باب الرسائل

(١) الفصول المنتخبة من الرسائل المختارة في كل فن١

كتب رجل إلى صديق له:
إن آباءك شادوا أكارمهم بالفضائل التي كانت فيهم، وإنك قد كنت أخذت في مدرجتهم فأوفيت على غايتهم، ثم اختلجك الهوى ببعض جديلتك٢ وجودك، من لباس فضلك الذي كنت تطول به على أكفائك، وتملك به أعنة كافة جندك، وألقيت مالك على شر عواقبه عليك لا لك إن زلت مكاره بوادره عنك.
فصل: قيل إن مروءة الرجل في نفسه نسب لقوم آخرين، فإنه إذا فعل الخير عُرف له، وبقي في الأعقاب والأصحاب، ولقيه يوم الحساب.
فصل: إن حق الله على المسلمين أن ينظروا في دينهم بالنصيحة لأئمتهم، فإن الأئمة إذا صلحوا بُدل الهوى بالتقوى في قلوبهم، وماتت سَورة الغضب فيهم لأحلامهم، وسكنت العامة إلى عدلهم وذلت لإنصافهم. وإذا كان للمحسن من الحق ما يقنعه، وللظالم من النكير ما يقمعه، بَذَل المحسن الحقَّ عليه رغبة، وذَلَّ المسيء بالحق عليه رهبة. فأول ما آمرك به رجاء الله وتقواه؛ فأما رجاؤه فأن تحسن به في الصنع إذا أطلعته، ويكون لك وقاية إذا آثرته مطمئنًّا. وأما تقواه فأن تكون له فيما أمرك به ونهاك عنه مراقبًا؛ فإن تقيَّة المؤمن تزيد في انشراح صدره، وإن شدَّة خوفه ترد هواه على عقله.
فصل: تنبَّه إذا نُبهت، واذكر إذا ذكِّرت، وانتفع فقد وُعظت، واسمع فقد نوديت، نبَّهك الوعيد، وحذَّرك الزاجر، وأمرك ونهاك الكتاب، ونعتْك آثار الموت، ودعاك إلى الجنة مليء جواد، فالجد الجد، فقبل المهجرة يريح المدلج.
فصل: ما نظرت في معروفي عند أحد، فوجدته قصُر عن أمله وكان يمكنني أن يكون أكثر منه، إلا عددتُه سيئة لي عنده، لأني ذوَّقته ما أحبَّ، ثم منعته إياه، وكأني قصدت لإشخاص قلبه. ولا نظرت في معروفي عند أحد فوجدته قد تناهى عند تناهي أمله وكان يمكنني أن يكون أكثر منه، إلا رأيتني في ذلك واترًا لنفسي، لأنه كفى عيبًا لها وإزراء بها، أن أقنع٣ … فضل نتخذه بمثل ما أقنع رجلًا من فضل يتخذه عليه.
فصل: ما أنتَ ممن يعلِّم من جهل به، ولا تُحس منه بادرة زلة، ولا يقابل بين أمرين إلا عرف خيرهما فآثره، وشرهما فاجتنبه. وقد رأيت ما ساقت إليك الطاعة من حظ العاجلة، فلا تتعرض لزوال ما أنت فيه، فتخسر الحظين، وتندم في الدارين؛ فقد رأيت من عانَد الحق كيف صرعه الله وبسط يد وليِّه على سفك دمه، وإحلال النقمة به، فصار بعد أن كان في الأمنية مثلًا، ولجميع الخلق غاية وأملًا، فكرةً في الاعتبار، وعظة للأبصار. فلا يبعد الله إلا من ظلم وختر، وذهب عن الحق وأدبر. وأنت اليوم محكَّم في أمرك، مخيَّر في رأيك، تُدعى إلى حظك بالحظ الجزيل بتدلُّل. فاهتبِل ما قد هدف لك وهو ممكن ليدك، فإنك إن أهملت وتراخيت، لم يكن بالحق ووليه وحشة إليك، ومضت أحكام الله في نصرها وتأييدها على أذلالها،٤ وصَفِرت يدك بما لا يُشرف لك بمثله، وأخطرتَ بدمك وأسلْتَه أخبث مسيل وأضل سبيل، حيث لا تبكي عليك السماء والأرض.
فصل: الناس رجلان: عالم لا غنى به عن الازدياد، وجاهل به أعظم الحاجة إلى التعلم، وليس في كل حال يكون العالم لما يبدهه من الأمور معدًّا، ولا المتعلم على ما يستفيد منه قادرًا وفيًّا.
فصل: إن أنت عطَّلتنا من أمورك، وأعفيت ظهورنا من أثقالك ومئونتك، وتركتنا أغفالًا في ولايتك من تنبيهك وتحريكك، فقد أنزلتنا منزلة مَن لا خير عنده، وجعلت نفسك أسوة مَن لا معين له، وكفى بذلك ظلمًا.
فصل: إن إعلامي إياك٥ … غير محدِّد شيئًا، ولكنه أقرب من الجميل في معرفة عذر المعتذر، وأحمل للائمة على المسيء المقصِّر.
فصل: الذي اعتمدنا عليه من رأيك، ونثق به من جميل نظرك، قد خلطني بأهل صنائعك، والخاصة من ثقاتك، وبسط أملي فيك إلى غاية خير يُرتجى، أو جزيل حظ يؤمَّل.
فصل: ليس يَسُوغ لأحد في الأمير أمل، ولا يتوجه إليه منه رغبة، ولا يلزمه في قضاء حقه، ودنانة٦ مئونته إلا وفضله مستغرِق لها.
فصل: من أحمدِ الأُمور وأجمل المذاهب، ما كان آخره موصولًا بأوله، ومؤديًا بدؤه إلى حمد عاقبته؛ فحافظ على الأمور التي حَسُن فيها عند أمير المؤمنين أثرك، مستقلًّا فيها لكثير ما يكون منك، معتدًّا بها في النعم عندك، والإحسان الواصل إليك، فيما يوفقك الله له منها ويخصك به من الفضل في اختيارها، وأمير المؤمنين يستحفظه الله لك، ويستمتعه في النعمة فيك.
فصل: قد كان يجب أن تجعلنا بمتابعة النعم علينا في خاصة الشاكرين لفضلك، ولا تجعلنا بتواتر الإساءات إلينا في عامة الشاكين لك.
فصل: عِلمي بما بنى الله عليه أخلاقَ الأمير — أكرمه الله — وجعل عليه رأيه في بسط العدل على رعيته، وبث الفضل على مُلتمِسي فضله، يبعثني على الكتاب في مثل ما كتبت إليه فيه، من ظلامة مظلوم يستعيذ فيها بعدله، وحاجة ملهوف يرجع فيها إلى فضله؛ فأجمع إلى ما ألتمس من الثواب في ذلك موافقة رأي الأمير، وإذكاره ما يجب أن يذكَّر به؛ فزاد الله الأمير من نعمه، وأوزعه من الشكر عليها ما يوجب له تتابعها عنده، وترادفها له.
فصل: أنت — والحمد لله — ممن احتمل الصنيعة، وقبل الأدب، وصدق المخيلة، وخلص على المحنة وحسن الظن؛ فاستقامت طريقته وقدَّمه جميل مذهبه وآثاره، وجرت على قصد السبيل طاعته، واشتدت على السريرة والعلانية مناصحته؛ فأصبح أمير المؤمنين لا يتناهى في بِرِّك وتَكْرمتك، إلا رآك مستحقًّا لها ولما فوقها، ولا يرفعك إلى درجة إلا رآك أهلًا لأشرف منها، صُنعًا من الله لك بما وفَّقك له من طاعته، ووهب لك من جميل مراتبه، والمكان منه والأثرة عنده.
فصل: فضل مشاركتنا إياك في محبوب الأمور ومكروهها يحملنا في السرور بالنعمة عندك — فجددها الله لك — ويوجب الشكر بما يكون لحقها قاضيًا، وللمزيد فيها موجبًا.
سعيد بن حميد: شُغْلك يقطعنا عن مطالبتك بالحق في جوابات كتبنا إليك، وصدق مودتنا لك يمنعنا من التقصي في الحجة عليك، ومن يكلك إلى رأيك فإنه لا يفي بك إلا لك، صلة إخوانك والتعاهد لهم من برِّك، بما يشبه فضلك والنعمة عليهم فيك.

وفلان بيني وبينه مودة أقدِّمه بها على الأُخوة؛ لأنك تعلم قرب ما بين المودة والقرابة، وقد بلوته على الحالات كلها، فلم يزدني اختباره إلا اختيارًا له؛ ولا أعلم بالعسكر جليلًا إلا وهو لي صديق، يشكر بشكره ويُوجب على نفسه المنة فيما آتى إليه؛ فأما من بين إخوانه فلست أعدِل من قضاء حقه، ولا أتأخر عن معروف أُسدي إليه؛ فإن رأيت أن تحِلَّه بالمحل الذي يستحقه بنفسه وسلفه، فوالله ما رأيت سوق الأحرار أنفق منها عندكم أهل البيت؛ أبقى الله تبارك وتعالى باقيكم ورحم ماضيكم.

فصل: إن أحدًا ليس بمستخلص شيئًا من غضارة عيش إلا من بين خلال مكاره، فمن انتظر بعاجل الدرك آجل الاستقصاء سلبته الأيام فرصته، لأن من صناعتها السلب، ومن شرط الزمان الإفاتة.
فصل: إن الأمير قد جلَّ فضله عن أن يحيط به وصف، أو يأتي على تعداده اجتهاد، فلو كان شيء أكثر من الشكر لكان الأمير يستحقه علينا، ويستوجبه منا.
فصل: قد أصبح المختلفون مجتمعين على تقريظه ومدحه، حتى إن العدو يقول اضطرارًا ما يقوله الولي اختيارًا؛ والبعيد يثق من إنعامه علينا بما يثق به القريب خاصًّا.
فصل: المائلون إليه بين نِعَم مكتنفة من تالدٍ به يستديمونه، وطارفٍ منه يستعيدونه، ومواهب متجددة، وفوائد مترادفة؛ هي مبسوطة به إلى بركة أيامه، وعلو حظ٧ من اتصل به، فزاده الله من فضله، وزاد أولياءه به وببركة دولته.
فصل: اعتمدت أخًا لا يُذَمُّ إخاؤه، ولا تُنكر أحواله، على بُعد الدار وقُربها، واتصال المكاتبة وانقطاعها؛ تجده متصرِّفًا معك في الخطوب التي يطرق بها الزمان، ويدًا لك في الأمور التي يمتحن فيها الإخوان.
فصل: أسأل الله أن يجعل ما تطَّول به فيه من الجلالة في القلوب والعيون عند الولي والعدو موصولًا بالإنساء في مدته، والإدامة لعزه وسلامته، والإعلاء ليده وكلمته.
أحمد بن يوسف: عندي فلان وفلان، فإن كنا من شأنك فقد آذناك.
في صفة حرب: كانت لكم الكرَّة، وعليهم الدَّبْرة؛ فحملوا حملةً كاذبة، أتبعناها بأخرى صادقة.
فصل في هَدِيَّة: قد أهديتُ إليك من فنون كلامي وعيون مقالي، دفترًا ظريف المعاني، شريف المباني، صحيح الألفاظ؛ يلذُّ بأفواه الناطقين، ويلين على أسماع الصامتين.
فصل في شفاعة: لفلان قِبَلك حاجة، ليس يحتاج فيها إلى مَعْدِلَتك ونَصفَتك المبسوطتين لمن لا يتوسل بخُلطتك ومعرفتك، ولكنه يريد ما في ذلك العدل والإنصاف من الرفق والإحسان المذخورين للخاصة والإخوان.
فصل لرجل تميمي: ضَعْفُ حالي يدعوني إلى كثرة الطلب، ومعرفتي بجميل رأيك تحجُزُني عن الإلحاح عليك، خوفًا أن أكون جاهلًا بعنايتك، وحسن نظرك، والكرم يستحيي بعضه لبعض، ويبعث بعضه بعضًا، ودين حيلته الغير على العقود، فبعثه كرمه للنهوض، أو دعاه هواه إلى المنع، فجاءه عقله على البذل؛ وحالي جانحة لدى فضلك ونعمة الله عليك من سدِّ خلَّتها، ومداواة علَّتها بجاهك الواسع، ورفدك النافع.
أحمد بن يوسف: قد بذلتَ لنا من نفسك أعزَّ مبذول وأنفسه، والمودة التي كلما يُحمد من صاحبها، فهو لها نافع. وثقتنا بك واستنامتنا إلى ناحيتك، على أحسن ما أكَّد الله بيننا وبينك. وإن كان مدى اللقاء بيننا لم يَطُل فأثِّل منه ما يرعاه أهل الوفاء والمخالصة، ويقصِّر في المحافظة عليه وعلى أكثر منه، من دُخِلتْ نيته، وضَعُفت خلته.
فصل: قد أصبحت للخاصة عُدَّة، وللعامة عِصمة، وللأنام ثقة في مناصحتك.
فصل في الصفح لأبي علي: إن الذي فَرَط منك، وإن تجاوز مني ما أرضاه لك، لم يبلُغ ما يُغضبني عليك؛ وحيث انتهى ما يخالفني من قولك وفعلك، فإنَّ وراءه تغمُّدًا مني لإساءتك وصفحًا عن زلَّتك؛ فإن تأمنَّا لا نَخُنْكَ، وإن يَسُؤ ظنك فإنما نحتاج إلى إصلاحه منك.
أحمد بن يوسف إلى إبراهيم بن المهدي في هدية استقلها:

بلغني استقلالك لما ألطفتُك، والذي نحن عليه من الأنس سهَّل علينا قلة الحشد لك في البر، فأهدينا هديةَ مَن لا يحتشم إلى من لا يغتنم.

كتب عقَّال بن شبَّة إلى خالد بن عبد الله في شفاعة:

إن الله انتجبك من جوهرة كرم ومنبت شرف، وقسم لك خطرًا شَهَرتْه العرب وتحدَّثت به الحاضرةُ والبادية، وأعان خطرك بقدرة مبسوطة، ومنزلة ملحوظة؛ فجميع أكفائك من جماهير العرب، يعرف فضلك، ويسرُّه ما خار الله لك، وليس كلهم أدالَهُ الزمانُ ولا ساعده الحظ؛ وأنت أحق مَن تعطَّف على أهل البيوتات، وعاد لهم بما يُبقي له ذكره ويحسن به نشره، مثلُك. وقد وجَّهت إليك فلانًا، وهو من دِنية قرابتي، وذوي الهيئة من أسرتي، وعرف معروفك؛ وأحببتُ أن تلبسه نعمتك وتصرفه إليَّ وقد أودعتني وإياه ما تجده باقيًا على النشر، جميلًا في الغِب.

فصل في التوديع

أستودع الله الأمير بأحسن وداعه، وأسأله أن يجعله في كنفه وحرزه، فقد أكرم المثوى، وأحسن الابتغاء؛ فأطال الله له البقاء، وأدام عليه النعماء.

في الصفح

بلغني كتابك، تذكر كتابي إليك بوضعي عنك موجدتي، وردِّي لك إلى أحسن ما عهدتَ من منزلتك عندي؛ وقد حللتَ منا المحل الذي خلطناك فيه بأنفسنا، وأدخلناك منه مداخل أهل ثقتنا؛ ولست تؤتى من جهالة بما أنت فيه، ولبعض ما أنت عليه من التجارب تُستفاد بمثلها العِبر، ويُنتفع بها في عطف الأمور.

جواب في فتح

كتب سالم بن هشام إلى يوسف بن عمر حين قتل زيد بن علي رحمة الله عليه:

قد بلغ أميرَ المؤمنين كتابُك بما أبلى الله في مِدْره السوء، وأنه لما عضَّتهم الحرب، وآلمهم الحديد، عادوا بالمسجد الجامع، قد أكذَب اللهُ ظنونهم، وخذل مخرجهم، وقتل إمام ضلالتهم؛ وحفظ لأمير المؤمنين ما ضيعوا من حقه، وحاط له ما أباحوا من الغدر فيه؛ وقد رأى أمير المؤمنين أن يجعل من شكر الله على نِعَمه، الصفح عنهم، وتغمُّد حَرَمهم، وأن يعمهم من عدله، بما يردُّ به الجاهل عن جهله، والغوي عن غوايته؛ ويعلمون مكانه من الله، واستجابته لعزه ونصره؛ وأنه الخليفة المتَّقَى، والإمام المتألف؛ وأنه يقدِّم العفو في الطاعة، على الحجة في العقوبة، والحِسبة في الاستصلاح، على القوة في التأييد؛ فأمسِك عنهم بيدك؛ فإن أمير المؤمنين قد وهب ذلك كله لله، ورجا به ما ليس ضائعًا عنده من ثوابه.

في الصفح عن الجفاء

لو كان من نازع إلى الغدر، قلدناه عنان الهجر، لم يكن أقرب منا إلى الذنب، ونحن نرد عليك من نفسك، ونأخذ لنفسك منك، حتى يكون تركُنا إياك، وعذرُنا فيه وافرًا.

فصل: الحمد لله على البلية التي طال أمدها، وبُعد ما بين طرفَيْها.
آخر: اقتفرتَ في التثبُّت أناة ذوي الحجى، وقدَّمت المقدم من الأناة على العجلة، وأطعتَ في أمرك النظرة، وانتهيتَ إلى العذرة والمعرفة، فملكت ما ملَّكك، وحكمت على الذي حكم عليك، فأخذت مثل الذي أعطيت.
فصل: بدءُ أسباب الأمور دليل على عواقب الأمل فيها، والخيرة بعد الله عز وجل.

فصل اعتذار

لو كان الناس يقضون الحقوق التي تَجِب عليهم، ويحافظون على الأمور التي تَلزمهم، لقلَّت اللائمة، وخلصت المودة، وارتفعت أسباب العتاب؛ ولكنهم عجزة منقوصون، يضعفون عن العلم، بأكثر ما تدركه عقولهم، وتعوقهم عن ذلك أشغال لا يجب بها العذر، ولا تستحق الإيثار؛ ولم أزل عاتبًا على نفسي فيما ضيَّعت من مكاتبتك، مع معرفتي بفضلك، وموقع ذلك عندك، وما اعتذاري إليك، سوء ظن بك، ولا مخافة للائمتك؛ ولئن فعلتُ ما ظَلمتُ؛ غير أني أحببت أن أكفيك المئونة، فيما عسيتَ أن تنقبض عنه من مقايستي ومعاتبتي؛ وأنا أحب أن تقبل العذر، وتعين على مستقبل البر.

فصل: أنت في زمان إن لم تغالط أهله، وتختلهم على ما في أيديهم، وتصبر على مكاره الأمور بعد المطالبة، لم تصل إلى شيء، ولم تجد أحدًا ما على فضل منك وإن عرفه فيك، ولم يفته من محاسنك شيء، إلا رأى في مساوئ غيرك عوضًا منه؛ فكان بذلك أثلج، وإليه أسكن؛ فعليك بالصبر، فإن غايته إلى خير، وأقل ما فيه أن صاحبه لا يلوم نفسه، ولا يلومه أحد، ولعله يظفر أو يدلل.

إلى المأمون من عامل

قلَّ مَن يسارع إلى بذل الحق من نفسه، إذا كان الحق مضرًّا به، وقلَّ من يدع الاستعانة بالباطل، إذا كان فيه صلاح معاشه، وسبب مكتسبه؛ وإذا تفرَّق الحق في أيدي جماعة فطولبت به، تشابهت في الكُرْه لبذله، وتعاونت على دفعه ومنعه، بالحيل وبالشُّبه قولًا وفعلًا؛ واحتاج المُبتلى باستخراج ذلك الحق من أيديها، إلى استعمال مجاهدتها ومصابرتها على الحيلة في مدافعتها.

ابن الكلبي

كان خبر ما أبلاك الله في فلان بعد أمانه ما عزمتَ عليه من الأمان، خبرًا عَظُم مكانُه من أمير المؤمنين، وحَسُن موقعه من الدين؛ ثم ردف خبرك بإذعانه عند ما عضَّه من بأسك، ومسه من مؤلم إيقاعك للاستسلام، وطلبِ عقد الأمان؛ وإنك بذلت له ما طلب لا لرهبة بقيت في ناحيتك، إلا الاحتذاء على مثال أمير المؤمنين وأدبه؛ فكان إباؤه ما عرضتَ عليه في أول أمره ذخيرة حظٍّ فيما كشفت عنه البلوى من محمود أثرك، واجتمع لك في ذلك حظان: الظفر آخرًا، والدَّرْك لما حاولته أولًا، فلا زلت على نصيبك من الحظ، مؤيدًا بالنصر والمعونة، والحمد لله على ما حقق من الظن٨ … من هذه النعمة على يديك وبسعيك.

إبراهيم بن إسماعيل بن داود إلى ذي الرياستين

وصل إليَّ كتابك بخط يدك المباركة، فلم أرَ قليلًا أجمع، ولا إيجازًا أكفأ من إطناب، ولا اختصار أبلغ في معرفة وفهمٍ منه؛ وما رأيت كتابًا على وجازته، أحاط بما أحاط، وضربتُ ظني في فلان فعظَّم ذلك سروري، وقد يُستعطف الظالم، ويُستعتب المتجنِّي؛ وفي رفقك وعلمك بالأمور ما يُصلح الفاسد، ويذلِّل الصعب، ويُقبِل المدبر؛ ولا يمنعنَّك جور من جار عليك، من الاعتقاد في الحجة عليه، والأخذ بالثقة في أمره، فإن الله عز وجل لم يجعل عليك في ذلك منقصة ولا غضاضة، بل فيه الإعذار والإنذار والاستبصار، وقضاء حاجة النفس، مع التأدية إلى السلامة، والأمن من الندامة.

فصل: أنا في حال عافية، تتجاوز إلى حال نعمة، والحمد لله حتى يرضى، فقد أرضى؛ فأمَّا ما أشرتَ به، وخبَّرت من إمضاء رأيك فيه، والإمساك عنه، فمثلك جعل لمن نصحه شركاء في كل أمره، ولم يجعل رأيه فرضًا لبعضه أن يتعدى،٩ وذكرت أدب فلانة، وعندنا لفلانة الطمع المستقبل مع الإنعام المتقدم، مع أنه لا شيء لها عندنا قلَّ ولا جلَّ، ولو كان ما استحللنا حبسه صفقة كف، ولا تغميض طرف؛ وذكرتَ أنه لا يستغني مثلنا عن مثلها، وأبدال الله كثيرة عتيدة، وما بان علينا فَقْد أحدٍ ممن كان قبلها في دارنا، فحال بيننا وبينه حائل، ولا اختللنا له مع نظر الله تبارك وتعالى وأخلافه؛ وبعد هذا فأحسن الله جزاءك، وحاط لي فيك ما أُحب منك، وكفاك المهم وكفانيه بك، فما تقوم نفس لو كانت لي أخرى مقامك في نصيحتي وبري، والاهتمام لي، بما أنا عنه ساهية لاهية من أمري، لا أعدمنيك الله ولا النصيحة منك.
فصل: قال أبو جعفر الكرماني للحسن بن سهل ووعده شيئًا فأبطأ عليه: أنا أعرِف تكامل الثقة فيك، ورجاحة الفضل بك؛ وأعلم أن فعلك يُربي على قولك، وأن إنجازك أكثر من وعدك؛ فقدِّم لي من كرمك، ما أثمِّره إلى أن١٠ يلحقه المتأخر عنه، وإلا فدُلَّني على ما أقول إذا سألني من بعثته على شكرك، عما بلغه من الحظ على نيتك. فقال الحسن: تقول ما ينبغي. فقال: فافعل ما ينبغي أقله.

