الفصل الثاني

الجهاد بين الخلافة والملك

(١) توطئة

نحن الآن مقبلون على فترة جهاد عنيف بين الخلافة والملك، فترة لا يصح أن تعتبر الجهاد فيها جهادًا بين عليٍّ ومعاوية، أو بين عليٍّ وغير معاوية من مُنافسيه في الخلافة أو من الخارجين عليه، وإنما يخلُق بنا أن نعتبرها بمثابة جهاد عنيف بين وجهات النظر العربية في الحياة؛ فإن موت عثمان رضي الله عنه لم يُمت الفتنة، بل أذكاها وزادها ضرامًا واشتعالًا.

وإنه لمن الميسور للناقد أن يلتمس العلة في أن الأحزاب العربية حين ذاك لم تجمع على سيدنا علي؛ ذلك بأن الجماعة الراغبة في الوظائف والأموال لم تجد فيه طلبتها وسؤلها، ولم تعثر فيه على أنشودتها ورَجُلها، بل على النقيض قد لقيت منه حاكمًا صلبًا لا تلين قناته، سار فيهم سيرة الحق لا تأخذه في الله لومة لائم، وكانت حركاته وسكناته رضي الله عنه جميعها لله وفي الله، لا يغمط بها حق أحد، وكان لا يأخذ ولا يعطي إلا بالحق والعدل، حتى إن أخاه عقيلًا، وهو ابن أبيه وأمه، طلب من بيت المال شيئًا لم يكن له بحق، فمنعه رضي الله عنه وقال: يا أخي، ليس لك في هذا المال غير ما أعطيتك، ولكن اصبِرْ حتى يجيء مالي وأعطيك منه ما تريد، فلم يُرْض عقيلًا هذا الجواب، وفارَقه وقصد معاوية بالشام. وكان لا يعطي ولديه الحسن والحسين أكثر من حقهما، فانظر إلى رجل حمله ورعه على هذا الصنيع بولديه وبأخيه من أبويه! فلما سار فيهم هذه السيرة ثقل على بعض الناس فعله، وكرهوا مكانه.

هذه خُطة هؤلاء معه، أما خطة الشيوخ؛ فمنهم من آثر العزلة وترك حبل الأمة على غاربها تتطاحن أحزابها بين طلاب الخلافة، ومنهم الخوارج الذين غضبوا على عليٍّ كما غضبوا على معاوية، وندبوا من بينهم عبد الرحمن بن ملجم ليقتل عليًّا، والبرك بن عامر ليخلصهم من معاوية، وعبد الله بن مالك الصيداوي ليريحهم من حليف معاوية عمرو بن العاص، هؤلاء الخوارج كانت كلمتهم: «الحكم لله لا للناس»، فنقموا من عليٍّ خضوعه للتحكيم، وما خضع إلا مُكْرهًا مُعْنتًا.

(٢) كلمتنا عن عليٍّ رضي الله عنه

كان علي إمامًا دينيًّا، كان موئلًا للشريعة، ومثالًا للورع والاستمساك بأحكام الكتاب، كان مصدرًا خصيبًا من مصادر الفقه والتشريع، وكان في حكومته وحروبه على السواء مؤثرًا رضا الله، ومُغضبًا شهوات الناس، وقادِعًا أطماعها، وكان عنوانًا كاملًا لأسمى صفات الخلق الإسلامي من حيث: النجدة والشجاعة لا الحذق والسياسة؛ كان مصلحًا دينيًّا على أتم ما يكون عليه مصلح ديني، يتفانى في هذا الإصلاح ويؤثر الآخرة على الأولى، فيعمل لإرضاء الله لا إرضاء الناس، وكان كما وصفه عدي بن حاتم لمعاوية: «يقول عدلًا، ويحكم فصلًا، تتفجر الحكمة من جوانبه، والعلم من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا، ويقلب كفيه على ما مضى، يعجبه من اللباسِ القصيرُ، ومن المعاشِ الخشنُ، وكان فينا كأحدنا … كان يعظم أهل الدين ويتحبب إلى المساكين، لا يخاف القويُّ ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله؛ فأُقسم لقد رأيته ليلة وقد مثَل في محرابه وأرخى الليل سربالَه وغارت نجومه، ودموعه تتحادَر على لحيته وهو يتململ تململ السليم، ويبكى بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه وهو يقول: يا دنيا أإليَّ تعرضتِ أم إليَّ أقبلتِ! غُرِّي غيري لا حانَ حينُك، قد طلقتُك ثلاثًا لا رجعة فيها.»

