بَدْرُ البُدُور
(١) مَحْمُودَةُ الْخِصالِ
نَشَأتْ «بَدْرُ الْبُدُورِ» يَتِيمَةً فَقِيرَةً، فَقَدْ ماتَ أَبُوها وَهِيَ طِفْلَةٌ. وَكانَ أَبُوها كَرِيمَ الْخُلُقِ، طَيِّبَ الْقَلْبِ، صافِيَ النَّفْسِ؛ فَوَرِثَتْ مِنْهُ هذِهِ الْخِصالَ الْمَحْمُودَةَ.
وَقَدْ أَحَبَّها الْنَّاسُ لِوَدَاعَتِها وَأَمانَتِها، وَصِدْقِها وَحُسْنِ أَدَبِها، وَكانُوا يَضْرِبُونَ بِها الْمَثَلَ فِي صَفاءِ النَّفْسِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ.
(٢) «شَمْسُ الشُّمُوسِ»
وَكانَ لـِ«بَدْرِ الْبُدُورِ» أُخْتٌ أَكْبَرُ مِنْها سِنًّا، اسْمُها: «شَمْسُ الشُّمُوسِ».
وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَها مِنَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ النَّاسِ ما كانَ لِأُخْتِها، بَلْ إنَّهُمْ يَكْرَهُونَها، وَيَضْرِبُونَ بِها الْمَثَلَ فِي سُوءِ الخُلُقِ وَلُؤْمِ النَّفْسِ.
فَقَدْ كانَتْ «شَمْسُ الشُّمُوسِ» مُتَعَجْرِفَةً (مُتَكَبِّرَةً)، فَظَّةً (قاسِيَةً، سَيِّئَةَ الْخُلُقِ، خَشِنَةَ الْكَلامِ)، غَلِيظَةَ الْقَلْبِ، وَلَمْ تَكُنْ مُؤَدَّبَةً فِي حَدِيثِها. وَقَدْ وَرِثَتْ هذِهِ الْخِصالَ الذَّمِيمَةَ مِنْ أُمِّها «الثُّرَيَّا».
(٣) فِي الْبَيْتِ
وَكانَتِ «الثُّرَيَّا» تُحِبُّ بِنْتَها «شَمْسَ الشُّمُوسِ» حُبًّا شَدِيدًا؛ لأَنَّها تُشْبِهُها فِي الْفَظاظَةِ (الْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ) والْخُبْثِ، كَما كانَتْ تَكْرَهُ بِنْتَها «بَدْرَ الْبُدُورِ» اللَّطِيفَةَ الْمُؤَدَّبَةَ.
وَقَدْ فُتِنَتْ بِحُبِّ «شَمْسِ الشُّمُوسِ»، بِمِقْدارِ ما فُتِنَتْ بِكُرْهِ «بَدْرِ الْبُدُورِ».
وَلا عَجَبَ، فَكُلُّ امْرِئٍ يَجِدُ نَفْسَهُ أَمْيَلَ إلَى مَنْ يُشاكِلُهُ فِي الْخُلُقِ، وَيُمَاثِلُهُ فِي السُّلُوكِ.
وَكانَتِ «الثُّرَيَّا» — مِنْ أَجْلِ ذلِكَ — لا تُكَلِّفُ بِنْتَها «شَمْسَ الشُّمُوسِ» أَيَّ عَمَلٍ مِنْ أعْمَالِ الْبَيْتِ الْكَثِيرَةِ، وَإنَّما كانَتْ تَأمُرُ «بَدْرَ الْبُدُورِ» أنْ تَقُومَ بِأَدائِها وَحْدَها.
وَلَمْ تَكُنْ «بَدْرُ الْبُدُورِ» تَمْلِكُ إلَّا أَنْ تَسْتَجِيبَ لِرَغْبَةِ أُمِّها، وَتُلَبِّيَ ما تَطْلُبُهُ مِنْها، وَلِهذا لَمْ تَكُنْ تَسْتَرِيحُ ساعَةً واحِدَةً مِنَ النَّهارِ، بَلْ لَقَدْ كانَتْ تُمْضِي فِي عَمَلِها بَعْضَ ساعاتِ اللَّيْلِ، إذْ كانَ عَلَيْها أَنْ تَطْبُخَ وَتَغْسِلَ وَتَكْنُسَ، وَعَلَيْها — فَوْقَ ذلِكَ — أنْ تَمْلَأَ الْجَرَّةَ الْكَبِيرَةَ ماءً — عِدَّةَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ — مِنْ بِئْرٍ بَعِيدَةٍ عَنِ البَيْتِ.