عمرو بن مسعدة

وصل إليَّ كتابك، على ظمأ مني إليه، وتطلُّع شديد، وبعد عهد بعيد، ولوم منِّي على ما مسستني به، من جفائك، على كثرة ما تابعتُ من الكتب، وعدمتُ من الجواب، فكان أول ما سبق إليَّ من كتابك السرور بالنظر إليه أُنسًا بما تجدد لي من رأيك، في المواصلة بالمكاتبة، ثم تضاعُف المسرة، بخبر السلامة، وعلم الحال في الهيئة؛ ورأيتك بما تظاهرت من الاحتجاج، في ترك الكتاب، سالكًا سبيل التخلص مما أنا مخلِّصك منه، بالإغضاء عن إلزامك الحجة، في ترك الابتداء والإجابة؛ وذكرتَ شغلك بوجوه من الأشغال كثيرة متظاهرة ممكنة، لا أجشِّمك متابعة الكتب، ولا أحمل عليك المشاكلة بالجواب؛ ويُقنعني منك في كل شهر كتاب، ولن [تُلزم]١١ من نفسك في البر قليلًا، إلا ألزمت نفسي عنه كثيرًا، وإن كنتُ لا أستكثر شيئًا منك؛ أدام الله مودتك وثبَّت إخاءك، واستماح لي منك؛ فرأيت في متابعة الكتب ومحادثتي فيها بخبرك موفَّقًا إن شاء الله.

عيسى بن واضح إلى الفضل بن الربيع

قد أكَّد الله من حُرْمتي بك، ووصل من الشُّعَب بيني وبينك ما جعله ذخيرة ليوم الحاجة، وعُدَّة عند ملمِّ النازلة.

جبل بن يزيد

أما بعد، فإن من صحِب الدنيا لم يخلُ من تصرُّف أحوالها، وكثرة معاريض فجائعها، في اخترام الأنفس في خواصها، ومواقع البلايا بين ذلك فيما يهدها، ويفر من الأشياء عليها؛ وكان ذلك لا سبيل إلى دفعه، ولا حيلة يستعان بها عند نزوله، إلا الرضا عن الله عز وجل فيما قضى، والتسليم لأمره في كل ما أتى، والسكون إلى الأسوة التي نهج الله سبلها، وخفف بها مواقع المصيبات على أهلها؛ ثم الرجاء بعد ذلك لحسن ثواب الله، [وقد] جعله الله لمن لزم أمره وأجشم نفسه مكروهها في مواطن الصبر على المصيبة، والشكر في حال العافية.

وله في المطر

قد كنتُ كتبتُ إلى أمير المؤمنين أُعلمه المطرة التي أصابتنا، وما أنزل الله بها من رحمته ثم عادت لنا بعدها من الله عائدةُ رحمة، بوليِّ مطر أنزله الله بأحسن ما رأينا من المطر وابلًا جَوْدًا، لا يفتر غزيره ولا يرعوي جوده، إلا إلى ديمة عن ديمة، يتراخى إليها يسيرًا ريثما تعود، فأقامت علينا سماؤه مستهلة بذلك وكذلك إلى غروب الشمس؛ ثم انقطع مطرها بسكون من الريح، وفتور من القرِّ، وفضل من الله عظيم، ينشر به رحمته، ويبسط به رزقه، فأسبغ النعمة، وأوسع البركة، وأوبق بحمد الله معارف الخصب والحمى. والله محمود على آلآئه ومشكور على بلائه، وما أنزل الله من سقياه ورحمته، بعد الذي أقبلتْ به السنة البرية والقحط وعدم الإمطار، وشدة ما بلغ الناس من القنوط وسوء الظنون.

وله إلى بعض إخوانه

أما بعد، فإن أعظم الأمور فيما بين الناس حقًّا أمران: منهما الإخاء في الدين، فهو سبب وصية الله بين عباده بالألفة والمحبة التي انقطعت بها قرائن القلوب من بعضهم إلى بعض، فاتصلت بحبائلهم مرائر حبلها، وتقطَّعت فيما بينهم عاطفاتُ وصلها؛ ومنهما مجاملة جميل الأعداء، وحفظ ما يحق لأهل حسن البلاء؛ ثم الصنائع بعد ذلك في مواقعها فضائل بقدر ما جرت به أسبابها ولطفت مداخلها.

فصل: الصناعة ليست يزيدها الأخلاقُ الجميلة، ويزيد في أسبابها أواصر المودة؛ وقد جعلك الله في صناعتك مقدمًا، وفي مودتك متفضلًا؛ فلا زالت عنك نعم الله، ولا برحتَ سكنًا لإخوانك، وأنسًا وموضعًا لما تستميحون من معروفك، ويستميرون من يدبِّرك.
فصل: إنَّ لك من قلبي لموضعًا معمورًا بالمودة والثقة، والاسترسال والأَنَسة، فلا تُخرِج فلانًا من سعة جميل برك، إلى عُقبى استحقاقه.

آخر

قد طالت الصبابة إليك، وللدهر عُقَبٌ عائدة بالنفع والصنع، ولا سيما لمن كان على مثل شاكلتك في أدبك وفضلك وإنصافك إخوانَك وبرِّك بهم، وما توجبه على نفسك لهم مما يقصِّرون عن شأوك فيه.

الكلبي

كان أسلافنا تقارضوا دُيونًا من الصفاء يستأديها كل عَقِب من صاحبه؛ وقد أورثونا مودة لا نعجز عن اكتساب مثلها.

ابن أعين كاتب الخيزران

ليس يكون منك شيء وإن حَسُن، إلا وحُسْن ظني بك يبلغه، فاستتمَّ أحسن ما كان منك، يتم لك أحسن ما تحب مني. ولا يمنعنك الاكتفاء بحالك اليوم من طلب الزيادة في غد؛ فأنه لقل شيء لا يزيد إلا نقص، والزمان يمحق الكثير، كما يربو على الزيادة القليلُ.

ابن الكلبي

أنت مَن أطُول بمكانه وأثق بجميل رأيه، وأعتمد على رفده، وأرجو دَرْك كل فضيلة به؛ ومما أحب علمه مقر نعم الله عز وجل لديك.

علي بن عبيدة إلى ابن الكلبي

وصل الله أيام عمري باتباع موافقتك؛ ولولا موعدٌ أُخذ عليَّ، لأطعتك فيما أمرتَ به، متبعًا مع إجابتك سرور نفسي برؤيتك في السلامة.

أما بعد، فإني أصبحتُ وقد استفرغ الأمير مني كل مودة ونصيحة، ومبلغ جهد وطاقة فيما عرفتُ له فيه موافقة.

فصل: فإن الذي شَعَب الله بيننا من التواصل والتكاتب، يدعوني إلى متابعة الكتب إليك في تعهد حقك، وإن كان الخبر عن ظاهر الحال قلما يغني، فإن له من الأنس والموقع في الكتب ما ليس لمستعرضات الأخبار.
فصل: قد كنت أعلمت الأمير انقطاع بني فلان إلى فلان، بأهوائهم وبصائرهم وشراء١٢ ما قِبَله بغيره، وما كان وصل إلينا في ذلك من الأمور التي حملوا إصرها، وبقي لنا أجرها وذكرها ونافلتها وسابقتها؛ فنحن عدد الأمير وخباياه وذخائره، ومن يأمل يومه وغده، ولا متخطًّى له عنه ولا مقتصر دونه.

عمارة

بلغني كتابك يصف كذا، فإن رأيت ألا تعتمد على ما لصقت [به] من عذرك، وأطعت فيه الهوى من قبول عفوك، وتجعلني أحد من يُسرُّ بسرورك، وتشركه في مهمات أمورك، فإني أحدهم وأوسطهم عناية بما عناك وتوسطًا لما عراك، فعلتَ.

فصل: والدنو من دارك إذ الدار جامعة والحبل متصل، إذ نحن في الاستيفاء بالخبر والعلم بدخلة الحال، بمنزلة من كأنه يعاني مَن يشتاق إليه ويصبو به في كل يوم، حتى نأت النوى، وأنت في اللقاء والإنظار في كل أمر وعلى كل حال مَن لا يُشك في صفاء غيبه، وصدق إخائه.
فصل: مشاركتنا إياك في محبوب الأمور ومكروهها يحلنا محلك في السرور بالنعمة يجددها الله لك، ويوجب من الشكر علينا١٣ مثل الذي يوجب عليك. فوصل الله كل نعمة يهبها لك من الشكر بما يكون لحقِّها قاضيًا، وللمزيد فيها موجبًا.

سعيد بن عبد الملك

كتبت على شُغل في قِطْع من القرطاس، ولم يقطع بي حسن الظن بك في قبولك العذر، وتحسينك ما أنت أهل لتحسينه؛ فإنك تقبل دون حقك، وتهب الذنب فيه، فيكون شكرك جاريًا على سبيلين، كلاهما يبين لك عن فضلك، ويوجب لك ما لا يقصر معه إلا مغبون الحظ خسيس النصيب.

فصل: وقد ظهر من أمير المؤمنين في فلان بعد وفاته، ما هو أعدل شاهد على حسن منقلبه، ورد إليك من رأيه وتفقده ما أرجو أن يكون فيه أعظم العِوض. والله أسأل أن يتولى لك أمورك في السراء والضراء، والشدة والرخاء، والشكر وحسن العزاء.

جبل بن يزيد إلى بعض إخوانه

تمم الله علينا وعليك النعم، وأجزل لنا١٤ ولك محاسن صالح القسم. إن الله تبارك وتعالى أجرى بيننا وبينك لطيف مودة، وخاصَّ أُخوة، غير أن المعرفة قد تحمد بعد الخبرة، والثقة إنما تُعرف بعد التجربة، وقد أحببت أن يعلم مَن قِبلك١٥ الذي أحدث الله لك من حال دولتك، وأن يُعلم هل أبقت لنا منك النعمةُ سعة، أم تركت لنا منك صفحة نعرف بها عهدك ونأمل بها وصلك؟ فإن أصحاب السلطان، بحال بلوى في التغير والانتقال، إلا من نالته من الله تبارك وتعالى عصمة. فإن كنت على ما رجونا من الوفاء، وحسن الحفظ للمودة والإخاء، فمثلك لم يرضَ لنفسه إلا بأجمل الأخلاق وأوفقها للسداد. وإنْ حجزك عن ذلك ما تأتي به الأقدار في متصرف الليل والنهار، نعذرك بما نعذر به أهل السلطان، إذا غيرتهم الحال، وتنكرت شمائلهم بين الإخوان.
وله إلى بعض إخوانه أيضًا: اعلم أني إليك مشوق، وأن صلة الإخوان كرم، وخير الصلات ما لم يكن لها وجه إلا الرجاء والحفظ وتجديد المودة وتصحيح الإخاء؛ فإن الذي يكاتب إخوانه على حال الرغبة يكفي القائل كتابه حيث شاء، إن أحبَّ مالَ به إلى الصحة، وإن شاء وضعه للرغبة، والرغبة أملكهما١٦ به. والذي يكاتب إخوانه على حال الضرورة، فقد يستقطع الصلة عند الحدث مخافة الملامة١٧ من الناس على القطيعة الشنعاء المشهورة لإخوانه؛ فإن الذي لا مودة له قد يصل ذلك في تلك القطيعة بأهل البلاء.

والكتاب على مثل حالنا وحالك اليوم شاهدٌ على أن ذلك ليس إلا صحة الإخاء والشوق إلى المحادثة بالكتاب، حين لا يلومك اللائمون لمنزلة البلاء تلك اللائمة على التقصير، ولا يوضع منك الرغبة في الإطماع. إياك أن تعتلَّ بالأشغال أن كنت في خاصة نفسك، فإن أداء الحق وصلة الإخوان أعظم الخاصة بك خاصة. وإنما أمرنا في كل هذا كأمرك في الذي يستغني من خاصتك تلك التي لنا، فإن لنا ما لك، وهذه التي لنا لك؛ أليس ما سرَّنا سَرَّكَ وما سلبناه حظًّا لك، فهذه كذلك وذلك كهذي. والله يوفقنا وإياك. وأنت أبا يوسف. هكذا حال ما بيننا وبينك ما وصفتُ لأبي سعيد، غير أنه سألنا أمرًا لم يسألناه قط، فله فضل السبق علينا في المسألة، ولنا فضل المنزلة عليك في اللائمة. ولن أدعك والفعل، دون أن تشفعه بالعمل الذي هو صلة القول. وسلام عليك ورحمة الله، وقضى الله عز وجل بالحسنى لنا ولك.

فصل: أتاني كتابك، فأنعمتُ أن يسرني بسلامتك، وما حاق فيه كرم برِّك، ولطيف عنايتك، ما لم أفقد في حالة من حالاتك، فكان الكتاب مصدِّقًا لما سلف، مبشرًا بما يستأنف، مذكِّرًا منك عهدًا موصو١٨ … مثاله طرفي وقلبي، ملصقًا ذكره بلساني وقلبي. فلا عدمتك، بل أمتعني الله بك فأطال، وكثرني ببقائك.
فصل: أتاني كتابك فطامن قلبي وطرفي، بعد ما كان شاخصًا إليه، متشوقًا إلى رؤيته، ثم ملأني سرورًا ما رأيت فيه من آثار برك وكريم تفقُّدك. وأفضل ما عندي منك قِبَله، مما إن ذكرته، فللاستراحة١٩ إلى الذكر، وإن أمسكت، فللعجز عن الشكر. فأما الضمير فمبني على الإقرار بفضلك، والنية خالصة بشكرك. وقليل ذلك لك، فأعطاك الله فأطاب، ووهب فأجزل.
فصل: وصل إليَّ كتابك فخيل لي حين نظرت إلى أثر يدك بمجرى قلمك في بطن صحيفتك، أنك ماثل بين عيني: أنظر إلى شخصك وأسمع من لفظك، فابتعث ذلك مني طربًا شائقًا، وصبابة هيَّجت الأحزان وذكَّرت الإخوان. وكنتَ من إخواني الذين أفخر بسلامتهم للود الذي أجرى الله بيننا وبينك، فتواصلنا بحرمته، وتعاطفنا بوصله.
فصل: إن الله جعل عاقبة كل نعمة وإن عظمت، تبعًا لأولها، وجعل الشكر عليها سببًا لتمامها وموجبًا لأحسن الزيادة منها.
فصل في شكر: فإن الله جعلك للخير معدنًا، وللفضل موضعًا، فيما حملته نفسك من ثقل أعباء المروءة، وحملتها عليه من عظام المكارم، حتى صرت بما أنعم الله به عليك، منتهى كل أمل وغاية كل رغبة. ثم ألبست النعمة لباس التواضع، وناسبت في الأخلاق من سبقت به عليك الأمور، حتى كأنهم في النعمة لك شركاء. وتحنَّنت على الأقربين والمتقربين من الإخوان والأكفاء، حتى كأنهم لك ولد، وأجبرت نفسك حين ساعدك الدهر، على طبيعة التقرب إلى العامة؛ فكلهم يدلي إليك بدلو رغبته، ويمتاح منك متاحة فضل؛ فلا عدمت ألا تزال تُنعش سقطة، وتُقيل عثرة، وتسد خللًا، وتنيل أملًا؛ ولا عدم مَن شهد ذلك منك، أن يستتم هذه النعمة عليك وعلى نفسه؛ فإن من سعادة العامة أن يجعل سارها عند خيارها. ومن البلاء العظيم عليها الموجع لها، أن يخص شرارها بموضع رغباتها.
فاسلم كلأك الله بهذه النعمة، غير منغص بها، ولا مكدر عليك٢٠ صفوها، حتى تسلمك النعمة العاجلة إلى النعمة الباقية؛ فإنا وإن علمنا أن من شأن الدهر الغدران في العواقب فقد علمنا أنك فيما أهدى الله إليك من النعمة، قد أدَّيت حق الله عز وجل ثم حق إخوانك فيها، فكنتُ آخرَ من نال فضلك، كرمًا في السناء، ورضًا في الأثرة، غير متطاول لما نأمل، ولا متضعضع لما تحذر؛ فإنا نجزي شكر الماضي منك، ورجاء الباقي، فنرى تضييعًا منا في عقد الرأي، وإزراء بنا في وثائق الأمور، ألَّا نمنحك من أنفسنا مودة الولد ورقة الوالد، وإذا أعطاك امرؤ ثمرة فؤاده، فقد فرغ إليك من جميع حقك؛ لأن ذات يد امرئ في البذل أهون عليه من ذات نفسه في الشكر. وكفى لامرئ من امرئ أن يستولي عليه حتى لا يدع لغيره فيه فضلًا. وكفى بك لنا من غيرك. وكثير منا أن نقوى على أداء أدنى صنوف حقك، غير أن أوثق أمورنا فيك عند أنفسنا ألا نسأم النظر إلى فنائك بَهِجِين بك إن برزت، وعاذرين لك إن شُغِلت.
فصل: إن الهدى والضلالة يقتسمان دول الأزمنة، لغير كرامة للباطل، ولا هوان للحق. وأهل الحق كيف تصرفت أحوالهم في كرامة من الله عز وجل، ونعمة بين دولة تكون لهم، يقومون لله فيها بحقه ويُظهرون هداه ودينه، ودولة تكون للباطل، يكونون فيها كهوفًا للخيرات، ومعدنًا للحسنات، يستكنُّ الحق في صدورهم، ويأوي البر والصدق إليهم؛ فهم بين يومَيْ صبر وشكر، ليس أحدهما دون صاحبه في الفضل.

وأهل الباطل كيف تصرفت أمورهم بين سخط الله وعقوبته؛ لأن الله تعالى لم يجعل في الباطل فرجًا لأهله، وإن كانت لهم دولة كانت إملاءً واستدراجًا، وكانوا فيها على مدرجة هلكة وسبيل نقمة؛ وإن كانت الدولة لأهل الحق، كانوا فيها بين ذيل وضيم، وخوف وجزع، وقد سدت عليهم المطالع، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت. ففي أي يومَيْهم مستراحهم: أيوم دولتهم، وهم لا يشكرون النعمة ولا يقطعون أسباب النقمة؟ أم يوم علو الحق عليهم، وهم لا يصبرون على المحنة ولا يُبصرون من العمى؟ وأهل الحق بين حالَيْ غبطة وحسبة، وأهل الباطل بين حالَيْ إملاء ونقمة.

فصل في صفة الجند: إن الغالب على أهواء جماعة من فئام أولياء الأمير وجنده إعظام الأمير ومعرفة فضله، والتقرب إلى الله بمحبته ومناصحته وطاعته، ومعاداة عدوه؛ وتلك نعمة يعتدُّونها ويتقربون إلى الله بها، ويتوسلون إلى الأمير بخزي قوم خالفوا.
فصل: حل بين فلان وبين التشريد بهم والاجتياح لهم، فإن ذلك أرضى لربك، وأجمع للألفة، وأقوم لعمود الخلافة الذي سدد الله دعائم الإسلام وأس الدين به. واعلم أن من حاط الله دينه، ورمتْ عن فوقه الجماعة، وعادى أهل النقض لها، ابتعثه الله آمنًا من هول الحساب وضيق المحشر، والله بنصره أحق وأولى. وكن لله بحيث افترض عليك، فإنه قال لنبيه : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ.

كتب جعفر بن محمد بن الأشعث إلى رجل لم يكاتبه

لست بما صرفتَ إليَّ من معروفك بأسر مني، بما أهديت إليَّ من قضاء الحق عنك، وقلة ذوي الحرمة بك؛ لأنك قد تصل من لا يثق ولا يأنس إلا بمن يعتمد عليه.

كتب الفضل بن يحيى إلى رجل يشاوره في أمر حدث

ليس كل امرئ وإن كان ذا عزيمة في رأيه، وأصالة في عقله، بمستغنٍ عن مكاشفة أهل الرأي؛ لتوزيع الله عز وجل، أقسامَ الفضل في خلقه، وإشراكه إياهم، في عطاياه؛ فرأيك في كذا.

ركب إبراهيم بن المهدي إلى أحمد بن يوسف، فكتب أحمد إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي

عندي مَن أنا عبده، وحجتنا عليك، إعلامنا إياك.

توسُّل

توسَّل رجل إلى رجل بمحمد بن عبد الملك وادعى قرابته منه، وبلغ ذلك محمدًا فكتب إلى المتوسل إليه:

بلغني أن رجلًا ادعى قرابتي، وأورد عليك كتابًا ذكر أنه مني؛ وما أُنكر أن ينتفع بي من توسَّل بنسبي، إلا أنه من ادعى قرابة، ولا قرابة له، كان استعمال الشفاعة في أمره أولى.

كتب طاهر بن الحسين إلى الفضل بن سهل

أسعدك الله بمحاربتك، التي بذلت فيها مهجتك، ومهج من هو موصول بك منا.

محمد بن الجهم

وليس في جميع الناس أعدى لك: مِن صديق مؤمِّل، أو حميم راجٍ، إن منعتهما شتماك وبهتاك، وإن أعنتهما الباهتة٢١ اغتالاك.

محمد بن مُسْعَر

قال: كنت أنا ويحيى بن أكثم عند سفيان، فبكى سفيان، فقال له يحيى: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: بعد مجالستي من جالس أصحاب رسول الله ابتُليت بمجالستكم! فقال له يحيى: فمصيبة من جالستَ منهم بمجالستهم إياك بعد أصحاب رسول الله أعظم من مصيبتك بنا! فقال: يا غلام، أظن السلطان سيحتاج إليك.

دخل ميمون بن مهران على بعض خلفاء بني أمية — وأحسبه عمر بن عبد العزيز — فقال له وقد قعد في أخريات مجلسه: عِظني! فقال له: إنك لمن خير أهلك إن وقيت ثلاثًا. قال: ما هن؟ قال: السلطان وقدرته، والشباب وغرته، والمال وفتنته. فقال: أنت أولى بمكاني مني فارتفع إليَّ. فأجلسه معه على سريره.

ابن وهب في الاعتذار

لو لم نعذرك لم نعذر أنفسنا بقطيعتك، فكن لنا في لائمة نفسك، كما كنا لك في عذرك.

وفي مثله

ليس في الإساءة فضل عن الاعتذار، وفي عائدتك فضل عن إساءتنا، فمن أين يسقط بين فضلك والاعتذار!

آخر

فلان من حملة المعروف، يكثر عندهم قليله في شكرهم، ويقل لهم كثيره في عظيم حقوقهم.

فصل: لئن عميت عن الرأي فيك، لقد أبصرته بك.
فصل: تغيب فأشتاق، ونلتقي فلا أشتفي.

(٢) فصول من رسائل مختارة في كل فن

وهي مُثُل مما كتب به الكتاب في أبواب لا نظير لها.

فمن ذلك ما كُتب به في التحميد لله عز وجل في أوائل الفتوح وأواخرها وأوائل الكتب التي فيها تحميد الله عز وجل.

التحميد الأول

الحمد لله القادر القاهر، المتوحِّد بالسلطان والربوبية، والمتفرِّد بالبقاء والقدرة، والمتجبر بالكبرياء والعظمة؛ ذي الجلال والإكرام، والإفضال والإنعام، والعز والبرهان، والأسماء الحسنى، والمثل الأعلى؛ الأول بلا غاية، والآخر بلا نهاية، الذي لا يحيط به وصف الواصفين، ولا تبلغ مدى عظمته أوهام المتوهمين، ولا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير؛ لا يئوده حفظ كبير، ولا يعزب عنه علم صغير، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.

