الفصل الثامن

هارون الرشيد

يا خيزران هناك ثم هناك
أمسَى يَسوس العالمين ابناكِ

بهذا يعلن مروان بن أبي حفصة الشاعر النابه تَبَوُّء الرشيد عرش الخلافة بعد أخيه الهادي، بعهد من أبيه سنة سبعين ومائة هجرية، وبهذا يهنئ الشاعر الخيزران بتَوقُّل الرشيد لعرش كانت الخيزران مُعذَّبة مُعنَّاة بمن كان يعتليه قبل الرشيد.

وقد يكون من المستصوب أن نترك ليوسف بن القاسم بن صبيح، كاتب الرشيد، يعلن إلينا ما أعلنه بنفسه إلى العالم العربي من خبر اعتلاء الرشيد للخلافة، فإنه بأسلوبه الرشيق وبلاغته السهلة ومكانته من الرشيد أحق بذلك وأجدر، ولا سيما وقد طُيِّرت قطعتُه للخافقين مُنبئةً بموت خليفة وتتويج خليفة.

قال يوسف بن القاسم — بعد حمد الله عز وجل والصلاة على النبي : «إن الله بمنِّه ولطفه منَّ عليكم معاشر أهل بيت نبيه، بيتِ الخلافة ومعدنِ الرسالة، وآتاكم أهل الطاعة، من أنصار الدولة وأعوان الدعوة، من نعمه التي لا تحصى بالعدد، ولا تنقضى مدى الأبد، وأياديه التامة؛ إذ جمع ألفتكم، وأعلى أمرَكم، وشدَّ عضدكم، وأوهَن عدوكم، وأظهر كلمة الحق، وكنتم أولى بها وأهلها، فأعزَّكم الله وكان الله قويًّا عزيزًا، فكنتم أنصار دين الله المرتضى، والذابين بسيفه المُنتضى، عن أهل بيت نبيه ، وبكم استنقذهم من أيدي الظلمة أئمة الجور، والناقضين عهد الله، والسافكين الدم الحرام، والآكلين الفيء، والمستأثرين به، فاذكروا ما أعطاكم الله من هذه النعمة، واحذروا أن تغيروا فيغير بكم.

وإن الله جل وعز استأثر بخليفته موسى الهادي الإمام فقبضه إليه، وولَّى بعده رشيدًا مرضيًّا أمير المؤمنين بكم رءوفًا رحيمًا، من محسنكم قبولًا، وعلى مسيئكم بالعفو عطوفًا، وهو — أمتعه الله بالنعمة، وحفظ به ما استرعاه إياه من أمر الأمة، وتولَّاه بما تولَّى به أولياءه وأهل طاعته — يعدكم من نفسه الرأفة بكم، والرحمة لكم، وقسْم أعطياتكم فيكم عند استحقاقكم، ويبذل لكم من الجائزة مما أفاء الله على الخلفاء، ممَّا في بيوت الأموال، ما ينوب عن رزق كذا وكذا شهرًا غير مُقاصٍّ لكم بذلك فيما تستقبلون من أعطياتكم، وحاملًا باقي ذلك للدفع عن حريمكم، وما لعلَّه أن يحدث في النواحي والأقطار من العصاة المارقين إلى بيوت الأموال، حتى تعود الأموال إلى جمامها وكثرتها والحال التي كانت عليها؛ فاحمدوا الله، وجددوا شكرًا يوجب لكم المزيد من إحسانه إليكم بما جدَّد لكم من رأي أمير المؤمنين، وتفضَّل به عليكم، أيده الله بطاعته، وارغبُوا إلى الله له في البقاء، ولكم به في إدامة النعماء لعلكم ترحمون، وأعطوا صفقة أيمانكم، وقوموا إلى بيعتكم. حاطكم الله وحاط عليكم، وأصلح بكم وعلى أيديكم، وتولاكم ولاية عباده الصالحين.»

•••

بهذا الكتاب القيم البليغ أشعر العالم العربي بابتداء خلافة هارون الذي نستطيع بحق أن نقول: إنه أضخم الخلفاء المسلمين اسمًا، وأبعدهم صوتًا، وأشدهم في الخيال تأثيرًا، فأنت لا تستطيع أن تسمع اسم هارون الرشيد حتى يُحدث في نفسك صورًا خيالية مختلفة النوع، ولكنها متفقة في القوة، فهو يُنشئُ في نفسك حينًا صورة الخليفة المترف، المسرف في الترف الذي بلغ منه ما لم يبلغه أحد قبله ولا بعده، وينشئ في نفسك حينًا آخر صورة الخليفة القوي الذي أذل أعداء الإسلام، وبسط سلطان الخلافة على أطراف الأرض، وأخذ ملوك الروم بدفع الجزية، وينشئ فيها مرة أخرى صورة الخليفة الحذر الذي بث الجواسيس ليعرف من أمر الناس ما ظهر وما خفي، ثم لم يكتف بذلك، بل استحال هو جاسوسًا يطوف في الأسواق، ويُوغل في البيوت، ويغشى المجالس والأندية حتى ألم بكل شيء، وأحاط بكل خفية، ثم بطش بأعدائه والمؤتمرين به بطشًا لم يستطع التاريخ أن ينساه، ثم ينشئ في نفسك صورة الخليفة العالم الأديب، الفقيه بألوان العلم والدين والأدب، المشجع للفقهاء والعلماء والشعراء والكتاب تشجيعًا أصبح فيه مثلًا لمن جاء بعده من الخلفاء والملوك في الشرق والغرب، وينشئ في نفسك أيضًا صورة الخليفة الورع الزاهد المُتهالِك نسكًا وطاعة وتبتُّلًا لله، كما ينشيء فيها صورة الخليفة الذي لا يكاد يخلو إلى نفسه ويسدل الستار بينه وبين رعيته حتى يأخذ مع المجَّان في مجونهم، فيخيل إليك أنه لا يدع من سُبل اللذة سبيلًا إلا سلكها وجنى ثمارها، فمن غناء إلى شراب إلى عبث، إلى استمتاع بالنساء، من حرائر وإماء، وهو بعد هذا كله سياسي ماهر بعيدُ النظر في تصريفه الأمور، فيه حزم المنصور وعنفه، وميله إلى الغدر والأثرة، وكل ما يشخص سياسة «مكياڤلي»، وفيه حلم معاوية ودهاؤه اللين المرن، وسخاؤه بالمال، واصطناعه الناس.

ومن غريب الأمر أن كل هذه الصور المتناقضة التي تتباين أشد التباين قد اجتمعت حقًّا في شخص هذا الخليفة، لا كما يصورها المؤرخون والرواة والقصاص وأصحاب الأساطير، بل اجتمعت اجتماعًا يختلف قوة وضعفًا باختلاف الظروف والمؤثرات الكثيرة التي كوَّنت مِزاجه وشخصيته، وقصره، وبيئته السياسية العامة، فليس الرشيد في حقيقة الأمر شخصًا كغيره من الأشخاص يمثل نفسه وما ورث عن أسرته، ولكنه مرآة اجتمعت أمامها صور مختلفة من الناس والكفايات والظروف، فانعكست فيها هذه الصور.

فالرشيد يمثل كل هؤلاء الناس، وكل هذه الأشياء، وكل هذه الظروف التي شهدتها بغداد قرب آخر القرن الثاني للهجرة، ومن هنا كان من العسير جدًّا أن نستخلص منه صورة تاريخية صادقة بريئة من الغلو والإسراف.

فأما المؤرخون من العرب فقد تأثروا حين كتبوا عن الخلفاء، وخاصة أصحاب الشخصيات البارزة منهم، بكل ما عرفتَ أنهم تأثروا به من الإغراق والمبالغة والغلو في المدح مخلصين في أكثر الأحيان.

وأما المؤرخون من الفرنج فلم يسلم أشدهم احتياطًا من التأثر بهذه الطائفة الضخمة من الأساطير التي بثها في نفوس الجماعات كتاب «ألف ليلة وليلة» منذ زمن طويل.

وقد ظهر هذا التأثر مَظهَرينِ مختلفينِ؛ مظهر المدح والإسراف فيه عند قوم، ومظهر الذم والإغراق فيه عند قوم آخرين، وأولئك وهؤلاء مخدوعون عن أنفسهم واحتياطهم بكل هذه المبالغات التي أحاطت بإحسان الرشيد وإساءته.

ونحن مجتهدون لا في أن نعطيك هذه الصورة الصادقة من الرشيد التي لا يزال التاريخ محتاجًا إليها — فليس ذلك غرضنا في هذا البحث، وليس في هذا الكتاب متسع له — بل في أن نعطيك صورة صادقة من فهم المؤرخين من العرب والفرنجة لعصر الرشيد، غير مهملين مع ذلك أن نسجل آراء لنا هنا وهناك حين نشعر بالحاجة إلى ذلك؛ لتوضيح مذهبنا في فهم عصر المأمون الذي نضع فيه هذا الكتاب.

•••

يجمع المؤرخون العرب على ورع الرشيد وفضله وأدبه، وبسطة يده بالخير والعطاء، وانطوائه على الجود والسخاء؛ فقد ذكروا أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته.

وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة، وكان يقتفي آثار المنصور ويطلب العمل بها إلا في بذل المال، فإنه لم يُر خليفة قبله كان أعطى منه للمال، ثم المأمون من بعده، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك في أول ما يجب ثوابه، وكان يحب الشعراء والشعر، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، وبكره المراء في الدين ويقول: هو شيء لا نتيجة له، وبالحري ألا يكون فيه ثواب، وكان يحب المديح ولا سيما من شاعر فصيح، ويشتريه بالثمن الغالي.

ولقد كانت دولة الرشيد — كما يقول الفخري — دولة من أحسن الدول، وأكثرها وقارًا ورونقًا وخيرًا، وأوسعها رقعة مملكة، جبا الرشيد معظم الدنيا، ولم يجتمع على باب خليفة من العلماء والشعراء والفقهاء والقُرَّاء والقضاة والكُتَّاب والنُدماء والمُغنين من اجتمعوا على باب الرشيد، وكان يصل كل واحد منهم أجزل صلة، ويرفعه أعلى درجة، وكان فاضلًا شاعرًا رَاوِية للأخبار والآثار والأشعار، صحيح الذوق والتمييز، مهيبًا عند الخاصة والعامة.

•••

ولقد حاول الهادي أن يرغم الرشيد على خلع نفسه من الخلافة بعده، وأن يكتب بولاية العهد لابنه جعفر، وقد تم له شيء من ذلك. وإنا لنجدُ في حوادث سنة سبعين ومائة هجرية الشيء الكثير من إخلاص آل برمك للرشيد، لا سيما شدة محافظة يحيى البرمكي على حقوق الرشيد في ولاية العهد، فعُذِّب وحُبس وأُوذي في هذا السبيل إيذاء شديدًا.

ولقد أظهر الرشيد — وهو ولي عهد — من الجرأة ومتانة الأخلاق والصراحة ما هو حقيق بالإعجاب، ولسنا نرى مندوحة من ذكر الرواية التي ذكرها محمد بن عمر الرومي، فهي تعطينا صورة دقيقة لما نحن بسبيله، فقد حدَّث عن أبيه قال: جلس موسى الهادي بعدما ملك في أول خلافته جلوسًا خاصًّا، ودعا إبراهيم بن جعفر بن أبي جعفر وإبراهيم بن سلم بن قتيبة والحراني، فجلسوا عن يساره ومعهم خادم له أسود يقال له: أسلم ويُكنى أبا سليمان — وكان يثق به ويقدمه — فبينا هو كذلك إذ دخل صالح صاحب المصلى فقال: هارون بن المهدي، فقال: ائذن له. فدخل فسلَّم عليه وقبَّل يديه وجلس عن يمينه بعيدًا من ناحية، فأطرق موسى ينظر إليه، وأدمن ذلك ثم التفت إليه فقال: يا هارون، كأني بك تُحدِّث نفسك بتمام الرؤيا، وتُؤمِّل ما أنت منه بعيد، ودون ذلك خرط القتاد؛ تُؤمِّل الخلافة! قال: فبرك هارون على ركبتيه وقال: يا موسى، إنك إن تجبرتَ وُضعتْ، وإن تواضعتْ رُفعتْ، وإن ظلَمت خُتلت، وإني لأرجو أن يفضي الأمر إلي فأُنصِف من ظلَمت، وأصلُ من قطَعت، وأُصيِّر أولادك أعلى من أولادي، وأزوِّجهم بناتي، وأبلغ ما يجب من حق الإمام المهدي، قال: فقال له موسى: ذلك الظن بك يا أبا جعفر، ادنُ مني. فدنا منه فقبَّل يديه ثم ذهب يعود إلى مجلسه، فقال له: لا والشيخ الجليل، والملك النبيل؛ أعني أباك المنصور، لا جلستَ إلى معي. وأجلسه في صدر المجلس معه، ثم قال: يا حراني، احمل إلى أخي ألف ألف دينار، وإذا افتتح الخراج فاحمل إليه النصف منه، واعرض عليه ما في الخزائن من مالنا، وما أخذ من أهل بيت اللعنة، فيأخذ جميع ما أراد، قال: ففعل ذلك. ولما قام قال لصالح: ادنِ دابتَه إلى البساط.