أتَعْرِفُ الْجَرَّةَ أَيُّها الطِّفْلُ الْعَزِيزُ؟
(٤) الْعِفْرِيتَةُ الْعَجُوزُ
وَفِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ ذَهَبَتْ «بَدْرُ الْبُدُورِ» لِتَمْلَأَ الْجَرَّةَ مِنَ الْبِئْرِ كَعادَتِها فِي كُلِّ يَوْمٍ.
وَلَمْ تَكَدْ تَمْلأُ جَرَّتَها، حَتَّى اعْتَرَضَتْ طَرِيقَها امْرَأةٌ عَجُوزٌ فَقِيرَةٌ فاسْتَوْقَفَتْها، وَقالَتْ لَها فِي مَسْكَنَةٍ: «إنِّي عَطْشَى يا بُنَيَّةُ، فَهَلْ لَكِ أَنْ تَسْقِيَنِي مِنْ مائِكِ؟»
فَابْتَسَمَتْ «بَدْرُ الْبُدُورِ»، وَحَيَّتِ الْعَجُوزَ (سَلَّمَتْ عَلَيْها) — فِي أدَبٍ — وَقَالَتْ لَها: «تَفَضَّلِي أيَّتُها الْأُمُّ الْكَرِيمَةُ، وَاشْرَبِي مِنَ الْماء هَنِيئًا حَتَّى تَرْتَوِي.»
ثُمَّ أَمالَتِ الْجَرَّةَ — وَهِيَ مُمْسِكَةٌ بِها بَيْنَ يَدَيْها — فَشَرِبَتِ الْعَجُوزُ حَتَّى ارْتَوَتْ، وَشَكَرَتِ الْفَتاةَ عَلَى مَعْرُوفِها، وَحُسْنِ أدَبِها.
فَقالَتْ لَها الْفَتاةُ مُتَأدِّبَةً: «عَفْوًا يا سَيِّدَتِي، فَأَنا لَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا أَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الشُّكْرَ، وَإنَّنِي لَأكُونُ سَعِيدَةً اذا اسْتَطَعْتُ أَنْ أُؤَدِّيَ إلَيْكِ أيَّةَ مُسَاعَدَةٍ تَطْلُبِينَها مِنِّي، ما دامَ فِي قُدْرَتِي أَنْ أقُومَ بِها.»
فَقالَتْ لَها الْعَجُوزُ: «يَبْدُو لِي أَنَّكِ فَتَاةٌ طَيِّبَةُ الْقَلْبِ، رَضِيَّةُ النَّفْسِ، سَمْحَةُ الْخُلُقِ، وَأَنَّكِ تُؤَدِّينَ ما تَرَيْنَهُ واجِبًا عَلَيْكِ حَقَّ الْأَداء.»
فَأظْهَرَتِ الْفَتاةُ خَجَلًا مِمَّا تَسْمَعُ مِنْ ثَناءِ الْعَجُوزِ، وَحُسْنِ تَقْدِيرِها، وَقالَتْ لَها: «الْحَمْدُ لِلهِ عَلَى تَوْفِيقِهِ لِي، إذْ حَبَّبَ إلَيَّ أَنْ أُؤَدِّيَ الْواجِبَ جُهْدِي، وَأَنْ أعْمَلَ الْخَيْرَ ما اسْتَطَعْتُ».
(٥) حَقِيقَةُ الْعَجُوزِ
فَأُعْجِبَتِ الْعَجُوزُ بِأدَبِ الْفَتاةِ كُلَّ الْإعْجابِ، وَقَالَتْ لَها: «بارَكَ اللهُ فِيكِ أَيَّتُها الْفَتاةُ الْكَرِيمَةُ النَّفْسِ. لَقَدْ أَعْجَبَنِي أدَبُكِ، وَلا بُدَّ مِنْ أَنْ أُحْسِنَ مُكافَأتَكِ عَلَى صَنِيعِكِ (مَعْرُوفِكِ).»