هذا هو علي حقًّا، علي الذي بالغ في التدقيق في محاسبة عُمَّاله حتى أغضب أكثرهم، وحتى خسِر نصرتهم، وفي جملتهم مصقلةُ بن هبيرة الشيباني، وابنُ عمه عبد الله بن عباس بعد أن كان أكبر نصير له، والذي أغضب الزبير وطلحة وكان في مقدوره أن يضمَّهما إليه، والذي لم يكتسب إلى جانبه عمرو بن العاص، ولم يقبل نصيحة ابن العباس ولا المغيرة بن شعبة في إقرار معاوية وابن عامر وعُمال عثمان على أعمالهم حتى تأتيه بيعتهم ويسكن الناس، ثم يعزل منهم من يشاء، وقال: «لا أداهن في ديني، ولا أُعطي الدنية في أمري»، فقيل له: انزع من شئت واترك معاوية؛ فإن في معاوية جرأة، وهو في أهل الشام يُستمع منه، وله حجة في إثباته بما كان من عمر بن الخطاب إذ قد ولاه الشام. فأبَى وقال: لا والله لا أستعمل معاوية يومين، فلم تكن الحيل والخدع من مذهبه، ولم يكن عنده غير مُرِّ الحق؛ والذي يقول لأصحابه بعد أن أثخنوا في أعدائه: «لا تتبعوا موليًّا، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تنهبوا مالًا»، فجعلوا يمرون بالذهب والفضة في معسكرهم فلا يعرِض له أحد، إلا ما كان من السلاح الذي قاتلوا به والدواب التي حاربوا عليها، فقال بعض أصحابه: يا أمير المؤمنين، كيف حلَّ لنا قتالهم ولم يحل لنا سبيهم وأموالهم؟!

فقال علي رضي الله عنه: «ليس على الموحدين سبيٌ، ولا يُغنم من أموالهم إلا ما قاتلوا به وعليه، فدعوا ما لا تعرفون وألزموا ما تُؤمرون.»

أجل! هذا هو علي حقًّا، الذي أبت رأفته وأبي دينه أن يمنع أهل الشام من الماء كما منعوه أثناء منازلتهم حتى كاد يهلكُ جندُه عطشًا، والذي منع شيعته وأنصاره من شتم معاوية ضاربًا صَفحًا عن آثار استغلال ذلك في الدعوة السياسية لتأييد خلافته، والحطِّ من ملك منافسه؛ فإنه لما بلغه أن حُجر بن عدي وعمرو بن الحَمِق يُظهران شتم معاوية ولعن أهل الشام أرسل إليهما: أن كُفَّا عما بلغني عنكما، فأتياه فقالا: «يا أمير المؤمنين، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! قال: كرهت لكم أن تكونوا شتَّامين لعَّانين، ولكن قولوا: اللهم احقِن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذاتَ بينِنا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرِف الحق مَن جهله، ويرعوى عن الغيِّ من لهج به.»

هذا هو علي حقًّا، الشديد في محاسبة نفسه وعماله، أما محاسبة نفسه فظاهرة خلقية واضحة الوضوح كله، وأما محاسبته عماله؛ فإن تاريخه مُفْعم بمئات الأدلة والشواهد مما أفاد منه معاوية أيما فائدة.

وكان من آثار هذه المحاسبة هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني من علي وانضمامه إلى معاوية، وكذلك يزيد بن حجبة التيمي الذي كان قد استعمله عليٌّ على الري فكسر من خراجها ثلاثين ألفًا، فكتب إليه عليٌّ يستدعيه فحضر، فسأله عن المال قال: أين ما غللته من المال؟ قال: ما أخذت شيئًا. فخفقه بالدِّرة خفقات وحبسه، ووكل به سعدًا مولاه، فهرب منه يزيد إلى الشام، فسوَّغه معاوية المال، فكان ينال من علي، وبقي بالشام إلى أن اجتمع الأمر لمعاوية، فسار معه إلى العراق، فولَّاه العراق.

