الفصل الثالث

الدعوة العباسية

(١) توطئة

كانت الدعوة العلوية تسير جنبًا إلى جنب مع الدعوة العباسية، فقد كان الفريقان مضطهدين مغلوبين على أمرهما، وكان من المعقول والطبعي أن ظلم بني أمية لهؤلاء وهؤلاء يجمع ما تفرق من أهوائهم، ويفل حدة ما بينهم من عوامل التنافس والخلاف.

وقد كان بنو هاشم أعداء للأمويين قبل الإسلام بسبب التزاحم على السيادة في قريش، ولشد ما كان طلب السيادة والزعامة مدعاةً إلى العداوة والشحناء، وسببًا إلى التناحر والتقاتل بين بني الإنسان.

جدَّ العباسيون في دعوتهم السياسية وهم في الحُمَيمة من أعمال البلقاء بالشام، وزادوا حَميَّة وحماسة بتنزل أبي هاشم بن محمد بن الحنفية العلوي، زعيم الحزب الكيساني، لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، حين دسَّ إليه سليمان بن عبد الملك مَن سمَّه؛ إذ رأى فيه من المهابة والوقار ما يُؤهِّله للخلافة، ويُقرِّبه من قلوب الجماهير.

وقد كان في تنزل أبي هاشم هذا لصاحب الدعوة العباسية توحيدٌ لحزبين قويين؛ هما الحزب العباسي١ والشيعة الكيسانية، وهذا التوحيد أو التقريب بين الحزبين كانت ثمرته لحزب العباسيين.

(٢) تأليف الجماعات السرية

عمل العباسيون في تأليف الجماعات السرية للدعوة، واختاروا من الدعاة اثني عشر نقيبًا؛ وهم: سليمان بن كثير الخزاعي، ومالك بن الهيثم، وطلحة بن زريق، وعمر بن أعين، وعيسى بن أعين، وقحطبة بن شبيب الطائي، ولاهز بن قريظ التميمي، وموسى بن كعب، والقاسم بن مجاشع، وأبو داود خالد بن إبراهيم الشيباني، وأبو علي الهروي شبل بن طهمان الحنفي، وعمران بن إسماعيل المعيطي.

واختار محمد بن علي سبعين رجلًا يأتمرون بأمر هؤلاء الدعاة، وكتب إليهم كتابًا يوصيهم فيه بما يرجو أن يُوفَّقوا إلى العمل به وهم يوجهون الدعوة، ويُحاورون الأحزاب.

وهذا الكتاب يدل على ما كان عليه هذا الزعيم العباسي من علم بأحوال الناس في عصره، وبَصرٍ بأخلاق الشعوب التي كانت خاضعةً للسلطان الإسلامي، وبما كانت تجيش به النفوس في كل صقع وحاضرة، وبمثل هذا الزعيم الداهية ومن اجتباهم للدعوة العباسية قد كُتب الفوز لهذه الدعوة آخر الأمر، ومما قاله هذا الزعيم في كتابه:

أما الكوفة وسوادها فشيعة علي وولده، وأما البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكفِّ تقول: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل، وأما الجزيرة فحرورية مارقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى، وأما أهل الشام فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان، وعداوةً راسخة، وجهلًا متراكمًا، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان، فإن هناك العدد الكثير والجلَد الظاهر، وهناك صدور سليمة، وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم يتوزعها الدغَل، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحًى وشوارب، وأصوات هائلة، ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة … وبعدُ، فإني أتفاءل إلى المشرق وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق.

(٣) الدعوة العباسية وأبو مسلم الخراساني

كان الدعاة العباسيون يتنقلون في مختلف الأمصار، وكانوا في ظاهر الأمر طلاب رزق يزاولون التجارة، وكانوا في الواقع رجال سياسة ودهاء يبثون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويدعون الناس إلى مُناصرتهم بشتى الأساليب.

وظلوا كذلك إلى أن تُوفي محمد بن علي، وعهد بالأمر من بعده إلى ابنه إبراهيم الإمام، فكاتب هذا مشايخ خراسان ودهاقينها، وبعث إليهم الدعاة، وأرسل أبا مسلم لخراسان لبث الدعوة هناك، فكان يدعو إلى آل محمد — يريد أهل البيت — من غير أن يُعيِّن العباسيين ولا العلويين.

وقد كان أبو مسلم من أبطال الحرب والسياسة، شديد الإخلاص للعباسيين، مُسرفًا في خدمتهم، كثير الدهاء، واسع الحيلة، خبيرًا بما يقتضي عمله من الحزم والقسوة، فلا تعرف الرحمة قلبه، ولا يتناول الأمور إلا بالحزم والبأس الشديد.

ونستطيع أن نتبين مَرْمَى السياسة العباسية من الكتاب الذي بعث به إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخراساني فيما يرى أن يعمله لتأييد الدولة الجديدة، قال: «إنك رجل منا أهل بيت، احفظ وصيتي: انظر هذا الحي في اليمن فالزمهم، واسكُن بين أظهرهم، فإن الله لا يُتمُّ هذا الأمر إلا بهم، واتَّهِم ربيعة في أمرهم، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار، واقتُل من شككت فيه، وإن استطعت ألا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله.»

وقد حرص أبو مسلم على تنفيذ هذه الوصية، فكان يُسرع إلى قتل كل من يتهمه، ويقضي على كل من يرتاب في أمره حتى بلغت ضحايا هذه الخطة فيما يقول المؤرخون العرب: ستمائة ألف نفس قُتلت صبرًا.

ومهما افترضت المبالغة والغلو في إيرادهم هذا العدد، فإن الواقع أن أبا مسلم قد أسرف أيما إسراف في القتل وسفك الدماء تنفيذًا لوصية الإمام.