وَكانَتْ هذِهِ الْعَجُوزُ — لِحُسْنِ حَظِّ الْفَتاةِ — عِفْرِيتَةً مِنَ الْجِنِّ، خَرَجَتْ فِي صُورَةِ امْرَأةٍ عَجُوزٍ فَقِيرَةٍ، وَهِيَ مِنَ الْجِنِّيَّاتِ الطَّيِّباتِ، الَّلواتِي يَنْفِرْنَ مِنَ الشَّرِّ، وَيَكْرَهْنَ الْأذَى، وَلا يُسِئْنَ إلَى أحَدٍ.
وَقَدْ سَمِعَتِ النَّاسَ يَتَحَدَّثُونَ بِأدَبِ «بَدْرِ الْبُدُورِ» وَحُسْنِ أخْلاقِها؛ فَخَرَجَتْ فِي هذِهِ الصُّورَةِ اْلآدَمِيَّةِ، وَوَقَفَتْ فِي طَرِيقِ الْفَتاةِ، لِتَتَعَرَّفَ صِدْقَ ما سَمِعَتْه مِنْ أَخْبَارِها …
(٦) جَزاءُ اْلِإحْسانِ
وَقَدْ قالَتِ الْعَجُوزُ لِلْفَتاةِ: «لَنْ تَلْفِظِي — بَعْدَ الْآنَ — كَلِمَةً إلَّا سَقَطَ مِنْ فَمِكِ زَهْرَةٌ، أَوْ لُؤْلُؤَةٌ، أَوْ ياقُوتَةٌ، أَوْ زُمُرُّدَةٌ، أَوْ مَرْجانَةٌ.»
ثُمَّ تَرَكَتْها الْعَجُوزُ …
وَلَمَّا عادَتْ «بَدْرُ الْبُدُورِ» إلَى بَيْتِها سَألَتْها أُمُّها غاضِبَةً: «ما الَّذِي أخَّرَكِ — فِي هذِهِ الْمَرَّةِ — أيَّتُها الْبِنْتُ اللَّعُوبُ؟»
فَقالَتْ «بَدْرُ الْبُدُورِ» لِأُمِّها: «اصْفَحِي عَنِّي هذِهِ الْمَرَّةَ.»
وَما كادَتْ تُتِمُّ هذِهِ الْجُمْلَةَ، حَتَّى سَقَطَتْ مِنْ فَمِها زَهْرَةٌ، وَلُؤْلُؤَةٌ، وَياقُوتَةٌ، وَزُمُرُّدَةٌ، وَمَرْجانَةٌ.
فَعَجِبَتْ أُمُّها «الثُّرَيَّا» مِمَّا رَأَتْ، وَسَألَتْ بِنْتَها «بَدْرَ الْبُدُورِ»، وَقَدِ اشْتَدَّتْ دَهْشَتُها: «كَيْفَ سَقَطَتْ هذِهِ الَّلآلِئُ مِنْ فَمِكِ؟»
فَأجابَتْها الْفَتاةُ: «لَسْتُ أَدْرِي. وَحَسْبُكِ ما تَجِدِينَ مِنْ هذِهِ الْجَواهِرِ الْغَوالِي.»
فَقالَتِ الْأمُّ: «لا بُدَّ أَنْ تُخْبِرينِي بِحَقِيقَةِ الْأمْرِ، فَإنِّي أَرَى عَجَبًا، وَما أَظُنُّ أَنَّ ذلِكَ حَدَثَ — مِنْ قَبْلُ — لِإنْسانٍ، أَيِّ إنْسانٍ!»
فَقالَتِ الْفَتاةُ: «سَأقُصُّ عَلَيْكِ — يا أُمَّاهُ — كُلَّ ما كانَ.»
وَشَرَعَتِ الْفَتاةُ تَقصُّ عَلَى أُمِّها كُلَّ ما حَدَثَ لَها مَعَ الْعِفْرِيتَةِ الْعَجُوزِ، وَكانَ الزَّهْرُ والدُّرُّ يَتَساقَطانِ مِنْ فِيها، كُلَّما نَطَقَتْ كَلِمَةً مِنْ كَلِماتِها!