فهذه الشواهد وأمثالها فيها أقطع الدلالات على شدة محاسبته لعماله وإغضابه آل بيته تدينًا وورعًا وعملًا للآخرة، لا لبناء ملك في الدار الأولى.

فلنحفظ هذه الصورة جيدًا، ولنذكر أنها لم يُتح لها الفوز والنجاح في ذلك الجهاد السياسي، وأن الكِفَّة الراجحة في سياستنا الدنيوية كانت لمُنازله الذي يجدر بنا أن ندرسه بإيجاز واقتضاب.

(٣) تحول الرأي العام

صور الشاعر العبقري «شكسبير» في روايته «يوليوس قيصر» تأثر الرأي العام ببلاغة زعمائه التي يستغلون بها سذاجة موقفه، ويتملكون بها عقول قومهم التي بها يفكرون، ويسحرون بها عيونهم التي بها يبصرون، فلا يصدرون إلا عن إرادتهم، ولا يفكرون إلا بعقولهم، وقد أبدع أيما إبداع في موقفي «بروتس» قاتل قيصر ومنقذ الرومان، و«أنطونيوس» مؤبنه وراثيه، وأظهر إلى أي مدًى افتتن بهما الجمهور، وإلى أي مدًى تناقض في حبه وبغضه، وإكباره وتألُّبه.

شكر الرومانُ «بروتس» قاتلَ قيصر لأجل الرومان وفي سبيل الرومان، فأسلس له قيادهم وطلبوا منه أن يتبوأ العرش مكانه، وحُمل على الأعناق بعد أن تبوَّأ منهم حبات القلوب، ثم استمعوا إلى «أنطونيوس» يرثي قيصر، وما استمعوا له لأن «بروتس» طلب منهم أن يُنصتوا؛ لأن قيصرًا الطاغية غير قيصر الراحل، فأنصتوا وتكلم «أنطونيوس»، فحرَّك من شئونهم وأنساهم أنفسهم، واستغل في موقفه ما بثياب قيصر من دماء وثقوب، وما بجسمه من طعنات وجروح، حتى اضطرمت الفتنة، وكان نصيبُ «بروتس» ما تعلم بعد حمله على الأعناق!

هكذا فعل معاوية في جهاده وجلاده عليًّا، فقد صدع بما أشار به عليه عمرو بن العاص؛ إذ طلب إليه إظهار قميص الدم الذي قُتل فيه عثمان وأصابع زوجته، وأن يُعلِّق ذلك على المنبر ثم يجمع الناس ويبكى عليه عازيًا قتل عثمان إلى عليٍّ، مطالبًا بدمه مستميلًا بذلك أهل الشام وغيرهم من عامة المسلمين. أخرج معاوية القميص والأصابع وعلَّقه على المنبر، وبكى واستبكى الناس، وذكَّرهم بمُصاب عثمان، فانتدب أهل الشام من كل جانب، وأيدهم الأشراف وذوو النفوذ كشرحبيل بن السمط وسواه، وبذلوا له الطلب بدم عثمان والقتال معه على كل مَن آوى قتَلَته، ثم خلق لعليٍّ مُعضلة سياسة لا يهون على السياسي حلُّها؛ ذلك بأن بعث برسالة إلى جماعة علي، وهذه الرسالة تحتوي على أسس المبادئ العثمانية وتقول: «أما بعد، فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة؛ أما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا، وأما الطاعة لصاحبكم فلا نراها؛ إن صاحبكم قتل خليفتنا، وفرَّق جماعتنا، وآوى ثأرَنا١ وقتَلَتنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نردُّ ذلك عليه؛ أرأيتم قَتَلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به، ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.»

وكيف يستطيع علي أن يدفع إلى معاوية قتلة عثمان؟! وماذا يكون موقفه أمام ذلك الحزب القوي الناقم على الخليفة المقتول؟! فلذلك كان من المعقول أن يقف رده أمام هذه المشكلة السياسية عند قوله: «أما ما سألت من دفعي إليك قتَلته؛ فإني لا أرى ذلك؛ لعلمي بأنك إنما تطلب ذلك ذريعة إلى ما تأمله، ومرقاةً إلى ما ترجوه، وما الطلب بدمه تريد.»