التحميد الثاني

الحمد لله الذي خلق الأشياء على غير مثال ولا رسوم، وأنشأها على غير حدود، ودبر الأمور بلا مشير، وقضى في الدهور بلا ظهير، وسمك السماء بقدرته، وبناها على إرادته، وأسكنها ملائكته الذين اصطفاهم لمجاورته، وجبلهم على طاعته، ونزههم عن معصيته، وجعلهم حملة عرشه، وسكان سماواته، ورسله إلى أنبيائه، يسبحون الليل والنهار لا يفترون؛ ودحا الأرض وبسطها لكافة خلقه، وقسم بينهم الأرزاق، وقدر لهم الأقوات، فهم في قبضته يتقلبون وعلى أقضيته يجرون، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

وصدر تحميد مفرد

الحمد لله العلي مكانه، المنير برهانه، التامة كلماته، الشافية آياته؛ والحمد لله ولي أوليائه وعدو أعدائه.

وصدر تحميد

الحمد لله الغالب الذي لا يُغلَب، والمقتدر الذي لا يُعان، والمنجز وعده، والمؤيد أولياءه، والخاتم بالفَلَج٢٢ والظهور لهم، والمديل من أعدائه، ومحيط دائرة السوء بهم.

ولكاتب خزيمة بن خازم في فتح الصنارية تحميد مختار

أما بعد، فالحمد لله ذي الملكوت والقدرة، والجبروت والعزة، والسلطان والقوة؛ أهل المحامد كلها، ومدبر الأمور ووليها، وخالق الخلائق وبارئها، ومميتها ومحييها، وباعثها ووارثها؛ الذي أوجب على نفسه بما نَفَذ من مشيئته، وسبق من علمه، وثبت في اللوح المحفوظ عنده إعزاز دينه، وإظهار حقه، وإعلاء كلمته، وإبلاج حجته، وإزهاق باطل أعدائه؛ الصارفين عن طاعته، والجاحدين لربوبيته، المكذبين بكتبه ورسله؛ بلغ بذلك أمره، ونطق به كتابه؛ فإنه يقول تبارك اسمه في المنزل من فرقانه: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ.

وتحميد لأحمد بن يوسف إلى الولاة عن الخليفة

أما بعد، فالحمد لله ذي المنن الظاهرة، والحجج القاهرة؛ الذي قطع بينه وبين عباده المعذرة، ورادف عليهم البينة، ومُهلة النظرة؛ وجعل ما أتاهم من حظوظ الدنيا بالقسم المكتوب، وما ذخر لهم من ثواب الآخرة بالنُّجح المطلوب؛ فهم في العاجلة شركاء في النعمة، وفي الآجلة شتى في الرحمة؛ يختص بها أهلها المنتفعين بما ضرب لهم من الأمثال، وتصريف الحال بعد الحال؛ المبادرين بأعمالهم إلى انقضاء مدد آجالهم، قبل حلول ما يُتوقع، وفوت ما لا يُرتجع.

وتحميد لإبراهيم بن العباس في فتح إسحاق بن إسماعيل

الحمد لله معز الحق ومديله، وقامع الباطل ومزيله، الطالب فلا يفوته مَن طلب، والغالب فلا يُعجزه مَن غلب؛ مؤيد خليفته وعبده، وناصر أوليائه وحزبه؛ الذين أقام بهم دعوته، وأعلى بهم كلمته، وأظهر بهم دينه، وأدال بهم حقه، وجاهد بهم أعداءه، وأنار بهم سبيله؛ حمدًا يتقبله ويرضاه، ويوجب أفضل عواقب نصره، وسوابغ نعمائه.

التحميد الثاني

الحمد لله الغالب ذي القدرة، والقاهر ذي العزة؛ الذي لم يقابل بالحق باطلًا في موطن من مواطن التحاكم بين عباده، إلا جعل أولياء الحق منهم حزبه وجنده، وجعل الباطل بهم فلًّا منكوبًا، ودحيضًا زهوقا؛ إن نهض به أولياؤه كانت مراصد عواقبه مفرِّقة ما جمع، ومبترة ما أُعِد، وقائدة بأشياعه إلى مصرع الظالمين، حتى يكون الحق الطالب الأعز، والباطل المطلوب الأذل؛ وأولياء الحق الأعلين يدًا وأيدًا، وأشياع الضلال الأخسرين أعمالًا وكيدًا؛ قضاء الله وسنته، وعادة الله وإرادته، في الفئة المنصورة أن تعز فلا ترام، وأن يمكِّن لها في الأرض كما مكَّن للذين من قبلها؛ وفي الفئة الناكبين عنه، أن تزل فتكون كلمتها السفلى، وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم.

وتحميد له مبتدأ مقام بين يدي الخليفة

أما بعد، فالحمد لله الأول بلا أيد يحصى، والآخر بلا أمد يفنى؛ الظاهر لخلقه بعزته، العزيز في سلطانه بعظمته، الفرد في وحدانيته بقدرته، المدبر في ملكه بجبروته؛ الذي نأى عن الأشياء أن يكون فيها محويًا، واتصل بها فلم يك من علمها خليًّا، وهو فيها غير مستكِنٍّ، ومعها غير مماسٍّ في لجج البحار، ومفاوز القفار، وشوامخ الجبال، وكثبان الرمال؛ مع كل خلق، وفي كل أفق، وعلى كل شرف ومكان، وفي كل وقت وأوان؛ موجود إذا طُلب، وقريب حيث نُدب؛ عالم خفيات الغيوب، وخطرات القلوب، وما في السموات وما في الأرض، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم؛ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.

وتحميد ثانٍ يتلو الأول

الحمد لله المتعالي عن تشبيه الجاهلين، وتحديد الواصفين، وتكييف الناعتين؛ يُوصف لا بالعرض والطول، ويُنعت بغير الشبح الممثول، ويُحد لا بالخلق المعدود، والجسم الموجود؛ بل يتناهى من وصفه، إلى ما دل عليه من صنعه، ويُوقَف عليه من نعته، على ما أخبر به عن نفسه؛ وكيف يُوصف من لم يره أحد، ويحد من لم يحده بلد؛ أو يشبه غير ذي أعضاء، أو يكيف غير ذي أجزاء؛ لو رئي لوصف، ولو وصف لمثِّل، ولو مثِّل لكان له نظير؛ سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، لا تُجِنُّه الأقطار، ولا يحويه قرار؛ ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير؛ لا يوصف أُولاه، ولا يدرك أُخراه، ولا يعرف منتهاه؛ عَظُم أن يحصره وهم، وجلَّ أن يدركه فهم، وامتنع من أن يخاله علم، ولا يغيره ليل ولا يوم؛ ولا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السموات وما في الأرض، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما، وهو العلي العظيم.

وتحميد ثالث

الحمد لله الذي ألهمنا من الإقرار بربوبيته، والإيمان بوحدانيته، وأنه غير ذي صاحبة يسكن إليها من وحشة، ولا ولد يتكثَّر به من ضعف قلة، ولا شريك يعاونه من عجز قدرة، ولا ظهير يكانفه لملال فترة؛ ما جعل لنا به أوثق الأسباب لديه، وأرجى الوسائل إليه؛ إذ كان من أنكر ما دللنا الإقرار به يصير بجحد ما أخنعنا الاعتراف فيه، إلى أليم عقوبته بالمعصية التي استحكمت السخطة على أهلها، وحلت النقمة بمن فارقها؛ ثم جعلنا تبع إشراف كثير على أنفسنا في مشيئة منه، بسط إليها آمالنا وأحسن عليها أطماعنا بكرم عفوه، وعظيم حلمه، وسعة رحمته، التي وعد أهل الإيمان بها؛ إذ صار مَن فارقهم في ذلك بما استهوت عليهم، بتزيينه لهم شياطينهم، ورانت على أفئدتهم٢٣ … وما ظلمتْه قرباؤهم إلى الناس من كل طمع يجدي وخبر ينجي؛ جزاء بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين.

وتحميد يتلو الثالث في هذا المقام

الحمد لله الذي ابتدع لا من شيء ما أنشأ، وابتدأ على غير مثال ما ابتدأ؛ فجعل كثيرًا من لطائف تقديره، وصنوف تدبيره، وتصاريف أموره؛ حججًا واضحة، وآيات بينة، وعبرًا شافية؛ تشهد له بعزة القدرة، ونفاذ الحول والقوة؛ فخلق مدبِّرًا بلا مشورة أحد، سبعًا دحاهن على الماء على غير سند؛ مبسوطات في تكاثف أجزائهن، على معين ماء مسخر من تحتهن، فجرَّ خلالهن أنهارًا، وقدَّر فيهن من المعاش أقواتًا، وجعل لهن من الجبال أوتادًا، ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا آتينا طائعين. ففطر من الدخان في خفته على الهواء سبعًا، جعل بينهن من الجو متسعًا، سبع سموات طباقًا مرتفعات، بلا دعائم قبلها ولا علاقات، يمسكهنَّ بقدرة أن يرتفعنَ فوق ما حبسهنَّ عليه، وأن يهوينَ إلى قرار دون ما رفعهنَّ إليه؛ فأتقنَ صنعها، وأوحى في كل سماء أمرها؛ وزين السماء الدنيا بالمصابيح النيرة، والشهب الثاقبة، والنجوم الواضحة؛ وسخَّر الشمس والقمر علمًا للمهتدين، وسراجًا للمبصرين، ورجومًا للشياطين، وأوقاتًا لاختلاف السنين، ومعرفة لكل حين؛ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون؛ فقضاهن سبع سموات في يومين، ولو شاء خلقها في أسرع من طرف العين؛ إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون؛ بلا معاناة لقول، ولا ضعف من حول؛ ثم أسكنهنَّ من خلقه ملائكةً اصطفاهم لعبادته، واجتباهم لتبليغ رسالته، معصومين من أن يشركوا بالله، ما لم ينزل به سلطانًا، وأن يقولوا على الله إفكًا وبهتانًا؛ يسبحونه بالليل والنهار لا يفترون ولا يسأمون من عبادته، ولا يستحسرون عن طاعته؛ يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون.

وتحميد في فتح لابن العباس

أما بعد، فالحمد لله الذي حمد نفسه، وفرض حمده على خلقه، وأعز دينه وأكرم بطاعته أولياءه، وأكرم طاعته بأوليائه، فجعل جنده منهم المنصورين، وحزبه منهم الغالبين؛ نهج بهم سبيله، وأقام بهم حجته، وجاهد بهم أعداءه، وأظهر بهم حقه، وقمع بهم الباطل وأهله؛ وأعلى كلمتهم، وأيَّد نصرهم، وألَّف لهم وبهم، ومكَّن لهم في الأرض، فجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين.

والحمد لله المعز لدينه، المظهر لحقه، الناصر لخلفائه، الممكِّن لحزبه؛ المنتقم بهم ممن صدف عنه، مؤيدًا دينه بالنصر، ليظهره على الأديان، وحفه بالعز، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ وجنوده بالفلج فهم الأعلون إن استُنصر بهم، والأعزون إن كاد بهم؛ والأقربون منه إخلاصًا وعملًا؛ حمدًا يؤازي نعمه، ويمتري بمثله فواضله ومزيده.

وله في فتح ابن البعيث لما ظفر به

أما بعد، فالحمد لله ناصر أنبيائه وخلفائه، وهادي أوليائه، أولياء الحق وحزب الهدى؛ الذين أقام بهم سبل الرشاد، ونصب بهم مناهج الدين، فأظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

وله صدر كتاب الخميس في تحميد الله وتمجيده

أما بعد، فالحمد لله الذي جلَّت نعمه، وتظاهرت مننه، وتتابعت أياديه، وعمَّ إحسانه؛ إله كل شيء وخالقه، وبارئه ومصوره؛ والكائن قبله، والباقي بعده، كما قال في كتابه: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. العالي في مشيئته والقاهر فوق عباده، المتعالي عن شبه خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، خلق العباد بقدرته، وهداهم برحمته، وأوضح لهم السبيل إلى معرفته بما نصب لهم من دلائله، وأراهم من عبره، وصرفهم فيه من صنعه، كما قال جل جلاله: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ.

وذلك كله من خلقه إياهم بتمثيله ما مثَّل لهم من الدلائل التي نصبها لهم، والأعلام التي جعلها إزاء قلوبهم، وأسماعهم وأبصارهم، ويسَّر لهم خواطرهم وفكرهم، والهيئة التي هيأهم لها ليقع الأمر والنهي عليهم؛ فلا يكلفهم فوق طاقتهم، ولا يجشمهم ما يقصر عنه وُسعهم، نظرًا منه تبارك وتعالى إليهم ورحمة بهم؛ ليؤمنوا به ويعبدوه، فيستحقوا به رحمته ورضوانه، والخلود في النعيم المقيم، والظل المديد، والعيش الدائم؛ كما قال تعالى ذكره: إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ. وكان من نظره ورأفته بهم أن بعث فيهم أنبياءه ورسله، يدعونهم إلى طاعته، ويبينون لهم هداه، ويوضحون لهم سبيله؛ ويهدونهم إلى رحمته، ويَعِدُونهم ثوابه، وينذرونهم عقابه، ويبسطون لهم توبته، ويحذرونهم سخطه، ويبينون لهم سنته وشرائعه، ويكشفون لهم مواعظه، ويعلمونهم كتابه وحكمته، كما قال تبارك وتعالى: لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ. وكان من رأفته بهم، ونظره لهم، أن بعثهم إليهم بالحجج الظاهرة، والأعلام البينة، والشواهد الناطقة، التي أظهر بها صدقهم، وأقام بها برهانهم، وأوضح بها دليلهم، وأثابهم عمل سواهم، ليكون أدعى لهم إلى تصديقهم، والقبول عنهم، وأوكد للحجة على من أبى ذلك منهم.

وتحميد أحمد بن يوسف في صدر رسالة الخميس التي كانت تُقرأ بخراسان

أما بعد، فالحمد لله القادر القاهر، الباعث الوارث، ذي العز والسلطان، والنور والبرهان؛ فاطر السماء والأرض وما بينهما، والمتقدم بالمن والطَّول على أهلهما؛ قبل استحقاقهم لمثوبته، بالمحافظة على شرائع طاعته، الذي جعل ما أودع عباده من نعمته، دليلًا هاديًا لهم إلى معرفته، بما أفادهم من الألباب، التي يفهمون بها فصل الخطاب؛ حتى اقتنوا علم موارد الاختبار، وثقفوا مصادر الاعتبار، وحكموا على ما بطن بما ظهر، وعلى ما غاب بما حضر؛ واستدلوا بما أراهم من بالغ حكمته، ومتقن صنعته، وحاجة متزايل خلقه ومتواصلة، إلى القِوام بما يلمه ويصلحه، على أن له بارئًا هو أنشأه وابتدأه، ويسَّر بعضه لبعض، فكان من أقرب وجودهم، ما يباشرون به من أنفسهم؛ في تصرُّف أحوالهم، وفنون انتقالها، وما يُظهرون عليه من العجز عن التأتي لما تكاملت به قواهم، وتمت به أدواتهم، مع أثر التدبير والتقدير فيهم، حتى صاروا إلى الخلقة المحكمة، والصورة المعجبة، ليس لهم في شيء منها تلطُّف يتيمَّمونه، ولا مقصد يعتمدونه من أنفسهم؛ فإنه قال تعالى ذكره: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ. وما يتفكرون فيه من خلق السماء، وما يجري فيها من الشمس والقمر؛ والنجوم مسخرات على مسير لا يثبت العالم إلا به، من تصاريف الأزمنة، التي بها صلاح الحرث والنسل، وإحياء الأرض، ولقاح النبات والأشجار، وتعاور الليل والنهار، وممر الشهور والأيام؛ والسنين التي تحصي بها الأوقات؛ ثم ما يوجد من دليل التركيب، في طبقات السقف المرفوع، والمهاد الموضوع، باختلاف أجزائه والتئامها، وخرق الأنهار، وإرساء الجبال، ومن التئام الشاهد على ما أخبر الله به من إنشائه الخلق وحدوثه بعد أن لم يكن، مترقيًا في النماء، وثباته إلى أجله في البقاء، ثم محاره منقضيًا إلى آخر الفناء؛ ولم يكن له مفتتح عدد، ولا منقطع أمد، وما ازداد بنشوء، ولا تحيَّفه نقصان، ولا تفاوت على الأزمان؛ لأن ما لا حد له ولا نهاية، غير ممكن الاحتمال للنقص والزيادة؛ ثم أجرى فيما ذكر من خلق الله وخلق الإنسان إلى ذكر ما تفضَّل الله به على عباده الأنبياء، وما اختصهم به من مبعث النبي ، إلى ذكر الخلفاء أولًا، ثم إلى ذكر المأمون ودولته.

وتحميد للعباس في مقام له بين يدي المأمون

الحمد لله على نعمه علينا، وإحسانه إلينا، بالأرض المبسوطة، والسماء المرفوعة، والرياح المسخرة، والأمطار النازلة، والأوقات القائمة، والمنافع الدائمة؛ والدين المبين، والأدب القويم؛ حمدًا يكون إليه صاعدًا، ولديه ناميًا، ولملكوته مالئًا؛ والحمد لله حمدًا يثبت رضوانه، ويورث إحسانه، ويوجب مزيده؛ فهو المنعم المحمود، والمتطول المشكور؛ لا إله إلا هو لا شريك له، كما شهد الله وملائكته قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

وتحميد لعبد الحميد في أبي العلاء الحروري

الحمد لله الناصر لدينه، وأوليائه وخلفائه، المظهر للحق وأهله، والمذل لأعدائه وأهل البدعة والضلالة؛ الذي لم يجمع بين حق وباطل، وأهل طاعة ومعصية، إلا جعل النصرة والفلج والعاقبة لأهل حقه وطاعته، وجعل الخزي والذلة والصغار، على أهل الباطل والخلاف والمعصية؛ حمدًا يتقبله ويرضاه، ويوجب به لأمير المؤمنين وأهل طاعته الزيادة التي وعد من شكره؛ والحمد لله على ما يتولى من إعزاز أمير المؤمنين ونصره وإفلاجه وإظهار حقه، على ما وقع بأعدائه وأهل معصيته والخلاف عليه من سطواته ونقماته وبأسه، فيما ولي أمير المؤمنين من موالاة من والاه، وعداوة من بغى عليه وعاداه؛ لا يَكلُه في شيء من الأمور إلى نفسه، ولا إلى حوله وقوته ومكيدته، فإنه لا حول ولا قوة لأمير المؤمنين إلا به.

وتحميد في آخر فتح

الحمد لله المعز لدينه، المظهر لحقه، الناصر لأوليائه، المنتقم من أعدائه أهل الكفر؛ المنزل بهم من بأسه، ونقمته وجوائحه؛ الذي لم يجمع بين أهل حقه، وباطل عدوه، في موطن من مواطن التحاكم، إلا جعل فيه لأوليائه الظفر، وأفرغ عليهم الصبر، ومنحهم النصر؛ وجعل الدائرة وسوء العاقبة على عدوه، وأهل الكفر؛ حمدًا كثيرًا يرضاه من الشكر، ويحسن به المزيد.

وتحميد في فتح إلى أمير لقمامة

الحمد لله الفتاح العليم، الذي خص الأمير بأفضل الكرامة وأتم النعمة؛ وأحسن الولاية، وأعظم الكفاية؛ وحفظ ما استرعاه، وأعز أولياءه، وقمع بالمذلة أعداءه، وجعل حسن العاقبة له ولأهل طاعته، ودائرة السوء على أهل معاندته؛ حمدًا يحسن به القضاء، وتزيد به النعماء.

وصدر تحميد لغسان بن عبد الحميد في خطبة موجزة

الحمد لله الذي لا يُدرَك خيرٌ إلا برحمته، ولا يُنال الفضل إلا بنعمته؛ وليِّ التسديد للحسنات، والعصمة من السيئات.

تحميد لعبد الحميد في فتح

الحمد لله العلي مكانه، المنير برهانه، العزيز سلطانه، الثابتة كلماته، الشافية آياته، النافذ قضاؤه، الصادق وعده؛ الذي قدر على خلقه بملكه، وعزَّ في سماواته بعظمته، ودبر الأمور بعلمه، وقدَّرها بحلمه، على ما يشاء من عزمه؛ مبتدعًا لها بإنشائه إياها، وقدرته عليها، واستصغاره عظيمها، نافذة إرادته فيها، لا تجري إلا على تقديره، ولا تنتهي إلا إلى تأجيله، ولا تقع إلا على سبق من حتمه، على كل ذلك بلطفه وقدرته، وتصريف وحيه؛ لا معدل لها عنه، ولا سبيل لها غيره، ولا علم أحدٌ بخفاياها ومعادها إلا هو؛ فإنه يقول في كتابه الصادق: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ إلى آخر الآية.

وتحميد ثانٍ

الحمد لله الذي علا بالحُجُب التي استتر بها عن جميع خلقه، واستغنى بها عنهم لما توحد به دونهم من عباده الذين فطرهم على المعرفة، رءوفًا عليهم بمنه ومتطولًا وهو فيما يمضي من أقداره، مفصلًا لهم بابتدائه خلقهم في أحسن تقويم، وإعطائه إياهم عاجل كل خير مقسوم، وتسخيره لهم جميع ما في السموات والأرض، وبسطه لهم في معايشهم أوسع الرزق، وإسباغه عليهم فيها أفضل النعم التي لطُفت فبطنت، وعظُمت فظهرت، ولبست فعمَّت، وانتشرت فجلَّلت، وكثرت فلا يحصيها عادٌّ، وجزلت فلا يؤدي حق ما افترض منها شاكر، فإنه يقول: وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ.

والحمد لله الذي لم يقتصر بهم في إكرامه وتفضيله إياهم على عاجل، فإنه مضمحل زائل مما أعطاهم إياه، ولم يكلهم في معرفة خالقهم تبارك وتعالى، ومتولي النعم عليهم، والإحسان إليهم، والارتياش لهم؛ ولا في مبتغى سبيل طاعته، وأداء حقه، وشكر نعمته، واستيجاب غبطة المعاد إليه إلى أن يعوا ذلك بعقولهم، والنظر فيه بألبابهم، والتصريف له على أهوائهم؛ فإنه لو ألجأ ذلك إليهم، وأفردهم فيه إلى أنفسهم، ووكلهم فيما أمرهم به إلى مقدرتهم، لحارت عنه منهم الأبصار، ولتاهت فيه منهم العقول، ولأضلهم عن قصده العمى، ولمال بهم إلى غيره الهوى، ولاستحكم عليهم شرك الردى؛ ولكنه بعث فيها أنبياءه الهادين، يدعونهم إلى الصراط المستقيم، بنوره المضيء، ودينه القويم، وآياته البينة، وكتبه الفارقة التي بيَّن فيها محابَّه ومكروهه، وطاعته ومعصيته، وثواب الفريقين في ذلك من عباده ليحذروا ما حذرهم فيه من سخطه، ونزل بهم فيه من نقمته؛ وليسارعوا فيما جعل لأهله به إلى أفضل المثوبة، وأحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وكشف لهم الجهالة، وهدى من الضلالة، وبصَّرهم سبيل الحق، وبيَّن لهم معالم الإسلام، ليرجع جائرٌ، ويقصد زائغٌ، ويعرف جاهلٌ، وليعبد الرب بما وحد به نفسه، وليستبين العلم، ويستضيء الحق، وليبتغي من الله الثواب بلزوم دينه الذي شرع، وأداء فرائضه التي فرض، وإيثار طاعته التي أوجب، وليكون لله الحجة البالغة على عباده فيما تركوا من ذلك وسفهوا بعد استبانته لهم، واستفاضته فيهم وإعذاره إليهم، فإنه يقول: لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ، ويقول: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى.

