الفصل الثاني

العصبية والموالي في الدولة العباسية

(١) توطئة

لقد مرت بك إشارة بسيطة — حين تكلمنا عن العصر الأموي — إلى حَنَق الموالي الذين نالهم في ذلك العصر من الاحتقار والزراية حظ غير قليل، وبينا لك أن هذه الناحية من المعاملة التي لا تنطبق على المذهب الحديث «حرية، إخاء، مساواة»، كانت عاملًا قويًّا من عوامل الضعف والانحطاط في دولتهم، ووعدناك أن ندرس حال العصبية والموالي في هذا الفصل من الكتاب تمشيًا مع النظام الذي وضعناه له.

والآن نعرض عليك حال الشعوب التي كانت خاضعة لسلطان بني أمية حتى تتبين أحوالها النفسية، والأهواء التي كانت غالبة عليها، فإنه لا يكفي في انتقال الملك من شخص إلى شخص، أو من بيت إلى بيت بث الدعوة وتنظيمها، وحزم القائمين بها، وإخلاص المشيرين وكفاية القواد، بل لا بد مع هذه الأمور أن تصادف الدعوة الجديدة نفوسًا مستعدة لها، راغبة فيها، عاملة على إنمائها، لكي تُزهر وتُؤتي ثمارها.

والحق أن الدعوة العباسية قامت في وقت كانت قد توزعت فيه الحواضر الإسلامية أهواء مختلفة، وتقسمت القبائل العربية عواملُ العصبية، وأخذت الشعوب المغلوبة على أمرها والتي أصبحت خاضعة للنفوذ العربي تستفيق من الدهشة التي استولت عليها من الفورة العربية التي أخضعتها لسلطان العرب المسلمين.

أما الحواضر الإسلامية فكان قد غلب على كل حاضرة هوَى أُسرةٍ أو شخص معين، ولم تكن لتخضع للسلطان العربي الأموي لولا القوة القاهرة؛ ولهذا لم يكد يضطرب أمر بني أمية في الأطراف، ويظهر الخارجون من الدعاة على ولاتهم، حتى أخذت هذه الحواضر تنسلُّ عن طاعة بني أمية واحدة بعد أخرى. وتستطيع أن تلتمس هذه الظاهرة بينة واضحة من تقاعد الولايات عن نُصرة آخر خلفاء بني أمية عندما حزبه الأمر وتعقبه مطاردوه.

(٢) العصبية

العصبية هي مناصرة من يمت إليك بصلة من صلات الحياة؛ كأن تجمعكما رحم قريبة أو بعيدة، أو عقيدة دينية، أو هوًى سياسي. فيظهر أنها من طبيعة الوجود؛ إذ لا تختص بها قبيلة دون قبيلة، ولا أمة دون أمة، ولا جنس دون جنس، ولا عصر دون عصر، وكما توجد في الأمم البادية، كذلك توجد في الأمم الحاضرة، وما الدعوات القومية والنعرات الجنسية إلا نوع من العصبية بمعنًى أوسع.

والعصبية العربية التي نحن بسبيل القول فيها، والتي كانت من الأسباب التي اضمحل بها سلطان بني أمية، قديمة في القبائل العربية؛ كانت في الجاهلية قبل الإسلام، وكانت تضيق وتتسع بحسب الظروف والمناسبات، فبينما نراها بين العدنانية والقحطانية، وهو أوسع معانيها من الوجهة التاريخية العربية، نراها بين ربيعة ومضر، وهي قبائل عدنانية، ونراها بين بني أمية وبني هاشم، وقد يكون هذا من أضيق ميادينها، وكانت هذه العصبيات تشتد حينًا، وتفتر آخر.

فلما جاء الإسلام، ودخل الناس فيه أفواجًا، وتم له السلطان في جزيرة العرب، ألَّف بين القبائل، وأزال ما في صدورهم من أحقاد، وذلك ما يشير إليه قول الله تعالى: هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚإِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

ألف الإسلام بين قلوب العرب، وأزال كل أثر للعصبية القديمة في نفوسهم، ولكنه استبدلها بعصبية واسعة شاملة هي عصبية الإسلام، وجعل المؤمنين جميعًا إخوة.

وبقى أمر العرب كذلك إلى عهد الخلفاء الراشدين، وذلك راجع لا محالة إلى عوامل شديدة الأثر في نفوسهم؛ كهيمنة الروح الدينية عليهم، وكانشغالهم بالفتح وما استتبع الفتح من غنائم، وكحزم الخلفاء وحكمتهم، وشدة الولاة وقسوتهم.

فلما كان العصر الأموي واستقر الناس في الحواضر الإسلامية وشغلوا بعض الشيء عن الفتوح، راجعتهم الشنشنة القديمة، فأخذ بعضهم يفتخر على بعض بما كان لآبائهم من مجد في الجاهلية، وبلاء في الإسلام، وما لقبائلهم من قوة وأيد. وقد أدرك بعض شعرائهم النتائج السيئة لذلك، فقال الحارث بن عبد الله بن الحشرج بن المغيرة بن الورد الجعدي:

أبيتُ أرعى النجوم مرتفقًا
إذا استقلت تجري أوائلها
من فتنة أصبحت مجللة
قد عم أهل الصلاة شاملها
من بخراسان والعراق ومن
بالشام كل شجاه شاغلها
فالناس منها في لون مظلمة
دهماء ملتجة غياطلها
يمسي السفيه الذي يعنفها بالـ
ـجهل سواء فيها وعاقلها
والناس في كربة يكاد لها
تنبذ أولادها حواملها
يغدون منها في كل مبهمة
عمياء تمنى لهم غوائلها
لا ينظر الناس في عواقبها
إلا التي لا يبين قائلها
كرغوة البكر أو كصيحة حبـ
ـلى طرقت حولها قوابلها
فجاء فينا أزرى بوجهته
فيها خطوب حمر زلازلها

ولقد زاد في إذكاء العصبية بين القبائل العربية حُمْق بعض الولاة، وعدمُ أخذهم الأمور التي تقع بين أيديهم بالحزم والحكمة، وأيضًا استهانة بعض الخلفاء الأمويين ببعض الأمور وغرورهم بما لهم من سلطان، فكانوا لا يُبالون شعور الناس في تعيين الولاة عليهم، مما كان له أبعد أثر في صرف النفوس عنهم، واستجابتها لكل داعٍ إلى الخروج عليهم، وحسبك أن ترى هشام بن عبد الملك — مع حزمه وبعد نظره — يعين نصر بن سيار واليًا على خراسان وهو يعلم أن عصبيته بها ضعيفة، فإنه لما استشار فيمن يوليه خراسان بعد أسد بن عبد الله القسري، كان مستشاره يسمى له أشخاصًا بما لهم من محامد ومذامَّ، فلما جاء ذكر نصر بن سيار قال: إن اغتفرت له واحدة فإنه عفيف مجرب عاقل، قال هشام: وما هي؟ فقال المشير: عشيرته بها ضعيفة، فقال هشام: «أوَتريد عشيرة أقوى مني؟ أنا عشيرته!»

على أن كلمة هشام قد تُخفِّف من آثارها السيئة متانة حكومته، ونفاذ صولته، وقوة شوكته، ولكن الخلفاء جميعًا ليسوا كهشام حزمًا واقتدارًا، وليست أيامهم كأيام هشام نجحًا وانتصارًا.

ومهما يكن من شيء فإن تولية نصر بن سيار على خراسان كانت في الواقع شؤمًا على بني أمية.

وقد بلغت العصبية بين مُضَر واليمن في خراسان طورًا عنيفًا، جعل التزاوج بين الفريقين موضع اضطهاد وسُخرية وازدراء.

ولقد قالت أم كثير الضبية لما هدم اليمنيون دور المضرية أثناء الحروب التي كانت بين نصر والكرماني بسبب العصبية:

لا بارك الله في أنثى وعذبها
تزوجت مُضريًّا آخر الدهر
أبلغ رجال تميم قول مُوجعة
أحللتموها بدار الذل والفقر
إن أنتم لم تكروا بعد جولتكم
حتى تُعيدوا رجال الأزد والظهر
إني استحيت لكم من بذل طاعتكم
هذا المزوني يَجبِيكم على قهر

وقال شاعر آخر:

ألا يا نصر قد برح الخفاء
وقد طال التمني والرجاء
وأصبحت المزون بأرض مَرْو
تُقضِّي في الحكومة ما تشاء
يجوز قضاؤها في كل حكم
على مُضر وإن جار القضاء
وحِمْيرُ في مجالسها قعود
ترقرق في رقابهم الدماء
فإنْ مُضرٌ بذا رضيتْ وذلَّتْ
فطال لها المذلة والشقاء
وإن هي أعتبت فيها وإلا
فحل على عساكرها العفاء

ولقد استغل الدعاة العباسيون العصبية التي فتَّت في عضد الأمويين ومزقتهم أشتاتًا وطرائق قددًا خير استغلال، وهو ما كان له أبلغ أثر في القضاء على سلطان بني أمية؛ ذلك أن نصر بن سيار، وهو عامل خراسان، قد تحامل على اليمن وربيعة وقدَّم المضرية، فوثب به جديعُ بن علي الكرماني الأزدي — وكان رئيس الأزد يومئذٍ ورَجُلهم — وقال له: ندعُك وفعلك. ومالت معه اليمانية وربيعة، فأخذه نصر وحبسه، فأتت اليمن وربيعة حتى أخرجوه من مجرى كنيف! ثم اجتمعوا، ورام نصر أن يخدعه فيصير إليه، فلم يفعل — وكان في نصر بعض الخُرْق — فلما علم جديع أن اليمن وربيعة قد اجتمع رأيهما معه على نصر وثب فحاربه، وكان له العلوُّ على نصر، فمال أبو مسلم إلى الكرماني فقال: ادعُ إلى آل محمد، وجعل يمايل أصحابه ويدعوهم إلى ذلك حتى أظهروا دعوة بني هاشم بخراسان.

هذا ما كان من أمر العصبية بين العرب واستغلالها في إظهار الدعوة لبني العباس.

على أنه يجدر لك ألا يعزُب عن ذهنك أن العصبية وإن كانت قد خدمت العباسيين أجلَّ الخدم، فكانت معول هدم وعامل فناء في صرح الأموية، كان ضرامها وأجيجها وحروبها وفتنها لم تُخمَد سراعًا، ولم ترجع أمور العباد إلى نِصابها من الموادعة وحسن المصانعة بتيسير حال؛ بل أخذت دورها المحتوم، وكانت حَسَكًا وقتادًا، الفينة بعد الفينة، في بعض الولايات والأمصار، لبني العباس أنفسهم، كما ستقف عليه فيما سنسرده عليك من خلاصة أخبارهم ومجمل تاريخهم.

(٣) الموالي

لما أفضت الخلافة إلى الأمويين كان عدد الموالي آخذًا في الازدياد بسبب ما جلبته الفتوح الإسلامية من الأسرى، وما كان يهديه الولاة إلى الخلفاء من الرقيق؛ فإن الولاة كثيرًا ما كانوا يبعثون إلى الخليفة بمئات أو ألوف من الرقيق الأبيض أو الأسود هديةً أو بدلًا من الخراج أو نحوه.

ومن كان يَحَرُّ مِن هؤلاء بعتق أو مكاتبة أو تدبير يصير مولًى، ويُنسب إلى أسرة معتقه أو قبيلته، مع ملاحظة عدم أهليته للبناء على قرشية أو عربية.

كثر عدد الموالي جدًّا، فانصرف فريق منهم إلى الصناعة، وآخر إلى الزراعة أو غيرها من شئون الحياة، وانصرف فريق آخر إلى العلوم والفنون والآداب، فكان منهم جلة الفقهاء ورواة الحديث، كما كان منهم الشعراء والكتاب والمغنون، وتولت طائفة منهم المناصب السامية في الدولة كالقضاء والحجابة وما إلى ذلك.

على أنه مع ما كان لكثير من الموالي من قدم راسخة ومنزلة رفيعة في العلم والأدب والفنون كان العرب ينظرون إليهم دائمًا نظرة احتقار وازدراء.

وكان هذا الاحتقار والازدراء يظهر في معاملة العرب للموالي وأحاديثهم عنهم، ولما كان الموالي أهل علم وأدب، وينتمي كثير منهم إلى دول كان لها من السلطان ومظاهر الحضارة حظ عظيم، بل كان للفرس وجل الموالي منهم سيادة ظاهرة على العرب قبل الإسلام، لما كان كل هذا عظُم على الموالي أن يحتملوا كل هذا الضيم من العرب، فاندفعوا يذودون عن شرفهم وكرامتهم، ومن هنا نشأت الشعوبية — والشعوبية مذهب مَن يرى تفضيل العجم على العرب أو التسوية بين الفريقين — ثم أخذ الشعراء وغير الشعراء من الفريقين يتبارون في إكبار كلٍّ لفريقه، والحط من الفريق الآخر.

وكان نصيب الموالي في حالة تمدحهم لقومهم من الخلفاء الأمويين مدعاةً إلى زيادة مقتهم لهم، وزيادة السخيمة في قلوبهم عليهم. وإنا نثبت لك هنا مثلًا استشهد به الأستاذ «برون» في كتابه عن أدب الفرس، نقلًا عن الأغاني، قال: إن إسماعيل بن يسار دخل على هشام بن عبد الملك في خلافته وهو بالرصافة جالس على بركة له في قصره، فاستنشده وهو يرى أنه ينشد مديحًا له؛ فأنشدة قصيدته التي يفتخر فيها بالعجم:

يا ربع رامة بالعلياء من ريم
هل ترجعَنَّ إذا حييتُ تسليمي
ما بال حي غدت بُزْلُ المَطِيِّ بهم
تَخدي لغربتهم سيرًا بتقحيم
كأنني يوم ساروا شاربٌ سلَبت
فؤاده قهوة من خمر دارُوم

حتى انتهى إلى قوله:

إني وجدِّك ما عُودي بذي خوَر
عند الحفاظ ولا حوضي بمهدوم
أصلي كريم ومجدي لا يقاس به
ولي لسان كحد السيف مسموم
أحمي به مجد أقوام ذوي حسب
من كل قَرْم بتاج الملك معموم
جحاجحٍ سادة بُلج مَرازِبة
جُرْد عِتاق مساميح مطاعيم
من مثل كسرى وسابور الجنود معًا
والهرمزان لفخر أو لتعظيم
أسد الكتائب يوم الروع إن زحفوا
وهم أذلوا ملوك الترك والروم
يمشون في حلق الماذي سابغة
مشى الضراغمة الأُسد اللهاميم
هناك إن تسألي تُنبَيْ بأن لنا
جرثومةً قهرت عزَّ الجراثيم

قال: فغضب هشام وقال له: يا عاضَّ بظْرِ أمه، أعليَّ تفخر، وإياي تنشد قصيدة تمدح بها نفسك وأعلاج قومك؟! غُطُّوه في الماء. فغطوه في البركة حتى كادت نفسه تخرج، ثم أمر بإخراجه وهو يشرُّ، ونفاه من وقته، فأُخرج من الرصافة منفيًا إلى الحجاز، قال: وكان مُبتلًى بالعصبية للعجم والفخر بهم، فكان لا يزال محرومًا مطرودًا.

ولما كان شأن الخلفاء الأمويين شأن سائر العرب في التعصب على الموالي حتى كانوا يستعملونهم في الحروب مشاة ولا يعطونهم شيئًا من الغنائم والفيء، نفرت نفوسهم منهم، وأصبح سلطانهم بغيضًا إليهم، وصاروا عونًا لكل من خلع الطاعة، أو طلب الخلافة من العلويين أو الخوارج.

ولقد كان العباسيون يدركون هذا الشعور في الموالي فاستغلوه خير استغلال؛ إذ اتخذوا جلة المبشرين بدعوتهم منهم، واعتمدوا كل الاعتماد عليهم، ورأى الموالي في الدعوة الجديدة شفاء لما في صدورهم من حقد على بني أمية خاصة، وعلى العرب عامة، فأخلصوا للدعوة الجديدة، وبذلوا في تحقيقها كل ما يملكون من نفوس وأموال.

على أن لهذا الموضوع نواحيَ متشعبة يَحُول دون التحدث فيها ما رسمناه لأنفسنا من التزام القصد والإيجاز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