ثالثًا: بداية التاريخ

وهناك صعوبات في البحث عن البداية الأولى للطب. ومع ذلك هناك ثلاثة احتمالات: الأوَّل: بُعد العهد القديم وصعوبة معرفة ماذا حدَث في أول الزمان. الثاني: تعدُّد الآراء في البداية. والثالث: صعوبة الحُكم فيها والتحقُّق أيُّهما أصدق. وهنا تتداخَل الإلهيَّات مع مناهج البحث، التاريخ والقراءة، العلم والدين. وتظلُّ هذه الاحتمالات قائمةً دون محاولةٍ للتوفيق بينها. وهذا أقرب إلى فلسفة التاريخ منه إلى التاريخ. هي آراء ومذاهب فلسفية وليستْ تاريخًا مُدعمًا بالوثائق والبراهين. تتدخَّل الأسطورة مع الواقع، ويتمُّ التركيز على دَور النساء التي تَبرأ بالأدوية، فالبراءة للضَّعيف.

وتبدو القراءة في الموضوع النموذجي وهو كيفية بداية الطب. ويدخُل البُعد الديني الجديد في التصنيف. فإذا كان الطب حادثًا وليس قديمًا نشأ بعد الإنسان وليس قبلَه، إلهامًا وليس كسْبًا، فإنَّ الإلهام من الله «جلَّ وعلا». فقال البعض إنَّ الله «جلَّ وعز» ألهمَ الناس الطبَّ بالرؤيا. وقال آخرون إنَّ الله «عزَّ اسمه» ألهمَ الناس الطبَّ بالتجربة. والترجيح للموروث لأنَّ البدَن مُحدَث. وهي نفس القضية التي عرَضَها الأصوليون في نشأة اللغة: توقيف أم اصطلاح. وخلق الله «تبارك» صناعة الطب لأنَّ عقل الإنسان قاصِر عن ذلك. فالله وحدَه خالق الأشياء (صاعد). وقد يكون تضعيف العقل دفاعًا عنه.١ وتتَّضح القراءة في أسماء الله وصفاته وطرُق مدحه وتعظيمه «جل وعلا»، «جل وعز»، «عز اسمه»، «تبارك اسمه»، «عَزَّ وَجَل»، «اللهُ تعالى». قال طاليس وأنكسماندوس وأنقسمانس هو «الله تعالى»، «الله سبحانه وتعالى»، «البارئ جلَّ جلاله».٢

وتتدخل الجغرافيا مع التاريخ لتفسير نشأة الطب في جزيرة فو؛ فهناك ثلاث جُزر في الإقليم الرابع: رودس، قيندس، فو التي نشأ فيها آل أسقليبوس دون تحديد لسبب نشأته في هذه الجزيرة الثالثة دون الجزيرتَين الأولَييَن. وهناك قسمة ثالثة للشعوب تتداخل مع قسمة الأقاليم الجغرافية لتفسير نشأة الطب وهي سبعة: الكلدانيون، اليمن، بابل، فارس، الهند، أقريطش، سينا. والخلاف بين الدِّين والعلم في تصوُّر نشأة العلم مشكلة محلية، وضم الوافد إلى حضن الموروث.

وهناك عدَّة روايات مُتجاورة يذكُرها الشهرزوري لتفسير نشأة التاريخ الحضاري للعالم كلها مُحتمَلة. منها تاريخ ومنها قراءة. هناك مدخل يجمع بين الوافد والموروث لنشأة الطب وأقسامه يعتمِد على الموروث وحدَه. ويضع خمسة احتمالات: الأوَّل التأييد الإلهي اعتمادًا على حديث الرسول، يُرجعه إلى سليمان بن داود. وكثير يرون هذا الرأي مثل الصابئة والمجوس ونبط العراق والسودانيون والكلدانيون والكسدانيون. ويعتبِره المصريون واليونان هرمس، ويَعتبِره اليهود يوفال بن لاقح بن متوشالح. ويَعتبِره أبو سليمان المنطقي من فارس والهند. والثاني الرؤية الصادقة اعتمادًا أيضًا على حديث الرسول.