لأنس بن أبي شيخ

الحمد لله الذي بالقلوب معرفته، وبالعقول حجته، الذي بعث محمدًا أمينًا فوفَّى له، ومبلِّغًا فأدى عنه فحجَّ به المنكر، وتألَّف به المدبِر، وثبَّت به المستبصر، إلى أن توفاه على منهاج طاعته، وشريعة دينه، ثم أورثكم عهده وخصكم بكلمة التقوى، وجعلكم الأمة الوسطى.

ولعبد الحميد في فتح يعظم فيه أمر الإسلام بمحمد

أما بعد، فالحمد لله الذي اصطفى الإسلام دينًا رضي شرائعه، وبيَّن أحكامه ونوَّر هداه، ثم كنفه بالعز المؤيَّد، وأيَّده بالظفر القاهر، وآزره بالسعادة المنتجبة، وجعل من قام به داعيًا إليه من جنده الغالبين، وأنصاره المسلطين، كلما قهر بهم مناوئًا أورثهم رباعتهم المأمولة، وأموالهم المثرية، ودارهم الفسيحة، ودولتهم المطولة، أمرًا حتمه على نفسه؛ ثم جعل من عاندهم وابتغى غير سبيلهم مسلمًا قد استهوته ذلة الكفر بظلمها، وحيرة الجهالة بحوارها، وتيه الشقاء بمغاويه، وكلما ازدادوا لدعوة الحق إباء، ازداد الحق إليهم ازدلافًا، وعليهم عكوفًا، وفيهم إقامة، إلى أن يحل بهم عز الغلبة؛ ونجاة المتجاوز؛ راغبين فيما شوَّقهم إليه، محافظين على ما ندبهم له، قد بذلوا في طاعة الله دماءهم، وقبلوا المعرض عليهم في مبايعة ربهم لهم بأنفسهم الجنة. محمودٌ صبرُهم، مسهل بهم عزمهم، إلى خير الدنيا والآخرة.

والحمد لله الذي أكرم محمدًا بما حفظ له من أمور أمته؛ أن اختار لمواريث نبوته ما أصار إلى أمير المؤمنين من تطويقه ما حمل بحسن نهوض به وشحٍّ عليه، ومنافسة فيه، أن فعل وفعل. والحمد لله الذي تمم وعده لرسوله وخليفته في أمة نبيه مسدِّدًا له فيما اعتزم عليه. والحمد لله المعز لدينه، المتولي نصر أمته بنبيه المتخلي ممن عاداهم وناوأهم، حمدًا يزيد به من رضي شكره، وحمدًا يعلو حمد الحامدين من أوليائه الذين تكاملت عليهم نعمه فلا توصف، وجلَّت أياديه فلا تُحصى، الذي حمَّلنا ما لا قوة بنا على شكره إلا بعونه، وبالله يستعين أمير المؤمنين على ذلك، وإليه يرغب، إنه على كل شيء قدير.

ولعبد الحميد أيضًا

أما بعد، فالحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه، وارتضاه دينًا لملائكته، وأهل طاعته من عباده، وجعله رحمة وكرامة ونجاة وسعادة لمن هدى به من خلقه، وأكرمهم وفضلهم وجعلهم بما أنعم عليهم منه أولياءه المقربين، وحزبه الغالبين، وجنده المنصورين، وتوكَّل لهم بالظهور والفلج، وقضى لهم بالعلو والتمكين، وجعل من خالفه وعزب عنه وابتغى سبيلَ غيره أعداءه الأقلين، وأولياء الشيطان الأخسرين، وأهل الضلالة الأسفلين، مع ما عليهم في دنياهم من الذل والصغار، وما عجَّل لهم فيها من الخذلان والانتقام، إلى ما أعد لهم في آخرتهم من الخزي والهوان المقيم، والعذاب الأليم، إنه عزيز ذو انتقام.

وفي ذكر الإسلام وأهله وما فضلهم الله تعالى به

أما بعد، فالحمد لله الذي عظَّم الإسلام تعظيمًا، وفضله تفضيلًا، فلم يبقَ ملك مقرَّب، ولا نبي مرسل، ولا إمام لأهل حق مهتدٍ إلا دان به، واتصل إلى ولاية الله بما هداه له منه، وليس في دين الله الذي ارتضى، وخيرته من أهل الإسلام الذين اصطفى، تغاشمٌ ولا تظالمٌ، ولا تحاسدٌ، ولا تقاطعٌ ولا تدابرٌ، ولكنهم كما وصفهم الله عز وجل بالتبارِّ والتراحم، والتوادِّ والتناصف، قلوبهم متفقة، وأهواؤهم مؤتلفة، وأيديهم على أهل معصيته مبسوطة، أعوانًا على الحق، وإخوانًا في الدين، ألَّف الله بينهم، وجعل الإسلام نسبهم، فقال في كتابه: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ إلى آخر الآية. فهذه صفة الله أهل دينه فيما بينهم، وكذلك كان أسلاف الحق قبلهم، في توادٍّ وتبارِّهم، وتواصلهم وتعاونهم، وبذلك دان أهل السماء، فلم يختلفوا فيه، ولم يرغبوا عنه، ولم يحتذوا مثالًا غيره، وبه يدين لله الباقون من خلقه، المتمسكون بحقه إلى يوم القيامة، سنة مسنونة، وشريعة متبوعة، لا يبتغون بها بدلًا، ولا يريدون عنها حِوَلًا، فأهل طاعة الله أهل سلامة في دنياهم، وإخوان — كما قال الله عز وجل — في آخرتهم، لم تنقطع الولاية فيما بينهم، لانقطاع الدنيا عنهم، ولكن الله وصلها بالآخرة لهم، فجمعهم في داره وجواره، كما ألف في الدنيا بين قلوبهم، وعصم بالإسلام ألفتهم.

تحميد

الحمد لله المثيب على حمده وهو ابتداؤه، والمنعم بشكره وعليه جزاؤه، والمثني بالإيمان وهو عطاؤه.

ولقمامه

الحمد لله الذي أكرم الإسلام وفضَّله، وشرَّفه وعظَّمه، وأعلى منزلته، وجعل أهله القائمين به، والحامدين عليه، أولياءه وحزبه الذين قضى لهم بالتمكين، والظهور على الدين كله ولو كره المشركون.

ولزيد بن علي — رحمة الله عليه — خطبة

الحمد لله الواصل النعم بالشكر، والشكر بالمزيد، حمدَ مَن يعلم أن الحمد فريضة واجبة، وأن تركه خطيئة مهلكة، وأومن بالله إيمانًا نفى إخلاصُه الشركَ، ويقينُه الشكَّ، وأتوكل عليه توكل الواثق به ثقة أهل الرجاء، ومفزع أهل التوكل.

تحميد في الإسلام

الحمد لله الذي اختار الإسلام دينًا لنفسه، وأنبيائه ورسله، وشرَّفه وعظَّمه، وأناره، وأظهره، ونزَّهه وأعزَّه ومنعه، ولم يقبل غيره، ولم يجعل حسن الجزاء إلا لأهله، الذين كتب لمن أسعده بالوليجة فيه منهم الرضوان والمغفرة والرأفة، وعلى مَن خالفه وابتغى غير سبيله الحسرة والندامة، والذلة والصغار في الآخرة والأولى، والممات والمحيا، إذ يقول الله عز وجل: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ والحمد لله الذي اجتبى محمدًا بما اصطفاه من نبوته، واختاره له من رسالته، وحباه بفضيلته، واجتباه من أفضل عمائر العرب، وأشرفها منصبًا، وأعرقها حسبًا، وأكرمها نسبًا، وأوراها زنادًا، وأرفعها عمادًا، فبعثه بالنور ساطعًا، وبالحق صادعًا، وبالهدى آمرًا، وعن الكفر زاجرًا، وعلى النبيين مهيمنًا، وإلى سبيل ربه داعيًا، وبالكتاب عاملًا، فبلَّغ عن الله الرسالة، وهدى من الضلالة، وانتاش من الهلكة، وأنهج معالم الدين وأدى فرائضه، وبيَّن شرائعه، وأوضح سننه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، .

تحميد لأبي عبيد الله

الحمد لله الذي شرع لإظهار حقه وإنفاذ سابق قضائه فيمن ذرأ وبرأ من عباده، بإدخال من أراد أن يدخل في رحمته، وإنجاز ما حق له من العبادة على خلقه، بابتدائه خلقهم، ومظاهرته الآلاء عليهم، وإحسانه البلاء عندهم، وإبلاغه في الحجج إلى عامتهم، دينًا رضيه لنفسه وملائكته الذين أسكن سماواته ورسله، فأتمن على وجه من لم يرضَ إلا به، ولم يقبل إلا إياه، ثم كان ما أعز به نفسه، وأظهر به نوره، وأراد أن يبلو به عباده، تحقيقًا لما سبق به علمه، وإنفاذًا لما جرت به مقاديره، أن بعث لما شرع من دينه، واصطفى لتسبيحه وتقديسه من ملائكته المقربين، من ارتضى واختار من أنبيائه ورسله المجتبين، لتبليغ رسالته وإظهار حقه، واستشلاء٢٤ من أراد سعادته من خلقه بالرحمة التي اطلعت عليهم وعمَّتهم، ليعبد مخلصًا له، محمودًا بما استحمد به إلى خلقه، مشهودًا له بما أشهد به من كلمة الحق، فكان منهم التبليغ لما أُرسلوا به، والنصيحة لمن أُرسلو إليه، غير مختلفين فيما بُعثوا له، ولا متفرقين فيما استُعملوا فيه، يدعوهم آخر إلى ما دعاهم إليه أول، فيصدِّق بذلك بعضهم بعضًا، ويهدون إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فمضت رسل الله وأنبياؤه على ذلك سالكين منهاج الحق وسبيله، والدعاء إلى الله عز وجل وإلى طاعته، هادين مهديين غير مبخوسين شيئًا مما كانوا أهله في المنزلة عند الله، والقربة منه، والوسيلة إليه، هم ومن آمن بهم وعززهم، واتبع النور الذي أنزل معهم، حتى تقضت بهم الأعمار، وتقطعت بهم الآثار، وتخرمتهم الآجال.

وكذا لأبي عبيد الله

الحمد لله الذي جعل الإسلام رحمة قدَّمها لعباده قبل خلقه إياهم، واستيجابهم إياها منه، فاصطفاه لنفسه وشَرَعَه لهم دينًا يدينون به، ثم جعل تحديد وحيه ومتابعة رسله رحمة تلافاهم بها بعد تقديمها، ومنَّة ظاهرها عليهم قبل استيجابهم لها، تطولًا على العباد بالنعماء، وإعذارًا إليهم بالحجج، وتقدِمةً بالوعد، وإنذارًا إليهم عواقب سخطه في المعاد.

والحمد لله الذي ابتعث محمدًا بهداه وشرائع حقه على فترة من الرسل، وطموس من معالم الحق، ودروس من سبل الهدى، عند الوقت الذي بلغ في سابق علمه ومقاديره، أن يجتبي لدينه الأصفياء، ويختار له الأولياء، الظاهرين بحقه، القاهرين لمن ابتغى سبيلًا غير سبيله، فعظَّم حرمته، ووسَّع حوزته، وصدع بأمره، وجاهد عن حقه في حومات الضلالة وظلمات الكفر، بالحق المبين؛ والسراج المنير، ثم جعله مصدقًا لمن سبقه من الرسل ومجددًا لما بُعثوا له وهدى ورحمة؛ ثم جعل لدينه وظائف وظَّفها على أهله، وشرائع شرعها لهم لا يكمل دينهم إلا بها، وجعل أداءها إليه، واعتصامهم بها إمامًا لدينه، ونظامًا لنوره، وقوامًا لحقه، واستيجابًا لما وعد عليه من ثوابه، وأمنًا لما أوعد من خالفه من عقابه؛ فليس يسع أهل الإيمان بالله الذين أكرمهم به وأجزل لهم فضله وأجره، وجعل لهم عزه وعلوه، واختار لهم الغلبة والعاقبة على من فارقهم فيه إلا معرفتها، وأداؤها بما يستكمل به حدودها، ومما لها من كذا وكذا.

إبراهيم بن المهدي: صدر رسالة له في الخميس

الحمد لله الذي اختار الإسلام دينًا لنفسه، ورضي أن يعبده من في سمواته من الملائكة المقربين، ومن في أرضه من النبيين والمرسلين، ومن آمن بالنور الذي هداهم له من الثقلين، واختار لرسالته في سابق علمه، والذكر الحكيم عنده، محمدًا ، وأنزل عليه كتابه وجعل طاعته وطاعة نبيه موصولة بكذا فقال: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ.

تحميد

الحمد لله المتكبر في جبروته المتعزز بسلطانه، المتعالي في سمواته، المحتجب عن خلقه، فلا تدركه في الدنيا أبصار الناظرين، ولا تحيط به أوهام المتوهمين، ولا تبلغه صفات الواصفين، الذي لا يئوده عظيم، ولا يفوته مطلوب، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم.

تحميد آخر

الحمد لله الحكيم العدل، الذي فصل بين الحق والباطل، فنفذ قضاؤه في خلقه، وحكم فيهم فجرى حكمه على إرادته، يقضي بالنصر والتأييد، والعز والفلج، والتمكين للحق وأهله، وبالذل والوقم والخزي والصغار للباطل وأهله، وجعل ذلك من فضله وحكمه عادة جارية باقية، وسنة ماضية، لا رادَّ فيما قضى منه لقضائه.

والحمد لله الذي اختص محمدًا بكراماته، واصطنعه لرسالاته، وأنزل عليه كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، بما أحل وحرم، ورضي وسخط، وأمر به ونهى عنه، وجعله خاتم النبيين والمهيمن عليهم، وكتابه الذي أنزل، آخر الكتب المصدق بها النبي .

تحميد في الإسلام وما امتنَّ به على أهله من مبعث النبي وهو في صدر الجهاد

أما بعد، فإن لدين الله الذي ارتضاه لنفسه، ولمن اصطفاه من خلقه، واجتباه من عباده وجعله مَعْلَمًا بين الهدى والضلالة، وفرقانًا بين الحق والباطل، وحاجزًا بين الكفر والإيمان، وظائف وظفها على أهلها، وشرائع شرعها لهم؛ فجعل أداءها إليه ومعرفتها له، ومحافظتهم عليها، واعتصامهم بها قوامًا لدينه، ونظامًا لنوره وثباتًا لحقه، واستيجابًا لما وعد من ثوابه، وأمنًا لما أوعد من عقابه؛ فليس يسع أهل الإيمان بالله والإقامة على حقه من المسلمين الذين سماهم المسلمين بالإسلام، وأحرز لهم فضله وعزه، وأصار لهم الغلبة على من خالفهم وفارقهم بما ركنوا إليه من الصدود عن سبيله، والتكذيب بكتبه ورسله، ودلتهم فيه قرباؤهم، وقادتهم إليه أهواؤهم، من المِلل الضالة، والأديان المجموعة، التي لم ينزل بها من الله سلطان، ولا كتاب ولا برهان، إلا معرفتها وأداؤها بما يستكمل من حدودها ومعالمها.

تحميد في الجهاد وما بعث به النبي

أما بعد، فإن الله خلق الخلائق بقدرته، وقدر الأمور بعلمه، وأنفذ على ما مضى من مشيئته، من غير أن يكون له ظهير في ملكه، أو معين على ما يرى من عجائب خلقه، واحتذاء منه على سابق من صنعة غيره، فوحَّد نفسه بما تفرد به دون غيره من خلقه، ليُعبد مخلصًا مبرأ من الأنداد، إتمامًا لنوره، وتعزيزًا لتوحيده، وتأييدًا لدينه، وإعلاء لمن اعتصم به، وإقلالًا لمن خالفه وعَنَد عنه وعَبَد غيره، وإحقاقًا لكلمته، فإنه يقول: كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الآية؛ بذلك أنزل كتبه، وأرسل رسله، واحتج بهم وبما أنزل إليهم على من مضى من القرون السالفة، والأمم الخالية، يدعو آخرهم إلى ما سبق إليه أولهم، من عبادته وتوحيده، لا يستوحشون من قلة، ولا يؤتون من كثرة؛ يعزهم الله بقوته، ويؤيدهم بجنده، وينصرهم وينصر بهم إلى أن بعث الله محمدًا بما خصهم به، وجعله مصدِّقًا لهم، ومهيمنًا عليهم، وخاتم النبيين بعدهم؛ يمضي لأمر الله، ويجاهد من لم يجبه إلى الدخول في دين الله، فأظهره الله وأنار حقه، وأرهق عدوه، وأنجز له ما وعده وأتم بذلك النعمة عليه وعلى من اتبعه، فإنه يقول: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى.

تحميد في فتح

الحمد لله الفتاح العليم، الرحمن الرحيم، العزيز الحكيم، الذي أعز الإسلام بقدرته، وأيده بنصره؛ فلم يلحد فيه ملحد، ويسْعَ في تشتيت الكلمة وشقِّ العصا ساعٍ، ويُوضِعْ في الكفر والمعصية مُوضع، ويمتنع من قضائه وإرادته ممتنعٌ إلا أذله الله وقصمه، وأضرع خده، وأتعس جده، وضلل سعيه، وعجَّل بواره واستئصاله؛ حمدًا دائمًا لا انقطاع له، ولا نفاد لمدته.

تحميد ثانٍ

والحمد لله الذي اختار الإسلام وشرَّفه، وكرَّمه وطهَّره، وأظهره وأعزه، وفطر عليه ملائكته، وبعث به أنبياءه ورسله، واختار له خيرته من خلقه محمدًا ، فبعثه برسالته، وأكرمه بوحيه، واصطفاه على خلقه؛ يبشر بالجنة من أطاعه، وينذر بالنار من عصاه؛ وجعله دينه القيم الذي لا يقبل دينًا غيره ولا يثيب أحدًا إلا عليه.

تحميد في فتح

الحمد لله العزيز في ملكوته، القاهر فوق بريته، الذي خلق الخلق بقدرته، وأنفذ فيهم إرادته ومشيئته، وقدَّر كل شيء وأتقنه وأحكمه، وأحاط علمًا به؛ فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.

صدر تحميد في فتح

الحمد لله الذي ابتدع الخلق لا من شيء، وجعل الليل والنهار كهفًا ومستجنًّا لكل حي؛ بقدرته تبحرت البحار، وجرت لمواقيتها الأنهار؛ فدار وتطارد الليل والنهار، لا إله إلا هو رب العرش العظيم.

والحمد لله الذي فات بعظمته أبصار المرتئين، وعلا بمجده عن خطرات الحاسبين، واحتجب بأستار جبروته عن مواقع فكر المحصلين المتعمقين؛ فلم تحوِهِ الكمية، ولم يقع عليه أدوات التحصيل والكيفية، ولا أدركه هاجس تبعيض ولا كلية، ولم ينسب إلى زيادة في حين، ولا إلى تقصير في شهور ولا سنين، فكل أمره — عز جلاله — تمام ودوام، وكل صفات صنعه اعتدال وكمال؛ وكل ما دونه يحتكم فيه الفناء والزوال، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

والحمد لله الذي عرفنا ربوبيته إلهامًا، ونهج لنا سبل طاعته مَنًّا وإكرامًا، وتعبدنا بفرضه تقويمًا وتعليمًا وامتنانًا؛ فقامت علينا وعلى الخلق حجته، بالصادع بأمره، والمبلغ لرسالته، والمجاهد فيه حق جهاده، محمد . والحمد لله الذي أعز دينه، وأظهر تمكينه، ونصر وليه، وخذل عدوه، وأوقع بأسه ونقمته بمحل الفرية، وجرثومة الضلالة، ومناخ الشرك، ومركز الكفر؛ بعد طول الإملاء، والاعتداء في سفك الدماء، والمثلة بالأسرى، وقلة المراقبة والارعواء.

تحميد

الحمد لله حمدًا يكون رضاه منتهاه، والمزيد من فضله جزاءه، والحمد لله حمدًا إليه يتناهى حمد الحامدين، وشكر الشاكرين. والحمد لله الذي لا تحصى نعماؤه، ولا تجزى آلاؤه، ولا يكافأ بلاؤه، ولا يبلغ شكره إلا بمنه وتوفيقه؛ حمدًا يرضاه ويتقبله، ويزكو لديه، ويوجب ما تأذن للشاكرين من يده.

تحميد على فتح

أما بعد، فالحمد لله الواحد القهار، العزيز الجبار، ذي المن والإنعام، والجلال والإكرام؛ الذي اصطفى الإسلام دينًا، واصطفى له من عباده أهلًا هداهم له، وأكرمهم به وبيَّن لهم ما يأتون، ولم يتركهم في ريب من أمرهم، ولا شبهة من دينهم؛ فله الحجة البالغة ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة، وإن الله لسميع عليم.

والحمد لله الذي ختم بمحمد النبوة، وانتجبه لتبليغ الرسالة، وبعثه إلى خلقه كافة، فبلَّغ رسالته، وصدع بأمره، وقام فيما بعثه له بحقه، ثم أنجز له وعده، وأتم له كلمته، وأظهر دين الإسلام به على الدين كله ولو كره المشركون.

تحميد في فتح

أما بعد، فالحمد لله الأول الآخر، الظاهر الباطن، الولي الحميد، القوي العزيز؛ الذي لا يقدُر العباد قدرَه، ولا يحصون نعمه، ولا يبلغون شكره؛ المحيط بكل شيء علمًا، والمحصي كل شيء عددًا؛ فلا يعجزه كبير، ولا يعزب عنه صغير، والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون.

تحميد

الحمد لله المتوحِّد بالخلق والأمر، قادرًا قاهرًا أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وملأه عظمة، ووسعه عدلًا، وأتقنه صنعًا. والحمد لله الذي أعز بالحق من أطاعه، وأذل بالباطل من عصاه، وجعل الطاعة والجماعة حرزًا حريزًا، وموئلًا منيفًا؛ فلم يجمع بين أهلِ كفرٍ وإيمان، وطاعة وعصيان، إلا توحد بالصنع لأهل طاعته، وأنجح سعيهم، وأعلى كلمتهم، وأفلج حجتهم، وأنزل بأهل الكفر المعاندين عنه، الرادين لأمره الذلة والصَّغار في عاجلهم وآجلهم؛ حمدًا يكون لمزيده موجبًا، ولحقه مؤديًا.

تحميد في فتح لسعيد بن حميد عن وصيف

أما بعد، فالحمد لله الحميد المجيد، الفعال لما يريد؛ الذي خلق الخلق بقدرته، وأمضاه على مشيئته، ودبَّره بعلمه، وأظهر فيه آثار حكمته التي تدعو العقول إلى معرفته، وتشهد لذوي الألباب بربوبيته، وتدل على وحدانيته؛ لم يكن له شريك في ملكه فينازعه، ولا معين على ما خلق فتلزمه الحاجة إليه؛ فليس يتصرف عباده في حال إلا كانت دليلًا عليه، ولا تقع الأبصار على شيء إلا كان شاهدًا له، بما رسم فيه من آثار صنعه، وأبان فيه من دلائل تدبيره، إعذارًا بحجته، وتطولًا بنعمته، وهداية إلى حقه، وإرشادًا إلى سبيل طاعته، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه؛ وله المثل الأعلى في السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم.