قال عمرو الرومي: وكان هارون يأنس بي، فقمت إليه فقلت: يا سيدي، ما الرؤيا التي قال لك أمير المؤمنين؟ قال: قال المهدي: أُريتُ في منامي كأني دفعتُ إلى موسى قضيبًا وإلى هارون قضيبًا، فأورق من قضيب موسى أعلاه قليلًا، فأما هارون فأورق قضيبه من أوله إلى آخره، فدعا المهدي الحكم بن موسى الضمري، وكان يكنى أبا سفيان، فقال له: عبِّر هذه الرؤيا، فقال: يملكان جميعًا، فأما موسى فتقلُّ أيامه، وأما هارون فيبلغ مدى ما عاش خليفة، وتكون أيامه أحسن أيام، ودهره أحسن دهر، قال: ولم يلبث إلا أيامًا يسيرة ثم اعتل موسى ومات، وكانت علته ثلاثة أيام.

قال عمرو الرومي: أفضت الخلافة إلى هارون فزوج حمدونة من جعفر بن موسى، وفاطمة من إسماعيل بن موسى، ووفَّى بكل ما قال، وكان دهره أحسن الدهور.

•••

ولقد كان الرشيد مشغوفًا بالفنون والعلوم، وكان قصره الزاهي الزاهر مركزًا لمختلف الثقافات، وأما ولعه بالشعر وضروب الآداب وإجازته الشعراء بسخاء، فالحديث في ذلك طويل المناحي.

وكان الرشيد مع استمتاعه بمرافه الحياة ومناعمها تزوَّج ست زوجات، وتسرَّى عشرين أمة ذكر أسماءهن الطبريُّ، وأسماء أولاده منهن، وكان — مع تبرج المدنية في أيامه، ومع إحيائه أندية اللغة والآداب والمنادمة — ورعًا متأثرًا بالمواعظ والزهديات. وسنذكر لك طرفًا من مواقفه الدالة على خشيته لله وأدبه وورعه وتواضعه.

أما خشيته لله وأدبه؛ فقد ذكر بعضهم أنه كان من صحابة الرشيد بالرقة بعد أن شخص من بغداد، فخرج معه يومًا إلى الصيد، فعرض له رجل من النُّساك فقال: يا هارون، اتق الله، فقال لإبراهيم بن عثمان بن بهيك: خذ هذا الرجل إليك حتى أنصرف. فلما رجع دعا بغدائه، ثم أمر أن يُطعَم الرجل من خاصِّ طعامه، فلما أكل وشرب دعا به فقال: يا هذا، أنصفني في المخاطبة والمساءلة! قال: ذاك أقل مما يجب لك، قال: فأخبرني أنا شرٌّ وأخبث أم فرعون؟ قال: بل فرعون؛ قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلٰهٍ غَيْرِي، قال: صدقت، فأخبرني فمن خير: أنت أم موسى بن عمران؟ قال: موسى كليم الله وصفيه اصطفاه لنفسه، وائتمنه على وحيه، وكلَّمه من بين خلقه، قال: صدقت، أفما تعلم أنه لما بعثه وأخاه إلى فرعون قال لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ — ذكر المفسرون أنه أمرهما أن يُكنِّياه — هذا وهو في عُتُوِّه وجبروته، على ما قد علمتَ، وأنت جئتني وأنا بهذه الحالة التي تعلم؛ أؤدي أكثر فرائض الله عليَّ، ولا أعبد أحدًا سواه، أقف عند أكبر حدوده وأمره ونهيه، فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأشنعها، وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدبت، ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يُؤمِّنك أن أسطوَ بك، فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيًّا؟ قال الزاهد: أخطأتُ يا أمير المؤمنين، وأنا أستغفرك، قال: قد غفر لك الله. وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها وقال: لا حاجة لي في المال؛ أنا رجل سائح، فقال هرثمة وخزره: تردَّ على أمير المؤمنين، يا جاهل، صِلَته؟! فقال الرشيد: أمسكْ عنه، ثم قال له: لم نُعطك هذا المال لحاجتك إليه، ولكن من عادتنا أنه لا يخاطب الخليفة أحدٌ ليس من أوليائه ولا أعدائه إلا وصَله ومنَحه؛ فاقبل من صلتنا ما شئت، وضعها حيث أحبب. فأخذ من المال ألفي درهم وفرَّقها على الحُجَّاب ومَن حضر الباب.

وأما ورعه فقد ذُكر أن أبا مريم المدني كان مع الرشيد، وكان مضحاكًا له مِحداثًا فَكِهًا، فكان الرشيد لا يصبر عنه ولا يملُّ محادثته، وكان ممن قد جمع إلى ذلك المعرفة بأخبار أهل الحجاز وألقاب الأشراف ومكايد المُجَّان، فبلغ من خاصته بالرشيد أن بوَّأه منزلًا في قصره، وخلَطه بحرمه وبطانته ومواليه وغلمانه، فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر، وقام الرشيد إلى الصلاة فألفاه نائمًا، فكشف اللحاف عن ظهره ثم قال له: كيف أصبحت؟ قال: يا هذا، ما أصبحت بعدُ، اذهبْ إلى عملك، قال: ويلك، قُمْ إلى الصلاة، قال: هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي. فمضى وتركه نائمًا، وتأهب الرشيد للصلاة فجاء غلامه فقال: أمير المؤمنين قد قام إلى الصلاة. فقام فألقى عليه ثيابه ومضى نحوه، فإذا الرشيد يقرأ في صلاة الصبح، فانتهى إليه وهو يقرأ: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله! فما تمالك الرشيد أن ضحك في صلاته، ثم التفت إليه وهو كالمغضب فقال: يا ابن أبي مريم، في الصلاة أيضًا؟ قال: يا هذا، وما صنعت؟ قال: قطعت عليَّ صلاتي، قال: والله ما فعلتُ، إنما سمعت منك كلامًا غمَّني حين قلتَ: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي فقلتُ: لا أدري والله! فعاد فضحك وقال: إياك والقرآن والدينَ، ولك ما شئت بعدهما.

وأما تواضعه فنترك الكلمة فيه لأبي معاوية الضرير، وهو من علماء دولته، فإنه يقول: أكلت مع الرشيد يومًا فصب على يدي الماء رجل فقال: يا أبا معاوية، أتدري من صب الماء على يديك؟ فقلت: لا، يا أمير المؤمنين، قال: أنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت تفعل هذا إجلالًا للعلم؟ قال: نعم. فتصوَّر إلى أي حدٍّ بلغ صنيعه.

•••

نترك جانبًا الآن التكلم عن البرامكة ونكبة البرامكة إلى فصل مستقل، وربما كان من المصلحة الفنية للكتاب أن يُفرد لكل بحث من بحوثه باب خاص نستوعب فيه ما يجدر بنا استيعابه من تلك النواحي الهامة الشديدة الصلة بموضوعنا.

والآن نرى — في عنقنا — أن نتحدث إليك في أمور أربعة قد تفيدك في عهد الرشيد عامة، وربما أفادت في تفهم عصر المأمون خاصة؛ وهي:
  • (١)

    حقيقة السياسة الداخلية في عصر الرشيد.

  • (٢)

    السياسة الخارجية.

  • (٣)

    التكلم عن بيعة الرشيد للأمين والمأمون والقاسم.

  • (٤)

    التكلم عن الدولة البرمكية والنكبة البرمكية.

وسنتوخى الإيجاز المقنع من غير إخلال بما لا يليق بنا الإخلال به، ولا سيما باب بيعات الرشيد؛ فإنا لا نرى مندوحة من إثبات نصوصها؛ لما لها من الخطر من حيث إنها أثر تاريخي خليق بالدارسة والبحث.

(١) السياسة الداخلية

أنت جِدُّ عالم بما كان من تطلع الطالبيين للخلافة، وقد مر بك القول في تحفزاتهم وخروجهم وحروبهم للخليفة العباسي الجالس على العرش كلما واتتهم الفرص وأمكنتهم الأحوال.

وأنت جِدُّ عالم أن الخلفاء ما كانوا يركنون إلى جانبهم نِفاسًا وتباغضًا، واصطدامًا للمصلحة الخاصة وتعارضًا، بيد أن الرشيد — وهو الرءوم بسجيته، المجبول على الخير بنزعته — رأى في أول عهده أن يَحدِب عليهم، ويستلَّ سخيمة العداوة من قلوبهم، فرفع الحجر عمن كان منهم ببغداد وسيرهم إلى المدينة، ما عدا العباس بن الحسن بن عبد الله، وكان أبوه مع ذلك فيمن أشخص إلى المدينة.

لم يشجع الطالبيون الرشيد على الاستمرار على خطته تلك، بل كان من بعضهم ما دفعه إلى تغيير خطته السديدة؛ إذ خرج عليه يحيى بن عبد الله — أحد الناجين من وقعة «فخ» التي كانت في أيام الهادي، ونزح إلى بلاد الديلم حيث قويت شوكتُه، واشتد ساعدُه، وهرع إليه الناس من الأمصار والكور — فاغتم الرشيد لذلك أيما اغتمام وترك، فيما يقول الرواة، شرب النبيذ، ثم ندب إلى قتاله الفضل بن يحيى بن خالد في خمسين ألفًا، ومعه من القواد صناديدهم، ومن الجند شجعانهم، فسار سَمْت يحيى، فكاتبه ورفق به واستماله وبسط أمله، وكاتب صاحب الديلم وجعل له ألف ألف درهم على أن يسهل له خروج يحيى وحُملتْ إليه، فأجاب يحيى إلى الصلح والخروج، على أن يكتب له الرشيد أمانًا بخطه، فبادر الفضل برفع ذلك إلى الرشيد، فأثلج فؤاده، وعظم موقعه لديه، وكتب أمانًا ليحيى بن عبد الله وأشهد عليه القضاة والفقهاء وجلة بني هاشم ومشايخهم، منهم عبد الصمد بن علي والعباس بن محمد ومحمد بن إبراهيم ومن أشبههم، ووجَّه به مع جوائز وكرامات وهدايا، فوجَّه الفضل بذلك إليه، فقدم يحيى بن عبد الله عليه.

وفي رواية أخرى أن يحيى بن عبد الله لما رأى الرشيد قد كتب إلى صاحب الديلم يطلبه منه ويتهدده، وأنه قد اشتد في مطاردته واقتفاء أثره، طلب الأمان من الفضل، فأمَّنه وحمله إلى الرشيد.

ويحدثنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في حوادث سنة ست وسبعين ومائة، أنه لما ورد الفضل بن يحيى البرمكي بيحيى بن عبد الله العلوي بغداد، لقيه الرشيد بكل ما أحب، وأمر له بمال كثير، وأجرى عليه أرزاقًا سنية، وأنزله منزلًا سريًّا بعد أن أقام في منزل يحيى بن خالد أيامًا، وكان يتولى أمره بنفسه ولا يكِلُ ذلك إلى غيره، وأمر الناس بإتيانه — بعد انتقاله من منزل يحيى — والتسليم عليه، وبلغ الرشيد الغاية في إكرام الفضل، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:

ظفرت فلا شلَّت يدٌ برمكية
رَتقْتَ بها الفتق الذي بين هاشم
على حين أعيا الراتقين التئامه
فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم
فأصحبت قد فازت يداك بخطة
من المجد باقٍ ذكرها في المواسم
وما زال قدح الملك يخرج فائزًا
لكم كلما ضُمَّت قِداح المُساهم

ونوجه النظر هنا إلى ظاهرة في شعر مروان وأبي قمامة الخطيب الذي أنشد في هذا المعنى أبياتًا له يستدل منها على اغتباط الشاعر، وجمهرة الناس طبعًا، بالوفاق بين العلويين والعباسيين، والإشادة بذلك، مفخرة للعاملين على رتق الفتق والتئام الصدع، ولكن وا أسفاه! فإن للوجهة النفعية خطرها بين الملوك وبين السُّعاة بالنميمة، ولها أثرها السيئ في إلصاق تُهم بالأبرياء، ولها مغبتها الضارة في بذر بذور الكراهية والبغضاء بين الملوك والزعماء.