٣ فقد قاله الرسول لأحدهم في المنام، وذلك تفسير آية الشجرة المُباركة في القرآن. والثالث الاتفاق والمُصادفة مثل ما حدث لأندروماخوس الثاني من إلقاء لحوم الأفاعي في الترياق، وجرَّب ذلك مرةً ثانية وثالثة حتى ثبَتَ كدواء. والرابع المشاهدة على الحيوانات والاقتداء بأفعالها كما ذكر الرازي، فالطبيعة خَير طبيب. والخامس الإلهام كما يحدُث للحيوان، فكل جِسم له مقومات بقائه. فالطبُّ النبوي جزء من تاريخ الطب بالإضافة إلى الطب الوافد مع طبٍّ إبداعي ثالث يعتمِد على القياس والتجربة والحِيَل. والسؤال الآن عن مدى صحة هذه الأحاديث عن الطب النبوي وإلى أي حدٍّ يُعتبر القرآن والحديث مُوجِّهين للتاريخ لتفسير نشأة الطب.٤ ويبدأ الشهرزوري الفلسفة بقِسمتها إلى نظريةٍ وعملية ويُبين الوصول إلى هذه القسمة بالعقل الخالص.٥
وفي هذه الوحدة الأولى للحضارات يظهر هرمس في عصر سقراط، وأخنوخ وهرمس في عصر إدريس، وحكيم بابلي تلميذ فيثاغورس، وفيثاغورس من سكان مصر، وأصطفن البابلي أيام شُعيب، وبطليموس نقل الفلك البابلي. وبين البابليِّين واليونان كانت هناك صِلات مُتبادلة مثل اليونان وكنعان، اليونان ومصر، ضدَّ ما روَّجه الغرب الحديث حول المعجزة اليونانية، وأساتذة العالم وروَّاده الأوائل، وكأنه لم تكن هناك حضارات أخرى أقدَم من اليونان في جنوبها مصر، وشرقها كنعان وبابل وفارس والهند. ويُظهر النموذج الإسلامي، تعدُّد البشر للتعارُف، واختلاف الحضارات للإثراء المُتبادل، والجوار للتفاعل. أقواله كأنها وحيٌ من عند الله مثل: «فإنه حقٌّ على الله أن يُعطي المظلومين روحًا وأن يجعل الظالمين بلا روح.» هرمس فيلسوف مصر وباني أهرامها وآثارها. عاش هرمس الأوَّل في الصعيد المُتَّصل بالسودان والإسكندرية، كي يكون بين اليونان ومصر. فالفكر هو الذي يتحكَّم في التاريخ والجغرافيا. وهو أخنوخ عند اليهود وإدريس عند المُسلمين. أول من تكلَّم في الجواهر العلوية وحركات النجوم، فأنذر بالطوفان. وجَدَ يوحنَّا البطريق كتاب أرسطو إلى الإسكندر «سر الأسرار»، وهو منحول، في هيكل عَين الشمس الذي بناه هرمس الأكبر بنفسه ليُمجِّد الله «تعالى» فيه بعد أن دلَّه عليه راهب مُتنسِّك عالم فاهِم في مصاحف الهيكل بعد أن دخلتِ الحيلة عليه. وهو الذي أشار إلى القرآن في وصف إدريس، وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا، فالرفع صورة قبل السيد المسيح. ولماذا لا يعيش في فارس أيضًا ويُسمُّونه أبنمهين؛ أي ذو العقل، كما يفعل أبو سليمان.٦

ويفترض صاعد أنَّ هناك وحدة أولى للبشر، وحدة لغة، ووحدة دين، ووحدة حضارة. كان البشر وحدةً واحدة قبل افتراقهم إلى لُغات. فالشام والحجاز مع الكلدانيين، والعرب، واليمن. والسريانية لسان آدم وإدريس ونوح وإبراهيم ولوط. ثم تفرَّعَت العبرانية والعربية من السريانية. ثم تغلَّب بنو إسرائيل على الشام وبلاد العرب والحجاز. وانزوي السُّريان إلى العراق. فتاريخ الشعوب السامية، بلغة العصر تاريخ واحد. كان البشر جميعًا في دينٍ واحد، الصابئة، وكانت الأصنام مجرَّد دليل على الكواكب؛ أي دِين الطبيعة بلغة العصر، ثم تفرَّقوا لغةً ودينًا.