والحمد لله العزيز القهار، الملك الجبار، الذي اصطفى الإسلام واختاره، وارتضاه وطهره، وأعلاه وأظهره؛ فجعله حجة أهله على مَن شاقَّهم، ووسيلتهم إلى النصر على [مَن] عَنَد في حقهم، وابتغى غير سبيلهم؛ وبعث به رسله يدعون إلى حقه، ويهدون إلى سبيله، بالآيات التي يبينون بها عن المخلوقين، ويوجبون بها الحجة على المخالفين؛ حتى انتهت كرامة الله إلى خاتم أنبيائه، وحامل كتابه، ومفتاح رحمته ؛ على حين فترة من الرسل، واختلاف من الملل، ودثور من أعلام الحق، واستعلاء من الباطل؛ والناس عاندون عن سبيل ربهم، يتسافكون دماءهم، ويحلون ما حرم الله عليهم، ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم؛ وأيده بالبرهان الواضح، والحجج القواطع، والآيات الشواهد؛ وأنزل عليه كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ وجعل فيه أوضح الدليل على رسالته، وأعدل الشواهد على نبوته؛ إذ عجز المخلوقون عن أن يأتوا بمثله على مر الأيام، وكثرة الأعداء والمنازعين؛ يتحداهم به في المواسم، ويقصدهم بحجته في المحافل؛ ولا يزدادون عنه إلا حسورًا وعجزًا، ولا تزداد حجة الله عليهم إلا تظاهرًا وعلوًّا؛ ثم أيده بالنصر بأنصارٍ ألَّف بينهم بطاعته، وجمعهم على حقه، ولمَّ شعثهم بنصرة دينه، بعد الشقاق المتصل بينهم، والحرب المفرِّقة لجماعتهم؛ كما قال عز وجل: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وقدم إليه وعده بالنصرة والتمكين؛ فجعله بشرى للمؤمنين، وحجة على الكافرين، ودليلًا على ما بعثه به من الدين؛ فهزم بالقليل من عددهم الكثير من عدد أعدائهم، وغلب بضعفائهم أهل القوة ممن ناوأهم؛ ففلَّ به حدَّهم، وفضَّ جموعهم، وافتتح حصونهم، وحريز معاقلهم؛ وأظهر بحجته ونصره عليهم، وأنجز سابق وعده لهم وفيهم، والله لا يخلف الميعاد.

تحميد لابن المقفع

الحمد لله ذي العظمة القاهرة، والآلاء الظاهرة؛ الذي لا يعجزه شيء ولا يمتنع منه، ولا يدفع قضاؤه ولا أمره؛ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ. والحمد لله الذي خلق الخلق بعلمه، ودبَّر الأمور بحكمه، وأنفذ فيما اختار واصطفى منها عزمه؛ بقدرة منه عليها، وملكة منه لها، لا معقِّب لحكمه، ولا شريك له في شيء من الأمور، يخلق ما يشاء ويختار؛ ما كان للناس الخيرة في شيء من أمورهم، سبحان الله وتعالى عما يشركون.

والحمد لله الذي جعل صفوة ما اختار من الأمور دينه الذي ارتضى لنفسه ولمن أراد كرامته من عباده، فقام به ملائكته المقربون، يعظمون جلاله، ويقدسون أسماءه، ويذكرون آلاءه، لا يستحسرون عن عبادته ولا يستكبرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون؛ وقام به من اختار من أنبيائه وخلفائه وأوليائه في أرضه، يطيعون أمره، ويذبُّون عن محارمه، ويصدِّقون بوعده، ويوفون بعهده، ويأخذون بحقه، ويجاهدون عدوه؛ وكان لهم عند ما وعدهم من تصديقه قولهم وإفلاجه حجتهم، وإعزازه دينهم، وإظهاره حقهم، وتمكينه لهم؛ وكان لعدوه وعدوهم عند ما أوعدهم من خزيه، وإحلاله بأسهم، وانتقامه منهم، وغضبه عليهم، مضى على ذلك أمره، ونفذ فيه قضاؤه فيما مضى، وهو ممضيه ومنفذه على ذلك فيما بقي، ليتم نوره ولو كره الكافرون؛ وليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.

والحمد لله الذي لا يقضي في الأمور ولا يدبرها غيره، ابتدأها بعلمه؛ وأمضاها بقدرته، وهو وليها ومنتهاها، وولي الخيرة فيها، والإمضاء لما أحب أن يمضي منها، يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون.

والحمد لله الفتاح العليم، العزيز الحكيم، ذي المن والطول، والقدرة والحول، الذي لا ممسك لما فتح لأوليائه من رحمته، ولا دافع لما أنزل بأعدائه من نقمته، ولا رادَّ لأمره في ذلك وقضائه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.

والحمد لله المثيب بحمده ومنه ابتداؤه، والمنعم بشكره وعليه جزاؤه، والمثني بالإيمان وهو عطاؤه.

لآخر

الحمد لله الذي يتطول بالنعم مبتدئًا، ويعطي الخير من يشاء ويثيب عليه.

تحميد لغسان بن عبد الحميد

كاتَبَ جعفر بن سليمان في المطر:

الحمد لله الذي نشر رحمته في بلاده، وبسط سعته على عباده، الذي لا يزال العباد منه في رزق يقتسمونه، وفضل ينتظرونه، لا ينقضه ما قبله، ولا ينقضي ما بعده.

لأحمد بن يوسف في فتح السند

الحمد لله ولي الحمد، وأهل الثناء والمجد، خالق الخلق، ومدبر الأمر؛ المسبغ على عباده، والموجب عليهم حجته؛ فليسوا يرجون إلا سعة فضله، ولا يحذرون إلا ما اجترحوا من معصيته؛ لما سبق من جزيل إحسانه، وتظاهر من امتنانه، وتقدم به الإعذار والإنذار اللذان لا يستخف بما عظم منهما إلا من استحوذ عليه الشيطان، واستولى عليه الخذلان، وقاده الحين إلى موارد الهلكة.

التحميد الثاني

الحمد لله الذي اصطفى الإسلام دينًا فطهَّره وأسناه، وأظهره وأعلاه؛ وزيَّنه بكل حسنة، ونفى عنه كل سيئة، وجعله إلى مذخور كرامته سببًا وأصلًا، وسبيلًا ونهجًا، وبعث به محمدًا ليهدي من كان حيًّا، ويحق القول على الكافرين.

تقريظُهُ في الخليفة

الحمد لله الذي اصطفى أمير المؤمنين لخلافته، وتلافى الأمة بسلطانه، فجعله القائم فيهم بقسطه، والمستفرغ في التماس مصلحتهم همَّه.

لأحمد بن يوسف

عن ذي الرياستين إلى إبراهيم بن إسماعيل بن داود صدر فتح:
أما بعد، فالحمد لله الذي حفظ من دينه ما ضيع الملحدون، ورأب منه ما [فرَّقته]٢٥ الصدعة؛ وأعاد من حبله ما حاولوا نقضه، حتى أعاد لعباده أحسن ألفتهم، ورد إليهم أجمل عَوْدهم، من الاستشلاء بعد التردي في قُحَم المعاطب، والاستنقاذ بعد التوريط في المهالك؛ وبلَّغ خليفته القائم بحقه، المؤتمَّ بكتابه، الذائد عن حريم الدين، وميراث النبيين، أجزل ما بلَّغ للخلفاء الراشدين المهديين، من إعلاء الكلمة، وغلبة الأعداء، والفوز بالعاقبة التي وعدها المتقين؛ وفرغه لما أشعر قلبه، وشرح له صدره، من إمضاء حكم الفرائض الموجبة، واقتفاء السنن الهادية، حيث سلك به من المناهج؛ حمدًا يوازي نعمه، ويبلغ أداء شكره، ويوجب مزيده.

والحمد لله على ما خصنا به من إعلاء الدرجة، وإسناء الرتبة، في مشايعة أمير المؤمنين — أيده الله — والمجاهدة عن حقه، والوفاء لله بما عقده له؛ لا نريد بما كان منا إلا وجهه، ولا نسعى فيه إلا لرضاه؛ حمدًا لا يحصى عدده، ولا ينقطع أمده.

تحميد لأبي عبيد الله

أما بعد، فالحمد لله ذي الآلاء والقدرة، والطول والعزة؛ الذي اصطفى الإسلام دينًا لنفسه، وملائكته وأنبيائه ومن كَرُم عليه من خلقه؛ فبعث به محمدًا اختصاصًا له في ذلك بكراماته، واصطفاء له به على عباده؛ فأعزه ومنعه، وكفاه وحاطه، وتوكَّل لأهله بالعلم والتمكين، والظهور والتأييد؛ فلم يلحد فيه ملحد، ولم يزغ عن قبول حقه زائغ، بعد إعذار الله إليه، وإعادة الحجة لله عليه، إلا أُنزل به من الذل والصَّغار والاجتياح والاستئصال ما يجعل له فيه قمعًا؛ حمدًا كثيرًا دائمًا مرضيًا له، مؤمنًا من غيره، موجبًا لأفضل مزيد ثوابه.

تحميد لسعيد بن حميد في فتح

أما بعد، فالحمد لله المنعم، فلا يبلغ أحد شكر نعمته، والقادر فلا يعارض في قدرته، والعزيز فلا يغالب في أمره، والحكم العدل فلا يرد حكمه، والناصر فلا يكون نصره إلا للحق وأهله، والمالك لكل شيء فلا يخرج أحد عن سلطانه، والهادي إلى سبيل رحمته فلا يضل من انقاد لطاعته، والمقدم إعذاره ليظاهر به حجته؛ الذي جعل دينه لعباده رحمة، وخلافته عصمة، وطاعة خلفائه فرضًا واجبًا على كافة الأمم؛ فهم المستحفظون في أرضه على ما بعث به رسله، وأمناؤه على خلقه فيما دعاهم إليه من دينه، والحاملون لهم على مناهج حقه، لئلا تشعب بهم الطرق المخالفة لسبيله، والهادون لهم إلى صراطه ليجمعهم على الجادة التي ندب إليها عباده؛ بهم حُمِيَ الدين من البغاة الطاغين، وحُفظت معالم الحق من الغواة المخالفين، محتجين على الأمم بكتاب الله عز وجل الذي استعملهم به، ورعاة للأمر بحق الله الذي اختارهم له؛ إن جادلوا كانت حجة الله معهم، وإن حاربوا فالنصر لهم، وإن جاهدوا كان في طاعة الله نصرهم، وإن بغاهم عدو كانت نكاية الله حائلة دونهم، ومعقلًا لهم، وإن كادهم كائد فالله في عونهم؛ نصبهم الله لإعزاز دينه، فمن عاداهم فإنما عادى الذين عزَّ بهم وحُرس بهم حقه، ومن ناوأهم فإنما طعن على الحق الذي تكلؤه حراستهم، جيوشهم بالرعب منصورة، وكتائبهم بسلطان الله من عدوهم محوطة، وأيديهم بذبِّها عن دين الله عالية، وأشياعهم بتناصرهم غالبة، وأحزاب أعدائهم ببغيهم مقموعة، وحجتهم عند الله وخلقه داحضة، ووسائلهم إلى النصر مردودة، وأحكام الله بخذلانهم واقعة، وأقداره بإسلامهم إلى أوليائه جارية، وعادته فيهم وفي الأمم السالفة والقرون الخالية ماضية، ليكون أهل الحق على ثقة من إنجاز سابق الوعد، وأعداؤه محجوجين بما قدم إليهم من الإنذار، معجَّلة لهم نقمة الله بأيدي أوليائه، مُعدًّا لهم العذاب عند ردهم إليه خزيًا موصولًا بنواصيهم في دنياهم؛ وعذاب الآخرة من ورائهم، وما الله بظلام للعبيد. وصلى الله على محمد أمينه المصطفى، ورسوله المرتضى، والمنقذ من الضلالة والعمى، صلاة نامية بركاتُها، دائمًا اتصالُها، وسلم تسليمًا.

والحمد لله تواضعًا لعظمته، والحمد لله إقرارًا بربوبيته، والحمد لله اعترافًا بقصور أقصى منازل الشكر عن أدنى منزلة من منازل كرامته.

فيما يُقرِّظ به الخليفة

والحمد لله الذي حاز لأمير المؤمنين وراثته، وساق إليه خلافته، بالحاجة منها إليه، والرغبة منه عنها، واستخلص من خلقه من جعله ظهيرًا للحوادث، وعُدَّة للنوازل؛ فلما أفضت الخلافة إليه حسر أمامه أحاجلته،٢٦ وكشف قناعه لمحاربته؛ فالحمد لله الذي اختص أمير المؤمنين بخلافته، وارتضاه لولاية أمر أمة نبيه محمد ، والقيام بحقه، والذب عن حرماته؛ وحاط له ما استرعاه من ذلك، وقلده بحسن الولاية والكفاية، وتوكل له بالحفظ والتأييد، والنصر والغلبة والظهور على من عَنَد عن طاعته، وصدف عن حقه، وابتغى غير سبيله؛ كرامة من الله تطوَّل بها عليه، ومنَّة منه توحَّد بها له.

والحمد لله الذي جعل نية أمير المؤمنين عزيمته، وفكره ورويته، منذ أفضى الله بالخلافة إليه، وجعله القائم بإرث نبيه محمد ، واستحفظه من عباده وبلاده فيما فيه عز الدين، ونظام أمر المسلمين وترهين الشكر، وإذلال الأعداء، وإشجاؤهم ووقمهم، وتحصين البيضة، وإشحان الثغور، ولمُّ المنتشر، وضم الأطراف؛ لا يفثأه عن ذلك فاثئ، ولا يذهله عن تفقُّد كبير أمره وصغيره ومقابلته ذاهل؛ يستقل كثيرَ ما ينفق من الأموال في سد الثغور، وتحصينها وحراستها، لما يرجو فيه من جسيم الحظ، وجزيل الذخر، وكثير الأجر؛ تقربًا إلى الله واحتسابًا له في جنب ثوابه، وكريم مآبه؛ حتى رأب به الصدع، ورتق به الفتق، وأمَّن به السبل، وأقام به العوج، وأفلج به الحجج، وأعلى به الدرج، وأزهق به الباطل، وأحيا به الحق، وأشام به سيوف أهل الضلالة والفتنة؛ لا تأخذه في القيام بحق الله والانتصار لدينه، والانتصاح لأمة نبيه محمد ، والذب عن حوزتهم، والرمي من ورائهم، ودفع بائقة أهل الشقاق والنفاق والخلاف والمعصية عنهم فترة ولا سآمة؛ توفيقًا من الله، وتسديدًا لحرمته، وتأييدًا لعزمه، إذ كان لله شاكرًا، ولدينه ناصرًا، وبحقه قائمًا؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله وحده، عليه يتوكل وعليه يتوكل المتوكلون.

والحمد لله الذي لم يزل منذ أفضى إلى أمير المؤمنين بخلافته، وحيَّاه بكرامته، يختصه بالخيرة في كل ما أمضى من أمره، ويتولاه بالتوفيق في كل ما أبرم من تدبيره، ويحمل عنه أعباء ما حمَّله، ويعينه بتأييده على ما قلَّده، ويحوطه بجميل الصنع فيما ولَّاه واستحفظه، ويلهمه جهاد عدوه، ويحبوه بنصره؛ حمدًا قاضيًا لحق نعمته، موجبًا أفضل مزيده.

والحمد لله الذي أورث أمير المؤمنين مواريث نبوته، وصيَّر إليه مقاليد خلافته، وأوجب ذلك له بالقرابة برسوله ، والوراثة لوراثته من عصبته وأولى الناس به؛ ثم أعز نصره، وأعلى كلمته، وأفلج حجته، وأظهر على المشركين والمنافقين، ومن حادَّه وعانده من الناكثين والمارقين، والباغين والملحدين، فأتعس جدودهم وفعل وفعل.

والحمد لله الذي عرَّف أمير المؤمنين منذ استخلفه في أرضه، وائتمنه على خلقه، من عظيم نعمه، ولطيف صنعه، وجميل بلائه، واعزاز نصره، وإعلاء يده وكلمته، وإفلاج حجته على من ضادَّه وحادَّه، إن الله بعظيم طَوْله ومَنِّه ارتضى أمير المؤمنين لدينه، واصطنعه لخلافته؛ فملَّاه سربالها، ورداه بهاءها وجمالها، فاستعمله بالكتاب والسنة والحق والعدل فيها؛ فأيده بقوته، وأعزه بنصره، وحاطه بكفايته، وتولَّى الصنع له في جميع أموره؛ فلم يكده كائد، ويعانده معاند، ويمرق عن طاعته الواجبة مارق، ويلحد في إمامته ملحد، ممن يعالن بمعصية وشقاق، أو ينطوي على غلٍّ ونفاق، إلا أوهن الله كيده، وأتعس جده، وعاجَل المُبادئ بعداوته، الشاهر على الدين والمسلمين سيفه، باصطلامٍ وبوار، وأمكن منه بذلة وصَغار، وقتل المسر غيره، المنطوي على غله بغيظه وغمه، وأماته بدائه وحسرته؛ إنجازًا منه جل ثناؤه لوعده، وإتمامًا لكلمته فيما وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من استخلافهم في أرضه، والتمكين في دينه؛ وله الحمد دائمًا، والشكر خالصًا، كما هو أهله، وكما ينبغي أن يُحمد ويُشكر، لا إله إلا هو الواحد القهار.

والحمد لله الذي لم يُبقِ لأمير المؤمنين عدوًّا من الناكثين والجاحدين، والمشركين والمنافقين، حاول نقضًا لإمامته التي صيَّرها الله إليه، وقلَّده إياها؛ أو صاول جيشًا من جيوشه التي أعدَّها للمحاماة عن دين الله ومحارمه، وإقامة سننه ومعالمه، إلا أحلَّ به النقمة، وأصاره إلى الصَّغار والذلة، والبوار والهلكة، وعجَّله إلى ناره وعذابه.

والحمد لله الذي لم يزل يتولى أمير المؤمنين بحياطته، ويتوحد له من إعزاز نصره وإعلاء كلمته، وإفلاج حجته، وتأييد أوليائه وأنصار حقه؛ وأنزل البأس والنقمة والمُثُلات والسطوة بمن عانده، والذب عن حريم المسلمين وأهله؛ بما يبين به عن مكانه منه، ومنزلته عنده؛ حميدًا ربنا بذلك كما هو أهله ومستحقه، مشكورًا بعظيم منِّه فيه وطَوْله، مسئولًا لتمام أحسن عائدته وماضي سنته؛ فإن الله المحمود على نعمه، المشكور بآلائه، لم يزل ما يتوحد به لأمير المؤمنين بسلطانه من التعزيز، وفي أوليائه من التأييد بنصره، عادة يتبين بها برهانه، ويفلج بها حجته، ويدل بها على كرامته عليه، ويخبر بها عن منزلته عنده؛ ويجعل ما نزل بأعدائه المتولين عنه، الراغبين إلى غيره، الملحدين في حقه، عظة لمن قسا قلبه، وران عليه سوء عمله، ليكون ما يعطيه من البسط في ملكه، والتمهيد فيما خوَّله له، ويوفقه من السطوة بعدوه، والتنكيل بمن خالفه، حجتين متظاهرتين، وعبرتين ىعىىن؛٢٧ فيعتصم معتصم، وينجو ناجٍ، وليشجب [شاجب]٢٨ ويهلك هالك، وقد مضت من الله المشيئة، ووضح منه الإعذار، وكان الله بعباده عليمًا، وبأعمالهم خبيرًا.

والحمد لله الذي أكرم أمير المؤمنين بخلافته، وجعله وارث وحيه، وقيِّمه بكتابه في عباده، وأكرم هذه الأمة التي جعلها خير أمة أخرجت للناس به؛ فهو الميمون في تدبيره المنجح حويله، الميمون النقيبة، الموفق الرأي والسياسة؛ فإن الله عز وجل خلق الخلائق بقدرته، واختارهم بعلمه، فاختار أمير المؤمنين لخلافته، واصطنعه للقيام في العباد والبلاد بأمره وقسطه، وألهمه إقامة أحكامه وفرائضه، والعمل بحقه وعدله، وأبلى أهل الشرك به، وأخرها إلى أيام دولته، وحظرها عمن كان قبله؛ حتى حاز له أجرها، وأبقى له سناءها وذكرها، ونشر عنه أحدوثتها وسماعها؛ وفتح عليه البلدان القاصية، والمدائن المتنائية، التي لم تكن ترام من أهلها، ولا يطمع في زوالها؛ وذلَّت له الملوك القديم عتوها وعنادها، والأمم المستصعب مراسها وجهادها، الحامية في آباد الدهور حماها؛ فأنفذ فيهم مكيدته، وأنجح سعيه، ورماهم بالتخويف، وملأ قلوبهم رعبًا منه؛ فأذعن مذعنوهم بطاعته، وانقادوا لأمره، وصاروا يدًا وأعوانًا لأوليائه على أعدائه.

أما بعد، فإن أعظم النعم قدرًا، وأجلها أمرًا، وأسرها موقعًا، وأوجبها شكرًا، ما عم الإسلام والمسلمين نفعها، وعادت عليهم عائدتها، وجعل الله فيها عز الدين، وذل المشركين؛ وقد جعل الله ذلك في خلافة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه بيمنه وبركاته، وما أخلص الله من نيته وطاعته، وتأدية حقه فيما استحفظه من أمر دينه وعباده، وفرغ له نفسه، وأنصب فيه بدنه، وأسهر فيه ليله، من حياطة حريم الإسلام، والزيادة في حدودها متصلًا متتابعًا، والنعم متظاهرة ومتوافرة، فسهَّل الصعب، وذلَّل له العزيز، وقصم عتاة الأعداء ومتكبريهم، والمستعصين والمستصعبين منهم، في آباد الدهور على من رامهم، وفتح عليهم حصون مدائنهم؛ وممتنع قلاعهم، وأنفذ مكيدته فيهم؛ فبين مقتول ومأسور، وشريد طريد عن محلته، وموضع عزه ومنعته، مستسلم معطٍ قياده باخع بطاعته؛ وكذا فإن الله بمنه وطَوْله قد أوصل لأمير المؤمنين من صُنعه له فيما قلَّده من خلافته، وحياطته إياها فيما يحوطه من دينه، وعرَّفه من كفايته فيما قام به من حقه، وأيده من نصره فيما جاهد عنه في سبيله، ما قد جعل النعمة به عامة، والشكر به لازمًا، والمنة به واجبة، والصنع عظيمًا؛ فالحمد لله على نعمه في ذلك كثيرًا.

والحمد لله الذي جعل اجتهاد أمير المؤمنين ومقام أمره وتدبيره، في آناء الليل ونهاره، فيما فيه صلاح عباده، وإعزاز دينه وإقامة حقه.

تحميد

الحمد لله الذي لمَّا افترض من الطاعة لولاة الأمر من خلفائه جعل أوائلها ناطقة عن فضل أواخرها، وبوادئها مخبرة عن حميد عواقبها، ومواردها مبشرة بالعلو في مصادرها، بما يعقبه أهلها من السعادة في الماضين من أوليائها القائمين بحقها؛ وعاد من الشِّقوة على مقارفي المعصية الملحدين إليها؛ حين أقبلت بهم هوادي الفتن، وكشفت لهم تواليها عن البوار والهلكة؛ معتذرين حين لا عذر ولا حجة، طالبين للمهارب بعد أن كانت منازل السلامة بهم مطمئنة، وخائفين وقد كانت سبل الأمن لهم واضحة؛ قد جعلتهم النقمة الواقعة بهم أمثالًا سائرة، وفرَّقت بينهم وبين النعم الشاملة، وحصلت السعادة لمن اتعظ بهم باقية، سنَّة من الله فيهم ماضية، وعادة جارية، ولن تجد لسنة الله تبديلًا ولن تجد لسنة الله تحويلًا.

والحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين لخلافته فحرس به دينه من البغاة الناكلين عنه، واختصه بإعلاء رتب كرامته، وافترض طاعته على عباده، وجعلها بمواقعها في دينه نظامًا لسائر فرائضه، فتاركها مفارق لعصمة حقه، خارج من جملة الأمة التي سبقت لها رحمته؛ يستنصر أشياع الباطل والله خاذله، ويُغالب الحق والله غالبه، ويطلب ما لا سبيل له إليه والله طالبه؛ حتى يخلجه أجله عن أمله، وأقدار الله فيه عن تقديره، ونفوذ قضاء الله فيه عن نفوذ حِيَله؛ فضلًا من الله على أوليائه وقضاءً منه عدلًا في أعدائه، والله ذو الفضل العظيم.

والحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين لرعاية عباده، وحفظ بلاده، وتنفيذ أحكامه، وإقامة حدوده؛ فجمع به الألفة، وكفَّ به بوائق الفتنة، وأصلح به أمور الأمة، وسكَّن به الدهماء، ودفع به عظيم البلاء، وأنقذ به من الجهد واللأواء؛ وجدَّد لرعيته العبر الشافية، والعظة الناهية، وجعل همه السعي لربه، وطلب الحق الذي أوجبه له من خلافته، ليؤدي فرضه في الأمانة التي حملها؛ فيوجب له بذلك ما لا يزول ولا ينقطع من ثوابه، فأعمل رأيه في الرأفة بمن ولَّاه أمره، والحياطة له، والعناية بصلاحهم؛ فأعطاه لين الموعظة في وقت التأني، والنفوذ لإقامة الحجة والبينة، وشدة السطوة على من غمط النعمة وعَنَد به الإصرار عن النزوع والفيئة؛ منًّا من الله وتفضلًا، وإحسانًا وتطولًا، والله ذو فضل عظيم.

ويسأل اللهَ أميرُ المؤمنين مبتدئًا ومعقبًا، وأولًا وآخرًا، وقبل كل مسألة، وأمام كل رغبة، ومقدِّمة كل طلبة؛ أن يصلي على صفوته من عباده، وخيرته وخاتم أنبيائه ورسله، محمد عبده ورسوله، أفضل صلواته، ويبارك أكثر بركاته، وأن يديم له كرامته، ويجري عنده أجمل عاداته، ويتمم له ما اختص به من إحسانه؛ حتى يملأ الأرض عدلًا وقسطًا، والإسلام تأييدًا وعزًّا، والشرك ذلًّا وقمعًا؛ إنه ولي كل نعمة، ومنتهى كل رغبة، وغاية كل حاجة.

ولم يزل أمير المؤمنين منذ الوقت الذي أفضى الله إليه بخلافته، وأكرمه برد حقه من إرث نبوته، يتلقَّى عظيم النعمة في ذلك بالإخلاص للنية والطوية في الصفح عن كل زَلَّة، والإقالة لكل عثرة، والتعمد للهفوة وقبول الفيئة، والإنابة ممن عظم جرمه، وجل ذنبه، وظن أن لا توبة له؛ وكلما جدَّد الله له نعمة، جدد له في ذلك نية حسنة، شكرًا لله عز وجل على ما ابتدأه به، وارتهانًا لنعمه عنده، واستزادة من جميل مواهبه، وتقديم الاهتمام بما فيه صلاح رعيته، واستقامة أمورها، وحياطتها والذب عنها، وكف الأذى والمكروه عن الداني والقاصي منها؛ ويتخلص إلى ذلك بكل ما يجد إليه السبيل ويجتهد فيه، ويعمل لكثرة أوقات دهره في كل ما بلغه محبته نظرًا لها، وحدبًا على كافتها، وإشفاقًا من سوء حالها؛ إذ كان لها والدًا بَرًّا، وراعيًا كالئًا، وناظرًا لطيفًا؛ ويستعمل كل ما يرجو ائتلافها، والإبقاء على أحوالها، والسلامة لها في دينها ودنياها؛ وينصب لذلك ليله ونهاره، ويذيب فيه نفسه، ويجعله شغله دون غيره.

والحمد لله الذي اصطفى أمير المؤمنين بخلافته، وأكرمه بإرث نبوته، وجعل خلافته خلافة يُمنٍ وبركة، ولطف وسعادة؛ انتاش بها أولياءه من موارد الهلكة فرفع منزلتهم، وشرَّف درجتهم، وأعلى كلمتهم، وأذلَّ بها أعداءهم، وجذَّ دوابرهم، وردَّ دائرة السوء عليهم؛ وحباه مزية نصره وتمكينه، وإعزازه وتأييده، وإظهاره على من ناوأه وعَنَد عن حقه، وصدف عن طاعته؛ فإن الله لما اختار أمير المؤمنين لخلافته فأيده بها، جعل الحق نيته، وإعزاز الدين بغيته، ومجاهدة أعداء الله شرقًا وغربًا وبرًّا وبحرًا نهمته وإرادته؛ ثم يسَّره في ذلك لِما أحسن به عونه، على من استحفظه وقلده، فضلًا من الله ونعمة، والله عليم حكيم.

والحمد لله الذي كان لسابق علمه وسالف قضائه، الذي لا يستطيع الناس رده، ولا منعه ولا صرفه، ما ولَّى المؤمنين من خلافته، وما ابتعثه له من النصر لدينه، والطلب لحقه، والجهاد لأعدائه؛ وأحسن في ذلك عونه فيه وبلاءه، وأيده في نفسه، لم ينقصه خذلان خاذل، ولا مخالفة من خالف، ولم يزد أمره في شيء من ذلك إلا تمامًا وإحكامًا؛ حتى أظهر حقه، وأفلج حجته، ومحق باطل أعدائه، وأدحض حججهم؛ وجعل أهل طاعته حزبه الغالبين، وجنده المنصورين؛ وجعل عدوه وعدوكم حزب الشيطان الخاسرين، وأولياءه الأذلين؛ بغير حول من أمير المؤمنين في شيء مما ولَّاه وأبلاه، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

لأبي عبيد الله

والحمد لله الذي أكرم أمير المؤمنين بما أصار إليه من الخلافة وإرث النبوة، وجعله القائم بأمر عباده وبلاده، والمحيي لسننه، والذاب عن دينه وحقه، والمناصب لأهل الشرك والجحود به؛ ثم نصره وأظهر فضل أيامه ودولته، ومكَّن له في بلاد عدوه، وجعل كلمته العليا وأنصاره الغالبين، ومن ناوأه من أهل الخلاف الأذلين المقهورين؛ وعرَّفه من نعمته في ذلك ومنَّته وجميل صنعه وعاداته، أحسن ما عوَّد أحدًا من أوليائه الذابين عن الإسلام وأهله؛ حمدًا متتابعًا لا انقطاع له ولا انصرام، دون بلوغ حقه، وقد كان كذا وكذا.

ما يكتب به في المخالفين في وقت الهزيمة

نكصوا على أدبارهم منكوبين مهزومين، قد ضرب الله وجوههم، وفتَّ في أعضادهم، ومنح الأولياء أكتافهم؛ فقتلوهم في كل فج، وعلى رأس كل تلعة ومهرب ومسلك؛ أباد الله خضراءهم وغضراءهم، وحصد شوكتهم، وفلَّ حدَّهم، وأباخ٢٩ نيران ضلالتهم وكفرهم، وشفى منهم الصدور، وأدرك منهم الإحن؛ ونفَّل المسلمين أموالهم وذراريهم، وجعلهم لهم خولًا وعبيدًا، وأورثهم أرضهم وديارهم، وأحلَّ الله بهم من البأس والنقمة والجائحة والظهور والغلبة جزاءً من الله لمن أخلد إلى المعصية وابتغى غير سبيله المسلوكة. وكذلك يفعل الله بالقوم الظالمين، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، إن الله لا يخلف الميعاد. ثم أنزل الله عز وجل من صار إلى الأمصار منهم هربًا، واعتصم بالحصون، وتعوذ بالجبال، ولاذ بالقلاع، ولجأ إلى الأودية، من صياصيهم، وأمكن من نواصيهم، واستخرجهم من أوزارهم ومعاقلهم ومتعوذهم، وأُخذ أسيرًا ذليلًا منكوبًا خائفًا قد نخب الوجل قلبه وملأ الرعب صدره، متوقعًا أن ينزل الله به من النقمات والمثلات ما لا مرد له عن مثله من القوم الظالمين، وفشت في الكفرة الجراحات، وعضَّتهم السيوف، وشُرعت فيهم الفنا، وهرَّتهم نار الحرب، وغالهم النزال، ومارسهم الأبطال، واستحرَّ فيهم القتل، فصبر لهم الأولياء أحسن صبر، فلم يُطيقوا بالموت مرامًا ولا على الحرب مقامًا.

في صفة الخالعين

الناصبين لدين الله، المكذِّبين بآياته، الجاحدين رسله، الجاعلين معه إلهًا، لا إله إلا هو، لطول مدتهم، وشدة شوكتهم، وصعوبة مرامهم، وقطعهم السبل وانتهاكهم المحارم وسفكهم الدماء التي أوجب الله على من سفكها بغير حلها واقترف واحتمل وزرها، أليم العذاب وشديد العقاب، فأبوا إلا تماديًا في ضلالتهم، وعتوًّا في طغيانهم، وثبوتًا على عصيانهم، ومقامًا على كفرهم، لأحداثه السالفة، وغوائله المتقدمة، وبوائقه المشجية، فوقف مميلًا بين ثكل التقدم وحقيقة الاصطلام في التأخر، دعاهم إلى الفيئة والمراجعة والإنابة وقبول الأمان والدخول في الطاعة، استظهارًا بالحجة عليهم، ورجاءً لصنع الله فيهم. فلما بلغهم نزولي فيمن معي، جَمَعَ أصحابه، وضمَّ جنده، وتحرَّز في معسكره، وخندقَ على منزله، واحترسَ بجهده، فأقمتُ معسكري، وأنا مع ذلك في كل يوم أوجِّه رسلي وأدعوه إلى حظه، من طاعة أمير المؤمنين والدخول في أمانه، وأُعلمه أن له نظراء ممن غمط الطاعة، وسَفِه الجماعة، وقد ركضوا في الفتنة عمرهم وسعوا فيه دهرهم، فانتشر خبرهم، وكثر تبعهم، وكبر وزرهم، وثقل وقرهم، ثم أذعنوا لطاعتهم، واستقلوا ناهضين من عثرتهم، ومنتعشين من زلتهم، فغُفرتْ ذنوبهم، وقُبلت توبتهم، وفُسِح لهم في أمانهم، وشَرُفت منزلتهم، واستبدلوا بالخوف أمنًا وبالذل عزًّا؛ فأبى به ميل الهوى، وغلبة الشقوة، ومستعلي الغواية، والقدر المحارب، والقضاء المحتوم. وتقدمتُ في موافقتهم وترغيبهم، والأخذ بالمخنق منهم، من غير قتال، ولا تناول سلاح، ولا تناوش صيال،٣٠ وعرضت عليهم التوبة، ودعوتهم إلى الإنابة، وأعطيتهم الأمان، وأعلمتهم أنهم إن قبلوا حمدتهم وأخمدتُ نار الحرب بيني وبينهم، وإن أبوا إلا تماديًا في غيهم ونكوصًا على شقائهم، وَلِيتُ مناجزتهم وعرفت من الله الخيرة في محاربتهم، واستعنته عليهم، واستكفيته أمرهم، ورجوت حسن عادته عند أمير المؤمنين في أمثالهم. ثم وجَّهت الأولياء فنَفَذُوا نحو عسكرهم ليلًا وهم متفرقون في رحالهم، مغترون في أوطانهم، قد أمنوا خدع الحروب ومكرها ومكيدتها، ووقعة البيات وهولها، إلا طائفة منهم أهل عدد وعدة، وبأس في أنفسهم وقوة، اتخذوا الليل جملًا، وسروا نحونا يرجون غرتنا ويأملون غفلتنا، فوقف جندنا بمكانهم آخذين أهبتهم، متمسكين بالطاعة فيما به إمرتهم، فأسرعتْ إليهم من أعدائهم طائفة فدفعوهم عن أنفسهم، ونالوهم بجراحات مع قتلى منهم عند تناوشهم، ثم نكصوا على أدبارهم، ورجعوا القهقرى على أعقابهم إلى الباقين من سريتهم، فاستجاشوهم فاجاهم بالمكانفة والمؤازرة، وأقبلوا بحميتهم وحنقهم حتى حملوا حملة رجل واحد، وضاق الفضاء وطارت أفئدة جندنا رعبًا من حملتهم، وبلغت القلوب الحناجر منهم، إلا طائفة قليلة من لواقح الحرب ومواضي رواسخها وأشبال لبدتها، تزينوا بالطاعة فأموا حسن العاقبة، ونصروا الدين، فوثقوا بالتمكين، انتدبوا إليهم، ووقفوا لهم، وازدادوا بصيرة في أمرهم، ونفاذًا وجدًّا في اجتهادهم ومجاهدتهم، فثبتوا قائمين بالقسط في أحوالهم، قائلين بالعدل في أملائهم، يسألونهم الكرَّة بعد الكرَّة، ويَعِدونهم الغَلَبة، ويمنُّونهم السلامة، ويضمنون لهم الغنيمة؛ ففاءوا إليهم، ورجعوا إلى الحق لله عز وجل عليهم، فشافعوا ساعة بالقنى بعد تراميهم إرشاقًا بالسهام.
فلما رأى أعداء الله جدهم، وعرفوا صدقهم، وخافوا حدهم، نكصوا على أعقابهم، يريدون اللحاق بمعسكرهم، وتحرك أصحابنا في طلبهم، ورجوا سوء الصباح لهم، فأمعنوا في أثرهم؛ فلما أحسوا الفساق أعطوهم الضمة وولوا إلى ديارهم لا يلوي قريب على قريب، ولا ذو رحم على حبيب؛ ونالتهم القنى فدسرتهم، وعضت هامهم السيوف فكلمتهم، وحيل بينهم وبين الدخول من باب عسكرهم، فأخذوا في غير طريقه منهزمين، قد فلَّ الله حدَّهم، وقلَّل كثرتهم، وقتل عامَّتهم؛ ورجع أصحابنا إلى معسكر أعدائهم بعد التشريد والتفريق بجماعتهم، فأحاطوا بهم في آخر ليلتهم، فلما رأوا غفلتهم، وأمنوا غرتهم، وانتهزوا مكان الفرصة منهم أحاطوا بهم وهم نائمون، فارُّون غافلون متفرقون، فوضعوا السلاح فيهم، ضربًا بالسيوف، وطعنًا بالرماح، وضربًا بالأعمدة، وذبحًا بالشفار، لا يشوون من جرحوا، ولا يُبقون من كلموا، غير مدفوعين ولا ممنوعين، حتى انثنت السيوف، وتحطمت القنى واندقت الأعمدة، وكلَّت الشفار، وبقيت منهم عدة يسيرة وشرذمة قليلة ممن لم ينله القتل، فأُخذوا أسرى، وأُوثقوا حديدًا، وكُبلوا قيودًا، وكان أول رأس أتاني بخبره٣١ بشيرهم وأسرع به إليَّ ذو المعرفة منهم رأس٣٢ عدو الله المارق الباغي، الشاق لعصا المسلمين، ملأني رئيس ضلالتهم، وقائد جهالتهم، ومستغوي جماعتهم، فعرفته بحليته ونعته وصفته في عدد كثير من رءوس قواده وأهل الفتنة وأئمة البدعة، فلم يلبثوا إلا ريثما تصدَّعوا في كل جبل وخَمَر، منهزمين هاربين، لا يستطيعون لما أتاهم من عذاب الله دفعًا ولا منعًا بأيدٍ ولا قوة؛ ولا يلجئون إلى ركن وعصمة، قد تشتت بهم نظامهم، وفارقهم وجوههم وأعلامهم، فأخذهم أسرًا قسرًا قد منهم النصب، وملأ قلوبهم الرعب وتخرمتهم الوقائع، ونخبتهم الهزائم، وتحيَّفهم القتل، وغلب الله عز وجل لأمير المؤمنين على حصنه الذي كان مناف عزه، وموضع منعته في نفسه، ومجتمع عدته، ومادة قوته، فقوضوا عساكرهم، وأُقشعوا عن حصنهم يتبع آخرهم أولهم، متحيرين متلددين، أذلة خاسرين، فتفرقوا لا نظام لهم ولا جامع لشتاتهم. فلما استحرَّ القتل فيهم، وفشت الجراحات في عامتهم، وطحنتهم الحرب بكلكلها، وألموا وقع حديد أنيابها ومساعرها، قذف الله الرعب في قلوبهم وزلزل بهم أقدامهم، فولوا منهزمين مغلولين، وركب المسلمون أكتافهم، يقتلونهم في رءوس جبالهم، وخلال غياضهم، وبطون أوديتهم، ومقاصي تلاعهم، وفي كل ناحية من نواحيهم، حتى عجز الليل دونهم، وأعجزوهم هربًا في معاقلهم.

وفي العصاة

حتى إذا ظن أن قد عزَّ بضلاله، وتحصَّن بمعاقله، واستكمل قواه، وكَثُف تدبيره، ولجأ إلى مانع منه ودافعٍ عنه، عطفت عليه عواطف الحق بأولياء الحق وأنصاره، ناقضين ما أبرم، ومتداولين ما سد، ومتوغلين إلى غيه ببصائرهم، وإلى باطله بحقهم، فاستنزل عن موضع عزه قسرًا، وأمكن الله أولياءه أسرًا؛ سنَّة الله فيمن عَنَد عن سبيله، وألحد في دينه، ومرق عن الطاعة وثائقها، واستبدل بالحق ومنهاجه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا، ولن تجد لسنة الله تحويلًا، ولن تجد من دونه ملتحدًا ولا نصيرًا؛ حتى إذا تراءى الجمعان تبرأ الشيطان من حزبه، وأرهق الله باطلهم بحقه، وجعل الفلج والظفر لأوْلى الحزبين به، بذلك جرت سنة الله في الماضين من خلقه، وذلك ما وعد من تمسَّك بأمره وطاعته.

وفي مدح قواد الجيوش وصفة الأولياء في أحوالهم

لما بلا من طاعته، واختبر من نصيحته، ويُمْن نقيبته، وشدة شكيمته، وصحة عزيمته، وصدق نيته، وثقل وطأته على أعداء الله وأعداء الدين والمسلمين، وعلمه بمراوضة الحرب وممارستها، ومكايدة الأعداء ومواقفتهم فيها، فشمَّر تشمير أهل الحسبة وحسن الظن بالله من غير ونْيَة ولا فترة ولا بقاء جد ولا اجتهاد، راجيًا أن يُنجح الله سعيه، ويفلج حجته، ويظهره على عدوه من الاستقلال الذي حمله، والاضطلاع بما أسند إليه، والامتثال لسيرته، والانتهاء إلى أمره، والقبول لأدبه، والخفوف بما يستنهضه له من حروبه وأموره مثل الذي جعل عند فلان: يفضُلهم بطوله، ويطولهم بمحاسنه، ويتقدمهم بحسن بلائه وغنائه، ومواقفه ومساعيه، لم يختبره أمير المؤمنين في جميع خصاله إلا وجده عند الاختبار والتحصيل سالكًا لمناهجه، قابلًا لأمره، متبعًا لأثره، ساميًا بهمته إلى أقصى الغايات وأعلى الدرجات، حتى صار عند أمير المؤمنين مقدَّمًا في القدر والرتبة، مخصوصًا بالمنزلة والرفعة، يرى ذلك قليلًا في كثير ما وجب بطاعته ونصيحته، فبارك الله عليه وليًّا ظهيرًا. فأقدموا متوكلين على الله مسلمين لأمره صابرين على ما نالهم من اللأواء والجهد والتعب وَكَلَب الشتاء وحمارة القيظ، وصعوبة المرام من أعداء الله الكفرة، يرجون نصر الله وتَنَجُّز ما وعد الصابرين والمجاهدين في سبيله من الظفر والنصر والغلبة على عدوهم، توحد به من نصرهم وإعزازهم أن كان الله عز وجل تكفل لأوليائه بالنصر والعز والحيطة، وجعل حسن العاقبة لهم، وكَبَت من حادهم وأخلد إلى المعصية والكفر والأسر، ليكونوا بذلك عظة ونكالًا لمن أمهله الله منهم، ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم؛ أعظمهم غناء، وأحسنهم بلاء، وأشدهم صولة، وأقساهم نكاية، وآمنهم سريرة، وأمضاهم عزيمة، وأربطهم جأشًا، وأصدقهم بأسًا، وأملأهم للأقران، وأرعاهم لوثائق الإيمان، وأشدهم تحدبًا على السلطان، فآزره بهم، وحصَّن أطراف خلافته بأيديهم، فكفوه المهم وقاموا دونه بالملم، غير مستطيلين بغناء، ولا متعرضين لطلب جزاء، قد تعبدهم الوفاء، وغَنُوا بقربة الولاء؛ فإن الله جعل آباءه أعلامًا في الطاعة يهدون إليها، وأوَّليته قادة إلى سبيل النصيحة يتمسك المناصحون بآثارهم فيها، باقيًا على كرِّ الأيام ذكر مساعيهم، وزائدةً على تصرف الأيام حقوقهم، وباديًا للعيون حميد أفعالهم، لا تنصرم الأخبار عن سالف لهم إلا وصلوه بحادث، ولا يتقادم لهم من بلائهم أول إلا اتبعه آخر. ففلان يجري في أمره على منهاج قد أوضحوه له، ويسلك في الطاعة طريقًا قد سهَّلوا له مذاهبه، ويتمسك بعُرًى وثيقة قد رأى آثارها على من تقدمه، والله محمود. ولم يزل الله يعرِّف أمير المؤمنين في كل ما أسنده إلى فلان من أعماله وقلَّده من أموره، المبالغة في قضاء الحق عليه ويُمْن النقيبة فيما يتولاه، والاجتهاد في كل ما قرَّبه من الله وخليفته. وأمير المؤمنين يحمد الله على ما يخصه به من نعمته، وإياه يستعين على قضاء حقه، إنه سميع قريب.

فإن كتابك ورد على أمير المؤمنين بما لم يزل يتطلع إليه منك ويؤمله عندك، ويرجو أن يوفقك الله فيه لرشدك، ويؤثرك منه بحظك، للذي كان يبلغه وينتهي إليه من خبرك، في أحوالك وتصرفك في خصال الخير، وتنقُّلك في درجتها، مساميًا لأهل الفضل في مراتبهم، متزينًا بصالح أفعال الملوك في قصد سيرتهم، وحسن طريقتهم، ولين أكنافهم. فحقَّق الله ظنه بك، وأجاب دعاءه لك، وبلغ بك أمنيته، وأعطاه فيك رغبته. وكنت فيما هُديت له بانقيادك إليه راغبًا، ودخولك فيه محتسبًا، مستوليًا على أسنى الأمور مئونة، وأفضلها ذخيرة، وأعلاها درجة، وخيرها عاقبة، وأعمها سلامة، وأمنعها كهفًا، وأبقاها شرفًا، وأعدلها حكمًا، وأطولها سلمًا، مستحقًّا بذلك على الله عز وجل زيادة الملك فيها، وبهاء الثروة، وانبساط القدرة، واتساع المملكة، وظهور الغلبة وعز التمكين، والنصرة في الدار التي حُبيت فيها بقليل ما ترجو أن تصير إليه من ثواب الله عز وجل وحسن مجازاته بالنعيم المقيم في دار الأمد، ومحل الأبد، بما لا يبلغه إحصاء، ولا يكون له انتهاء؛ وملأه فرحًا وابتهاجًا، وسرورًا وجذلًا، ورجاء لك من الله عز وجل حسن عونه وتوفيقه أن يغلب لك على حظك، وأن يأخذ إلى تقواه بقلبك ويجعل فيما عنده رغبتك، وإلى ذلك سموك وهمتك. وليس ينفك أمير المؤمنين مقتفرًا فيك أثرًا يحمده، ومتصفحًا بخبر يبهجه، ومستحدثًا نعمة من الله عز وجل يرجو اتصالها واتساقها لديه بك، حتى يتناهى إلى الدرجة العليا، والغاية القصوى، فيما [يبتغيه]٣٣ من اجتثاث أرومة الفسقة وقطع دابرهم. وبالله الثقة والحول والقوة، متعرِّفًا من الله فيما فارقه من جهاد عدوه أتم مصادق وعد القائمين بحقه، الصابرين في جنبه، وأحسن ما أبلى، ذائدًا عن حريم، ومحصِّنًا لبيضة، ومدافعًا عن ملة، فشمر شاريًا لله نفسه، طارحًا عنه لباس الغفلة، متجافيًا عن مهاد الوطأة، وليس تدخله الخلة والوحشة على من كنت قريبًا منه، ولا يمتنع لأمير المؤمنين طرف أنت فيه، ولا أمر يعين عليه ويتمسك بسبب من أسبابه.