وقد بينا لك أن الأمان الذي كتبه الرشيد ليحيى بن عبد الله قد أشهد عليه الفقهاء والقضاة وزعماء الشعب. وقد يكون من المفيد في تصوير ناحية من نواحي العصر أن نذكر لك هنا نصيب هذا الأمان وحظه من بعض الفقهاء في الفتيا بنقضه، وآخرين بالوفاء له، ولندع لأبي خطاب — أحد المعاصرين — الكلمة، قال: إن جعفر بن خالد حدثه ليلة وهو في سمره قال: دعا الرشيد اليوم يحيى بن عبد الله بن حسن وقد حضره أبو البختري القاضي ومحمد بن الحسن الفقيه صاحبُ أبي يوسف، وأحضر الأمان الذي كان أعطاه يحيى، فقال لمحمد بن الحسن: ما تقول في هذا الأمان، أصحيح هو؟ قال: هو صحيح، فحاجَّه في ذلك الرشيد، فقال له محمد بن الحسن: ما تصنع بالأمان لو كان محاربًا ثم ولَّى؛ كان آمنًا؟ فاحتملها الرشيد على محمد بن الحسن، ثم سأل أبا البختري أن ينظر في الأمان، فقال أبو البختري: هذا الأمان منتقضٌ من وجه كذا وكذا، فقال الرشيد: أنت قاضي القضاة وأنت أعلم بذلك! ومزق الأمان وتفل فيه أبو البختري.

ولك أن تعلق ما شئت على تصرف أبي البختري «الفقيه الديني» الذي أصبح بفتياه تلك قاضي القضاة، ولك أن تستنبط ما أحببت في موقفه ومرونته حين مزَّق الأمان، ولم تزد قيمته في نظره على «قصاصات الورق» حتى تفل فيه، ولك أن تقول ما أردت في موقف زميله محمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي يوسف، وعدم ترخصه أو جموده. أما نحن فإنا لا نعدو خطتنا التي رسمناها لأنفسنا في مثل هذه المواقف من التزام الحيدة التامة، وعدم الزج بأنفسنا في المزالق الخطرة، والاكتفاء من ناحيتنا بتقييد الحوادث لا أكثر ولا أقل.

ولقد سعى بالنميمة بين الرشيد ويحيى بن عبد الله الساعون، وكلما رقَّ الرشيد له أثاروا في نفسه السخيمة عليه، فقد ذكروا أن يحيى بن عبد الله قال للرشيد: يا أمير المؤمنين، إن لنا قرابة ورحمًا، ولسنا بترك ولا ديلم، يا أمير المؤمنين، إنا وأنتم أهلُ بيت واحد، فأُذكِّرك الله قرابتنا من رسول الله ، علام تحبسني وتعذبني؟ قال: فرقَّ له هارون، ولكن الزبيري — وكان حاكمًا للمدينة أيام الرشيد، وهو يعد من الأحزاب المعادية للعلويين، واشتهر بشدة البغض لهم، وكان حاضرًا مجلسهما — أقبل على الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغرك كلام هذا، فإنه شاقٌّ عاصٍ، وإنما هذا منه مكر وخبث، إن هذا أفسد علينا مدينتنا، وأظهر فيها العصيان، قال: فأقبل يحيى عليه، فوالله ما استأذن أمير المؤمنين في الكلام حتى قال: أفسد عليكم مدينتكم! ومن أنتم، عافاكم الله؟ قال الزبيري: هذا كلامه قُدَّامك، فكيف إذا غاب عنك؟! يقول: «ومن أنتم؟» استخفافًا بنا، قال: فأقبل عليه يحيى فقال: نعم، ومن أنتم، عافاكم الله؟ المدينة كانت مُهاجَر عبد الله بن الزبير أم مُهاجَر رسول الله ؟! ومَن أنت حتى تقول: أفسد علينا مدينتنا! وإنما بآبائي وآباء هذا هاجر أبوك إلى المدينة؟ ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنما الناس نحن وأنتم، فإن خرجنا عليكم قلنا: أكلتم وأجعتمونا، ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرجلتمونا، فوجدنا بذلك مقالًا فيكم، ووجدتم بخروجنا عليكم مقالًا فينا، فتكافأ فيه القول، ويعود أمير المؤمنين على أهله بالفضل. يا أمير المؤمنين، فلم يجترئ هذا وضُرباؤه على أهل بيتك يسعى بهم عندك؟ إنه والله ما يسعى بنا إليك نصيحة منه لك، وإنما يأتينا فيسعى بك عندنا عن غير نصيحة منه لنا، إنما يريد أن يباعد بيننا، ويشتفي من بعض ببعض، والله يا أمير المؤمنين، لقد جاء إليَّ هذا حين قتل أخي محمد بن عبد الله فقال: لعن الله قاتله، وأنشدني فيه مرثية قالها نحوًا من عشرين بيتًا، وقال: إن تحرَّكتَ في هذا الأمر فأنا أول مَن يُبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة فأيدينا مع يدك، فتغيَّر وجه الزبيري واسودَّ، فأقبل عليه هارون فقال: أي شيء يقول هذا؟ قال: كاذب يا أمير المؤمنين، ما كان مما قال حرف، قال: فأقبل الرشيد على يحيى بن عبد الله وقال: تروي القصيدة التي رثاه بها؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين، أصلحك الله. وأنشدها إياه، فقال الزبيري: والله، يا أمير المؤمنين، الذي لا إله إلا هو — حتى أتى على آخر اليمين الغموس — ما كان مما قال شيء، ولقد يقول علي ما لم أقل، قال: فأقبل الرشيد على يحيى بن عبد الله فقال: قد حلف، فهل من بينةٍ سمعوا هذه المرثية منه؟ قال: لا، يا أمير المؤمنين، ولكن أستحلفه بما أريد، قال: فاستحلِفْه، قال: فأقبل على الزبيري فقال: قل: أنا بريء من حول الله وقوته مُوكل إلى حولي وقوتي إن كنتُ قلتُه، فقال الزبيري: يا أمير المؤمنين، أي شيء هذا من الحلف؟! أحلف له بالله الذي لا إله إلا هو ويستحلفني بشيء لا أدري ما هو! قال يحيى بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إن كان صادقًا فما عليه أن يحلف بما أستحلفه به، فقال له هارون: احلفْ له، ويلك! قال: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته مُوكل إلى حولي وقوتي — ويقول الطبري: إنه اضطرب منها وأرعد — فقال: يا أمير المؤمنين، ما أدري أي شيء هذه اليمين التي يستحلفني بها وقد حلفت له بالله العظيم أعظم الأشياء! قال: فقال هارون له: لتحلفنَّ له أو لأُصدقنَّ عليك ولأعاقبنَّك، فقال: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي إن كنتُ قلتُه، قال: فخرج من عند هارون فضربه الله بالفالج فمات من ساعته.

وقد روى المؤرخون العرب في صدد موت ذلك الزبيري روايات، لا نرى بأسًا بإيرادها، فقد ذكر الفخري أنه ما انقضى النهار حتى مات، فحملوه إلى القبر وحطوه فيه، وأرادوا أن يطموا القبر بالتراب، فكانوا كلما جعلوا التراب فيه ذهب التراب ولا ينْطمُّ القبر، فعلموا أنها آية سماوية، فسقفوا القبر وراحوا. وإلى ذلك أشار أبو فراس بن حمدان في ميميته إذ يقول:

يا جاهدًا في مساويهم يُكتِّمها
غدرُ الرشيد بيحيى كيف ينكتمُ
ذاق الزبيريُّ غِبَّ الحِنْث وانكشفتْ
عن ابن فاطمة الأقوال والتُّهم

قالوا: ومع ظهور مثل هذه الآية العظيمة قُتل يحيى في الحبس شرَّ قتلةٍ، على أن هناك رأيًا آخر في موت يحيى بن عبد الله، وهو أن الموكَّل به في الحبس منعه الأكل فمات.

ولننظر ما يرويه لنا مُعاصر، وهو عباس بن الحسن، عمَّا كان من الرشيد بعدما أصاب الزبيري، مما أجمع رواة العرب على إصابته به إثر كذبه في قسمه، فقد قال: دخلنا على الرشيد، فلما نظر إلينا قال: يا عباس بن الحسن، أما علمت بالخبر؟ فقال أبي: بلى، يا أمير المؤمنين، فالحمد لله الذي صرعه بلسانه، ووقاك الله، يا أمير المؤمنين، قطع أرحامك، فقال الرشيد: الرجل والله سليم على ما يحبُّ، ورفع السترَ فدخل يحيى وأنا والله أتبين الارتياع في الشيخ، فلما نظر إليه الرشيد صاح به: يا أبا محمد، أما علمت أن الله قد قتل عدوك الجبار، قال: الحمد لله الذي أبان لأمير المؤمنين كذب عدوه عليَّ، وأعفاه من قطع رحمه، والله، يا أمير المؤمنين، لو كان هذا الأمر مما أطلبه وأصلُح له وأُريده — فكيف ولست بطالب له ولا مريده؟! — ولم يكن الظفر به إلا بالاستعانة به، ثم لم يبق في الدنيا غيري وغيرك وغيره، ما تقويت به عليك أبدًا. وهذا والله من إحدى آفاتك — وأشار إلى الفضل بن الربيع — والله لو وهبت له عشرة آلاف درهم، ثم طمع معي في زيادة ثمرة لباعك بها، فقال: أما العباسي فلا تقل له إلا خيرًا، وأمُرْ له في هذا اليوم بمائة ألف دينار. وكان حبسه بعض يوم، قال أبو يونس: كان هارون حبسه ثلاث حبسات مع هذه الحبسة، وأوصل إليه أربعمائة ألف دينار.

•••

وبعد، فقد عنينا بإثبات الروايات فيما كان من سيرة هذا الخليفة العباسي مع علوي من رجالات عصره؛ لنتبين نفسية المعاصرين والولاة، وما انطوت عليه صدورهم من حب لآل عليٍّ وتوقير لأشخاصهم، ونعتهم بالكرامات والمعجزات، وإذا اعتبرت أن هذا كله قد حصل في عهد خليفة عظيم بسخائه وفواضله، محبوب لمآثره ونوافله، قويٍّ في مملكته، كثير الأنصار في شيعته، أيقنت أن للحزب العلوي أنصارًا يُعتدُّ بهم، ومكانة في النفوس يحفل بها. وهذا معقول جدًّا، وإنك لتستسيغه من نفسك وفهمك إذا ذكرت أن أنصار هذه الدولة هم من الفرس، وأنت تعلم ما كان بين الفرس والعرب عامة، وبين الموالي وبني أمية خاصة من عداء وشجار، ومقتٍ وكراهية، وأنت تعلم أن الدعوة في بداية أمرها كانت للعلويين دون غيرهم، وأن القائمين بها كانوا من الفرس، فمن المعقول أن تُشرب قلوبهم حب هذه الدعوة وأفراد هذه الدعوة، والتغنِّي بمذهب هذه الدعوة منذ الساعة الأولى. ولا يزيد مرورُ الزمانِ كلَّ دعوة أو مذهب حزبي إلا قوة وانتشارًا، وكثرة أنصار، ورسوخ عقيدة؛ فلنلاحظ ذلك جيدًا، فإنه قد يفيدنا في تعليل بعض أفعال البرامكة.

ولنرجع إلى التحدث معك باختصار عن بقية الحوادث الداخلية في عصر الرشيد، ولنقسِّم القول إلى ناحيتين؛ أولاهما: ثورات ناتجة عن العصبية. وثانيتهما: فتوق وثورات في شتَّى ولاياته.

أما الحوادث العصبية بين النزارية واليمنية وغيرهما، فإن ابن جرير الطبري يحدثنا أن قد وقع هياج في الشام سنة ست وسبعين ومائة بين النزارية واليمنية، ورأس النزارية يومئذ أبو الهيذام، فولى الرشيدُ موسى بن يحيى بن خالد، وضم إليه القواد والأجناد ومشايخ الكتاب، فذهب إليهم وأصلح بينهم حتى سكنت الفتنة.

وأما الثورات الأخر، فإنا نجد في أخبار سنة ثمانٍ وسبعين ومائة، وسنة ثمانين ومائة، وسنة سبعٍ وثمانين ومائة ما يدلُّ على حصول فتن وحروب من جراء العصبية أيضًا.

ولقد حصلت حروب في خراسان والطالقان وحُوران والجزيرة واليمن ومصر وأرمينية وحمص لرافع بن ليث، وكان النصر في أكثرها حليف جيوش الرشيد وولاته.