(٧) غَيْرَةُ «الثُّرَيَّا»
فاغْتاظَتِ «الثُّرَيَّا»، وَتَمَنَّتْ ذلِكَ الْحَظَّ السَّعِيدَ لِبِنتِها «شَمْسِ الشُّمُوسِ»، واشْتَدَّتْ غَيْرَتُها، فَقالَتْ: «أَرَأَيْتِ يا «شَمْسَ الشُّمُوسِ»، ما ظَفِرَتْ بِهِ أُخْتُكِ مِنَ الْحَظِّ السَّعِيدِ؟»
فَلَا تَتَأخَّرِي — يا حَبِيبَتِي — عَنِ الْخُرُوجِ بِجَرَّتِكِ؛ لَعَلَّ هذِهِ الْعَجُوزَ تَلْقاكِ، فَتَمْنَحَكِ (تُعْطِيَكِ) مِثْلَ ما مَنَحَتْ أُخْتَكِ.
أسْرِعِي بِالْخُرُوجِ فَوْرًا (حَالًا) إلَى الْبِئْرِ، وامْلَئِي جَرَّتَكِ مِنْها.
فَإذا سَألَتْكِ تِلْكِ الْعَجُوزُ أَنْ تَسْقِيها ماءً، فَلا تَتَأخَّرِي عَنْ تَلْبِيَةِ طَلَبِها (تَحْقِيقِ رَغْبَتِها)؛ لِتُكافِئَكِ عَلَى ذلِكِ بِمِثْلِ ما كافَأَتْ أُخْتَكِ الصَّغِيرَةَ مِنْ قَبْلُ.»
(٨) بَيْن الْعِفْرِيتَةِ وَ«شَمْسِ الشُّمُوسِ»
فَمَضَتْ «شَمْسُ الشُّمُوسِ» بِجَرَّتِها تَمْلَأُها مِنَ الْبِئْرِ، وَبَيْنَما هِيَ فِي طَرِيقِها، عائِدَةٌ أَدْراجَها، لَقِيَتْها سَيِّدَةٌ، يَدُلُّ مَظْهَرُها عَلَى أَنَّها ذاتُ غِنًى وَثَراءٍ.
فَقالَتِ السَّيِّدَةُ لِلْفَتاةِ: «هَلْ لَكِ أَنْ تَسْقِينِي مِنْ مائِكِ يا فَتاتِي؛ فَإنِّي عَطْشَى؟»
وَلَمْ تَكُنْ «شَمْسُ الشُّمُوسِ» تَحْسَبُ (تَظُنُّ) أنَّ الْعِفْرِيتَةَ الَّتِي لَقِيَتْ أُخْتَها قَدْ خَرَجَتْ هذِهِ الْمَرَّةَ، وَهِيَ فِي صُورَةِ سَيِّدَةٍ غَنِيَّةٍ.
فَأجابَتِ السَّيِّدَةَ، فِي احْتِقَارٍ وَفَظاظَةٍ: «أَنا لا أَسْقِي أَحَدًا مِنْ جَرَّتِي. اذْهَبِي فاشْرَبِي حَيْثُ شِئْتِ.»
ثُمَّ تَرَكَتِ السَّيِّدَةَ، وَسَارَتْ فِي طَرِيقِها سَاخِرَةً مِنْها (هازِئَةً بِها).
(٩) انْتِقَامُ الْعِفْرِيتَةِ
فَغَضِبَتِ الْعِفْرِيتَةُ — لِما رَأتْهُ مِنْ سُوء أدَبِ «شَمْسِ الشُّمُوسِ» — غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَتْ لَها: «قَبَّحَكِ اللهُ أيَّتُها الْخَبِيثَةُ الْجَرِيئَةُ. لَنْ تَلْفِظِي (لَنْ تَتَكَلَّمِي) — بَعْدَ الْآنَ — كَلِمَةً إلَّا سَقَطَ مِنْ فَمِكِ ضِفْدِعٌ أوْ ثُعْبانٌ».
•••
وَما كادَتْ «شَمْسُ الشُّمُوسِ» تَعُودُ إلَى بَيْتِها، حَتَّى سَألَتْها أُمُّها: «هَلْ قابَلَتْكِ الْعَجُوزُ فِي طَرِيقِكِ؟»
فَقَالَتْ لَها: «كَلَّا لَمْ تُقابِلْنِي الْعَجُوزُ.»