وصف الأولياء في الكتب

وصار أهل السمو إلى الدرجة العليا، والاعتصام بالعروة الوثقى، من أولياء أمير المؤمنين وشيعته، منشرحة صدورهم بمكانفته، منبسطةً أيديهم بمعاونته؛ وقسم لأمير المؤمنين من أولياء دينه وأنصاره، قومٌ آزرهم بالنصر، وكنفهم باليقين، وألَّف بصائرهم على الحق، وأيدهم بمؤيدات التقوى؛ فلما أمرهم أطاعوا أمره، ولما فرضوا في ذات الله طاعته، فرض الله نصرهم وتمكينهم، فجاهد مجاهدهم مستبصرًا محتسبًا، وقام قائمهم بالحق عليه مخلصًا مجتهدًا؛ وقادتهم طلائع الدين ودواعيه أرسالًا قدمًا، فاتبعوا سبيله لا ناكلين عن إقدام، ولا متوقفين عن ارتياب، ولا متهيبين، مع دخائلهم وبصائرهم، عدوًّا ولا عنادًا؛ طالبين بثأر الدين بغاته، وبطوائل الإسلام عداته: من صنوف أمم الكفر ومردة النفاق وأئمة الملحدين؛ متقلدين للحق ونصرته، ولئن تمم الحق بهم ومضى، وليَّن مع الحق من نكث عنه بألسنتهم وأيديهم، حتى فتح الله عز وجل لأمير المؤمنين معاقل الشرك وأممه، وأناخ الباطل وأركانه، وأعلام البدع وأتباعها، فضلًا من الله ونعمة، والله عليم حكيم؛ إن هززتهم قطعوا قطع الحسام، وإن أجريتهم في عظيمة وقعوا وقع الجياد، وإن استغنيت ودام الغناء لك عن جميع العاملين، كانوا رصدًا لك فوق أعناق الحاسدين.

ما يُقرَّظ به أمير المؤمنين في أواخر الكتب

ليعرفوا موقع نعم الله عند أمير المؤمنين، يحوطه به في أوليائه، من النصر والتمكين، وعلى أعدائه من الوقم٣٤ والتوهين؛ ويشكر الله على النعمة في ذلك، إن الشكر محصِّن للنعم، وأمان من الغِيَر، لتحلو مواقع النعمة عليهم، فيما يجمع الله بأمير المؤمنين من كلمتهم، ويحوط من حريمهم، ويُحل من بأسه ونقمته بمن صدف عن سبيله وحاول تشتيت جماعتهم وتوهين حقهم، ويقابلون ذلك بما ترتبط به نعمه، ويُستدر مزيده.

سعيد بن حُميد

ليشكروا الله على ما منح خليفته من هؤلاء المرَّاق الخارجين من جماعة المسلمين، فإن الشكر أمان من الغِيَر ومادة للمزيد.

(٣) التحاميد في أواخر الكتب

تحميد لسعيد بن نصر في آخر كتاب فتح له

الحمد لله المعز لدينه، المظهر لحقه، المؤيد لأوليائه، الصانع للإسلام وأهله، الناصر لخليفته، الحافظ لما استحفظه، المتوحد بالنعمة عليه فيما حمله.

تحميد لإبراهيم بن العباس في آخر كتاب فتح

فالحمد لله المزيل لما يمهِّد المبطلون، ويمكر به الماكرون، ويكيد به الملحدون، تمكينًا لعبده وخليفته، وذبًّا عن دينه وحقه، وإظهارًا لأوليائه وحزبه، وإمضاء لعزائمه وقدرته، منعمًا قادرًا، وممليًا ممهلًا، عدلًا إذا استدرج، متفضلًا إذا أنعم، حمدًا يُستنزل به نصره، ويُبلَغ به رضوانه، ويُمترى بمثله فواضل مزيده.

تحميد في فتح لإبراهيم بن العباس

والحمد لله بجميع محامده التي حُمد بها، على جميع آلائه وجميل بلائه، فيما ولي به خليفته، ونصر به دينه، وأقام به حقه، وأعز به وليه، وقمع به من ألحد عن سبيله، حمدًا يؤدي حق نعته، ويوجب به أفضل مزيده بمنِّه وطَوْله.

تحميد لأبي عبيد الله في آخر كتاب

فالحمد لله على ما يحدث لأمير المؤمنين في دولته وسلطانه، ولعامة المسلمين من صنعه وكراماته، في جسيم الأمور ولطيفها، وخاصها وعامها، بما يجعله للنعمة تمامًا، وعلى ما يحل بعدوه من بأسه وقوارعه، ويوقع بهم من جوائحه واستئصاله، ما يكون لموعوده إنجازًا، حمدًا يبلغ رضاه ويستوجب مزيده.

تحميد آخر

الحمد لله الذي تمَّم لأمير المؤمنين نعمته، وأكمل دعوته، وجعل العاقبة فيه لمن اختاره لخلافته، ورد إليه من شدَّ عنه من رعيته، وأتى أمير المؤمنين بصنعه على حد نيته وقدر أمنيته، ولم يفل رأيه ولم يخلف ظنه، حمدًا كثيرًا دائمًا بما يزكو عنده فيتقبله، ويرفع إليه فيبلغ رضاه؛ حمدًا يكون لأسبغ نعمه جزاءً، ولأفضل إحسانه كفاءً، وللمزيد من فضله وإحسانه موجبًا، وإلى أعلى الدرجات عنده مؤديًا، وللخلود في جنته وسيلة وسببًا.

آخر: الحمد لله الذي جمع لأمير المؤمنين ما حباه بمزية نصره وتمكينه وإعزازه وتأييده، وإظهاره على من ناوأه وصدَّ عن حقه، وصدف عن طاعته، ووفقه لاختصاص فلان بما وكله إليه وعصبه به من أعباء أموره وجلائل أعماله، وأجرى بفلان وعلى يديه وبركته وسعادة جده ويمن طائره، من تتابع الفتوح، وتواتر النصر، وإقبال الصنع، وإعلاء الحق وإنارته، وإزالة الباطل وإبادته، حمدًا يؤدي حقه، ويرى عزه، ويمير من أحسن٣٥ مزيده، بكرمه وجوده.
آخر: الحمد لله الذي أكرم أمير المؤمنين بالخلافة، وخصه بالإمامة، وقلده من أمور عباده وبلاده ما تولاه بكفايته وكلاءته وتأييده وحياطته، حمدًا يوجب المزيد من فضله.

ولإبراهيم بن العباس

الحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وأيَّد جنده، وجعل فتوح أمير المؤمنين شرقًا وغربًا مشفوعة بين إقامة حق وإدالة باطل وإزالة عاند وإبادة عائد وإقالة٣٦ مستقيل. ويسأل الله أمير المؤمنين، مسألة العبد سيده ومولاه رغبة إليه متذللًا له أن يصلي أفضل صلواته عنده على أكرم أنبيائه.

دعاء أمير المؤمنين في الكتب والدعاء له

وأمير المؤمنين يسأل الله ربه ووليه، أن يكنفه فيما حباه واستحفظه عليه بأفضل تأييده وأعز نصره، وأن يهب له مع كل نعمة يجددها له حارسًا من شكرها، يتابع به أفضل مزيده، فإن النعمة منه، والشكر بتوفيقه، والمزيد لمن شكره.

وأمير المؤمنين يسأل الله ربه وربكم ووليَّ النعم عليه وعليكم، أن يلهمه وإياكم أداء حقه وشكر نعمته وحمده عليها، ويطوِّقه وإياكم أفضل الأعمال وأرضاها عنده وأشدها استيجابًا لما وعد الشاكرين من مزيده؛ إنه سميع قريب.

وأمير المؤمنين يسأل الله الذي ولَّاه خلافته وأعلاه بها، أن يطوقه ما حمله، ويلهمه العدل بين رعيته، ويلهمهم نصيحته وطاعته، ويصلح أمرهم به في ولايته وخلافته. ويرغب إلى الله الذي أيده بنصره ومكَّن له بغير حول منه ولا قوة، أن يلهمه وإياكم شكره وذكره وخشيته، ويشمله وإياكم بطاعته ومرضاته ومحبته، وأن يعرِّفه وإياكم الزيادة في نعمه والنصر على عدوه والتمكين في بلاده؛ إنه ذو فضل عظيم.

وإلى الله يرغب أمير المؤمنين في إعانته على نيته وتبليغه منتهى سؤله وغاية همته وإعزاز دينه وإذلال من صدَّ عن سبيله؛ إنه سميع قريب. وأمير المؤمنين يسأل الله الذي دلَّ على الدعاء تطولًا وتكفل بالإجابة حتمًا، فقال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أن يجمع على رضاه ألفتكم وأن يصل على الطاعة حبلكم، وأن يمتعكم بأحسن ما عودكم من مننه، ويُوزعكم عليها من شكره ما يواصل لكم به مزيده، وأن يكفيكم كيد الكائدين، وحسد الباغين؛ ويحفظ أمير المؤمنين فيكم، أفضل ما حفظ به إمام هدًى في أوليائه وشيعته؛ ويحمل عنه ثقل ما حمله من أمركم؛ وبالله يستعين أمير المؤمنين على ما ينوي من جزائكم بالحسنى، وحملكم على الطريقة المثلى، وبه يرضى لكم ناصرًا ووليًّا، وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيرًا.

ويسأل الله أمير المؤمنين، أن يُحسن على صلاح نيته عونه، وأن يتولاه فيما استرعاه، ولاية جامعة، لصلاح ما قلده، إنه سميع قريب.

ويسأل الله أمير المؤمنين الذي بيده مفاتيح مقاديره وفواضله، أن يصلي أفضل صلواته على أفضل أنبيائه، وأن يجعل ما ادخر لأمير المؤمنين إلى دولته وخلافته، وحباه به من وسائل الخير عنده، أن يجمع إلى أحسن توفيقه لما يرضى من شكره وحسن معونته على ما أصلح له ربه، فإنه شاكر يحبُّ من شكره ويوجب لمن وُفِّق لشكره مزيدًا بمنِّه وطَوْله وفضله وإنعامه، إنه جواد كريم.

ويسأل الله أمير المؤمنين مبتدئًا ومعقبًا وأولًا وآخرًا، وقبل كل مسألة، وأمام كل رغبة ومقدِّمة كل طلبة، أن يصلي على صفوته من عباده وخير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله، محمدٍ عبده ورسوله، أفضل صلواته، ويبارك عليه أكثر بركاته؛ وأن يديم له كرامته، ويجري عنده على أجمل عاداته، وأن يتمم له ما اختصه به من إحسانه، حتى يملأ الأرض عدلًا وقسطًا، والإسلام تأييدًا وعزًّا، والشرك ذلًّا وقمعًا، إنه ولي نعمته ومنتهى كل رغبة، وغاية كل حاجة، وهو على كل شيء قدير.

وأمير المؤمنين يقول: الحمد لله طاعة لأمره، واعتصامًا من الفتنة بشكره، واستدامة لنعمه المتزايدة٣٧ عنده، إنه سميع قريب.

وأمير المؤمنين، يسأل الله السامع كلام مَن جهر، والعالم بغيب من أسرَّ، المطلع على ضمائر العباد ووسوستهم، والمستنقذ من يشاء برحمته، والممتن على من يشاء بقدرته، أن يجمع على الحق أهواءكم، وينصركم على أعدائكم، ويصلح ذات بينكم، ولا يكلكم في موطن من مواطن اللقاء، والتحاكم والتناجز إلى أنفسكم، ويكفيكم ويكفي بكم إنه سميع قريب.

الدعاء لأمير المؤمنين في أواخر الكتب

ونسأل الله أن يَهنأ أمير المؤمنين ما صنع له، ويُعينه على شكر ما أولاه، إنه ولي ذلك وإنا إليه فيه راغبون والسلام.

وله: ونسأل الله أن يهنأ أمير المؤمنين الكرامات التي يتابعها، والنعم التي يظاهرها عليه، والفتوح التي جعلها في خلافته، وولايته ودولته، ويهب له من المعرفة بحقه في ذلك والشكر له بحسن بلائه فيه، ما يبلغ أعظم رغبة وأقصى أمنية، من ذخائر الخير وفضيلة الأجر وحسن الثواب في الدنيا والآخرة.

أسأل الله لأمير المؤمنين في غابر أموره، أحسن ما عوَّده في سالفها، من السلامة التي حرسه بها من المكاره، والعز الذي قهر له به الأعداء، والنصر الذي مكَّن له في البلاد، والهدى الذي وهب له به المحبة، والرفق الذي أدرَّ له به الحَلَب، والاستصلاح الذي اتسقت له به الرغبة، حتى يكون بما أعطاه من ذلك، وما هو مستقبل به، أبعد خلفائه ذكرًا، وأبقاهم في العدل أثرًا، وأطولهم في العمر مدةً، وأحسنهم في المعاد منقلبًا.

أسأل الله لأمير المؤمنين نعمة لا تزول، وكرامة لا تنفد، وعزًّا لا يضام، ونصرًا لا يغلب، وكفايةً ينتظم بها جميع الصلاح، حتى لا يكون بأول من ذلك أسعد منه بآخر، ولا بماضٍ أسرَّ منه بمستقبل.

أسأل الله لأمير المؤمنين في عاقبة كل نعمة أفضل ما وهب له في عاجلها، حتى يجعل كل نعمة أنعم بها عليه، وكرامة حازها له، موصولة بالتمام، محوطة بالحفظ، مكلوءة من الغِيَر، ممدودة إلى طول غايات البقاء؛ لا يشوب صفوها كدر، ولا سلامتها غِيَر، ولا سرورها تنغيص؛ وهنأ الله أمير المؤمنين الظفر، وأدام له عادة النصر والتمكين الموضح، وحجته المدحضة لحجة أعدائه، والغلبة المظهرة لحقه، المجتاحة لمن خالفه؛ ثم لا برحت نعمة الله راهنة بمثله في الأولياء نصرًا، وفي الأعداء إباحةً، وفي الناكثين تنكيلًا.

سَرَّ الله أمير المؤمنين بما أهدى له من كفايته، وحاطه به من منعته، وأيده به من نصره، وجعله وما استرعاه من دينه وسلطانه، في كنفه الذي لا يُستباح وتحت يده المانعة وجناحه المحفوظ.

أدام الله لأمير المؤمنين السرور بما يُقذي به عيون أعدائه في تمكينه وتوهينهم، ونصره وخذلانهم، وإعزازه والمجاهدة لهم؛ ولا زالت نعمة الله تزيده في قوة الظفر، وعزة النصر، وتفد من آفاق الأرض بالبشارات والفتوح، حتى تملأ له ما بين طرفي ملكه أمنًا وعزًّا، ويملأ به قلوب أعدائه خوفًا ورعبًا، ويعدهم على خلافه سطوةً وتنكيلًا.

أحمد بن يوسف

وهنأ الله أمير المؤمنين نِعَمه، وملأه كرامته، وأولى له فتوحه، وأدام إعزازه، وتولَّى حياطته وكفايته، فيما دنا منه وما غاب عنه، وأطال بقاءه والامتناع به.

(٤) مختار ما كُتب من باب التهاني في كل فن

تهنئة خليفة بظفر

الحمد لله الذي جمع لأمير المؤمنين مع الغلبة الحجة، ومع الظفر المعذرة، وجمع لعدوه مع الذل السطوة، ومع دحوض الحجة النكال؛ فلم يجمعه والناكثين موطنٌ من مواطن الصبر، إلا جعل الحجة عليهم فيه، ولسان العذر فيه معه، ويد الظهور فيه له؛ ثم وهب له عند الظفر من الشكر، وعند الفلج من التواضع، وعند القدرة من العفو، ما جعله مستوجبًا لما أصفاه به، معرَّفًا بأن العذر منقطع ممن نكبه، وأن مستزاد الحجة ومطلب السلامة، في التمسك بطاعته ومناصحته، والمجاهدة دونه.

وفي مثله: أدام الله لأمير المؤمنين السرور بما يُقذي به عيون أعدائه.

وكتب إبراهيم بن المهدي إلى المعتصم يهنئه بخروجه عن أرض الروم بعد فتح عمورية

الحمد لله الذي تمَّم لأمير المؤمنين غزوته، فأذلَّ بها رقاب المشركين وشفى بها صدور قوم مؤمنين؛ ثم سهَّل الله له الأوبة سالمًا غانمًا، وكذا وكذا؛ وليهنئه ما كتب الله له، مما أحصاه فلا ينساه، ليقفه به موقفًا يرضاه، فإنه عز وجل يقول: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم الآية، فطوى الله لأمير المؤمنين نازح البعد برًّا وبحرًا، ووقاه وَصَب السفر سهلًا ووعرًا، وحاطه بحراسته كالئًا، ودافع عنه بحفظه راعيًا؛ حتى يؤديه إلى المحل من داره، والوطن من قراره؛ وجزاه عن الإسلام خاصة، وعن رعيته كافة، بتخيره مستخلفًا عليهم، وقائمًا مقامه فيهم هارون ابن أمير المؤمنين؛ فقد استخلفه رفيقًا شفيقًا، حليمًا وقورًا، يقظان ساكنًا؛ لم يشذب عليه أمر، ولم ينتشر عليه طرف، ولم يَضِع معه سبيل، ولم يُسخط وليًّا مكانفًا، ولا عدوًّا مخالفًا، بلا سيف أشرعه، ولا سور أقرع به؛ فمثَّل جزاء أمير المؤمنين في تخيره إياه، فجزاه الله على ما حفظ من وصاته، على محمود مقامه، إنه مجيب الداعي.

وكتب أحمد بن يوسف إلى عبد الله بن طاهر يهنئه بظفر

بلغني — فتح الله عليك — خروج ابن السري إليك، فالحمد لله الناصر لدينه المعز لوليه وخليفته على عباده، المذل لمن صد عن حقه ورغب عن طاعته؛ ونسأل الله أن يظاهر النعم ويفتح بلدان الشرك به؛ والحمد لله على ما والاك منذ ظعنتَ لوجهك، فإنا نتذاكر سيرتك في حربك وسلمك، ونكثر التعجب لما وفِّقت له، من وضع الشدة والليان بموضعهما، ولا نعلم سائر جند ولا رعية عدل بينهم عدلك، ولا عفا بعد القدرة عمن آسفه وأضغنه عفوك.

تهنئة خليفة بحج

أصلح الله أمير المؤمنين وأراه من الزيادة في نعمه، ما يكون تمامًا لما ابتدأه به من فضله؛ والحمد لله على ما خص به أمير المؤمنين من كرامته، وأعطاه من الفضل في نيته، وجعله يستعين على دينه، بما بسط له في دنياه، ويحمل على بدنه النَّصَب فيما يتقرب به إليه؛ فيجفو عن دعته على لينها، ويشخص عن طمأنينته على فضلها، إيثارًا لآخرته، وأداء لحق ربه؛ بادر له بذلك ليكرمه به، ثم يستعمل فيه نفسه، تقربًا إليه، فيسعده بالإذن في ذلك حين كان من الله له، وبالعمل فيه حين كان لله منه؛ فيكون قبوله الخير حين يعرضه له، دليلًا على قبوله الخير عنه حين يعمل لربه؛ وكان من ذلك ما أذن الله لأمير المؤمنين في زيارة نبيه العامَ، وموافاة مشاعره العظام، في وقتها من الأيام، التي لا توافى إلا معها، ولا تكون مناسكه إلا فيها؛ فكتب الله له في ذلك الآثار الصالحة والأعمال المبرورة، فدخل في الإحرام له بتعظيم حقه، وخرج منه بقضاء نسكه، أجرًا عقده الله عليه في ابتدائه، ثم أتمه له باستيفائه.

ولمحمد بن مكرم تهنئة لحاج

بلَّغك الله الرضا في أملك من نُجح كل حاجة وإبلاغ كل أمنية، وتقبُّل كل دعوة خصصت بها نفسك أو عممت بها أحدًا من أهلك، في مجامع وفوده، ومعتزل قراره، فكنت شافع من شاهدك، ووافد من غاب عنك، يستفتح بدعائك، ويرجِّي بركة محضرك، والقربة إلى الله عز وجل بفضل جاهك.

تهنئة بولاية

نرى ما أحدث الله لك من الولاية، لنا خاصًّا وإلينا واصلًا.

آخر: ولم تتخطني النعمة إذ أصابتك، ولم تتعدَّني إذ دخلت بك، ولم أخلُ من لازم شكرها، وما يُنفِّلك الله منها، إذ قُلِّدتها، اعتدادًا بكل ما طوِّقتُ من المنن، وإيجابًا على نفسي ما حملت من الشكر.

ولسعيد بن حميد إلى بعض إخوانه

سرَّك الله بتتابع نعمه، وترادف إحسانه، وزادك من فواضل أقسامه. بلغني — أكرمك الله — ما وهب الله لك من سلطانك، فقواك الله على ما استرعاك. ورزقك الشكر على ما أولاك.

وفي مثل ذلك: أكمل الله لك السعادة، وزادك في الكرامة، وخصك بدوام النعمة. بلغني ما وهب الله لك من سلطانك، فسُررت به، وسألت الله إتمام نعمه عليك فيه بتأييدك، وتوفيقك للعدل في سيرتك، وغرس المحبة لك في قلوب رعيتك، وأن يعينك عليه، ويرزقك السلامة في الدين والدنيا.
وله في مثله: أنا أهنِّئ بك العمل الذي وُلِّيته، ولا أهنئك به، لأن الله أصاره إلى من يورده موارد الصواب، ويصدره مصادر الحجة، ويصونه من كل خلل وتقصير، ويمضيه بالرأى الأصيل، والمعرفة الكاملة، قرن الله لك كل نعمة بشكرها، وأوجب لك بطوله المزيد منها، وأوزعك من المعرفة بها ما يصونها من الفتن، ويحوطها من النقص.
آخر: قد وُلِّيت من العمل ما أسأل الله عز وجل أن يرزقك بركة بدئه وعاقبته، ويعطيك الرضا ممن وليت له وعليه.
آخر: هنَّأك الله هذه النعمة المقبلة، الدالُّ أولها على تمامها، وأوزعك شكرها.
آخر: أسعدك الله بهذه الولاية وجعلها مباركة، تنتقل بظل السلامة منها، ونيل الكفاية فيها إلى أَمَلك بنهايته ورجائك بغايته، ورزقك السلامة ممن وَلِيتَ له وعليه.
آخر: سرَّك الله بما جدَّد لك من هذه المنزلة، ونفعك بهذه الولاية، وأرضى عنك من وليت له ومن وليت عليه.