على أن جل هذه الثورات ناجم في الواقع عن اتساع رقعة المملكة، وسرعة تبديل الولاة، وسوء تصرف بعض هؤلاء الولاة، ولا سيما في جباية الأموال، ومحاولة إرضاء الخليفة من جهة، ومطامعهم الخاصة من جهة أخرى.

وإنا لنجتزئ بما قدمناه لك عن السياسة الداخلية أيام الرشيد، ونتقدم الآن إلى الكلام عن السياسة الخارجية.

(٢) السياسة الخارجية

أما ملخص السياسة الخارجية أيام الرشيد، فيمكن تقسيمه إلى نقطتين؛ الأولى: علاقته بالروم. والثانية: علاقته بالأندلس.

فأما علاقته بالروم فقد أشارت دائرة المعارف الإسلامية، في مبحثها عن الرشيد، إلى أن حروبًا بلغت نهاية الشدة قد وقعت بين الرشيد والبزنطيين، وقالت: إن ولاة الرشيد عملوا منذ بداية عهده على تقوية الحصون التي على الحدود، وأنهم كانوا يقومون بغزوات في البقاع المعادية من غير أن يربحوا غنائم مستديمة، وأن الرشيد غزاهم بنفسه سنة ١٨١ﻫ (٧٩٧–٧٩٨م)، بيد أنه عجَّل بعودته، ثم شبت حرب في السنة التالية كالعادة، وإذ كانت الإمبراطورة إيرين كانت تعاني متاعب داخلية، فقد عجلت بالصلح على أن تدفع الجزية.

على أن هذا الصلح لم يدم إلا ريثما تبوَّأ الإمبراطور نيقفور أريكته سنة ١٨٦ﻫ/٨٠٢م؛ فقد بعث إلى الخليفة بكتاب مهين طلب فيه أن يُعيد إليه الجزية التي أُدِّيت من قبلُ، فلم يحفل الخليفة بشروط الصلح، فعادت الحروب.

وفي سنة ١٩٠ﻫ/٨٠٦م استولى هارون على «هِرَقْلة»، واضطر الإمبراطور إلى أن يدفع جزية جديدة عن نفسه وعن أسرته فوق الجزية العامة، وفي السنة التالية هزَم البزنطيون يزيد بن مقلد، وكانت أغلاط هرثمة معهم مُماثلةً لأغلاط «ابن مقلد».

ويقول بعض المؤرخين الغربيين: إن هارون كان على علاقة حسنة بشرلمان، وقد ذكر أن كليهما كان يبعث سفيرًا عند الآخر، على أنه لم يرد ذكر لذلك في المراجع العربية، وإنه ليُشكُّ كثيرًا في صحة هذه الرواية.

وأما علاقته بالأمويين في الأندلس، فلم يكن مرجوًّا أن تكون علاقة صفاء ومودة، فقد كان العباسيون يعدونهم خارجين على سلطانهم، ولا يرون في دولتهم نظيرًا يستحق أن يعيش وإياهم في سلام وهدوء.

وقد ظهرت أيام الرشيد دولة الأدراسة في المغرب الأقصى، وذلك أن إدريس بن عبد الله كان ممن هرب من وقعة «فخ» — وهو أخو يحيى بن عبد الله — فسار إلى مصر وشخص منها إلى بلاد المغرب الأقصى، حيث التفَّ حوله برابرة أوروبة، فأنشأ هناك أول خلافة للعلويين، وهي دولة الأدراسة.

وظهرت كذلك أيام الرشيد دولة الأغالبة في إفريقية، فإنه ولَّاها إبراهيم بن الأغلب التميمي ليجعل من مملكته حاجزًا منيعًا بين الخلافة العباسية والأدارسة الذين بالمغرب الأقصى، وكذلك بينه وبين الأندلسيين، وكانت توليته سنة أربع وثمانين ومائة، فعظُم أمره، وصار كملك مستقل، إلا أنه كان يخطب للرشيد.

(٣) التكلم عن البيعة

والآن نتحدث إليك عن أكبر أغلاط الرشيد، وأبعدها أثرًا في حياته وفي الدولة العباسية، بل في حياة المسلمين السياسية بوجه عام، وهي بيعته بولاية العهد الثلاثية لأبنائه: الأمين والمأمون والقاسم.

وقد قدمنا لك في الكتاب الأول رأينا في هذا النوع من احتياط الخلفاء لأنفسهم ولأبنائهم، وما كان له من الأثر السيئ في حياة القصور خاصة، وفي السياسة عامة، ولا سيما البيعة بولاية العهد لأكثر من واحد، فقد كان ذلك ينشئ بطانات مختلفة، ويُكوِّن أحزابًا لا تلتفُّ حول مبدأ أو فكرة، وإنما تلتف حول الأشخاص والمنافع التي تُنتظر منهم.

وهذه البطانات والأحزاب تتنافس في القصر، فتفسد على الخليفة والأمراء حياتهم الخاصة، وتقطع ما بينهم من صلات كان يجب أن تُرعى حرمتُها، كما أنها تتنافس خارج القصر، فتفسد على الدولة سياستها العامة فتصرفها عن مرافقها الداخلية، كما تصرفها عن الاحتياط لحماية الثغور والاحتفاظ بمهابتها الخارجية.

ومع أن هذا النوع من البيعة بولاية العهد الثنائية أو الثلاثية سُنَّة أُموية آتت ثمرها الخبيث، وجرَّت على الأمويين أنواع الوبال فمزقتهم وأضاعت ملكهم، كما قدمنا، وكان المعقول أن يستفيد العباسيون من هذا الدرس، ويُعرضوا عن سنة مُنكَرة في نفسها، وقد سنَّها أعداؤهم السياسيون، مع هذا كله تورط الرشيد فيما تورط فيه عبد الملك وخلفاء عبد الملك، وتعرضت الدولة العباسية لما تعرضت له الدولة الأموية، بل كان خطر هذه السنة على العرب أيام بني العباس أشد منه أيام بني أمية؛ ذلك أن سقوط الدولة الأموية قد نقل السلطان من أسرة إلى أسرة واحتُفظ به لقريش.

فأما أثر هذه السنة أيام بني العباس، فهو نقل السلطان الفعلي من العرب إلى الفرس ثم إلى الترك، وجعل الخلافة نوعًا من العبث والسخرية في أيدي المتغلبين من القواد والخدم والرقيق.

ومهما نلتمس الأسباب لتورط الرشيد في هذه السنة التي كان يجب أن يتجنبها، فلن نستطيع أن نهمل سببين أساسيين؛ أحدهما: تأثر القصر العباسي بسنن الملك الفارسي القديم وسياسته. والآخر: تأثر الخلفاء بما كان للنساء، حرائرهن وإمائهن، من سلطان ونفوذ.

فلولا هذان السببان لما تورط الرشيد في هذه السنة التي تورط فيها أبوه المهدي، وذاق هو غير قليل من ثمرها.

ستقول: ولكن الرشيد احتاط فأخذ على أبنائه العهود والمواثيق أن يفي بعضهم لبعض، ويبر بعضُهم ببعض. ولكن ما قيمة هذا الاحتياط أمام سطوة الملك وسلطانه ومطامع الإنسان التي لا حدَّ لها؟ وما قيمة هذه العهود والمواثيق وقد أثبت التاريخ في جل مراحله أنها لا تعتبر عهودًا ومواثيق إلا عند الضعفاء من الأمم والأفراد، أما الأقوياء وذوو السلطان والبطش فهي عندهم ليست بعهود ولا مواثيق، إنما هي «قصاصات ورق» لا أكثر ولا أقل، وقد يُفتي بأنها «قصاصات ورق» أولئك الذين وكدَّوها وشهدوا على صحتها، وتضامنوا في البر بها، والوفاء لأصحابها؟

وقد كان الخلفاء قبل الرشيد يحتاطون لكل بيعة فيها أخذٌ للعهود والمواثيق، ومع ذلك لم ينفع هذا الاحتياط أيام بني أمية ولا أيام بني العباس.

وإليك الآن أحاديث المؤرخين من العرب وغير العرب في هذا الموضوع:

لما لاحظ الفضل بن يحيى سنة خمس وسبعين ومائة أن جماعة من بني العباس قد مدوا أعناقهم إلى الخلافة بعد الرشيد؛ لأنه لم يكن له ولي عهد، أجمَع على البيعة لمحمد، ولما صار الفضل بن يحيى إلى خراسان فرَّق في أهلها أموالًا، وأعطى الجند أعطيات متتابعات، ثم أظهر البيعة لمحمد بن الرشيد، فبايع الناس له، وسمَّاه الأمين، وفي ذلك يقول النمري:

أمسى بمرو على التوفيق قد صفَقت
على يد الفضل أيدي العُجم والعرب
بيعة لولي العهد أحكمها
بالنصح منه وبالإشفاق والحدب
قد وكَّد الفضل عقدًا لا انتقاض له
لمصطفًى من بني العباس مُنتخب

ولما تناهى الخبر إلى الرشيد بذلك، وبايع له أهلُ المشرق بايع وكتب إلى الآفاق فبويع له في جميع الأمصار، فقال أبان اللاحقي في ذلك:

عزمتَ أمير المؤمنين على الرشد
برأى هدًى فالحمد لله ذي الحمد

ويقول لنا اليعقوبي في هذا الصدد: إن هارون بايع لابنه محمد بالعهد من بعده سنة ١٧٥ﻫ ومحمد ابن خمس سنين، وأعطى الناس على ذلك عطايا جمة، وأُخرِج محمد إلى القواد، فوقف على وسادة فحمد الله وصلَّى على نبيه، وقام عبد الصمد بن علي فقال: أيها الناس، لا يغرنكم صغر السن، فإنها الشجرة المباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء. وجعل الرجل من بني هاشم يقول في ذلك حتى انقضى المجلس، ونُثِرت عليهم الدراهم والدنانير وفأر المسك وبيض العنبر.

ويقول لنا الطبري في حوادث سنة اثنتين وثمانين ومائة: إن فيها كان انصراف الرشيد من مكة، ومسيره إلى الرقة، وبيعته بها لابنه عبد الله المأمون بعد ابنه محمد الأمين، وأخذ البيعة له على الجند بذلك بالرقة، وضمه إياه إلى جعفر بن يحيى، وأنه قد بويع له بمدينة السلام حين قدمها، وولاه أبوه خراسان وما يتصل بها إلى همذان، وسمَّاه المأمون. وقد قال في ذلك سلم بن عمرو الخاسر:

بايع هارون إمام الهدى
لذي الحجا والخلق الفاضل
المخلف المتلف أمواله
والضامن الأثقال للحامل
والعالم الناقد في علمه
والحاكم الفاضل والعادل
والراتق الفاتق حلف الهدى
والقائل الصادق والفاعل
لخير عباس إذا حصَّلوا
والمفضل المجدي على العائل
أبرهم برًّا وأَولَاهم
بالعُرف عند الحدث النازل
لمشبه المنصور في ملكه
إذا تدجَّت ظلمة الباطل
فتم بالمأمون نور الهدى
وانكشف الجهل عن الجاهل

وفي سنة تسع وثمانين ومائة بايع الرشيد لابنه القاسم بعد المأمون، وجعل أمر القاسم، في خلعه وإقراره، إلى عبد الله إن أفضت الخلافة إليه.

وأراد الرشيد أن يُوثِّق الأمر بين بنيه في ولاية العهد، حتى يسد دونهم باب الفتنة، فرأى أن خير وسيلة لذلك هي ما يحدثنا عنها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في حوادث سنة ست وثمانين ومائة إذ يقول: حج هارون ومحمد وعبد الله معه وقواده ووزراؤه وقضاته في سنة ١٨٦ﻫ، وخلف بالرقة إبراهيم بن عثمان بن نهيك العكي على الحرم والخزائن والأموال والعسكر، وأشخص القاسم ابنه إلى مَنْبِج، فأنزله إياها بمن ضم إليه من القواد والجند، فلما قضى مناسكه كتب لعبد الله المأمون ابنه كتابين جهد الفقهاء والقضاة آراءهم فيهما:

أحدهما: على محمد بما اشترط عليه من الوفاء بما فيه من تسليم ما ولي عبدُ الله من الأعمال وصيَّر إليه من الضياع والغلات والجواهر والأموال. والآخر: نسخة البيعة التي أخذها على الخاصة والعامة، والشروط لعبد الله على محمدٍ وعليهم، وجعَل الكتابين في البيت الحرام، وبعد أخذه البيعة على محمد، وإشهاده عليه بها الله وملائكته ومن كان في الكعبة معه من سائر ولده وأهل بيته ومواليه وقواده ووزرائه وكتابه وغيرهم، وكانت الشهادة بالبيعة والكتاب في البيت الحرام، وتقدَّم إلى الحجبة في حفظهما، ومنْع من أراد إخراجهما والذهاب بهما؛ فذكر عبد الله بن محمد ومحمد بن يزيد التميمي وإبراهيم الحجبي، أن الرشيد حضر وأحضر وجوه بني هاشم والقواد والفقهاء وأُدخِلوا البيت الحرام، وأمر بقراءة الكتاب على عبد الله ومحمد، وأشهد عليهما جماعة من حضر، ثم رأى أن يُعلَّق الكتاب في الكعبة، فلما رفع ليعلق وقع، فقيل: إن هذا الأمر سريع انتقاضه، قليل تمامه. وقد أثبتنا الكتابين لعظيم خطرهما التاريخي في باب المنثور في الكتاب الثاني من المجلد الثاني.

