الفصل الأول

الوجهة السياسية

(١) توطئة

رأينا كيف كانت الحياة السياسية والعلمية والأدبية في العصر الأموي، وكيف ظهرت مواطن الضعف وعوامل الانحطاط، وكيف وقع بنو أمية بين الساخطين من العرب والثائرين من الموالي، وكيف انحرف خلفاء معاوية عن خطته السياسية، وكيف عُرف فريق منهم بالدين وشغل آخرون بالعبث والمجون.

ونريد الآن أن نلمَّ إلمامة قصيرة بدور الانتقال إلى العصر العباسي قبل التكلم عن العصر نفسه؛ لنرى كيف كان اتجاه الأفكار في ذلك الحين.

(٢) دور الانتقال

إن الذي ينظر في كتب التاريخ الإسلامي عامة، ثم يراجع ما كتبه المستشرقون خاصة عن الدولة الفارسية في دور انحطاطها وضياع استقلالها وفناء أهلها في الإسلام، مع رسوخهم في المدنية وسبقهم إلى العلوم الاجتماعية وسياسة الشعوب؛ ليذكر حياة اليونان وعلماء اليونان حين دالت دولتهم وخضعوا للرومان وهم دونهم في العلوم والفنون.

ولسنا هنا بصدد الإفاضة في بيان المناحي التي تغلب فيها الموالي على العرب، فإن لذلك مكانه الطبعي في هذا الكتاب، وقُصارانا الآن أن نحيل القارئ إلى الجزء الأول من كتاب الأستاذ «إدوارد برون» الذي وضعه عن التاريخ الأدبي للفرس — وهو من مجلدات «مكتبة تاريخ الآداب» — فإن فيه الكفاية لمن يريد تفصيلاً.

أذعن الموالي صاغرين لغلبة العرب عامة والأمويين خاصة، وذاقوا ما ذاقوا من الذلة والمسكنة، وعانوا ما عانوا من ضروب الهوان، فكان من المعقول أن يترقبوا الفرص لينقضُّوا على سادتهم العرب، وأن ينتظروا أول بارقة تلوح في أُفق السياسة ليناصروا الناقمين على المملكة الأموية؛ فقد كانت دولة بني أمية مكروهة عند الناس ملعونة مذمومة ثقيلة الوطأة، مستهترة بالمعاصي والقبائح، فكان الناس من أهل الأمصار ينتظرون زوال هذه الدولة صباح مساء.

•••

أضف إلى ما تقدم أن الشيعة كانت — إلى جانب قوة الحجة في أنها أحق بالخلافة؛ إذ كان أنصارها يدعون إلى بيعة صهر النبي أو أبناء بنت النبي — تضم إلى رجالاتها شخصيات بارزة في الدين والكفاية والصلاح، فكان خيار الناس يطيعونها تدينًا، وكان غيرهم يطيعها رغبة أو رهبة. وكان العلويون لا يفتُرون عن بثِّ دعاتهم في العراق وفارس وخراسان وغيرها من البلاد النائية عن مركز الخلافة التي انفصمت عروتها وكان من انحلالها ما وصفناه. وكان الفرس يستخدمون زملاءهم المنتشرين في البقاع العربية في الدعوة إلى مبايعة خصوم الأمويين ومناصرتهم، رغبة في التخلص من ظلم بني أمية وعَسْفهم، وطمعًا في أن يكون لهم من تبدُّل الحال حظٌّ من العزة والسلطان.

ولنذكُرْ مع هذا ثورة الممالك الإسلامية عامة على الأمويين، تلك الثورة الهادئة المخيفة التي كان من آثارها أن قُتل بعض ولاتهم في الأمصار، وأن خرج فريق على الخليفة، ولنذكُرْ كذلك انشقاق البيت الأموي نفسه، وتصدع أركانه؛ فإن لذلك أثره الفعال في ثلِّ عرش الأمويين. وقد كانت بداية ذلك الانشقاق خروج يزيد بن الوليد على عمه الوليد بن يزيد وتشهيره إياه أسوأ تشهير، ووصمه بأقبح الوصمات، حتى تمثَّل بعض بني أمية بقول الشاعر:

إني أعيذكمو بالله من فتن
مثل الجبال تسامى ثم تندفع
إن البرية قد ملت سياستكم
فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
لا تُلحِمُنَّ ذئاب الناس أنفسكم
إن الذئاب إذا ما ألحمت رُتُع
لا تبقرُنَّ بأيديكم بطونكمو
فثمَّ لا حسرةٌ تُغني ولا جزع

ولما تم ليزيد الأمرَ خرج عليه مروانُ بن محمد — وكان أمير الجزيرة وأرمينية — ومعه جيش جرار يأتمر بأمره، ومعه الغمر بن يزيد للمطالبة بدم أخيه، فغُلب يزيدُ على أمره وانبسطت في البيت المالك يدُ الفُرقة والانشقاق.