وكتب محمد بن مكرم إلى أحمد بن دينار

نحن من السرور أيها الأمير بما قد استفاض من جميل أثرك فيما تَلي من أعمالك، وزمِّك إياها بحزمك وعزمك، وانتياشك٣٨ أهلها من جور من وليهم قبلك، وسرورهم بتطاول أيامك والكون في ظل يدك وجناحك، في إعانة من تخصه وتعمه نعمتك، وتحول به الحِوَل حيث حالت بك؛ فالحمد لله الذي جعل العاقبة لك، ولم يَردُد علينا آمالنا فيك منكوسة، كما ردَّها على غيرنا في غيرك. ولوددتُ أن أباك كان عاين آثارك هذه ومناقبك، وإن كان الافتراق لم يقع بينكما حتى علم أنك خَلَفُه، وألقى إليك بأمره ومعاقد ثقته، وجعلك موضع اختصاصه وأثرته، وصرف ذلك عمَّن كان لا يستحقه، وذمَّ سالف رأيه فيك وفيه وحَمِد آخره، ثم نعمة اتصلت لك بما قبلها، انتظمت بها أمورك فاعتدلت، وتلاحمت عليها واتسقت، ما منحت في كاتبك، ومستقر ثقتك، وحامل أعبائك، من الكفاية والنصيحة، ووضعه عن قلبك مئونة التهمة والقص لأثره، وإدخاله راحة الطمأنينة إليه وروح الثقة به، لا كما ابتُلي أخوك، فإنه صحبه فخلط عليه أمره، وأفشى أسراره إلى صاحب بريده، فأنفل ذلك بينهم، وقطع حبالهم، حتى هجنت آثاره مع حسنها ووضوحها، وصفرت يده من حظ عمله، ولزمه الذم من أهله؛ فهذه كُتُبه إليَّ، في اطراح نصيحة له كانت فيه، ويسألني أن أُشخِص إليه كاتبًا يحمل ثقله، ويفتح له ما أرتجه من أمره. وهذا من سعادة جدِّك، ويُمن طائرك، وإقبال الأمور إليك، وسعيها على طريق موافقتك، وهنيئًا هَنَأك الله نعمه خاصها وعامها، وأوزعك شكرها، وأوجب لك بالشكر أحسن المزيد فيها.

تهنئة بعزل

كتب رجل إلى مالك بن طوق لمَّا عُزل عن عمله:

أصبحتَ — والله — فاضحًا متعِبًا: أما فاضحًا فلكل والٍ قبلك بحسن سيرتك؛ وأما متعبًا فلكل والٍ بعدك أن يلحقك.

فصل

سواء علينا أوُلِيت أم صُرفت، إنا لنشهد بك الولاية، بما بسط الله من يدك ببذل العُرف، ونهنئك بالعَرْف بما يلحقك من ثناء ما أسلفت من الجميل؛ ولا نخاف عليك أن تفارق عملًا وأنت محلٌّ له، ولا أن تصحبه وليس به فاقة إليك. فهنأك الله النعمة، وأعانك على الشكر، وأيدك بالمزيد.

تهنئة بعزل عامل عن عمله

بلغني صرفُك، فخار الله لك، وهناك لطيف نظره وجليل إحسانه، فإني أرى الرجل عند خروجه من العمل سالمًا نقيًّا من مأثمه ودنسه، أولى بالتهنئة منه عند دخوله فيه، وأرى الدعاء له عند بدء تلبُّسه به بالخلاص منه معصومًا بريئًا من تبعاته ورواجع آثامه، أولى بمن عُني به وأحبَّ صلاحه، ولذلك قدمتُ تهنئتك.

ولسعيد بن حُميد في مثله إلى بعض إخوانه: حفظك الله بحفظه، وأسبغ عليك كرامته، وأدام إليك إحسانه. إن سروري بصرفك، أكثر من سرور أهل عملك بما خُصُّوا به من ولايتك. وقد كنتَ — أعزك الله — فيما يُربأ بك عنه، بما أنت عليه في قدرك واستئهالك؛ ولكنا رجونا أن يكون سببًا لك إلى ما تستحق، فطِبنا نفسًا بالذي رجونا. فالحمد لله الذي سلَّمك منه، ونسأله تمام نعمه عليك وعلينا فيك، بتبليغك أملك وآمالنا فيك، وشفاع ما كان من ولايتك بأعظم الدرجات وأشرف المراتب؛ ثم خصَّك الله بجميل الصنع، وبلغك غاية المؤمِّلين. إن من سعادة الوالي — حفظك الله — وأعظم ما يُخص به في عمله وولايته السلامة من بوائق الإثم، ونوائب الدنيا وشرها، والعاقبة مما يُخاف منها؛ وقد خصك الله منها بمنِّه وطَوْله ما نرجو أن يكون سببًا لك إلى نيل ما تستحق من المراتب. والله نسأل إيزاعك شكر ما منَّ به عليك، وتبليغك غاية أملك في جميع أمورك، برحمته وفضله.
آخر: ما أحسن ما كشفتْ عنك الولاية! وأجمل ما أبرز منك العمل! قد كسبك الله حمد ولايتك وعَزَل عنك لائمتها، بما انتشر عنك من عدلك، وظهر من معروفك، فإذا ساءك هذا فليسررك.
وكتب محمد بن مكرم إلى إبراهيم بن المدبر: الحمد لله رب العالمين حمدًا يجوز حمد الحامدين، الذي جعل قضاءه خيرة لك؛ فإن زادك نعمة وفقك لشكرها، وإن امتحنك ببلوى من نَفْث حاسد أو كيد كائد، أنار برهانك وأفلح حجتك وجمع بين وليك وعدوك في الشهادة لك؛ وإن نقل أمرًا عن يدك، فربما يرجعه إليك مختلًّا لفقدك. هذا إلى ما جعل عندك من خواص النعم التي إن ذكرناها فأطنبنا أو تجوزنا فقصرنا، كان غايتنا إلى الحسور دون مدى غايتك. وقد زادك الله بهذا الحادث فضلًا عظيمًا، لما ظهر من وله العامة إليك وتطلعها إلى ما كانت فيه: من لين إنصافك وكريم أخلاقك، ووحشة الخاصة لما فقدتْ من حسن معاملتك وكثير تفضلك. وأيقن أهل الرأي والتأمل لصفحات الأمور، أن كل ما خرج عنك فعائد إليك ومتصل به غيره، حتى تستقر في يدك عُرى الأمور ومعاقدها، وتفتح برأيك وتدبيرك أبوابها ومغالقها، فليهنك أن كل ما زاد غيرك نقصًا زادك فضلًا، وكل ما نقص من الرجال وحطها ألحق بك شرفًا. فزادك الله وزادنا منك، وجعلنا ممن يقبله رأيك، ويقدِّمه اختيارك، ويقع من الأمور بموافقتك، ويجري منها على سبيل طاعتك.
وكتب سعيد بن حميد إلى بعض إخوانه: جعلني الله من السوء والمكروه فداءك، وأطال في الخير والسرور بقاءك، وأتم نعمه عليك، وأحسن منها مزيدك، وبلغك أقصى أمنيتك، وقدَّمني أمامك، وقد بلغني ما اختار الله لك، فسررت من حيث يغتمُّ لك مَن لا يعرف قدر النعمة عليك، ولا يراك بعين استحقاقك. ولئن ساءني ما ساء إخوانك من عزلك، لقد سرني ما يَسَّر الله لك. والحمد لله الذي جعل انصرافك محمودًا، وقضى لك في عاقبتك الحسنى، وأقول:
لِيَهْنِك أَنْ أَصْبحتَ مُجْتَمعَ الحمد
ورَاعِي المعالي والمُحامي عن المجدِ
وأنَّك صُنتَ الأمرَ فيما وَلِيتَه
ففرَّقتَ ما بين الغَوَاية والرُّشْد
فلا يَحْسَبِ الباغونَ عَزْلك مَغْنمًا
فإنَّ إلى الإصدار عاقبة الوِرْد
وما كنتَ إلَّا السيفَ جُرِّد للوَغَى
فأَحْمَدَ فيها ثم رُدَّ إلى الغِمْد

وقد قال الأول:

فمن يكْن بورود العَزْل مُكتئبًا
فإنني بورود العزْلِ مسرورُ
بعدَ الولاية عَزْلٌ يستبين به
طَوْلُ الوُلاة وبعدَ العَزْلِ تأمير

أما ما عندي مع تصور العاقبة لك في نفسي، فيمسني في أمرك في حال المحنة ما يخصني منه في وقت تجدد النعمة. وبحسب ضميرك الشاهد على ما عندي ما أجده لك في نفسي. فلا زلتَ في نعم متتابعة متجددة، ولا عدمتَ الثروة والزيادة؛ وبلَّغك الله أقصى أملك، وأمل أخيك لك، وكَبَتَ أعداءك، وجعلني وقاءك المقدم عنك. أحب أن تشرح لي صورة الأمر إلامَ تأدَّت، وكيف كان الابتداء؛ فإني لا أشك أنها حيلة ونية من عز الصاحب الجليل القدر؛ ولها عاقبة منه إن شاء الله محمودة، وتفضي من ذلك إلى ما تسكن إليه نفسي، إن شاء الله.

تهنئة بتزويج وبناء بأهل

بطائر اليُمن فليكن هذا البناء، وبأسباب السعادة فليتصل عقد هذا الاجتماع، وبكل ذكاء الولد، وثروة العدد، فلْتَجْرِ لك الأقدار، وفي أطول غايات البقاء فلتدُمْ هذه الغبطة والسرور.

تهنئة بتزويج

بلغني تزوجك من فلانة، فبالرفاء والبنين، تهنئة السلف الصالحين، ومبلغ سنَّة المجتهدين المتبحرين، ونقول على يُمن الطائر، وسعادة الجد، ونماء العدد، واتفاق الهوى، وطيب المناسمة، واجتماع الشمل، وثبات الريع، وتملِّي النعم. أسأل الله الذي قضاها أن يجعلها لك سكنًا ويجعلك لها شجنًا، وأن يؤخر حِمامها إلى انتهاء نفسك عنها، وجعلك جائزًا تُرْبها، وَوَلِيتَ المال وهناءة العيش وملاهاة الغواني بعدها.

تهنئة لغسان بن عبد الحميد بتزويج

قد بلغني جمع الأمير أهله على الحال التي جمعهم عليها من نعمة الله عليه. فالحمد لله على كل ما يرى الأمير فيما له فيه نعمة. فأسأل الله أن يجعل الطائر في ذلك ميمونًا، والشمل مجتمعًا، والبركة عظيمة، والأمور سليمة؛ وكذلك فقد عظَّم الله القسم منه لزوجه، جعل الأمير سكنًا لها، وأجرى المودة والرحمة بينهما، فإنه يقول عز وجل: خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً. فلما كان الأمير هو المنظور إليه، وهي المنظور إليها، اختارها الأمير لنفسه واختار نفسه لها، وأراد الله عز وجل أن يزيدها مع فضلها في نفسها فضلًا باختيار الأمير إياها، وباختصاص الله لها بالأمير دون غيرها؛ فكان ذلك فضلًا من الله زيَّنه بفضل، وكرامة من الله وصل بعضها ببعض. فنرغب إلى الله عز وجل في أن يزيد الأمير في كل سعة مبسوطة، ونعمة مقسومة، ويعطيه في ذلك شكرًا يكون لرضاه موجبًا، كما أعطاه فضلًا كان الشكر له به واجبًا؛ ثم يملِّي الأمير ذلك بأحسن ما ملَّى أحدًا من خلقه كرامة اصطنعها عنده.

تهنئة بمولود

كتب العباس بن الحسن الطالبي إلى المأمون يهنئه بمولود له:

قد كان أجذلني ما أحدث الله لأمير المؤمنين من الموهبة التي ليس — وإن كان أولى بها من غيره — بأعظم فيها حظًّا من رعيته. فعمَّر الله لك يا أمير المؤمنين قلوبهم بنور الحكمة وأبصارهم حتى يشد بهم عضدك، ويسد بهم ثلمتك، ويبلِّغهم الغاية المأمول لهم بلوغها بعدك، غير مقعد بك مهل، ولا محل بك أجل، ولا مكذبك أمل، ولا منقطعة أيامك، حتى تُخترم أنفسنا قبلك.

وكتب أحمد بن يوسف إلى بعض إخوانه يهنئه بمولود له:

بارك الله في مولودك الذي أتاك، وهنأك نعمته بعطيته، وملَّاك كرامته بفائدته، وأدام سرورك بزيادته، وجعله بارًّا تقيًّا، ميمونًا مباركًا زكيًّا، ممدودًا له في البقاء، مبلغًا غاية الأمل، مشدودًا به عضدك، مكثرًا به ولدك، مدامًا به سرورك، مدفوعًا به الآفات عنك، مشفوعًا بأكثر العدد، من طيب الولد.

وله في مثل ذلك:

هنأك الله هذه الفائدة التي أفادكها، وبارك الله في الهبة التي رزقكها، وشفعها بإخوة متواترين، يسرونك في حياتك ويخلفونك في عقبك.

كتب رجل إلى رجل يهنئه بمولود:

جُعلت فداءك، للبقاء مولودك، في السناء نباته، وفي اليمن شبابه، وعلى البركة ميلاده.

كتب الحسن بن سهل إلى ذي الرياستين:

إنه ليس من نعم الله، وفوائد قسمه — وإن خُصَّ موقعها ووجب شكرها — نعمة تعدل النعمة في الولد، لنمائها في العدد، وزيادتها في قوة العضد، وما يُتعجل به من عظيم بهجتها، ويُرجى من باقي ذكرها في الخلوف والأعقاب، ولاحق بركتها في الدعاء والاستغفار. وإن الله قد أفادك وأنالك غلامًا سريًّا، سمَّيته فلانًا، فكان ميلاده عند فتح الله على أمير المؤمنين. فرجوتَ أن تكون موافاته بالنصر الذي أظهرنا اللهُ به على عدو الدين والمسلمين من دلائل بركته ويمنه، وشواهد سعادته والسعادة به. فبارك الله لأمير المؤمنين في طارف نعمه وتالدها، وشَفَع له قديم مننه بحادثها، ورزقه ذكورًا طيبين مهذبين، يأنس بهم ربعه، ويتصل بهم نجاحه، ويجعلهم ذرية زاكية، وبقية صالحة.

آخر: بلغني الذي وهب الله لك، فجعله الله ذخرًا سنيًّا، وعقبًا كريمًا.

عمرو بن مسعدة إلى الحسن بن سهل

أما بعد، فإن هبة الله لك هبةٌ لأمير المؤمنين، وزيادته إياك في عدده لمحلك عنده ومكانك في دولتك من دولته. وقد بلغ أمير المؤمنين أن الله وهب لك غلامًا سريًّا، فبارك الله لك فيه، وجعله بارًّا تقيًّا، مباركًا سعيدًا زكيًّا.

تهنئة بمولود

الحمد لله الذي رضي منا بيسير القول عند عظيم النعمة، حمدًا نستوجب به بقاء هذه الموهبة للنماء والفائدة؛ فإن نعمة الله وإن كانت لم تزل متتابعة، فقد كان ما يَقْبض الأمل منَّا ذكر انفراد الأمير بنفسه وقلة نسله، وما لا يؤمن من انقطاع الذِّكر بفوات الأجل، ومن دثور الأنام، بواقع الحمام، وقد أصبحنا من الله من يدين في فسحة المهل، ومدِّه مواقع الأجل، لمن أراد فيه موضع أملنا في حسن الخلافة من الأمير وإحياء ذكره.

تهنئة بمولود

سرورك سرور يخصني منه ما يخصك، وتلبسني فيه النعمة ما تلبسك، والحمد لله على النعمة فيك وعندك.

كتب أحمد بن يوسف إلى بعض إخوانه يهنئه بمولود:

أما بعد، فقد بلغني من متجدد نعم الله عز وجل عليك، وإحسانه إليك فيما رزقك من الهبة ما اشتد جذلي به، وسألت الله أن يشفعه بأمثاله؛ ولذلك أقول:

قد شُفِع الواحد بالوافد
وأُرْغِمَ الأنفُ من الحاسدِ
أبا حُسَين قَرَّ عينًا بما
أَعْطيته من هِبَةِ الماجدِ
قد قلتُ لمَّا بشَّروني به
بُورك في المولود للوالدِ
إنّا لنرجو وافدًا مثلَه
والطائرُ الميمون للوافدِ
وله إلى بعض إخوانه يهنئه بمولود:

أما بعد، فإنه ليس من أمر يجعل الله لك فيه سرورًا وفرحًا، إلا كنت به بهجًا، أعتد فيه بالنعمة من الله الذي أوجب عليَّ من حقك وعرَّفني من جميل رأيك. فزادك الله خيرًا، وأدام إحسانه إليك. وقد بلغني أن الله وهب لك غلامًا سريًّا، أكمل لك صورته، وأتم خلقه، وأحسن البلاء فيه عندك، فاشتد سروري بذلك، وأكثرت حمد الله عليه. فبارك الله فيه، وجعله بارًّا تقيًّا، يشد عضدك، ويكثر عددك، ويقر عينك.

وكتب إسحاق بن يحيى إلى بعض إخوانه يهنئه بابنة له:

ربَّ مكروه أعقب مسرَّة، ومحبوب أعقب معرَّة. وخالقُ المنفعة والمضرة، أعلم بمواضع الخيرة.

كتب ابن المقفع إلى صديق له ولدت له جارية:

بارك الله لك في الابنة المستفادة، وجعلها لكم زينًا، وأجرى لكم بها خيرًا، فلا تكرهها؛ فإنهن الأمهات والأخوات، والعمَّات والخالات، ومنهن الباقيات الصالحات؛ ورب غلام ساء أهله بعد مسرَّتهم، وربَّ جارية فرَّحت أهلها بعد مساءتهم.

وكتب عبد الحميد بن يحيى إلى أخ له في مولود ولد له وهو أول مولود كان:

أما بعد، فإن مما أتعرف من مواهب الله، نعمة خُصِصت بمزيتها، واصطفيتُ بخصيصتها، كانت أسرَّ لي من هبة الله ولدًا سميته فلانًا، وأمَّلت ببقائه بعدي حياة وذكرى، وحسن خلافتي في حرمتي، وإشراكه إياي في دعائه، شافعًا إلى ربه عند خلواته في صلاته وحجه، وكل موطن من مواطن طاعته، فإذا نظرت إلى شخصه تحرك به وجدي وظهر به سروري، وتعطفت عليه منه أنه الولد، وتولَّت عني به وحشة الوحدة، فأنا به جذل في مغيبي ومشهدي، أحاول مس جسده بيدي في الظُّلَم، وتارة أعانقه وأرشفه، ليس يعدله عندي عظيمات الفوائد، ولا منفسات الرغائب. سرَّني به واهبه لي على حين حاجتي، فشد به أزري، وحمَّلني من شكره فيه ما قد آدني بثقل حمل النعم السالفة إليَّ به، المقرونة سراؤها في العجب بقدر ما يدركني به من رقة الشفقة عليه، مخافة مجاذبة المنايا إياه، ووجلًا من عواطف الأيام عليه. فأسأل الله الذي امتن علينا بحسن صُنعه في الأرحام، وتأديته بالزكاء، وحَرْسه بالعافية، أن يرزقنا شكر ما حَمَّلنا فيه وفي غيره، وأن يجعل ما يهب لنا من سلامته والمدة في عمره موصولًا بالزيادة، معروفًا بالعافية، محوطًا من المكروه، فإنه المنان بالمواهب والواهب بالمنى، لا شريك له. حَمَلني على الكتاب إليك لعلم ما سُررت به علمي بحالك فيه وشركك إياي في كل نعمة أسداها إليَّ ولي النعم. وأهل الشكر أولى بالمزيد من الله جل ذكره. والسلام عليك.

تهنئة بنقلة إلى دار جديدة

تناهى إليَّ نقلتك إلى الدار التي أرجو أن يجعلها الله نقلة المكروه عنك، ونقلة السرور إليك، ودوام نعمة الله عليك. جعلها الله لك أيمن دار وأعظمها بركة، ووصل نعمه فينا عندك ونعمه عندنا فيك.

تهنئة لمحمد بن مكرم إلى نصراني أسلم

أنا أقول الحمد لله الذي وفَّقك لشكره، وعرَّفك هدايته، فطهَّر من الارتياب قلبك، ومن الافتراء عليه لسانك. وما زالت مخايلك ممثلة لنا جميل ما وهب الله لك، حتى كأنك لم تزل بالإسلام موسومًا، وإن كنت على غيره مقيمًا، وكنا مؤملين لما صرت إليه، مشفقين لك مما كنت عليه، وإذ كاد إشفاقنا يستعلي رجاءنا، أتت السعادة بما لم تزل الأنفس تعد منك. فأسأل الله الذي نور لك في رأيك وأضاء لك سبيل رشدك، أن يوفقك لصالح العمل، وأن يؤتيك في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ويقيك عذاب النار.

هوامش

(١) نقلًا عن اختيار المنظوم والمنثور لابن طيفور.
(٢) الجديلة: الناصية والحالة والطريقة.
(٣) بياض في الأصل، ولعله: أن أقنع نفسي بفضل أتخذه بمثل ما أقنع رجلًا إلخ.
(٤) على أذلالها: على وجوهها وطرقها.
(٥) بياض في الأصل، ولعل الكلمة المتروكة «بحاجتي». والظاهر أن كلمة «محدد» محرفة عن كلمة «مجد».
(٦) كذا بالأصل.
(٧) في الأصل «حظة» والسياق يقتضي ما أثبتناه.
(٨) بياض في الأصل، ولعل الكلمة المتروكة «وآتى».
(٩) بياض في الأصل. وما وضعناه يناسب المقام.
(١٠) بياض في الأصل. وما وضعناه يناسب المقام.
(١١) السياق يقتضي وضع هذه الكلمة، وهي متروكة في الأصل.
(١٢) في الأصل: «… وسراه ما قبله …»
(١٣) في الأصل: «عليها …» وهو لا يؤدي الغرض المراد.
(١٤) في الأصل: «وأجزلنا …»
(١٥) في الأصل: «ما قبلك».
(١٦) في الأصل: «وأملكها …»
(١٧) في الأصل: «مخافة السلامة من الناس …»
(١٨) في الأصل: بياض.
(١٩) في الأصل: «فالاستراحة …»
(٢٠) في الأصل: «ولا مكدر عليها صفوها …»
(٢١) هكذا وردت في الأصل.
(٢٢) الفلج: الغلب والظفر، يقال فلج فلان على خصمه؛ أي غلب وظفر.
(٢٣) في الأصل: بياض. وفي العبارة اضطراب ظاهر.
(٢٤) الاستشلاء: الإنقاذ.
(٢٥) بياض في الأصل. وما أثبتناه يناسب المقام.
(٢٦) هكذا وردت في الأصل، ولم نوفق إلى تحقيقها.
(٢٧) كذا في الأصل، ولعلها بالغتين.
(٢٨) كذا في الأصل، ولعلها وليشجب.
(٢٩) أباخ النار: أطفأها.
(٣٠) الصيال مصدر صال على قرنه: سطا عليه.
(٣١) في الأصل: «بخبرهم».
(٣٢) في الأصل: «برأس عدو الله».
(٣٣) بياض في الأصل والسياق يقتضي ما أثبتناه.
(٣٤) الوقم: القهر والذلة.
(٣٥) سقطت في الأصل كلمات فأثبتنا ما يقوم مقامها.
(٣٦) سقطت في الأصل كلمات فأثبتنا ما يقوم مقامها.
(٣٧) في الأصل المنازل، وما أثبتناه صحيح.
(٣٨) انتياشك أهلها: استنقاذهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