(٤) معاوية

لسنا نتعرض للحكم على دين معاوية ومبلغ تمشيه في تصرفاته السياسية وإقامته لحدود الله مع أحكام الشرع؛ فقد تكلم في ذلك فيه الشافعي والحسن البصري، وإنما نريد أن نُمثِّل معاوية مؤسس الملكية في الإسلام، وواضع أسس السياسة الدنيوية، والذي قال فيه عمر بن الخطاب لجلسائه: «تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية!»

(٥) سياسة معاوية

كان معاوية ذا مواهب سياسية كبيرة، وكان داهية ذَهِنًا بعيد مدَى العقل، مالكًا قياد أهوائه، كان «ذا مكر وذا رأي وحزم في أمر دنياه، إذا رأى الفرصة لم يُبق ولم يتوقف، وإذا خاف الأمر توارَى عنه، وإذا خوصم في مقال ناضَل عنه وقطع الكلام على مُناظره»، كان يعمل جُهده ليشتري ضمائر القبائل العربية، وكان كثير البذل في العطاء.

وقد ذكر الطبري حادثة نستطيع أن نستنبط منها نظر معاوية إلى المال وإلى مبلغ استعماله إياه ليملك به ضمائر أهل المكانة والنفوذ من معاصريه — ذكر أن أبا مُنازِل قال له حينما أعطاه معاوية سبعين ألفًا بينما أعطى جماعة من الزعماء ممن في مرتبته مائة ألف: فضحتني في بني تميم، أما حسَبي فصحيح! أوَلَستُ ذا سنٍّ؟! أوَلَستُ مُطاعًا في عشيرتي؟! فقال معاوية: بلى، قال: فما بالك خسست بي دون القوم؟! فقال: إني اشتريت من القوم دينهم ووكلتُك إلى دينك ورأيك في عثمان بن عفان — وكان عثمانيًّا — فقال: وأنا فاشترِ مني ديني، فأمر له بتمام جائزة القوم.

كان سياسيًّا بطبيعته، مِعطاء وهُوبًا بسجيته، وقد صدق في صفته أبو الجهم الشاعر إذ قال:

نميل على جوانبه كأنا
نميل ولا نمين على أبينا
نُقلِّبه لنخبر حالتيه
فنخبر منهما كرمًا ولِينا

وإنا نستطيع أن نفهم فهمًا صحيحًا: أكانت ثورة معاوية لقتل عثمان ثورة مصدرها إخلاصه العميق في العثمانية، وأنه كان يريد بها أن يُجريَ حكم الشرع في قتلة عثمان، أم ثورة مصدرها طموحه إلى الملك ليغتصبه لنفسه؟ نستطيع أن نفهم ذلك من حديث جرى بينه وبين عائشة بنت عثمان؛ فإن التاريخ يحدثنا أن معاوية لما قدم المدينة دخل دار عثمان، فقالت عائشة بنت عثمان: وا أبتاه! وبكت، فقال معاوية: «يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا وأعطيناهم أمانًا، وأظهرنا لهم حلمًا تحت غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، ومع كل إنسان سيفه وهو يرى مكان أنصاره، فإن نكثنا بهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، ولأن تكوني بنت عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عُرْض المسلمين.»

وقد لا نجد تصويرًا أدق لسياسة معاوية وطريقة حكمه من قوله: «لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت؛ قيل: وكيف ذاك؟ قال: كنت إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها مددتها.»

فهذا القول يبين حلمه وطول باعه في السياسة وهدوء أعصابه إذا جابهته المشكلات، أو نزلت بساحته الكوارث والمعضلات، ويظهر سعة عطنه وحزمه، ولقد قال له يزيد يوم بويع له على عهده فجعل الناس يمدحونه ويقرظونه: «يا أمير المؤمنين، والله ما ندري: أنخدع الناس أم يخدعوننا؟!» فقال معاوية: «كل من أردت خديعته فتخادع لك حتى تبلغ منه حاجتك فقد خدعته.»

ثم انظر إلى مختلف تصرفات معاوية في حياته السياسية وغيرها؛ فإنك لتقتنع بصدق حكم الشعبي الذي قال فيه: «كان معاوية كالجمل الطبِّ إذا سُكت عنه تقدَّم، وإذا رُدَّ تأخر.»