وبعد، فإن لعصر الرشيد مكانته وقدره، فقد ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية أيما ازدهار، وظهرت فيه آثار تحول المدنية في العصور التي سبقته، كما أثَّر هو في العصور التي تلته، ولقد صدق صاحب «النجوم الزاهرة» فيما رواه عن أبي علي صالح بن محمد الحافظ، قال: «اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره: وزراؤه البرامكة، وقاضيه أبو يوسف، وشاعره مروان بن أبي حفصة، ونديمه العباس بن محمد عم أبيه، وحاجبه الفضل بن الربيع أنبهُ الناس وأعظمهم، ومُغنِّيه إبراهيم الموصلي، وزوجته زبيدة بنت عمه جعفر.»

وإنا لنختم مبحثنا في حياة الرشيد وعصره بكلمة تبين وجهة نظر مؤرخ كبير المكانة في الشرقيات، وهو الأستاذ «ميور»، ونتقدم بملاحظة واحدة، وهي شدته على هارون الرشيد، وقد يكون الذي دفعه إلى ذلك تأثره بمرجعه العظيم الذي وضعه الأستاذ «ويل».

وقد اعترف «ميور» نفسه بأن «ويل» كان بالغًا في قسوته على هارون مبلغًا عظيمًا، على نقيض ما عهد فيه من الحيدة والهدوء في أحكامه، فقد اعتبره من الظلم في الذروة، ولم يكن الرشيد من الرداءة بمبلغ مَن سبقه ومَن أتى بعده. ويظهر أن الفاجعة البرمكية هي التي أعطته هذه الأسبقية التي لا يغبط عليها في حكاية الشرق وتاريخه.

وسنرى مع محاولة الأستاذ «ميور» الرد على الأستاذ «ويل» في حاشية كتابه، أن كتابته عن الرشيد مع حظها العظيم من المتانة والإنصاف لا تزال عليها غلالة من صرامة «ويل» وقواذع نقده.

نترجم لك رأي «ميور» لأنه يكاد يكون صورة صحيحة للرأي العلمي الأخير في الرشيد، فهو لا يعدو الرأي الذي أبداه الأستاذ ك. ف. «زتوستين»، في العدد الثاني والعشرين من دائرة المعارف الإسلامية، ونحن جد عالمين بخطر المراجع العديدة التي استند عليها «زتوستين» في رأيه في الرشيد. فلننقل لك الآن كلمة «ميور»؛ فهي مثل الأخرى إن لم تكن أوسع وأبلغ.

قال الأستاذ «ميور» في كتابه عن الخلافة: «إن مكانة هارون الرشيد وابنه المأمون في التاريخ لهى أسمى مكانة بلغها الخلفاء العباسيون، وإن هارون لقمين بأن يكون في الذروة مع الخِيَرة مع أفاضل ملوك أسرة بني أمية، لولا شائبة القساوة المنطوية على الختل التي وصمَت سيرته جمعاء.»

لقد كان الرشيد في قصوره محوطًا بضروب الرفاهية والرغد، وكان ملكًا في مكارمه وجوده، ومع ذلك قد ترك في أقبائه خزائن عامرة بلغت تسعمائة مليون جُمعت بوسائل العسف وعدم التدقيق، وإذا استثنينا ما ذكرناه؛ فإن إرادته كانت عادلة موفقة.

ولما كان الرشيد قد اعتاد منذ ميعة شبابه الحياة الحربية، فإنه كثيرًا ما شاطر جنده ميدان القتال، وقد كان من جراء انتصاراته العديدة، لا سيما على اليونان (الروم) أن طبع عصره بطابع المجد والصيت.

ولم يُظهر خليفة، من قبل أو بعد، ما أظهره الرشيد من الهمة والنشاط في مختلف حركاته، سواء أكانت في سبيل الحج أم الإدارة أم الحرب.

على أن أصل شهرة هذا الخليفة ومصدر صيته راجع إلى أن حكمه عجَّل بدخول عصر الآداب، فقد كان قصرُه المثابةَ التي يُهرع إليها الحكماء والعلماء من أنحاء العالم، وكانت سوق البلاغة والشعر والتاريخ والفقه والطب والموسيقى والفنون نافقة، إذ يقابلها الخليفة مقابلةَ مَن في سجيته النبل والكرم، كل ذلك مما آتى أكله وثمره الناضج في العصور الآتية.

لقد كان الرشيد يجيز العلماء في كل فنٍّ جائزات ملكية نبيلة، على أن الشعراء كانوا موضع كرمه الخاص، وهاك مثلًا ما أجاز به مروان بن أبي حفصة حين مدحه بمدحته فيه، فرفده الرشيد بكيس فيه خمسة آلاف دينار، وكساه خلعته تشريفًا له، وأمر له بعشرة من رقيق الروم، وحمله على برذون من خاصِّ مراكبه. ا.ﻫ.

(٤) الدولة البرمكية والنكبة البرمكية

صدق الفخري إذ يقول: إن دولة البرامكة كانت غُرة في جبهة الدهر، وتاجًا على مفرق العصر، ضُربت بمكارمها الأمثال، وشُدَّت إليها الرِّحال، ونِيطَت بها الآمال، وبذلت لها الدنيا أفلاذ أكبادها، ومنحتها أوفرَ إسعادها، فكان يحيى وبنوه كالنجوم زاهرةً، والبحور زاخرة، والسيول دافعة، والغيوث ماطرة، أسواق الآداب عندهم نافقة، ومراتب ذوي الحرمات عندهم عالية، والدنيا في أيامهم عامرة، وأُبَّهة المملكة ظاهرة، وهم ملجأ اللهيف، ومعتصَم الطريد، ولهم يقول أبو نواس:

سلام على الدنيا إذا ما فقدتُمُ
بني بُرمك من رايحين وغاد

ويؤخذ من المباحث التاريخية الحديثة للمستشرقين أن البرامكة هم أسرة فارسية أنتجب أول الوزراء الفرس للخلافة، وليست لفظة برمك باسمٍ لشخص، وإنما تدل على رتبة وراثية خاصة برئيس الكهان بمعبد «نوبهار» ببلخ.

وكانت البرامكة تملك الأراضي التابعة للمعبد، ويبلغ طولها ثمانية فراسخ، وعرضها أربعة، فكانت مساحتها أربعين وسبعمائة ميل مربع، ولم تزل هذه الممتلكات أو بعضها في حوزة البرامكة في الأيام التالية، ويقول ياقوت: إن قرية «روان» الكبيرة الغنية، وهي شرق بلخ، كانت في حوزة يحيى بن خالد.

ومعنى الاسم بالسنسكريتية: الدير الجديد، وكان هذا الدير عبارة عن دير بوذي، وقد وصف كذلك بوساطة حاج صيني اسمه «هوان شانج» في القرن السابع للمسيح، في كتاب اسمه «ذكريات على البقاع الشرقية»، وقد ترجمه إلى الفرنسية «سنت جوليان»، على أن هذالمعبد كان معروفًا لبعض الجغرافيين من العرب، أمثال: ابن الفقيه (انظر: طبعة چوچ، ص٣٢٢)؛ إذ قرر أن النوبهار كانت مخصصة لعبادة الأوثان لا النار. وإذا تركنا جانبًا بعض المبالغات في وصف ابن الفقيه، فإنا نجد وصفه مطابقًا للبوذية.

فلنلاحظ هذه العبادة لأقطاب من زعماء الفرس لعبوا دورًا هامًّا في التاريخ العباسي، ولنلاحظها جيدًا؛ فربما أفادتنا في إماطة اللثام قليلًا عن عبادات لفئات عديدة اعتُبرت زنادقة أو مانية أو ملحدين، ومهما كانت هذه الفئات موضع اضطهاد من خلفاء العصر؛ فإن من المبالغة الكتابية التي لا تُرضي العلم ولا التاريخ في شيء ألا يُحفل بها، أو لا يشار إليها إشارة طفيفة إذا لم يكن لدينا من المواد ما يسمح لنا بأن نُفرد لدراستها بابًا، كما حفل بها الخلفاء فأفردوا لها إدارة أسموا رئيسها «صاحب الزنادقة».

ولعل أول ذكْرٍ لبرمكيٍّ حفل به التاريخ واعتبره مؤسسًا لتلك الأسرة البرمكية التي نبغت في تلك الأيام الزاهية الزاهرة، والتي امتدت إلى أن انقضت في أيام الرشيد، ونظر إليه باعتباره جدَّ البرامكة هو: خالد بن برمك الذي استوزره السفاح بعد أبي سلمة الخلال وأبي الجهم.

كان خالد بن برمك من رجالات الدولة العباسية فاضلًا جليلًا كريمًا حازمًا يقظًا، استوزره السفاح وخفَّ على قلبه، وكان يسمى وزيرًا، وقيل: إن كل من استوزر بعد أبي سلمة كان يتجنَّب أن يسمى وزيرًا؛ تطيُّرًا مما جرى على أبي سلمة، ولقول من قال:

إن الوزير وزير آل محمد
أودى فمن يشناك كان وزيرًا

قالوا: فكان خالد بن برمك يعمل عمل الوزراء ولا يسمى وزيرًا … كان خالد عظيم المنزلة عند الخلفاء، قيل: إن السفاح قال له يومًا: يا خالد، ما رضيتَ حتى استخدمتني! ففزع خالد وقال: كيف يا أمير المؤمنين وأنا عبدك وخادمك؟! فضحك وقال: إن رَيْطة ابنتي تنام مع ابنتك في مكان واحد، فأقوم بالليل فأجدهما قد سرح الغطاء عنهما، فأرده عليهما. فقبَّل خالد يده وقال: مولًى يكتسب الأجر في عبده وأَمَته.

وكثر الوافدون على باب خالد بن برمك، ومدحه الشعراء، وانتجعه الناس، وكان الوافدون يسمون سُؤَّالًا، فقال خالد: إني أستقبح هذا الاسم لمثل هؤلاء وفيهم الأشراف والأكابر! فسماهم الزُّوار، وكان خالد أول من سمَّاهم بذلك، فقال له بعضهم: والله ما ندري أي أياديك عندنا أجل، أصلتنا أم تسميتنا؟

ولقد مدحه بشار بن برد فقال فيه:

لعمري لقد أجدى عليَّ ابنُ برمك
وما كل من كان الغِنَى عنده يُجدي
حلبت بشعري راحتيه فدرَّتا
سماحًا كما درَّ السحاب مع الرعد
إذا جئته للحمد أشرق وجهه
إليك وأعطاك الكرامة بالحمد
له نعم في القوم لا يستثيبها
جزاء وكيل التاجر المُد بالمد
مفيد ومِتلاف سبيل ثرائه
إذا ما غدا أو راح كالجزر والمد
أخالدُ إن الحمد يبقى لأهله
جمالًا ولا تبقى الكنوز على الكد
فأطعِم وكلْ من عارة مستردة
ولا تُبقها إنَّ العواري للرد

فأعطاه خالد ثلاثين ألف درهم، وكان قبل ذلك يعيطه في كل وفادة خمسة آلاف درهم، وأمر خالد أن يُكتب هذان البيتان الأخيران في صدر مجلسه الذي كان يجلس فيه، وقال ابنُه يحيى: آخر ما أوصاني به أبي العمل بهذين البيتين.

ولقد أشرنا في كلمتنا عن الهادي إلى مبلغ إخلاص يحيى بن خالد البرمكي للرشيد في أيام الهادي حينما شرع في خلع هارون من ولاية العهد، وإن الأخبار التي رواها الطبري في سنة سبعين ومائة ناطقة بولاء يحيى وصدق إخلاصه.

ويجدر بنا هنا أن نقتطف موقفين كمثلٍ لمواقف يحيى مع الهادي ذودًا عن الرشيد وحقوق الرشيد؛ فإنهما يعطياننا صورة من إخلاص آل برمك للرشيد ومبلغ ما رُوِّع به يحيى في سبيل الرشيد.

