقة سهلة لتغيير التوجهات السائدة حيال المحتوى، ولكن هذا لا يُعفينا من المحاولة، وهناك أشياء يمكننا أن نُجربها؛ أولًا: على أولئك الذين يوظِّفون المحتوى لتنمية المعرفة والمهارات أن يكونوا قادِرين على وصفِ وتوثيق ما يحدث حين نفعل ذلك. كيف يستجيب الطلاب؟ وكيف يتغير أداؤهم في الاختبارات وإعداد الأبحاث والمشاركة في العمل الجماعي وداخل قاعة الدراسة؟ هل تدعم أدبيات البحوث التربوية والممارسات العملية للمُعلمين الآخرين ما نلاحظ حدوثه داخل قاعاتنا الدراسية؟ ما أقترحه هنا هو تجاوز مجرد إخبار الزملاء بمدى روعة الفكرة، وأنه ليس هناك ما يضاهيها في الروعة. وعلى الرغم من أنَّ تجاربنا داخل قاعة الدراسة قد غيرت الطريقة التي يُفكِّر بها الكثيرون منا في المحتوى والمهارات وعملية التَّعلُّم تغيرًا ملحوظًا، فإن هذا لا يعني أن تجاربنا مقنعة تمامًا للآخرين. إننا ننتمي لثقافة تُكافئ الأدلة والبراهين المادية وتُبديها على المزاعم والادعاءات. وسنُعيد طرح هذه الفكرة في الفصل الثامن الذي يتناول موضوع المقاومة؛ فالبراهين تتغلَّب على المقاومة أفضل من أي شيء آخَر.

على الجانب الآخر، ينبغي ألا ندع الزملاء يتجاهلون الأفكار المُتمركِزة حول المتعلم بتصريحاتٍ تدعو إلى تدريس مواد خالية من المحتوى تمامًا. لا أعرف معلِّمًا يتبع أسلوب التدريس المُتمركِز حول المتعلم يدعو إلى تدريس مواد دون وجود قدر وافرٍ من المحتوى، ولم أقرأ بحثًا تربويًّا عن الموضوع يدعو إلى ذلك أيضًا. إن الحُجج التي ألقَيتُ الضوء عليها في افتتاحية هذا الفصل ذات أهمية، وتجعلني لا أملُّ من تكرارها. يواصل المحتوى الموجودُ في كل تخصُّصٍ الازديادَ، ولا نستطيع على الأرجح تدريس الطلاب كل شيء يَحتاجون إلى معرفته. ولقد غيَّرت التكنولوجيا أيضًا من دور المحتوى، سواء أكانت الممارسات العملية الحالية تَعترف بذلك التغيير أم تُنكره. وحتى مع وجود الأسباب الوجيهة والأدلة، فلستُ مُتأكدةً من أن هذه المناقشات ستُحقِّق نجاحًا.

في كثير من الأحيان، أسمع نفسي أتحدى الزملاء ليُجرِّبوا بعضًا من هذه الأساليب ويروا بأنفسهم إذا ما كانت ستُحقِّق نجاحًا، وإلى أي مدًى سيكون ذلك النجاح، ومفتاح النجاح هنا هو القدرة على اقتراح بعض الأساليب البسيطة التي يَسهل تطبيقها على أرض الواقع، وتتمتَّع بفُرص نجاح عالية. وستجد بعضًا من هذه الأساليب في الفصل التاسع. إنَّ تحديد ما توصي به يستند إلى معرفتك بالزميل وبمَوقفه حيال التدريس. والأهم من ذلك أن نجاح التوصيات يَزداد إذا كان المُوصِي بها يتمتَّع بقدر من الخبرة في إنجاحها.

(٧-٢) إنجاح الاستراتيجيات من وجهة نظري

هذه المشكلة، على وجه الخصوص، من مشكلات التطبيق مُرتبطة بكل أساليب التدريس المُتمركِز حول المتعلم. ومن المُناسب أن نُناقشها هنا؛ لأنَّ التغيير الحتمي يصير أكثر ضرورة حين نتحدث عن المحتوى. والكثير من أعضاء هيئات التدريس لا يتَّسمون بالتنظيم والمنهجية كما ينبغي عند تطبيق فكرة جيدة؛ حيث يَحصلون على فكرة جيدة من زميلٍ لهم، أو يَسمعون عنها في ورشة عمل، أو يقرءون عنها في كتاب، وتَروق لهم الفكرة الجيدة؛ حيث تبدو لهم كشيء يُمكن الاستعانة به، ثم يتبنون توجُّهًا اعتباطيًّا نحو التغيير أُطلق عليه توجه شركة نايكي، بشعارها الشهير «افعلها وحسب».