وَما كادَتْ تُتِمُّ جُمْلَتَها، حَتَّى سَقَطَ مِنْ فَمِها ضَفادِعُ وَثَعابِينُ.
فَصَاحَتِ الْأُمُّ مَدْهُوشَةً مُتَحَسِّرَةً، وَقَدِ اشْتَدَّ رُعْبُها (زادَ فَزَعُها وَخَوْفُها): «ماذا دَهاكِ يا بُنَيَّتِي؟ أَيَّةُ نَكْبَةٍ أَصابَتْكِ؟ قُصِّي عَلَيَّ ما حَدَثَ!»
•••
فَجَعَلَتِ الْفَتاةُ تَبْكِي بُكاءً شَدِيدًا، وَتَخْشَى أنْ تَتَكَلَّمَ، فَتَسْقُطَ الضَّفادِعُ والثَّعابِينُ مِنْ فَمِها.
وَلكِنَّ أُمَّها دَفَعَتْها إلَى الْكَلامِ دَفْعًا، لِتَعْرِفَ مِنْها حَقِيقَةَ ما أَصابَها.
وَلَمْ تَجِدْ «شَمْسُ الشُّمُوسِ» بُدًّا مِنْ أَنْ تَحْكِي ما جَرَى لَها، حِينَ لَقِيَتِ السَّيِّدَةَ الْغَنِيَّةَ، وَكَيْفَ طَلَبَتْ مِنْها أَنْ تَسْقِيَها، فَأبَتْ أَنْ تَسْتَجِيبَ لَها.
وَكَانَتِ الضَّفادِعُ وَالثَّعابِينُ تَتَساقَطُ مِنْ فَمِها، كُلَّما نَطَقَتْ بِكَلِمَةٍ.
(١٠) فِي الْغَابَةِ
واغْتاظَتِ «الثُّرَيَّا» مِنْ «بَدْرِ الْبُدُورِ»، وَجَرَتْ خَلْفَها لِتَضْرِبَها.
فَقالَتْ لَها الْفَتاةُ: «ما ذَنْبِي حَتَّى تَضْرِبِينِي؟»
فَأجابَتْها الْأمُّ: «إنَّكِ أنْتِ سَبَبُ النَّكْبَةِ الَّتِي حَلَّتْ بِأُخْتِكِ «شَمْسِ الشُّمُوسِ». وَلَوْلا أنَّكِ أُغْرَيْتِنِي بِحِكايَتِكِ مَعَ السَّيِّدَةِ الْعَجُوزِ الْفَقِيرَةِ، لَما أشَرْتُ عَلَى أُخْتِكِ بِالْخُرُوجِ، وَلَيْتَنِي لَمْ أفْعَلْ!»
وَلَمْ تَسْتَطِعْ «بَدْرُ الْبُدُورِ» أَنْ تُقْنِعَ أمَّها بِأنَّها لَمْ تُرِدْ بِأُخْتِها أَذًى، وَلَمْ تَبْغِ الْإسَاءَة إلَيْها؛ فَأسْرَعَتْ بِالفِرارِ مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ، وَخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ أُمِّها هَائِمَةً عَلَى وَجْهِها.
وَما زالَتْ تَجْرِي، حَتَّى وَصَلَتْ إلَى الْغابَةِ، حَيْثُ وَقَفَتْ تَحْتَ شَجَرَةٍ، وَهِيَ تَبْكِي سُوءَ حَظِّها.
(١١) «بَدْرُ الْبُدُورِ» وَالْأمِيرُ
وَكانَ الْأَمِيرُ الصَّغِيرُ «زَيْنُ الشَّبابِ» — لِحُسْنِ حَظِّ الْفَتَاةِ — عَائِدًا مِنَ الصَّيْدِ، وَخَلْفَهُ جُنُودُهُ.
فَلَمَّا رَآها، وَهِيَ تَبْكِي، قالَ لَها: «ما يَحْزُنُكِ أيَّتُها الْفَتاةُ الَّلطِيفَةُ؟»
فَأجَابَتْهُ قائِلَةً: «إنَّما أبْكِي، لِأَنَّ أُمِّي تَضْرِبُنِي ضَرْبًا شَدِيدًا؛ فَلَمْ أَسْتَطِعِ الْبَقَاءَ فِي الْبَيْتِ، وَخَرَجْتُ لائِذَةً بِالْفِرارِ، وَلا أعْرِفُ لِي وِجْهَةَ سَيْرٍ!»