ذكر أبو حفص الكرماني أن محمد بن يحيى البرمكي حدثه قال: بعث الهادي إلى يحيى ليلًا، فأيس من نفسه وودع أهله وتحنط وجدد ثيابه ولم يشك في أنه يقتله، فلما أُدخِل عليه قال: يا يحيى، مالي ولك؟ قال: أنا عبدك، يا أمير المؤمنين، فما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعتُه، قال: فلم تدخل بيني وبين أخي تفسده عليَّ؟ قال: يا أمير المؤمنين، من أنا حتى أدخل بينكما، إنما صيرني المهدي معه، وأمرني بالقيام بأمره، فقمت بما أمرني به، ثم أمرتني بذلك فانتهيتُ إلى أمرك، قال: فما الذي صنع هارون؟ قال: ما صنع شيئًا ولا ذلك فيه ولا عنده، قال: فسكن غضبه. وقد كان هارون طاب نفسًا بالخلع فقال له يحيى: لا تفعل، فقال: أليس يترك لي الهنيء والمريء، فهما يسعانني وأعيش مع ابنة عمي؟ وكان هارون يجِدُ بأم جعفر وجدًا شديدًا، فقال له يحيى: وأين هذا من الخلافة؟ ولعلك ألا يُترك هذا في يدك حتى يخرج أجمع. ومنَعه من الإجابة.

وذكر الكرماني أيضًا عن خزيمة بن عبد الله قال: أمر الهادي بحبس يحيى بن خالد على ما أراده عليه من خلع الرشيد، فرفع إليه يحيى رقعة: إن عندي نصيحة، فدعا به، فقال: يا أمير المؤمنين، أخلني. فأخلاه، فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمرُ — أسأل الله ألا نَبلُغهُ وأن يقدِّمنا قبله — أتظن أن الناس يُسلمون الخلافة لجعفر وهو لم يبلغ الحُلم، ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم؟ قال: والله ما أظن ذلك، قال: يا أمير المؤمنين، أفتأمن أن يسمو إليها أهلُك وجِلَّتهم مثل فلان وفلان، ويطمع فيها غيرهم، فتخرج من ولد أبيك! فقال له: نبَّهتني يا يحيى. قال: وكان يقول: ما كلمت أحدًا من الخلفاء كان أعقل من موسى، قال: وقال له: لو أن هذا الأمر لم يُعقد لأخيك أما كان ينبغي أن تعقده له؟ فكيف بأن تحل عقده وقد عقده المهدي له؟ ولكن أرى أن تقر هذا الأمر يا أمير المؤمنين على حاله، فإذا بلغ جعفر وبلغ الله به أتيته بالرشيد فخلع نفسه وكان أول من يبايعه ويعطيه صفقة يده، فقال: فقبل الهادي قوله ورأيه، وأمر بإطلاقه.

ولما ولي الرشيد الخلافة قلد يحيى بن خالد الوزارة وقال له: قد قلدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وأمض الأمور على ما ترى. ودفع إليه خاتمه، ففي ذلك يقول إبراهيم الموصلي:

ألم تر أن الشمس كانت سقيمة
فلما ولي هارون أشرق نورها
بيمن أمين الله هارون ذي الندى
فهارون واليها ويحيى وزيرها

وليس في مقدورنا أن نصور شخصية يحيى بن خالد بن برمك بأحسن من إثباتنا رأيه في الأخلاقيات، فقد قيل له: أي الأشياء أقل؟ قال: قناعة ذي الهمة البعيدة بالعيش الدون، وصديقٌ كثيرُ الآفات قليلُ الإمتاع، وسكون النفس إلى المدح، وقيل له: ما الكرم؟ فقال: ملك في زي مسكين، وقيل له: ما الجود؟ فقال: عفو بعد قدرة، وقال مرة: إذا فتحت بينك وبين أحد بابًا من المعروف فاحذر أن تغلقه ولو بالكلمة الجميلة، وقال: «أحسن جبلة الولاة إصابة السياسة، ورأس إصابة السياسة العمل بطاعة الله، وفتح بابين للرعية؛ أحدهما: رأفة ورحمة وبذل وتحنُّن، والآخر: غلظة ومباعدة وإمساك ومنع.»

ويروي لنا «ياقوت الرومي» في «معجمه» عنه، أنه لما كان الفضل بن يحيى واليًا على خراسان، كتب صاحب البريد إلى الرشيد كتابًا يذكر فيه: أن الفضل تشاغل بالصيد واللذات عن النظر في أمور الرعية، فلما قرأة الرشيد رمى به ليحيى وقال له: يا أبت، اقرأ هذا الكتاب، واكتب إلى الفضل كتابًا يردعه عن مثل هذا. فمد يحيى يده إلى دواة الرشيد وكتب إلى ابنه على ظهر الكتاب الذي ورد من صاحب البريد:

حفظك الله، يا بني، وأمتع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره، فعاوِدْ ما هو أزينُ بك، فإنه مَن عاد إلى ما يزينُه لم يعرِفه أهل زمانه إلا به، والسلام.

وكتب تحته هذه الأبيات:
انصَبْ نهارًا في طِلاب العلا
واصبر على فقد لقاء الحبيب
حتى إذا الليل بدا مُقبلًا
وغاب فيه عنك وجهُ الرقيب
فبادر الليلَ بما تشتهي
فإنما الليلُ نهارُ الأريب
كم من فتًى تحسبه ناسكًا
يستقبل الليل بأمر عجيب
ألقى عليه الليل أستاره
فبات في لهو وعيش خصيب
ولذة الأحمق مكشوفةٌ
يسعى بها كلُّ عدو مريب

هذا هو يحيى الذي يقول عنه المأمون: «لم يكن كيحيى بن خالد وكولده أحدٌ في البلاغة والكفاية والجود والشجاعة»، وهذا هو يحيى الذي كان يُجري على سفيان الثوري رضي الله عنه ألف درهم في كل شهر، فكان إذا صلى سفيان يقول في سجوده: «اللهُ إن يحيى كفاني أمرَ دنياي، فاكْفِه أمر آخرته.»

هذا وإذا علمت أن أُمَّ الفضل بن يحيى، وهي زينب بنت منير، كانت ظئرًا للرشيد فأرضعته بلبان الفضل، وأرضعت الخيزرانُ، والدة الرشيد، الفضلَ بلبان الرشيد، استطعت أن تُقدِّر إلى أي مدًى كانت علاقة الرشيد بآل برمك وهو لم يَدرَج في مهده، ولم يفرق بين أمسه ويومه.

ونجد في أخبار سنة ست وسبعين ومائة، أن الرشيد ولَّى الفضل بن يحيى كُور الجبال وطبرستان ودنباوند وقومس وأرمينية وأذربيجان، وندَبه لحرب يحيى بن عبد الله الطالبي حين خروجه بالديلم، فوفِّق الفضل لأخذ أمان له من الرشيد، وأصلح أيما إصلاح، ونجح النجاح كله في غزواته وحروبه، حتى قال فيه أبو ثمامة الخطيب:

للفضل يوم الطالقان وقبله
يوم أناخ به على خاقان
ما مثل يوميه اللذين تواليا
في غزوتين توالتا يومان
سد الثغور وردَّ أُلفة هاشم
بعد الشتات فشعبها مُتدان
عصمت حكومته جماعة هاشم
من أن يُجرِّد بينها سيفان
تلك الحكومة لا التي عن لبسها
عظم النبا وتفرق الحكمان

فأعطاه الفضلُ مائة ألف درهم وخلع عليه.

ونجد في أخبار السنة نفسها، أن الفتنة هاجت بالشام بسبب العصبية التي بين النزارية واليمانية، فولَّى الرشيد موسى بن يحيى بن خالد الشام، فهرع إليها موسى وأقام بها حتى أصلح بين أهلها، وسكنت الفتنة، واستقام أمرها، فمدحه الشعراء، ومن قول بعضهم فيه:

قد هاجت الشام هيجًا
يُشيب رأس وليده
فصبَّ موسى عليها
بخيله وجنوده
فدانت الشام لمَّا
أتى نسيجُ وحيده
هو الجواد الذي بذْ
ذَ كلَّ جُود بجوده
أعداه جودُ أبيه
يحيى وجود جدوده
فجاد موسى بن يحيى
بطارف وتليده
ونال موسى ذُرَى المجـ
ـد وهو حشو مهوده
خصصته بمديحي
منثوره وقصيده
من البرامك عُودٌ
له فأكرم بعُوده
حَوَوا على الشعر طُرًّا
خفيفه ومديده

وقد مدحه بمثل ذلك إسحاق بن حسان الخريمي.

ويقول الطبري في أخبار سنة ثمان وسبعين ومائة: إن الرشيد فوَّض أموره كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك. وقد ذكر فيها شخوص الفضل بن يحيى إلى خراسان واليًا عليها، فأحسن السيرة بها، وبنى بها المساجد والرباطات، وغزا ما وراء النهر، فخرج إليه خاراخره ملك أشروسنة، وكان ممتنعًا.

وقد مدحه مروان بن أبي حفصة وغيره بقصائد عدة، وقد ذكر محمد بن العباس أنه سمع مروان يقول: إنه أصاب في قدمته تلك على الفضل سبعمائة ألف درهم.

وقد مدحه سلم الخاسر فقال:

وكيف نخاف من بؤس بدار
تكنفها البرامكة البحور
وقوم منهم الفضل بن يحيى
نفير ما يوازنه نفير
له يومان؛ يوم ندًى وبأس
كأن الدهر بينهما أسير
إذا ما البرمكي غدا ابن عشر
فهِمَّتُه وزير أو أمير

ولننظر إلى مكانة الفضل وآل برمك من الرشيد، فإن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري يحدثنا أنه لما قدم الفضل بن يحيى من خراسان؛ خرج الرشيد إلى بستان أبي جعفر يستقبله، وتلقاه بنو هاشم والناس من القواد والكتاب والأشراف، فجعل يصل الرجل بألف الألف وخمسمائة الألف. ومدحه مروان بن أبي حفصة فقال:

حمدنا الذي أدَّى ابن يحيى فأصبحت
بمقدمه تجري لنا الطير أسعدا
وما هجعت حتى رأته عيوننا
وما زلن، حتى آب، بالدمع حُشَّدا
نفى عن خُراسان العدوَّ كما نفى
ضحى الصبح جلباب الدجَى فتعرَّدا
لقد راع من أمسى بمرو مسيره
إلينا وقالوا شعبنا قد تبددا
على حين ألقى قُفْل كل ظلامة
وأطلق بالعفو الأسير المُقيَّدا
وأفشى بلا منٍّ مع العدل فيهم
أيادي عُرف باقيات وعُوَّدا
فأذهب رَوْعات المخاوف عنهم
وأصدَر باغي الأمن فيهم وأوردا
وأجدَى على الأيتام فيهم بعُرفه
فكان من الآباء أحنَى وأعوَدا
إذا الناس راموا غاية الفضل في الندى
وفي البأس ألفوها من النجم أبعدا
سما صاعدًا بالفضل يحيى وخالدٌ
إلى كل أمر كان أسنَى وأمجدا
يلين لمن أعطَى الخليفة طاعة
ويُسقى دمَ العاصي الحُسام المهندا
وشدَّ القُوى من بيعة المصطفى الذي
على فضله عهد الخليفة قلدا
سميِّ النبي الفاتح الحاتم الذي
به الله أعطى كل خير وسدَّدا
أبحت جبال الكابُليَّ ولم تدع
بهن لنيران الضلالة موقدا
فأطلعتها خيلًا وطئن جموعه
قتيلًا ومأسورًا وفَلًّا مُشرَّدًا
وعادت على ابن البرم نُعماك بعدما
تحوَّب مخذولًا يرى الموت مُفردًا
وفي أخبار سنة ثمانين ومائة هاجت العصبية بالشام، وتفاقم أمرها، واغتمَّ الرشيد بذلك، فعقد لجعفر بن يحيى على الشام وقال له: إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر: بل أقيك بنفسي. وشخص إليهم جعفر في جلة القواد والكُراع والسلاح، فأصلح بينهم، وقتل زواقيلهم١ والمتلصصة منهم، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة، وأطفأ تلك الثائرة. وقد مدحه منصور النمري بقصيدة مطلعها:
لقد أُوقدت بالشام نيران فتنة
فهذا أوان الشام تخمد نارها
إذا جاش موج البحر من آل برمك
عليها خبت شُهبانها وشرارها

ولما عاد جعفر مُوفقًا من سفرته هذه وقد استخلف على الشام مكانه عيسى بن العكي، دخل على الرشيد فزاده إكرامًا وإجلالًا.