ونشأت الكتابة أيضًا بحروف يونانية زمن أردشير أربعة وعشرين حرفًا، ستَّة عشر حرفًا كانت قبل ذلك في مصر. حملها من مصر قوم موسى وهي الحروف الفينيقية. وأزاد فالاميدس أربعة حروف، وأضاف سيمونيدس أربعةً أخرى. فأول من وضع الكتابة أهل مصر ثُم أهل فينيقيا. كما نشأ علم المساحة من مصر بسبب مقياس النيل. ساهمَت كل حضارة بعِلم طبقًا لطبيعتها. اللُّحون والتأليف من اليونان، والحساب من فينيقيا، والطبائع من الشام، والطب وهو فرع للعلم الطبيعي من يونان والهند.٧ والموسيقى فارسية الأصل مثل آلة العود، في حين أنَّ فيثاغورس هو الذي وضع الألحان. وعِلم الاشتقاق «الأيطومولوجيا» مُستمَدٌّ من مصر. ويُقارن ابن النديم بين الحروف اليونانية والحروف العربية صوتيًّا. واللغة الأرمينية هي اجتماع الرومية والعربية.٨
كان هرمس قبل الطوفان. وهو لقَب مثل قيصر وكسرى، وتُسمِّيه الفرس أنيمهيد، جدُّه جيومرث وهو آدم. تقول الحرَّانية بحكمته، ويذكُر العبرانيون أنه أخنوخ، وهو بالعربية إدريس. فهرمس يُمثل وحدة البشر الأولى بين الفرس والحرَّانيِّين والعبرانيين والعرب. وهو أول من تكلَّم في الأشياء العلوية من الحركات النجومية، علَّمه جدُّه جيومرث ليل نهار. وأول من بنى الهياكل ومجَّد الله. وهو أول من تكلم في الطب. وألَّف لأهل زمانه قصائد وأشعارًا في الأشياء الأرضية والعلوية؛ أي إنه أيضًا أول الشعراء. وهو أول من أنذر بالطوفان، ورأى أنَّ آفةً في السماء من الماء والنار تلحق بالأرض. سكن في صعيد مصر وبنى الأهرام ومدائن التُّراب أي الجبَّانات ومدافن الموتى. وهو أول من خاط الثياب، ورفعه الله مكانًا عليًّا. وخشِي من ذهاب العِلم بعد الطوفان فبنى البرابي وهو الجبل المعروف بالبربا بأخميم، تحته صوَّر فيه جميع الطاعات وصوَّر جميع الآلات. وخطَّ صفات العلوم برسوم حرصًا على تدوين العلوم خشيةً من الضياع. فهو مُرتبِط بالتدوين. لذلك ثبَت في الأثر المَروي عن السَّلف أنَّ إدريس أول من درس الكتُب، ونظر في العلوم، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، من نسل آدم وشيث، هرمس الهرامسة.٩ وقد حكى عنه أبو معشر حكايات شنيعة لم يأتِ ابن جلجل إلا بأخفِّها ممَّا يدلُّ على أنه تحوَّل إلى مجموعة من الأساطير الشعبية.
وهرمس الثاني بابلي من أهل كلدان. عاش بعد الطوفان، برَع في الطب والفلسفة، وعرف طبائع الأعداد، وتتلمذ على فيثاغورس. هنا يبدو الكلدانيُّون تلاميذ اليونان، هرمس تلميذ فيثاغورس، واليونان هم الأصل.١٠ وبابل مدينة فلاسفة الشرق الذين وضعوا الحدود والقوانين. وهم حُذَّاق الفرس. وهنا تختلط بابل بفارس للقُرب الجغرافي على شاطئ العرَب.
وهرمس الثالث سكن مصر بعد الطوفان، وهو مؤلف كتاب الحيوان ذات السموم. كان فيلسوفًا طبيبًا عالمًا بطبائع الأدوية القتَّالة والحيوانات المُعدِية. يعرف طبائع أهل البلاد، وعالِم بالكيمياء. خاط الثياب، وبنى الهيكل، ونظر في الغَيب، وألقى القصائد، وبنى الأهرام، ووضع فيها كلَّ العلوم والصناعات حفظًا لها من الطوفان.١١