(٣) الشيعة العلوية

لم تصل الخلافة إلى معاوية إلا بدهائه وسعة حيلته وبُعد نظره وحُسن تصريفه للأمور، وإلا فقد كان هناك حزب قوي الشكيمة عزيز المكانة يرى علي بن أبي طالب أحق بالخلافة، ولولا دهاء معاوية ما نزل الحسن بن علي ولا أخلى لخصمه الميدان في سنة ٤١ هجرية، وقد كان من نتيجة ذلك أن سخطت الأحزاب العلوية من تصرفه، فجمعوا الجموع وجندوا الجنود وثاروا على أمير الكوفة الأموي، وهو زياد بن أبيه — وكان يد معاوية التي بها يصول — ولكن زيادًا يعرف كيف تُخمد الفتنة، وتُطفأ الثورة، فبادر إلى استئصال الداء، وقتل منهم خلقًا كثيرًا أشهرهم حُجْر بن عدي وأصحاب حجر بن عدي، بيد أن إراقة الدماء تهيج الحماسة، وتؤجج نار العداوة والبغضاء في قلوب المغلوبين، وكذلك ظلت الفتنة تنذر بالشر المستطير.

رأى الدعاة العلويون أنه لا قبل لهم بمعاوية ولا برجاله، فتربصوا بهم ريب المنون، وعللوا النفس بتقلبات الحوادث وعنت الأيام، راجين أن تعود الخلافة إلى بيت النبي، ولكن شد ما فزعوا يوم أخذ معاويةُ البيعةَ لابنه يزيد المعروف بالميل إلى اللهو والقصف والتلهي بالصيد عن شئون المسلمين، وفيه يقول عبد الله بن همام السلولي:

حُشينا الغيظ حتى لو شِربنا
دماء بني أمية ما روينا
لقد ضاعت رعيتكم وأنتم
تصيدون الأرانب غافلينا

وإنا لنعلم أنه لما مات معاوية سنة ٦٠ﻫ وتولى بعده ابنُه يزيد، أبَى الحسين أن يُبايع له بالخلافة، بل رأى أكثر أهل التُّقى في مبايعة يزيد خرقًا لحرمة الدين، ثم قُتل الحسين في كربلاء سنة ٦١ﻫ فألَّفت الشيعة «حزب التوابين» بعد وفاة يزيد وبيعة مروان بن الحكم سنة ٦٤ﻫ، وأخرجوا والي الكوفة الأموي عبيد الله بن زياد، وولوا عليهم رجلًا منهم.

ثم تألف حزب «شرط الله» بزعامة المختار بن أبي عبيد الله الثقفي، وانقسمت الشيعة العلوية إلى فرق عدة؛ أهمها الفرقة الإمامية، وهي التي ترى أن أحق الناس بالخلافة هم ولد علي من فاطمة بنت النبي، والأئمة في نظرهم اثنا عشر إمامًا؛ وهم: علي، والحسن، والحسين، وزين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، ومحمد التقي، وعلي التقي، وحسن العسكري، ومحمد المهدي.

ومنها الفرقة الكيسانية، وهي التي تقول بتحول الخلافة بعد الحسن والحسين إلى أخيهما محمد بن الحنفية، ومنها الفرقة الزيدية نسبةً إلى زيد بن علي بن الحسين، والفرقة الإسماعيلية نسبةً إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وفرقٌ أخرى أصغر من تلك شأنًا، وأقل أثرًا.

•••

على أنه كان يوجد بجانب أولئك الولاة المخلصين لبني أمية والمسرفين في مطاردة الحزب العلوي فريق آخر على رأسه خالد القسري، يعمل لمناصرة العلويين سرًّا لا علانية، كما يعمل — في العادة — فريق من موظفي الحكومة لحزب الأقلية المضطهد طمعًا في المناصب، أو نصرًا لعقيدة سياسية، أو إيثارًا للعدل والإنصاف.

على أن الدعوة العلوية كانت فاترة ضعيفة إذا قورنت بالدعوة العباسية التي سنتكلم عليها في الكلمة الآتية، ولعل من أكبر أسباب ضعف١ الدعوة العلوية مبايعةَ زعماء العباسيين محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الزكية، فقد بايعه أبو العباس السفاح كما بايعه أبو جعفر المنصور وغيرهما من أئمة الحزب العباسي.

وكذلك سارت الدعوة لآل محمد شوطًا بعيدًا، وظاهرَتْها شخصيات بارزة قوية الشوكة وفيرة المال والجاه، أمثال أبي سلمة الخلال الفارسي المعروف.

وسترى كيف تحولت الدعوة العلوية إلى وجهة أخرى، وكيف استُغلَّت لمصلحة العباسيين.

هوامش

(١) يخالفنا أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار فيما ذهبنا إليه ويرى «أن العلويين كانوا يتهافتون على الخروج على الخلفاء؛ فكثر القتل فيهم فقتلوا، بخلاف أولاد علي بن عبد الله، فقد كثروا ولم يتناول القتل منهم أحدًا إلى ذلك العهد؛ عهد القيام بالدعوة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