وإنا لننقل لك هنا ما قاله جعفر للرشيد حين مثَل بين يديه؛ لأنه يُعتبر أثرًا قيِّمًا من ناحية تحليل نفسية الطرفين، ولروعته وبلاغته في أدب العصر، ولأنه في الوقت نفسه بمثابة نص تاريخي للعصر الذي ندرسه؛ قال الطبري: لما دخل جعفر على الرشيد قبَّلَ يديه ورجليه، ثم مَثَلَ بين يديه فقال: الحمد لله، يا أمير المؤمنين، الذي آنس وحشتي، وأجاب دعوتي، ورحم تضرعي، وأنسأ في أجلي حتى أراني وجه سيدي، وأكرمني بقربه، وامتن عليَّ بتقبيل يده، وردَّني إلى خدمته، فوالله إن كنت لأذكر غيبتي عنه ومخرجي، والمقادير التي أزعجتني، فأعلم أنها كانت بمعاصٍ لحقتني، وخطايا أحاطت بي، ولو طال مقامي عنك يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك، لخفتُ أن يذهب عقلي؛ إشفاقًا على قربك، وأسفًا على فراقك، وأن يُعجل بي عن إذنك الاشتياق إلى رؤيتك، والحمد لله الذي عصمني في حال الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرفني الإجابة، ومسكني بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية، فلم أشخص إلا عن رأيك، ولم أقدُم إلا عن إذنك وأمرك، ولم يخترمني أجلٌ دونك، والله يا أمير المؤمنين، فلا أعظم من اليمين بالله، لقد عاينتُ، فلو تعرض لي الدنيا كلها، لاخترت عليها قربك، ولما رأيتها عوضًا من المقام معك، ثم قال له بعقب هذا الكلام في هذا المقام: إن الله، يا أمير المؤمنين، لم يزل يُبليك في خلافتك بقدر ما يعلم من نيتك، ويُريك في رعيتك غاية أمنيتك، فيصلح لك جماعتهم، ويجمع ألفتهم، ويلم شعثهم، حفظًا لك فيهم، ورحمة لهم، وإنما هذا للتمسك بطاعتك، والاعتصام بحبل مرضاتك. والله المحمود على ذلك، وهو مستحقه.

وفارقت، يا أمير المؤمنين، أهل كور الشام وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فرط من معصيتهم لك، متمسكون بحبلك، نازلون على حكمك، طالبون لعفوك، واثقون بحلمك، مُؤمِّلون فضلك، آمنون بادرتك، حالهم في ائتلافهم كحالهم كانتْ في اختلافهم، وحالهم في أُلفتهم كحالهم كانت في امتناعهم. وعفوُ أمير المؤمنين عنهم، وتغمُّده لهم سابق لمعذرتهم، وصلةُ أمير المؤمنين لهم وعطفه عليهم مُتقدِّم عنده لمسألتهم، وايم الله، يا أمير المؤمنين، لئن كنت قد شخصت عنهم وقد أخمد الله شرارهم، وأطفأ نارهم، ونفى مُرَّاقهم، وأصلح دهماءهم، وأولاني الجميل فيهم، ورزقني الانتصار منهم، فما ذلك كله إلا ببركتك ويُمنك ورِيحِك، ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة، وتخوفهم منك، ورجائهم لك. والله، يا أمير المؤمنين، ما تقدمت إليهم إلا بوصيتك، وما عاملتهم إلا بأمرك، ولا سرتُ فيهم إلا على حدِّ ما مثَّلته لي ورسمته، ووقفتني عليه، والله ما انقادوا إلا لدعوتك وتوحُّد الله بالصنع لك، وتخوفهم من سطوتك، وما كان الذي كان مني، وإن كنت بذلتُ جهدي وبلغت مجهودي، قاضيًا ببعض حقك عليَّ، بل ما ازدادت نعمتك عليَّ عظمًا إلا ازددت عن شكرك عجزًا وضعفًا، وما خلق الله أحدًا من رعيتك أبعد من أن يُطمِع نفسه في قضاء حقك مني، وما ذلك إلا أن أكون باذلًا مهجتي في طاعتك وكل ما يقرب إلى موافقتك، ولكني أعرف من أياديك عندي ما لا أعرف مثلها عند غيري، فكيف بشكري وقد أصبحت واحد أهل دهري فيما صنعته فيَّ وبي؟! أم كيف بشكري وإنما أقوى على شكرك بإكرامك إياي؟! وكيف بشكري ولو جعل الله شكري في إحصاء ما أوليتني لم يأت على ذلك عدي؟! وكيف بشكري وأنت كهفي دون كل كهف لي؟! أو كيف بشكري وأنت لا ترضى لي ما أرضاه لي؟! وكيف بشكري وأنت تجدد من نعمتك عندي ما يستغرق كل ما سلف عندك لي؟! أم كيف بشكري وأنت تنسيني ما تقدم من إحسانك بما تجدده لي؟! أم كيف بشكري وأنت تُقدِّمني بطولك على جميع أكفائي؟! أم كيف بشكري وأنت وليي؟! أم كيف بشكري وأنت المُكرم لي؟! وأنا أسأل الله — الذي رزقني ذلك منك من غير استحقاق له؛ إذ كان الشكر مقصورًا عن تأدية بعضه، بل دون شقص من عشر عشيره — أن يتولى مكافأتك عني بما هو أوسع له، وأقدر عليه، وأن يقضي عني حقك وجليل مِنَّتك، فإن ذلك بيده وهو القادر عليه.

وفي أخبار سنة ثمانين ومائة نفسها ولَّى الرشيد جعفرَ بن يحيى الحرس، وهكذا تجد في أخبار كل سنة نبأ عن آل برمك، وتمداحًا لآل برمك، وأثرًا جليلًا في خدمة الدولة من آل برمك، ومكانة سامية تبوَّأها آل برمك من الرشيد.

وإنا لا نرى ندحة من إيراد واقعة حالٍ رواها الفخري بين جعفر بن يحيى البرمكي وعبد الملك بن صالح الذي سعى به كاتبه قمامةُ وابنُه عبدُ الرحمن عند الرشيد بتهمة طلبه الخلافة لنفسه، حتى حبسه الرشيد عند الفضل بن الربيع — وهو منافس لآل برمك — وكثيرًا ما سعى الساعون بين صالح والرشيد. فإذا ما تعرض البرمكيون بالخير لرجل من كبار رجالات الدولة المتهمين بالتطلع إلى الخلافة، وإذا ما نجح البرمكيون في إيصال الخير لهم، وفي إرضاء قلب الرشيد عليهم، كان في ذلك أصدق دليل على مكانتهم الرفيعة من الرشيد، فما بالك إذا ما وصلوا إلى أن يبني أحد أولاد صالح على إحدى بنات الرشيد، وإذا ما اقتطعوا له الولايات ورفَدوه بأجزل الأموال؟!

على أنا نترك الكلمة لابن طباطبا ليقص عليك ما يرويه فيما نحن في صدده، قيل: إن جعفر بن يحيى البرمكي جلس يومًا للشرب وأحبَّ الخلوة، فأحضر ندماءه الذين يأنس بهم، وجلس معهم وقد هُيِّئ المجلس ولبسوا الثياب المُصبَّغة، وكانوا إذا جلسوا في مجلس الشراب واللهو لبسوا الثياب الحُمر والصُّفر والخُضر، ثم إن جعفر بن يحيى تقدم إلى الحاجب ألا يأذن لأحد من خلق الله تعالى سوى رجل من الندماء كان قد تأخر عنهم، اسمه عبد الملك بن صالح، ثم جلسوا يشربون ودارت الكاسات وخفقت العيدان — وكان رجل من أقارب الخليفة يقال له: عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان شديد الوقار والدين والحشمة، وكان الرشيد قد التمس منه أن ينادمه ويشرب معه، وبذَل له على ذلك أموالًا جليلة فلم يفعل — فاتفق أن عبد الملك بن صالح حضر إلى باب جعفر بن يحيى ليخاطبه في حوائج له، فظن الحاجب أنه هو عبد الملك بن صالح الذي تقدم جعفر بن يحيى بالإذن له وألا يدخل غيره، فأذِن الحاجب له، فدخل عبد الملك بن صالح العباسي على جعفر بن يحيى، فلما رآه جعفر كاد عقله يذهب من الحياء، وفطن أن القضية قد اشتبهت على الحاجب بطريق اشتباه الاسم، وفطن عبد الملك بن صالح أيضًا للقصة، وظهر له الخجل في وجه جعفر بن يحيى، فانبسط عبد الملك وقال: لا بأس عليكم، أحضروا لنا من هذه الثياب المُصبَّغة شيئًا، فأُحضِر له قميص مصبوغ، فلبسه وجلس يباسط جعفر بن يحيى ويمازحه، وقال: اسقونا من شرابكم. فسقوه رطلًا، وقال: ارفقوا بنا؛ فليس لنا عادة بهذا. ثم باسطهم ومازحهم، وما زال حتى انبسط جعفر بن يحيى وزال انقباضه وحياؤه، ففرح جعفر بذلك فرحًا شديدًا وقال له: ما حاجتك؟ قال: جئت، أصلحك الله، في ثلاث حوائج أريد أن تخاطب الخليفة فيها: أولاها: أن عليَّ دينًا مبلغه ألف ألف درهم أريد قضاءه. وثانيتها: أريد ولاية لابني يشرُف بها قدره. وثالثتها: أريد أن تزوج ولدي بابنة الخليفة؛ فإنها بنت عمه وهو كفء لها.

فقال له جعفر بن يحيى: قد قضى الله هذه الحوائج الثلاث؛ أما المال ففي هذه الساعة يُحمل إلى منزلك، وأما الولاية فقد ولَّيتُ ابنَك مصر، وأما الزواج فقد زوجته فلانة ابنة مولانا أمير المؤمنين على صداق مبلغه كذا وكذا، فانصرِفْ في أمان الله. فراح عبد الملك إلى منزله فرأى المال قد سبقه، ولما كان من الغد، حضر جعفر عند الرشيد وعرَّفه ما جرى، وأنه قد ولَّاه مصر، وزوَّجه ابنته، فعجب الرشيد من ذلك وأمضى العقد والولاية، فما خرج جعفر من دار الرشيد حتى كُتب له التقليد بمصر، وأحضر القضاة والشهود وعقد العقد.

أرأيت كيف لم ينقض الرشيد ما أبرمه جعفر في مسألة خطيرة الخطر كله، لأنها تتعلق بكرامة الرشيد وأسرة الرشيد وشئون الرشيد الخاصة؟

أليس في ذلك ما يقطع برفيع مكانة القوم، وكبير قدرهم، وسامي منزلتهم عند الرشيد وفي الدولة التي هم مفزع رجالاتها، وموئل زعمائها؟

وأرجو ألا يفوتك في المثل المتقدم ما جاء فيه خاصًا بالملابس؛ فإنه قد يعطيك فكرة ما عن تخصص بعضها للسهرات والردهات والمنادمات مما لا يختلف عن نظام اليوم من «ردنجوت» و«سموكنج» و«فراك» إلى غير ذلك مما يدل على مبلغ الثروة، واستفحال أمر المدنية عند القوم في تلك الأيام الخاليات؛ فتأمل …!

•••

ربما تطلب إليَّ مثالًا على جُودهم وتعلق الناس بهم، فأبلغك، أرشدك الله، أن كُتب الأدب مُتْرعةٌ بالمئات من ذلك، بلا مبالغة ولا غلو ولا تهويل ولا إغراق، وسنترك الكلمة في هذا الباب لمُعاصرينِ؛ أحدهما: إسحاق الموصلي، والآخر: الإتليدي فيما يرويه من حديث جرى بين المأمون والمنذر بن المغيرة. وإنا نكتفي بإيراد هذين المثلين للإفصاح عن جود البرامكة وبيان ما جبلت عليه نفوسهم من المروءة وبُعد الهمة وحب الخير.