وَما كادَتْ تُتِمُّ كَلامَها، حَتَّى تَنَاثَرَ الدُّرُّ والزَّهْرُ (تَساقَطا مُتَفَرِّقَيْنِ) مِنْ فَمِها.
فَعَجِبَ الْأَمِيرُ «زَيْنُ الشَّبابِ» مِمَّا رَأَى وَسَألَها: «كَيْفَ سَقَطَ الدُّرُّ والزَّهَرُ مِنْ فِيكِ (مِنْ فَمِكِ)، أَيْتُها الْفَتاةُ؟»
فَأخْبَرَتْهُ بِقِصَّتِها كُلِّها، وَكانَ الزَّهْرُ واللَّآلِئُ تَتساقَطُ مِنْ فِيها كُلَّما لَفَظَتْ كَلِمَةً.
فَأُعْجِبَ الْأمِيرُ بِما رَآهُ مِنْ حُسْنِ أَدَبِها، وَما تَوَسَّمَهُ مِنْ كَرَمِ أَخْلاقِها، وَقالَ فِي نَفْسِهِ: «ما أَجْدَرَنِي بِأنْ أتَّخِذَ هذِهِ الْفَتاةَ النَّبِيلَةَ النَّفْسِ زَوْجَةً لِي، فَإنَّ الْعِشْرَةَ مَعَها تَطِيبُ!»
وَعَرَضَ عَلَى «بَدْرِ الْبُدُورِ» أَنْ يَذْهَبَ بِها إلَى قَصْرِهِ، لِتَكُونَ ضَيْفًا عِنْدَ أهْلِهِ؛ فَقَبِلَتْ ما عَرَضَهُ عَلَيْها مِنَ الضِّيافَةِ، وَمَضَتْ مَعَهُ إلَى الْقَصْرِ.
وَهُنالِكَ قَدَّمَها إلَى والِدَيْهِ، وَقَصَّ عَلَيْهِما ما عَرَفَهُ مِنْ حِكايَتِها؛ فَرَحَّبَ الْوالِدانِ بِمُقامِها، وَقَبِلا أَنْ يُضِيفاها.
وَلَمَّا ذَكَرَ الْأَمِيرُ لِوالِدَيْهِ رَغْبَتَهُ فِي الزَّواجِ بِها وافَقا عَلَيْها كُلَّ الْمُوافَقَةِ.
وَتَزَوَّجَ الْأَمِيرُ «بَدْرَ الْبُدُورِ»، وَعاشا فِي صَفاءٍ وَسُرُورٍ.
(١٢) عاقِبَةُ الْإساءَةِ
أَمَّا «شَمْسُ الشُّمُوسِ» فَقَدْ أبْغَضَتْها أُمُّها (كَرِهَتْها)، وَلَمْ تُطِقْ مَعَها الْبَقَاءَ طَوِيلًا، بَعْدَ أَنْ مَلَأَتِ الْبَيْتَ ضَفاَدِعَ وَثَعابِينَ.
وَلَمْ تَلْبَثْ أُمُّها «الثُّرَيَّا» أَنْ طَرَدَتْها.
وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُؤْوِيَها (يُسْكِنَها) فِي بَيْتِهِ خَوْفًا مِنَ الضَّفادِعِ وَالثَّعابِينِ الَّتي كانَتْ تَسْقُطُ مِنْ فِيها كُلَّما تَكَلَّمَتْ.
فَذَهَبَتْ «شَمْسُ الشُّمُوسِ» إلَى الْغَابَةِ، حَيْثُ عَاشَتْ بَقِيَّةَ حَياتِها فِي عُزْلَةٍ عَنِ النَّاسِ.
وَهكَذا يَعِيشُ اللَّئِيمُ الشِّرِّيرُ بَعِيدًا عَنْ عَطْفِ النَّاسِ وَحُبِّهِمْ، وَيَمُوتُ فَلا يَأْسَفُ لِمَوْتِهِ أحَدٌ: