المهدي
بهذه الأبيات الرقيقة كان أبو دلامة أول من تقدم بتعزية المهدي بوفاة والده المنصور، وتهنئته بارتقاء عرش الخلافة سنة ثمان وخمسين ومائة للهجرة.
وقد كان المهدي — فيما أجمع عليه الرواة — شهمًا فطنًا كريمًا، شديد البأس في تعقب الملحدين والزنادقة، لا تأخذُه في إهلاكهم لومة لائم.
وكان كثيرًا ما يجلس لرد المظالم، وقد عرف عنه أنه كان إذا جلس للمظالم قال: «أدخلوا عليَّ القُضاة، فلو لم يكن ردي للمظالم إلا للحياء منهم لكفى.»
وروى الطبري في حوادث سنة تسع وستين ومائة، أن مسور بن مساور قال: «ظلمني وكيل للمهدي وغصبني ضيعة لي، فأتيت سلَّامًا صاحب المظالم فتظلمت منه، وأعطيته رقعة مكتوبة، فأوصل الرقعة إلى المهدي وعنده عمه العباس بن محمد وابن علاثة وعافية القاضي، قال: فقال لي المهدي: ادنُه. فدنوتُ، فقال: ما تقول؟ قلت: ظلمتني، قال: فترضى بأحد هذين؟ قلتُ: نعم، قال: فادنُ مني، فدنوتُ منه حتى التزقتُ بالفراش، قال: تكلم، قلت: أصلَح الله القاضي، إنه ظلمني في ضيعتي هذا، فقال القاضي: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: ضيعتي وفي يدي، قال: قلتُ: أصلَح الله القاضي، سَلْه صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها، قال: فسأله ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: صارت إليَّ بعد الخلافة، قال: فأطلقها له، قال: قد فعلت، فقال العباس بن محمد: والله يا أمير المؤمنين، لهذا المجلس أحبُّ إليَّ من عشرين ألف ألف درهم.»
•••
أما كرمه فسجية قديمة فيه، وبسببه نال عتب المنصور غير مرة، وقد ذكر الطبري أن المؤمل بن أميل قال: قدمت على المهدي بالري وهو ولي عهد، فأمر لي بعشرين ألف درهم لأبيات امتدحتُه بها، فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن المهدي أمر لشاعر بعشرين ألف درهم، فكتب إليه المنصور يعذله ويقول له: إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر بعد أن يُقيم ببابك سنةً أربعة آلاف درهم، قال المؤمل: فكتب إلى كاتب المهدي أن يُوجِّه إليه الشاعر، فطُلب فلم يُقدَر عليه، فكتب إليه: إنه قد توجه إلى مدينة السلام، فوجه المنصور قائدًا من قواده فأجلسه على جسر النهروان، وأمره أن يتصفَّح الناس رجلًا رجلًا ممن يمرُّ به حتى يظفر بالمؤمل، فلما رآه قال له: من أنت؟ قال: أنا المؤمل بن أميل من زُوَّار الأمير المهدي، قال: إياك طلبت، قال المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفًا من أبي جعفر، فقبض عليَّ ثم أتى بي باب المقصورة وأسلمني إلى الربيع، فدخل إليه الربيع فقال: هذا الشاعر قد ظفرنا به، فقال: أدخلوه عليَّ، فأُدخلتُ عليه فسلمتُ فردَّ علي السلام، فقلت: ليس هاهنا إلا خير، قال: أنت المؤمل بن أميل؟ فقلت: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين، قال: هيه! أتيت غلامًا غرًّا فخدعته، فقلت: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلامًا كريمًا فخدعتُه فانخدع، قال: فكأن ذلك أعجبه فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته:
فقال: والله لقد أحسنت! ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم، ثم قال لي: أين المال؟ قلت: ها هو ذا، قال: يا ربيع، انزل معه فأعطه أربعة آلاف درهم، وخذ الباقي، قال: فخرج الربيع فحط ثقلي، ووزن لي أربعة آلاف درهم وأخذ الباقي، فلما صارت الخلافة إلى المهدي ولَّي ابن ثوبان المظالم، فكان يجلس للناس بالرصافة، فإذا ملأ كساءه رقاعًا رفعها إلى المهدي، فرفعت إليه يومًا رقعة أُذكِّره قصتي، فلما دخل بها ابن ثوبان جعل المهدي ينظر في الرقاع، حتى إذا نظر في رقعتي ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله الأمير، ما رأيتك ضحكت من شيء من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة! قال: هذه رقعة أعرف سببها، ردُّوا إليه العشرين ألف درهم، فُردَّت إليَّ وانصرفت.
ولنترك هذه السماحة في إجازة الشعراء لنرى كيف كانت أريحية المهدي في الإحسان إلى الجماهير، فقد ذكر الطبري في حوادث سنة ستين ومائة، أن المهدي قسَم في تلك السنة مالًا عظيمًا في أهل مكة وفي أهل المدينة كذلك، وأنه نظر فيما قسم في تلك السفرة، فوجد ثلاثين ألف ألف درهم حملت معه، ووصلت من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فقسم ذلك كله، وفرق من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب.