كما حلَّ هرمس بمصر بعد أن أرسل الله الأنبياء إلى بابل واختلطت أحوالهم. سكن هرمس الهرامسة بصعيد مصر، وبنى الأهرام، وعاش في مدينة منف التي تبعُد اثنَي عشر ميلًا عن الفسطاط، والتي بها دار الحِكمة قبل الإسكندرية. وهرمس تلميذ أغاثاذيمون العربي أو أنبياء مصر واليونان، أورويا الثاني، وإدريس أورويا الثالث. خرج هرمس من مصر وعاد إليها، ورفعه الله إليه. فالرفع إلى السماء كان عادةً شرقية قبل عيسى. وكان أسقليبوس تلميذ هرمس المصري. ووُلد شيث بصعيد مصر أو الشام، وهما مركز الحضارة في ذلك الوقت وحتى اليوم، برُّ مصر وبرُّ الشام. وتعني أغاثاذيمون السعيد. الجد هو شيث عليه السلام. عرَّف إدريس صفات النبي للناس. وهو كامل مُستجاب الدعوة بمذهب صلاح العالم. قبلته على جهة الجنوب. وأحضر إلى الإسكندرية علوم الهند والصين وبابل إلى مصر.١٢
وأخذ سقراط من علومها حتى وإن لم يأتِ إلى مصر. وفيها نشأت الهندسة لاحتياج المصريين إليها لقياس النيل وللزراعة. وأفلاطون بلغَه أنَّ قومًا من أصحاب فيثاغورس بمصر، فسار إليهم ليتعلَّم الحِكمة منهم قبل أن يصحب سقراط ويزهد في أقراطيلوس. ثم عاد إلى أثينا. ونشأ بطليموس بالإسكندرية، فيها وُلد وفيها مات. حدث طوفانان: الأوَّل أغرق العالم والثاني أغرق مصر فقط. فالمصريون مع اليونان من الحُكماء الأقدَمين والفلاسفة المُتأهِّلين. فليس القدماء وحدَهم اليونان، بل إنَّ أمنون ابن هرمس الرابع هو أبو سيلوخس. وهذه إضافة الشهرزوري، وهو غير المصري، على قراءة التاريخ باستثناء القفطي الذي أشار إلى أنَّ أميَّة بن أبي الصلت كان في مصر.١٣

لا يُهمُّ التاريخ أو النسَق، بل المهم التعبير عن العظمة ووحدة حضارات الشرق القديم، وحدة حضارة الشرق والغرب. فالحقيقة واحدة في البداية قبل أن تتعدَّد. هي النموذج أو المثال، ثم تتجلَّى بعدَ ذلك في مصر جنوبًا، وبابل وكلدان شمالًا، والهند وفارس شرقًا، واليونان والرومان غربًا. الحقيقة واحدة والحضارات مُختلفة. هرمس يُعبِّر عن روح الشرق والغرب والشمال والجنوب، روح العالم. يُمثل مدرسةً فكرية واحدة، الفلسفة الإشراقية بصرْف النظر عن مُمثليها.

وقد تكثُر الهرامسة لأنَّ هرمس الهرامسة أصبح نمَطًا مثاليًّا يخلق وقائع مُتعدِّدة أكبرهم ثلاثة: الأوَّل حفيد كيومرث عند الفرس؛ إذ تعني كيو الحياة، مرث البشرية الفانية. وقد تحوَّلت الفرقة الكيومرثية إلى فرقة ثنوية. والثاني أخنوخ عند العبرانيين، وهو أخنوخ بن تارخ للتأكيد على التاريخية، ونسبة أخنوخ بن تارخ بن هلليل بن قطان بن أنوش بن شيث بن آدم سلسلة مُتصلة كالأنبياء. والثالث إدريس عند العرب. وهذا يعني أنَّ هرمس يجمع ثلاث حضاراتٍ شرقية: فارس، والعبرانية، والعربية. وهرمس أيضًا ثلاثة: الأوَّل مصري صاحب الكتاب والعلوم، إمام بصعيد مصر، وبنى الأهرام؛ فالعظمة في الشخص والفعل والمكان. والثاني بابلي كلداني تلميذ فيثاغورس، جمع بين الطب والفلسفة والطبيعة والرياضة. والثالث يوناني تلميذ فيثاغورس، عرف علوم الحيوان والطب والكيمياء وأستاذ أسقليبوس. واللفظ مُشتق من أرمس، وانقلبَتِ الألف اليونانية هاءً مما يؤكد الأصل اليوناني. وله أسماء عديدة أخرى مثل عطارد وطرسمين عند اليونان.١٤ وقد دعا إلى دين الله، التوحيد الخالص، تخليص النفوس، الحض على الزهد، العمل بالعدل، الخلود في الآخرة، الصلاة والصيام والزكاة والجهاد، معونة الضعفاء، الطهارة من الجنابة والحَيض ومسِّ الموتى، تحريم لحم الخنزير والجمل والحمار والكلب، والبصل والباقلاء وكل ما يضرُّ بالدماغ. والقرابين ثلاثة: النحور، والذبائح، والخمر. والناس ثلاث طبقات: كهنة وملوك ورعيَّة. ويحافظ على فروض الشريعة، والصلاة على المَيِّت. وانتهت الشريعة إلى الملة الحنيفية، دين القيِّمة. وله أقوال في طاعة الله والتقوى، وتأدية فرائض الله، وعدَم الحلف كذبًا بالله، والاتكال على الله، واليقين بتقوى الله، والفقر من الله، والتأدُّب بآداب الله، ومحبة الدين، ومحبة الحكمة، وشكر الله، والرجوع إلى الله، وحمد الله، والاعتصام بالله، وخشية الله، والنفوس المُطهَّرة العالمة مع الله، والهمَّة مع الله، ورب الأرض والسماء، وفضل الله وعدَم الافتخار به على الآخرين، وتقوى الله والإيمان به وطاعته، وجلْد الزاني، ورجْم المرأة مائة حجر. وكلها تدلُّ على أنَّ الشريعة الإسلامية قديمة قِدَم التاريخ، مُتفقة مع الطبيعة والفطرة، وأنها تقوم على مقياس المنفعة والضَّرَر.١٥
وترسُم الأقوال صورة لنسَق إدريس، وهي القراءة الإسلامية لهرمس. فقد دعا إدريس إلى دِين الله. وقال بالتوحيد وعبادة الخالق وتخليص النفوس والزُّهد في الدنيا والعمل بالعدْل وطلب الخلاص في الآخرة. والاهتداء إلى الله واجب لأنَّ الله عرف البشر بنفسه، والأفواه مملوءة بحمد الله. الحكمة في الإيمان بالله عزَّ وجل وحِفظ الدين؛ فالحكمة والإيمان بالله لا يفترقان. وثواب الله يبقى. وتقوى الله بداية الطريق، فقد أمر الله بها. وإذا أحبَّ الله عبدًا وهبَ له العقل وتأدَّب بآداب الله. ولا يكون الإنسان عادلًا وهو غير خائف من الله عز وجل. العادل عادل إذا خشى الله. جمع هرمس بين النبوَّة والحكمة والملك، فهو النبي الحكيم الملك طبقًا لنمَط الرئاسة في الحضارات القديمة. وطاعة الرؤساء من طاعة الله كما هو وارد في تفسير السلاطين لآية: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. وشرع الله الصلاة والصيام والزكاة والطهارة وحرَّم الخنزير. وانتهت هذه التشريعات إلى الملَّة الحقَّة والدين القيِّم وهو الإسلام. والمُثابرة على الصوم والصلاة وتأدية الفرائض طاعة لله عز وجل. والله لا يرضى عن الصوم بمعنى الامتناع عن الطعام فقط، بل السيطرة على النفس وتعمير بيوت الله بالدُّعاء. ولا رغبة إلا في المال الحلال وما يَرضى عنه الله جلَّ اسمُه. واتِّباع سُنة الله وشريعته طريق من يرغَب إلى الدخول في طاعته. ولا يجِب استغلال شيءٍ من زيادة الله لئلا يستنفِر الباقي. والناس أفضل ما خلق الله في هذا العالم. والعلم لله والجهاد لله.١٦
ويبدو هرمس في الأقوال المُتأخِّرة أكثر ضمورًا نظرًا لأنَّ الحكمة لم تعُد مطلبه، وتحوَّل إلى مؤمن تقليدي على الطريقة العثمانية يأمُر بالتوجُّه بالقصد إلى الله تعالى وعدَم دعوة الله على أحد، فالله للجميع، والرُّوح تشمل الكل. ويؤمن بالقضاء والقدَر، ويدعو الناس إلى أنه إذا طرقَتْه نائبة ألا يقولوا لو كُنَّا فعَلنا كذا أو كذا؛ لأنَّ لو تفتح باب الشيطان، ولكن يقولوا قضاء الله تعالى وقدره لا مفرَّ منه. وهو حديث نبوي، فإنَّ الله تعالى يفعل بخلقه ما يشاء. كما أنَّ الله جعل للآدمي أُذنَين ولسانًا واحدًا، ليكون استماعُه أكثر من كلامه. وهو قول مُكرَّر على كل لسان حكيم. فلا يُهمُّ القائل بل القول. ويُنسَب إلى هرمس مجموعة من الأقوال في مقالة من مقالات الفِرَق تدور كلها حول تعظيم الله وشُكره ومعرفته وعدَم الافتراء عليه، ونِسبة الشر إليه وعدم الأذى باسمه. ثم تستنبط من هذه القواعد الإيمانية الأولى مبادئ الأخلاق.١٧
وكنموذج لحِكمة واحدة، هرمس الأوَّل من اليونان، والثاني من بابل، والثالث من مصر. فالطبُّ مثال لإبداع روح الحضارات البشرية الأولى. يبدو هرمس وكأنَّه نبيُّ الكلدانيين أو بوذاسف. فهو نموذج الأسطورة التي تُوجَد في كل مكان. ويُخصِّص الشهرزوري القسم الأوَّل من «نزهة الأرواح» إلى الهرمسية، إدريس وهو هرمس الهرامسة، هرمس البابلي، هرمس الثالث. ويختارها لما تتَّسِم به من أسلوب الرمز والغموض والطابع التعليمي، ممَّا يساعد على قراءتها وتأويلها. ويستعمل القرآن كمصدرٍ لتأويل التاريخ. فقد علَّم الله آدم الأسماء كلها. كما تظهر الوصايا والمُصطلحات القرآنية مثل: «واعتصموا بحبل الله سبحانه.» دون الإكثار من الشواهد النقلية. وهرمس الهرامسة أو هرمس المُثلَّث العظمة أو العظيم بالثلاثة أو ثالث العظماء هو أهمُّهم وأطولهم عند الشهرزوري بصرْف النظر عن هويته: كلدني، يوناني، مصري. وإدريس عربي، كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام، فهو أول من بنى الهياكل ومجَّد الله فيها قبل إبراهيم وبناء الكعبة. وقد لا يُذكَر هرمس لذاته، بل بمناسبة الربيع بن سليمان الجيزي صاحب الشافعي، فالوافد أصبح موروثًا من خلال الموروث.١٨ أمَّا صاب فهو صاحب إدريس الذي ينسب إليه الصابئة الذين يعبدون الكواكب أو الأصنام ليُقرِّبوهم إلى الله زُلفى. ولكنهم أيضًا هم أنصار الدين الطبيعي، الحنفاء، والذين كان منهم إبراهيم الحنيف.١٩
وكما يتمُّ رسم صورة مرئية لأجساد الفلاسفة كذلك يتمُّ تمثيل صورة لجسد هرمس الهرامسة مُستنبط من فكرِه وشخصيته، فن استنباط الجسم من الروح كما يتخيَّل الفنَّانون المُحدَثون صورًا للحكماء القدماء.٢٠
وأسقليبوس تلميذ هرمس الثالث المصري، سكَن الشام؛ أي اجتماع مصر والشام. أوحى الله إليه كما ذكَر جَالينُوس في كتابه الحثُّ على الطب، وأنه أقرَبُ إلى الملَك منه إلى الإنسان. وهو اسم مُشتق من البهاء والنور كما يروي أبقراط. والطب صناعة لا يعمل بها إلا من كان طاهرًا عفيفًا نقيًّا، من الإشراقيِّين المِثاليين وليس من الإشراقيين الخُبثاء؛ أي من كان عارفًا بالله «سبحانه وتعالى»، وأنَّ يكون الطبيب رحيمًا عفيفًا مُحبًّا لمنفعة الناس. وقد ارتفع إلى الهواء في عمودٍ من نورٍ كما روى أبقراط. كان مُشتغلًا في هيكلٍ بالتقديس كما يروي أفلاطون في كتاب النواميس. عرَف أنَّ المرأة زانية بعد أن تخاصم الزَّوجان. كما عرف أين خبَّأ الرجل المال بعد أن اشتكى إليه ضياعَه حتى أضاعه الله منه كما روى أفلاطون. كما تنبَّأ بمَوت الملك كما روى أفلاطون. كانت على عصاه صورة حيَّة لأنها أطول عمرًا، رمزًا على عدَم اندثار العلم كما حكى أبقراط، مصنوعة من شجر الخطمي النافع في جلب الاعتدال كما يَحكي جَالينُوس. وعنه روايات أخرى شنيعة في تواريخ النصارى مما يدلُّ على كثرة الروايات والأساطير عنه. إنما النَّواة عند ابن جلجل أنه تعلَّم الطب والفلسفة بوحيٍ من الله وإلهامٍ منه. ويستعمل الشهرزوري رواية جَالينُوس عليه. وهو أحد الملوك الأربعة بعد هرمس. أسَّس عبادة الأصنام والهياكل. وعاش في مصر والشام مما يدلُّ على وحدة الدين منذ أقدم العصور. وهو نموذج الجمع بين النبوَّة والحكمة في بداية التاريخ، لا فرْق بين حكماء الإسلام أصحاب النبوة، وأنبياء اليونان أصحاب الحِكمة. الاسم يوناني وهو نبي. فحكماء اليونان أنبياؤهم. أقواله جزء من الأدبيَّات الشرقية كما تُوحي بذلك عبارته: المُستعان بالله عليكم، أخذتم الدُّنيا على الآخرة، ربِّ أعطَوني ما ليس لي، الحمد للمنعم والاستغفار من الذنب.٢١