حل أبو مسلم خراسان سنة ١٢٨ﻫ فساسها بحزمه ودهائه وقوته، وأقام بقرية من قرى مرو يقال لها: «سفيذنج»، وقد كثر أنصاره وانثال الناس عليه من كل صوب، فأعلن فيهم لبس السواد، واتخذه شعارًا للعباسيين، ثم غيَّر شكل صلاة العيدين بأن بدأ بها قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة — وكانت بنو أمية تبدأ بالإقامة كصلاة يوم الجمعة — وأمر بأن يُكبَّر ست تكبيرات تباعًا، وكاتَب نصر بن سيار الوالي الأموي، ولما ضاقت «سفيذنج» عليه ولم تتسع لأنصاره رحَل إلى الماخوان،٢ وكانت عدة رجاله — فيما يقول المؤرخون — سبعة آلاف رجل، ثم احتال في التفرقة بين نصر ورجاله حتى أخذ بناء خصمه ينهار، ويتخلى عنه أنصاره واحدًا بعد واحد، وفي هذا يقول نصرٌ شعرًا بعث به إلى مروان الحمار الخليفة الأموي:
أرى بين الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن لم تُطفها عقلاء قوم
يكون وقودها جثث وهام
فإن النار بالعودين تُذكَى
وإن الحرب أولها كلام
فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظٌ أمية أم نيام؟

فلما ورد هذا الشعر على مروان لم يُجب عليه بما يجب أن يجيب به الملك الحازم الحريص على ملكه المُبقي على عرشه، من مبادرته بإرسال الكتائب والجيوش لكبح الثائرين على الملك، أو إعداده المعدات لإرسالها، وإنما كتب إلى نصر كتابًا يمثل الضعف والاستسلام، ويُنبئ بجنوحه إلى سياسة القول والكلام — في موضع يتطلب تقلد الرمح والحسام — يقول فيه: «إن الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، فاحسِم أنت هذا الداء الذي قد ظهر عندك»، فقال نصر لأصحابه: «أما صاحبكم فقد أعلمكم أنه لا نصر عنده.»

•••

يجب ألا يفوتنا أن نشير هنا إلى ناحية مهمة في خُلُق أبي مسلم تُمثِّل ما يجب على القواد من الحزم والكتمان؛ فقد جاء في «كتاب المحاسن والمساوي» للبيهقي ما نصه: «قيل لأبي مسلم صاحب الدولة: بأي شيء أدركت هذا الأمر؟ فقال: ارتديت بالكتمان، وائْتَزرتُ بالحزم، وحالفتُ الصبر، وساعدت المقادير، فأدركت ظني، وحزتُ حدَّ بغيتي، وأنشد:

أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت
عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أسعى عليهم في ديارهم
والقوم في غفلة بالشام قد رقدوا
حتى ضربتهمو بالسيف فانتبهوا
من نومة لم ينمها قبلهم أحد
ومن رعى غنمًا في أرض مَسْبعة
ونام عنها تولَّى رعيها الأسد»

ا.ﻫ.

على أن مروان استيقظ أخيرًا من غفوته، وانتبه من غفلته، وأمر بأخذ إبراهيم بن محمد، فلما قُبض عليه في الحميمة بالبلقاء أوصى بالأمر إلى أخيه أبي العباس، وأمر أهله وأنصاره بالمسير إلى الكوفة، وحضهم على السمع والطاعة لأبي العباس.

وقد حُبس إبراهيم في سجن «حرَّان» مع جماعة من خصوم مروان من بني أمية، وظل في سجنه حتى مات، وقد اختلف المؤرخون في كيفية موته، فمنهم من قال: إنه سُقي سُمًّا، ومنهم من قال: هدم عليه بيت فمات.

على أن المؤرخين وإن اختلفت أقوالهم في كيفية موته قد أجمعوا على أنه قد مات غِيلة وانتقامًا، وقد رثاه بعض الشعراء فقال:

قد كنت أحسبُني جلدًا فضعضعني
قبر بحران فيه عصمة الدين
فيه الإمام وخير الناس كلهم
بين الصفائح والأحجار والطين
فيه الإمام الذي عمَّت مصيبته
وعيَّلت كل ذي مال ومسكين
فلا عفا الله عن مروان مظلمة
لكن عفا الله عمن قال آمين

ثم انتقل الأنصار إلى الكوفة، وقد ساعدهم أبو سلمة الخلَّال المعروف ﺑ «وزير آل محمد»، ولكنه عدل عنهم أخيرًا، وقيل: إنه كاتب ثلاثة من أعيان بني عليٍّ يعرض الخلافة على أحدهم؛ وهم: جعفر الصادق بن محمد الباقر، وعبد الله المحض بن حسن، وعمر الأشرف بن زين العابدين، وكانت خاتمة حياته القتل.

ونريد بعد الذي قدمناه أن نُلمَّ بحياة الخلفاء العباسيين الذين سبقوا المأمون، لنرى كيف كانت الحياة السياسية في عهدهم الذي كان بلا شك نواة صالحة لعصر المأمون، وإنا لنرجو إذا وُفِّقنا إلى بيان المناحي التي امتاز بها هؤلاء أن ينكشف الغطاء عن حقيقة أمرهم ومكانتهم التاريخية، كما نرجو أن نظفر من وراء تفهم أقدارهم وحقيقة عصورهم بتفهم الأصول التي كوَّنت العصر الذي من أجله وضع هذا الكتاب.

هوامش

(١) هذا رأينا، ويرى أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار «أنه لم يكن لبني العباس حزب قبل أبي هاشم.»
(٢) الماخوان — بضم الخاء المعجمة وآخره نون: قرية كبيرة ذات منارة وجامع من قرى مرو، ومنها خرج أبو مسلم، صاحب الدعوة، إلى الصحراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