يزداد نجاح أي تغيير على مستوى التدريس عندما يتسم التطبيق بأنه منهجيٌّ ومدروس ومخطَّط له. والأهم من مجرد إحداث هذا التغيير هو ضرورة أن يَتناسب التغيير مع الموقف الجديد، وهذا يَشتمل على التفكير في ثلاثة متغيرات على الأقل؛ أولًا: يجب أن تُناسب الاستراتيجية الجديدة المعلم، أي يجب أن تكون شيئًا يستطيع المرء أن يُؤدِّيه بثقة، شيئًا يتناسب تمامًا مع شخصية المرء وطريقة تدريسه. غالبًا ما نُقرِّر ذلك بإحساس غريزي، كأن نقول: «أجل، إنها فكرة رائعة. يُمكنني القيام بذلك.» ومن المثير للاهتمام التفكير مليًّا في هذه المجموعة من الاختيارات وما تُخبرنا حيال شخصيتنا وطريقة تدريسنا.

يجب أن تَتناسب الاستراتيجية الجديدة مع شكل المحتوى الذي نُدَرِّسه. طريقة ترتيب المحتوى الذي نُدَرِّسه وطريقة تطوُّر مستوى المعرفة في مجالٍ ما، وما يُعتبر بأنه دليل قاطع؛ كل هذه الجوانب الخاصة بالمحتوى هي جوانب مميِّزة لتخصُّصاتنا الدراسية، ولها تداعيات على كيفية استخدام الاستراتيجية. وفي النهاية، الاستراتيجية الجديدة يجب أن تتناسَب مع الاحتياجات التعليمية الخاصة بالطلاب؛ أي يجب أن تكون شيئًا الطلاب مستعدون للتعامل معه من الناحية التطويرية، ويجب أن تكون شيئًا يُمثِّل تحديًا، ولكن لا تتسم بدرجة صعوبة مستعصية. لقد كتبتُ بالتفصيل عن عملية التغيير والحاجة إلى تعديل الأفكار الجديدة في كتاب لي بعنوان «التدريس الجامعي الملهم» (وايمر، ٢٠١٠). وإذا كنتَ مهتمًّا بهذا الموضوع، فستجد مناقشةً مُستفيضة له في الفصل السادس.

تنبع معارضة أساليب التدريس المُتمركِز حول المتعلم عادة من أن هذه الأساليب تُغيِّر من وظيفة المحتوى، ويَنتهي بها المطاف بجعل المعلمين أقل توجهًا نحو المحتوى، وأقل استعدادًا لإجراء قرارات تعليمية استنادًا إلى ما يحتاج الطلاب إلى تعلمه وحسب. إلا أن المعلمين المتَّبعين لهذا النوع من طرق التدريس يهتمون أيضًا بطريقة تعلم الطلاب، ويَرون وظيفةً أكبر للمحتوى؛ فهم لا يستخدمون المحتوى لتطوير قاعدة معرفية راسخة وحسب، بل ويُطوِّرون أيضًا مجموعة من المهارات التعليمية؛ بحيث يتخرَّج الطالب وهو يمتلك معرفة تَرتكز على الفهم، ويتحلى بمهارات التَّعلُّم التي تقود إلى مزيد من التَّعلُّم. ومن الصعب تخيل كيف يُؤثِّر ذلك بالسلب على نزاهة المادة الدراسية، أو يُقلِّل من مستوى المعايير الأكاديمية، أو يُخرِّج طلابًا ذوي مستوًى ضعيف.

ويكتب ناش (٢٠٠٩) خاتمةً مناسبة لهذا الفصل، يقول فيها: «عادةً عندما أُقلِّل من حجم المحتوى الذي أُدرِّسُه، أجد أنني في الواقع أُدَرِّسَ المزيد. وأُطلِق على هذا «مفارقة الكم والكيف التعليمي»؛ فكلما بذلت الوقت لاستِحضار ما يعرفه طلابي بالفعل، وكلما تعمدت تقليل حجم ونطاق حكمتي ومعرفتي الواسعة، تَعلَّم طلابي المزيد.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