(٦) مميزات معاوية

ولقد امتاز معاوية إلى جانب إلمامه التام بميول كل من له به علاقة من الناس، وصادق تقديره مع ثقوب بصيرته بما فيهم من نواحٍ للضعف يستطيع التسرب إليهم منها، امتاز إلى جانب هذا كله بصفات ثلاث لها مكانتها السامية في تكوين الدهاة من ساسة الوقت الحاضر، تلك الصفات الثلاث هي:

أولًا: إيقاع أعدائه في مشكلات لا تقوم لهم من بعدها قائمة بأفانين طريفة طالما عمد إليها الكثير من ساسة اليوم، مثال ذلك طريقته في إيقاع بطارقة الروم الذين يكيدون للإسلام، وذلك بمهاداتهم ومكاتبتهم بطريقة مكشوفة؛ لإغراء الملك بهم.

الصفة الثانية من مميزات معاوية الخلقية هي: حلمه، وهناك مئات الأمثال أترعت بها كتبنا الأدبية والتاريخية مُشيدةً بحلمه مُطنبة في فضائل سعة صدره، على أنا نجتزئ هنا بمثل عادي، ذلك أنه لما ألحق زيادًا بأبيه دخل عليه بنو أمية وفيهم عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان بن الحكم الأموي، فقال له: يا معاوية، لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرتَ بهم علينا قلة وذلة؛ فأقبل على أخيه مروان وقال: أخرج عنا هذا الخليع، فقال مروان: والله إنه لخليع ما يطاق، فقال معاوية: والله لولا حلمي وتجاوزي لعلمتَ أنه يُطاق! ألم يبلغني شعره فيَّ وفي زياد! ثم قال لمروان: أسمعنيه، فقال:

ألا أبلغ معاوية بن صخر
لقد ضاقت بما تأتي اليدان
أتغضب أن يقال أبوك عفٌّ
وترضى أن يقال أبوك زاني

الصفة الثالثة هي: نعومته السياسية، وهي غير الحلم، وقد تعتبر إلى حد ما من نوع المغالطات السياسية، مثال ذلك ما كان بينه وبين الحسن بن علي في شأن نزوله عن الخلافة له، إذ كتب إليه معاوية كتابًا قيمًا جاء فيه: «أما بعد، فأنت أولى بهذا الأمر وأحق به لقرابتك، ولو علمتُ أنك أضبط له وأحوط على حريم هذه الأمة وأكيدُ لبايعتُك، فسَلْ ما شئتَ»، وبعث إليه بصحيفة بيضاء مختومة في أسفلها: أن اكتب فيها ما شئت، فكتب الحسن أموالًا وضياعًا وأمانَه لشيعة علي.

أضف إلى هذه الصفات ما كُتب لمعاوية من توفيق وسداد في اختيار أكبر دهاة الولاة؛ كعمرو بن العاص وزياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة، ممن عملوا معه على توطيد الملك له، والذين ارتسموا — إلى حد غير قليل — خطوات زعيمهم السياسي في شراء الضمائر، وسعة العطن، ورجوح حصاة العقل. وهذا زياد المعروف بشدة الوطأة بلغه عن رجال يكنى أبا الخير من أهل البأس والنجدة أنه يرى رأي الخوارج، فدعاه فولاه جُنديسابور٢ وما يليها، ورزقه أربعة آلاف درهم كل شهر، وجعل عمالته في كل سنة مائة ألف، فكان أبو الخير يقول: «ما رأيت شيئًا خيرًا من لزوم الطاعة، والتقلُّب بين أظهر الجماعة»، كذلك فعل المغيرة بن شعبة حين حصَبه حجر بن عدي وهو على المنبر في خطبة الجمعة، فإنه نزل مسرعًا ودخل قصر الإمارة وبعث إلى حجر بخمسة آلاف درهم ترضَّاه بها، فقيل للمغيره: لم فعلت هذا وفيه عليك وهن وغضاضة؟! فقال: «قد قتلتُه بها!»