ويبدو أسقليبوس إلهًا وإنسانًا مثل ديونوسيوس. فقد قال جَالينُوس في تفسيره لعهود أبقراط إن الذبائح كانت باسم أسقليبوس، وقال أفلاطون في كتاب السياسة إن أسقليبوس كان رجلًا مؤيَّدًا مُلهَمًا.٢٢ ولا فرق في بدايات البشرية بين الآلهة والأبطال والأنبياء والملائكة والقوَّاد العظام. ويتحدَّث الله إلى لوجوس. وانكشفت لأسقليبوس أمورٌ عجيبة من العلاج بإلهامٍ من الله «عزَّ وجل»، فكان طبُّه طبًّا إلهيًّا كما ذكر جَالينُوس؛ ومن ثمَّ لا يجوز قياسه على الطبِّ البشري وإلا أمكن قياس الطبِّ العلمي على طب الطرُقات. لقد أوحى الله «تعالى» إلى أسقليبوس أنه أقرب إلى الملَك منه إلى الإنسان. رفعه الله «تعالى» إليه في الهواء في عمودٍ من نور كما يروي أبقراط. وكان اليونانيون يتشفَّعون به عند قبره، وكان يُسرَج عليه كل يومٍ ألف قنديل. كان شبيهًا بالله «تعالى» فارتفع إلى السماء، وكانت تُقدَّم الذبائح باسمه تقرُّبًا إلى الله «تبارك وتعالى». لذلك كان يُسَمَّى الرجل الإلهي، وكل إنسان يتشبَّه بالله «تعالى» على مِنواله.٢٣ يجمع بين الطب والحكمة والتصوُّف، ويختلط أسقليبوس الأوَّل والثاني والثالث، ويتدرَّج من الإله إلى البشر، فالأول إلهٌ أكثر منه إنسان، والثالث إنسان أكثر منه إله. فمسار التاريخ هو التحوُّل من الألوهية إلى البشرية. وينتقل منهج التعليم من الإلهام إلى القياس والتجربة إلى الحيل، من التقدُّم إلى التأخُّر، ومن الطبيعة إلى الصنعة. فالمناهج أيضًا مُتطوِّرة بتطوُّر التاريخ من الدين إلى العلم. وقد وجد أسقليبوس الأوَّل علم الطب في هيكل بِروميَّة. ولقد تمَّ تأليه يونانيِّين آخرين مثل هرمس، أنبادقليس، فيثاغورس، سقراط، أفلاطون.
ومن نسل أسقليبوس الأوَّل تخرج ذرية صالحة كما هو الحال في خروج ذرية الأنبياء يعقوب وإسحاق وإسماعيل ويوسف من ذرية إبراهيم، وخروج إبراهيم من نسل آدم ونوح. وهم خمسة: أسقليبوس الثاني مع غورس، ميفس، برمانيدس، أفلاطون الطبيب.٢٤ ولا يُهمُّ التاريخ الدقيق، فهُم أنماط مِثالية خارج التاريخ. ومن أسقليبوس الثاني يستمرُّ الطب التجريبي. ثم يضمُّ مينس وبارميندس القياس إلى التجربة بحثًا عن التكامُل في المنهج. ثم يأتي أفلاطون الطبيب ويحرق كتب التجربة وحدَها تعبيرًا عن رفْض أُحاديَّة الطرَف. فالأشخاص هنا رموز لعناصر المنهج، ووحدتها رمز لتكامُل المنهج الذي يعتمد على ثلاثة عناصر: القياس، والتجربة، والحيل.٢٥ ونظرًا لأهميته دخل في قسم أبقراط. فالطبُّ قديم بقِدَم العالم. وينتسِب إليه مجوس روما ويعبدون صورته. فهو إله عند الغربيين والشرقيين على حدٍّ سواء، وخرج منه ثمانية أطباء حتى جَالينُوس.٢٦ وفي بناء فكرِه من خلال أقواله هو تلميذ هرمس. يعتمد على الله ويستعين به. اصطفاه الله جل اسمُه رسولًا للناس. كان في حضرة النبي الأعظم، وشارك الله في صالح الدعاء. يستعين بالله، واختار الآخرة على الدنيا. وتغيَّر الناس بعدَه كما تغيَّروا من موسى إلى هارون.٢٧ ويُذكَر أنبياء حكماء أنصاف آلهة، يختلط فيهم الواقع بالخيال، التاريخ بالأسطورة، مثل طاطو من الحنفاء وهو دين جيد، والصابئة عبدَة الكواكب وهو دين رديء. ولا تُذكَر أخبار له، بل مجرد أقوال تُنسَب إلى أي قائل، متن بلا سند.٢٨
١  إسحاق بن حنين، ص١٥٠-١٥١؛ السجستاني، ص٨٢؛ الشهرزوري، ص١٩٩–١٢٢.