•••
وكان المهدي إلى جانب جوده وسخائه حييًّا خجولًا وبرًّا رحيمًا؛ دخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إن المنصور شتمني وقذف أمي، فإما أمرتني أن أحله، وإما عوضتني واستغفرت الله له، قال المهدي: ولم شتمك؟ قال: شتمت عدوه بحضرته فغضب، قال: ومَن عدوُّه الذي غضب لشتمه؟ قال: إبراهيم بن عبد الله بن حسن، قال: إن إبراهيم أمسُّ به رحمًا، وأوجب عليه حقًّا، فإن كان شتمك كما زعمتَ فعن رحمه ذبَّ، وعن عرضه دفَع، وما أساء من انتصر لابن عمه، قال: إنه كان عدوًّا له، قال: فلم ينتصر للعداوة وإنما انتصر للرحم. فأسكت الرجل، فلما ذهب ليُولِّي قال: لعلك أردتَ أمرًا فلم تجد له ذريعة عندك أبلغ من هذه الدعوى، قال: نعم، قال: فتبسم المهدي وأمَر له بخمسة آلاف درهم.
ولننظر إلى ما يرويه الربيع عنه، قال: رأيت المهدي يصلي في بَهوٍ له في ليلة مقمرة، فما أدرى أهو أحسن أم البهو أم القمر أم ثيابه؟! قال: فقرأ هذه الآية: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا في الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ قال: فأتم صلاته والتفت إلي فقال: يا ربيع، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: عليَّ بموسى، وقام إلى صلاته، قال: فقلتُ: مَن موسى؟ أابنُه موسى أم موسى بن جعفر — وكان محبوسًا عندي — قال: فجعلت أفكر، قال: فقلت: ما هو إلا موسى بن جعفر، قال: فأحضرته، قال: فقطع المهدي صلاته وقال: يا موسى، إني قرأت هذه الآية: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا في الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ فخفت أن أكون قطعت رحمك، فوثِّق لي أنك لا تخرج عليَّ، قال: فقال: نعم. فوثَّق له وخلَّاه.
ومثل هذا ما حدَّث به علي بن صالح قال: غضب المهدي على بعض القواد — وكان عتب عليه غير مرة — فقال له: إلى متى تذنب إليَّ وأعفو؟! قال: إلى أبدٍ نُسيء ويُبقيك الله فتعفو عنا. فكررها عليه مرات، فاستحى منه ورضي عنه.
ثم لننتقل إلى حوادث سنة ثمان وخمسين ومائة، فنرى النوفلي يحدثنا عن البيعة للمهدي وما كان من أمر الربيع فيها، فيقول: إن الربيع تناول يد الحسن بن زيد فقال: قم يا أبا محمد فبايع، فقام معه الحسن، فانتهى به الربيع إلى موسى فأجلسه بين يديه، فتناول الحسن يد موسى ثم التفت إلى الناس فقال: يا أيها الناس، إن أمير المؤمنين المنصور كان ضربني واستصفى مالي، فكلَّمه المهدي فرضى عني، وكلَّمه في رد مالي عليَّ فأبَى ذلك، فأخلفه المهدي من ماله وأضعفه مكان كل عِلْق علقين، فمن أولى بأن يبايع لأمير المؤمنين بصدر منشرح، ونفس طيبة، وقلب ناصح مني، ثم بايع موسى للمهدي، ثم مسح على يده.
•••
وبعد، فالمهدي من الخلفاء العباسيين في الذؤابة، وقد صدق الأستاذ «ميور» إذ يقول: إن المهدي كان في إدارته لشئون رعيته كمن يعمل بوجه عام على رفاهية الأمة وإسعادها، وكان مُعينًا ومعجِّلًا للعصر الذهبي الذي تلا أيامه، وما أُخذ عليه من بعض الهنات لا يمنع المُؤرِّخ المُنصف أن يرى في عصره ترفيهًا للناس مما كانوا يعانون من الشدة أيام المنصور.
كان المهدي موفَّقًا في اختيار وزرائه، وإن كانت السعاية أحلت ببعضهم العذاب وسوء المصير، وكان دقيقًا في نظره للأمور، وقد بدأ خلافته بإطلاق من كان في سجن المنصور، إلا من كان قِبله تِباعة من دم أو قتل، ومن كان معروفًا أنه يسعى في الأرض بالفساد، أو كان لأحد قِبلَه مظلمة، وإنما أطلق من كان جرمهم سياسيًّا.
وكان محبًّا للأدب مشجعًا على التأليف فيه، جادًّا في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق، محبًّا للغزوات والفتوح، وقد قيل: إنه كان لا يشرب النبيذ وإن كان سُمَّاره يشربونه في مجلسه، وكان مُحبًّا للسماع.
ويخبرنا الطبري في حوادث سنة تسع وستين ومائة، أن المهدي مات مسمومًا، وقد لَبِست عليه قيانه المُسُوح، فقال أبو العتاهية في ذلك:
ولم تكن السياسة لتعينه على ذلك، فقد ثبَّت له المنصور أركان الملك، فالتمس الدماء في تتبع الزنادقة والفتك بهم، وأسرف في ذلك حتى قتل بعض الأبرياء في قسوة تُمثِّلها قصته مع ابن وزيره أبي عبيد الله.
وفي المهدي ناحية جديدة في خلفاء العباسيين هي الميل إلى الاعتدال السياسي في معاملة الطالبيين؛ فقد كان على شيء من الرفق بهم والعطف عليهم، لا يمنعه من اتقائهم والإشفاق منهم. وهذه السياسة الرقيقة الحازمة تذكرنا بعض التذكير بما سيكون من سياسة المأمون.