إلى جانب هذه العناصر المكوِّنة لتلك الشخصية البارزة التي اعتمدت في تأسيس ملكها على ما اعتمدت عليه من ترضِّي الأحزاب بالمال وعامة الناس بالطعام، واستغلال العصبيات العربية، والتساهل في إقامة الحدود الدينية إذا دعت إلى ذلك طبيعة الأحوال السياسية، فإن معاوية يصف بنفسه سبب نجاحه على علي بقوله: «أُعنتُ على علي بن أبي طالب بأربع خصال: كان رجلًا ظُهرةً عُلنة لا يكتم سرًّا، وكنت كتومًا لسري؛ وكان لا يسعى حتى يُفاجئه الأمر مفاجأة، وكنت أُبادرُ إلى ذلك؛ وكان في أخبث جند وأشدهم خلافًا، وكنت أحبَّ إلى قريش منه، فنِلتُ ما شئتُ؛ فلله من جامع إليَّ ومفرق عنه.»

(٧) معاوية والسياسة المكياڤلية

وبعد، فإن السياسة الحديثة قد أباحت لرجالاتها في سبيل تحقيق غاياتهم أن ينتهجوا من الوسائل ما يكفل لهم نُجْحهم السياسي، ويجب علينا أن نثبت أن جلهم — ولو أنهم يتظاهرون بنفورهم من مدرسة «ماكياڤلي» التي تضحي بكل شيء تسويغًا للوصول إلى الغاية السياسية — يأخذون في الواقع بتعاليمها ويعملون على برنامجها. هذه السياسة الإيجابية في نجاحها العملي، السلبية في إرضائها المناحي الخلقية هي التي أخرجت لنا «ماترنيخ» و«كافور» و«دزرائلي» و«بسمرك» و«پت»، وهي التي كان من أبطالها «جلادستون» ذو المواقف الغريبة في الإقناع واكتساب ثقة الجمهور ولو تنحَّل من الشواهد واختلق من السابقات ما ليس له من وجود.

كذلك كان معاوية، في جلِّ تصرفاته، يحفل كثيرًا بتحقيق غاياته في تشييد الملك، فهو يُدبِّر أمور الناس لهذه الوجهة، وهو ينتهج من الوسائل السياسية ما يكفل نجاحه في هذه الوجهة. وإنه لخليق بنا وبسوانا ألا نعدو بعيدًا عن هذه الوجهة حين نظرِنا إلى معاوية في كتابه إلى مروان بن الحكم بشأن حدِّه شاعرَه الكبير ابن سيحان، وحين حكم لابن الزبير بثمن داره المحترقة، وحين أرضى عقيلًا، واحتملَ من الأحنف بن قيس ما احتمل، وحين تخلَّص من الأشتر النخعي ومن عبد الرحمن بن خالد، وحين فصل في منازعة عمرو بن عثمان بن عفان وأسامة بن زيد مولى رسول الله في حكاية الأرض التي قيل: إن الرسول أقطعها أحدهما، وحين كان يبذل المال طبقًا لمناهجه السياسية. وإنا نبيح لأنفسنا حين ننظر إلى قول زين العابدين: «إن عليًّا كان يقاتله معاوية بذهبه»، أن نقول: «إن معاوية كان يقاتل عليًا بذهبه وذهنه.»

وإنا لنظن أنا قد صورنا معاوية بما هو أهله، وأوضحنا ما كانت عليه تلك الشخصية الفذة في مسايرة الناس واحتمال الأذى منهم، والتي يقول صاحبها: «ما من شيء عندي ألذ من غيظ أتجرعه»، «وإني لا أحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا.»

والآن نستطيع بعد أن كشفنا القناع عن أخلاق معاوية ومميزاته، أن نفهم قيمة قول علي رضي الله عنه في كتابه إلى زياد بن أبيه حينما كان من ولاته يحذره من معاوية — وهو ما نختتم به كلمتنا فيه: «إني وليتك ما وليتك وأنا أراك له أهلًا، وقد كانت من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل وكذب النفس، لا توجب لك ميراثًا ولا تحل له نسبًا، وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فاحذر ثم احذر، والسلام.»

هوامش

(١) ثأره: قاتل حميمه.
(٢) مدينة بخوزستان بناها سابور بن أردشير فنسبت إليه، وأسكنها بني الروم وطائفة من جنده، انظر: معجم ياقوت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