٢  هو حديث «كان سليمان بن داود عليهما السلام إذا صلى رأى شجرةً ثابتة بين يدَيه فيسألها ما اسمُك، فإن كانت لفرَس غرست وإن كانت لدواءٍ كتُبَت.»
٣  هو حديث «أوهن بلاء وكل لا، تبرأ.» وآية: زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ.
٤  ابن أبي أصيبعة، ص٧–٢٧.
٥  الشهرزوري: «فصل ابتداء أحوال الفلسفة»، ص٨٦–١٢٢.
٦  صاعد، ص٣٨–٤١؛ ابن جلجل، ص٦٧؛ السجستاني، ص١٨٤–١٩٣؛ القفطي، ص١–٧.
٧  السجستاني، ص٩٣–٩٧؛ ابن النديم، ص٢٣–٣٠.
٨  ويذكر طاش كبري زاده أنواع الكتابة العربية والحِميَرية واليونانية والفارسية والسريانية والعبرانية والرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية. فاليونانية أحد الخطوط. طاش كبري زاده: ص٨٣. خمسة منها اضمحلَّت وذهبت وهي الحِميَرية والقبطية والبربرية والأندلسية في تصوُّر المؤرخ مع أنها لم تضمحِلَّ في الواقع.
٩  ابن جلجل، ص٥-٦.
١٠  السابق، ص٨–١٠.
١١  طاش كبري زاده، ص٣١٤-٣١٥.
١٢  الشهرزوري، ص١١٣، ١٣٥-١٣٦، ١٢٦، ١٠٠، ١٠٩، ٧٢، ٢٧٠، ٥٤١.
١٣  طاش كبري زاده، ص٣١٤-٣١٥. الصراع على نشأة الطبِّ بين مصر واليونان وفارس وبابل والهند واليمن والصقالبة (ابن خلكان، ج١، ٩٢).
١٤  وهذا معروف في الأساطير مثل إيزيس وأوزوريس، وقصة السلطان حامد ليوسف إدريس الموجود في كلِّ قرية.
١٥  الشهرزوري، ص١٣١–١٦٣؛ ابن النديم، ص٤٩٤–٤٩٦.
١٦  ابن فاتك، ص١٠–٢٤.
١٧  فقر الحكماء، ص٢٦٧–٢٦٩؛ الشهرزوري: ص٤–١٠.
١٨  الخوارزمي، ص٢٥؛ الشهرزوري، ص٤٨، ٥٥–٨٤؛ القفطي، ص٨–١٥؛ ابن خلكان، ج٢، ص٢٩٣.
١٩  ابن فاتك، ص٢٦-٢٧.
٢٠  الشهرزوري، ص٦٣؛ طاش كبري زاده، ص٣١٤-٣١٥. والمطلوب عمل رسالة جامعية عن هرمس في المصادر العربية، وقد قامت د. هدى الخولي بذلك أخيرًا.
٢١  ابن جلجل، ص١١؛ الشهرزوري، ص١٦٩–١٧١؛ القفطي، ص٨–١٥.
٢٢  البيروني، ص٢٥–٢٧؛ ابن أبي أصيبعة، ص١٤، ٣٠–٣٧. يروى عنه حديث: «إنَّ أحدكم بين لُقمة من بارئه وبين ذنبٍ عمل» ص٣٨؛ الشهرزوري، ص١٦٧-١٦٨؛ ابن أبي أصيبعة، ص٢٩–٣٨.
٢٣  وهذا ما حاوَله كلُّ فلاسفة التاريخ في الغرب خاصة الذين حقَّبُوه في ثلاثة مراحل مثل فيكو (الآلهة – الأبطال – البشر) أو كومت (الدين، الميتافيزيقا، العلم).
٢٤  ابن أبي أصيبعة، ص٣٩–٤٢؛ السجستاني، ص١٠٢.
٢٥  يُمثل القياس أنكساجوراس، فولوطيمس، ماخاخوس، سقولون، سوفورس. ويُمثل التجربة أفرن الأقراغنطي، بنتخلس، أنفلس، فيلنبس، غافرطيمس؛ ويمثل الحِيَل ماناخس، ماساوس، غوريانس، غرغوريس، قونيس.
٢٦  هم: أسقليبوس، غورس، مينس، مبرانيدس، أفلاطون الطبيب، أسقليبوس الثاني، أبقراط، جالينوس.
٢٧  ابن فاتك: ص٢٨.
٢٨  الشهرزوري، ص١٦٣–١٦٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