أما مسألة إسحاق الموصلي، فتفصيل الخبر فيها أن الفضل بن الربيع دعا أحمد بن يحيى المكي وعلُّويَه ومخارقًا للاجتماع عنده — وذلك أيام المأمون بعد رجوعه ورضاه عنه — إلا أن حالة الفضل كانت ناقصة مُتضعضعة، فلما اجتمعوا عنده كتب إلى إسحاق الموصلي يسأله أن يصير إليه، ويُعلمه الحال في اجتماعهم عنده، فكتب إسحاق إليهم بحضوره، ولكن جاءهم متأخرًا، وكان علُّويه يغني فأخطأ، فقال له إسحاق: أخطأت. فغضب علُّويه وعاتبه بكلام طويل، ومنه قوله له: إنه من صنيعة البرامكة، فقال إسحاق: أما البرامكة وملازمتي لهم فأشهر من أن أجحده، وإني لحقيق فيه بالمعذرة، وأحْرى أن أشكرهم على صنيعهم، وبأن أذيعه وأنشره؛ وذلك والله أقلُّ ما يستحقونه مني، ثم أقبل على الفضل وقد غاظه مدحه لهم، فقال: أتسمع مني شيئًا أخبرك به مما فعلوه، وليس هو بكبير في صنائعهم عندي ولا عند أبي قبلي؟ فإن وجدت لي عذرًا وإلَّا فَلُمْ؛ كنتُ في ابتداء أمري نازلًا مع أبي في داره، فكان لا يزال يجري بين غلماني وغلمانه وجواري وجواريه الخصومة، كما يجري بين هذه الطبقات، فيشكونهم إليه فأتبين الضجر والتنكر في وجهه، فاستأجرت دارًا بقربه وانتقلت إليها أنا وغلماني وجواري، وكانت دارًا واسعة، فلم أرض ما معي من الآلة لها، ولا لمن يدخل إليَّ من إخواني أن يروا مثله عندي، ففكرت في ذلك وكيف أصنع، وزاد فكري حتى خطر بقلبي قبح الأُحدُوثة من نزول مثلي في دار بأجرة، وأني لا آمن في وقتٍ أن يُستأذَن عليَّ وعندي مَن أحتشمه ولا يعلم حالي، فيقال: صاحب دارك، أو يُوجِّه في وقت فيطلب أجرة الدار وعندي مَن أحتشمه، فضاق بذلك صدري ضيقًا شديدًا حتى جاوز الحد، فأمرت غلامي بأن يُسرج لي حمارًا كان عندي لأمضي إلى الصحراء أتفرَّج فيها مما دخل على قلبي، فأسرجه وركبتُ برداء ونعل، فأفضى بي المسير وأنا مفكر لا أميز الطريق التي أسلك فيها حتى هجم بي على باب يحيى بن خالد، فثواثب غلمانه إليَّ وقالوا: أين هذا الطريق؟ فقلت: إلى الوزير. فدخلوا فاستأذنوا لي، وخرج الحاجب فأمرني بالدخول، وبقيت خجلًا قد وقعتُ في أمرين فاضحين: إن دخلتُ إليه برداء ونعل وأعلمته أني قصدته في تلك الحال كان سُوء أدب، وإن قلتُ له: كنت مجتازًا، ولم أقصدك، فجعلتك طريقًا؛ كان قبيحًا. ثم عزمت فدخلت، فلما رآني تبسم وقال: ما هذا الزي يا أبا محمد؟ احتبسنا لك بالبر والقصد والتفقد، ثم علمنا أنك جعلتنا طريقًا، فقلت: لا والله يا سيدي، ولكني أصدقك، قال: هات، فأخبرته القصة من أولها إلى آخرها، فقال: هذا حق مُستوٍ، أفهذا شغل قلبك؟

قلت: إي والله، وزاد فقال: «لا تشغل قلبك بهذا. يا غلام، ردُّوا حماره، وهاتوا له خلعة.» فجاءوني بخلعة تامة من ثيابه فلبستها، ودعا بالطعام فأكلت، ووضع النبيذ فشربت وشرب فغنيته، ودعا في وسط ذلك بدواة ورقعة، وكتب أربع رقاع ظننت بعضها توقيعًا لي بجائزة، فإذا هو قد دعا بعض وكلائه فدفع إليه الرقاع وسارَّه بشيء، فزاد طمعي في الجائزة، ومضى الرجل وجلسنا نشرب وأنا أنتظر شيئًا فلا أراه إلى العتمة، ثم اتكأ يحيى فنام، فقمت وأنا منكسر خائب، فخرجتُ وقُدِّم لي حماري، فلما تجاوزتُ الدار قال لي غلامي: إلى أين تمضي؟ فقلت: إلى البيت، قال: قد والله بيعت دارُك وأشهد على صاحبها، وابتيع الدرب كله ووزن ثمنه، والمشتري جالس على بابك ينتظرك ليعرِّفك، وأظنه اشترى ذلك للسلطان، لأني رأيت الأمر في استعجاله واستحثاثه أمرًا سلطانيًّا، فوقعتُ من ذلك فيما لم يكن في حسابي، وجئت وأنا لا أدري ما أعمل، فلما نزلت على باب داري إذا أنا بالوكيل الذي سارَّه يحيى قد قام إليَّ، فقال لي: ادخل، أيدك الله، دارك حتى أدخل إلى مخاطبتك في أمر أحتاج إليك فيه، فطابت نفسي بذلك، ودخلت ودخل إليَّ فأقرأني توقيع يحيى: يُطلَق لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يُبتاعُ له بها داره وجميع ما يجاورها ويلاصقها.

والتوقيع الثاني إلى ابنه الفضل: قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها داره، فأطلق إليه مثلها لينفقها على إصلاح الدار كما يريد، وبنائها على ما يشتهي.

والتوقيع الثالث إلى جعفر: قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها منزل يسكنه، وأمر له أخوك بدفع ألف درهم ينفقها على بنائها ومرمتها على ما يريد، فأطلق له أنت مائة ألف درهم يبتاع بها فرشًا لمنزله.

والتوقيع الرابع إلى محمد: قد أمرت لأبي محمد إسحاق أنا وأخواك بثلاثمائة ألف درهم لمنزل يبتاعه، ونفقة ينفقها عليه، وفرش يبتذله، فمُرْ له أنت بمائة ألف يصرفها في سائر نفقته.

وقال الوكيل: قد حملت المال واشتريت كل شيء جاورك بسبعين ألف درهم، وهذه كتب الابتياعات باسمي، والإقرار لك، وهذا المال بورك لك فيه فاقبضه. فقبضته وأصبحت أحسن حالًا من أبي في منزلي وفرشي وآلتي، ولا والله ما هذا بأكثر شيء فعلوه لي، أفأُلام على شكر هؤلاء؟! فبكى الفضل بن الربيع وكل من حضره وقالوا: لا والله لا تلام على شكر هؤلاء.

أرأيت إلى أي مدًى بلغت مكانة البرامكة من رجالات العصر وأدبائه حتى تملكوا من القلوب أعنَّتها، ومن النفوس أزمَّتها؟ وكيف استحوذوا على السُّويداء والمهج؟ ولِمَ لهجت الألسنة بتمداحهم والإشادة بذكرهم؟

أما حديث المأمون والمغيرة بن المنذر الذي رواه لنا الإتليدي، فهاكه بحذافيره: قال خادم المأمون: طلبني أمير المؤمنين ليلة وقد مضى من الليل ثلثه، فقال لي: خذ معك فلانًا وفلانًا — سماهما لي؛ وأحدهما: علي بن محمد، والآخر دينار الخادم — واذهب مسرعًا لما أقول لك، فإنه بلغني أن شيخًا يحضر ليلًا إلى آثار دور البرامكة وينشد شعرًا، ويذكرهم ذكرًا كثيرًا، ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف، فامضِ أنت وعلي ودينار حتى تردوا تلك الخرابات، فاستتروا خلف بعض الجُدر، فإذا رأيتم الشيخ قد جاء وبكى وندب وأنشد أبياتًا فأتوني به، قال: فأخذتهما ومضينا حتى أتينا الخرابات، فإذا نحن بغلام قد أتي ومعه بساط وكرسي حديد، وإذا شيخ قد أتى وله جمال، وعليه مهابة ولطف، فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب ويقول هذه الأبيات:

ولما رأيت السيف جندل جعفرًا
ونادى منادٍ للخليفة في يحيى
بكيتُ على الدنيا وزاد تأسفي
عليهم وقلت الآن لا تنفع الدنيا

مع أبيات أطالها، فلما فرغ قبضنا عليه وقلنا له: أجب أمير المؤمنين، ففزع فزعًا شديدًا وقال: دعوني حتى أوصي بوصية؛ فإني لا أوقنُ بعدها بحياة. ثم تقدَّم إلى بعض الدكاكين واستفتح وأخذ ورقة وكتب فيها وصية وسلَّمها إلى غلامه، ثم سِرنا فلما مثَل بين يدي أمير المؤمنين قال: مَن أنت؟ وبما استوجبت منك البرامكة ما تفعله في خرائب دورهم؟ قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن للبرامكة أيادي خضرة عندي، أفتأذن لي أن أُحدِّثك بحالي معهم؟ قال: قل، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا المنذر بن المغيرة من أولاد الملوك، وقد زالت عني نعمتي، كما تزول عن الرجال، فلما ركبني الدينُ واحتجت إلى بيع ما على رأسي ورءوس أهلي، وبيتي الذي ولدت فيه؛ أشاروا عليَّ بالخروج إلى البرامكة، فخرجت من دمشق ومعي ثلاثون رجلًا ونيِّف من أهلي وولدي، وليس معنا ما يباع ولا ما يُوهب، حتى دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد، فدعوت ببعض ثياب كنت أعددتها لأستتر بها، فلبستها وخرجت وتركتهم جياعًا لا شيء عندهم، ودخلت شوارع بغداد سائلًا عن البرامكة، فإذا أنا بمسجد مزخرف وفي جانبه شيخ بأحسن زيٍّ وزينة، وعلى الباب خادمان، وفي الجامع جماعة جلوس، فطمعت في القوم ودخلت المسجد وجلست بين أيديهم وأنا أقدم رجلًا وأؤخر أخرى، والعرق يسيل مني؛ لأنها لم تكن صناعتي، وإذا الخادم قد أقبل ودعا القوم فقاموا وأنا معهم، فدخلوا دار يحيى بن خالد فدخلت معهم، وإذا يحيى جالس على دكة له وسط بستان، فسلمنا وهو يعدنا مائة وواحدًا، وبين يديه عشرة من ولده، وإذا بمائة واثني عشر خادمًا قد أقبلوا ومع كل خادم صينية من فضة على كل صينية ألف دينار، فوضعوا بين يدي كل رجل صينيته، فرأيت القاضي والمشايخ يضعون الدنانير في أكمامهم، ويجعلون الصواني تحت آباطهم، ويقوم الأول فالأول، حتى بقيت وحدي لا أجسر على أخذ الصينية، فغمزني الخادم فجسرت وأخذتها، وجعلت الذهب في كمي والصينية في يدي، وقمتُ وجعلتُ أتلفت ورائي مخافة أن أمنع من الذهاب، فوصلت وأنا كذلك إلى صحن الدار ويحيى يلاحظني، فقال للخادم: ائتني بهذا الرجل. فأتاه بي، فقال: مالي أراك تتلفت يمينًا وشمالًا؟ فقصصت عليه قصتي، فقال للخادم: ائتني بولدي موسى. فأتاه به، فقال: يا بني، هذا رجل غريب؛ فخذه إليك، واحفظه بنفسك ونعمتك. فقبض موسى ولده على يدي وأدخلني إلى دار من دُوره، فأكرمني غاية الإكرام، وأقمت عنده يومي وليلتي في ألذ عيش وأتم سرور، فلما أصبح دعا بأخيه العباس وقال له: الوزير أمرني بالعطف على هذا الفتى، وقد علمت اشتغالي في بيت أمير المؤمنين، فاقبضه إليك وأكرمه، ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام، ثم لما كان من الغد تسلمني أخوه أحمد، ثم لم أزل في أيدي القوم يتبادلونني مدة عشرة أيام لا أعرف خبر عيالي وصبياني؛ أفي الأموات هم أم في الأحياء؟ فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم ومعه جماعة من الخدم فقالوا: قم فاخرج إلى عيالك بسلام، فقلت: وا ويلاه! سُلبت الدنانير والصينية وأخرُج على هذه الحالة! إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فرفع الستر الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع، فلما رفع الخادمُ الستر الأخير قال لي: مهما كان لك من الحوائج فارفعها إليَّ، فإني مأمور بقضاء جميع ما تأمرني به، فلما رُفع الستر الأخير رأيت حجرة كالشمس حُسنًا ونورًا، واستقبلني منها رائحة الند والعود ونفحات المسك، وإذا بصبياني وعيالي يتقلبون في الحرير والديباج، وحمل إليَّ مائة ألف درهم وعشرة آلاف دينار، ومنشور بضيعتين وتلك الصينية التي كانت أخذتها بما فيها من الدنانير والبنادق. وأقمت، يا أمير المؤمنين، مع البرامكة في دورهم ثلاثَ عشرة سنة لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أمْ رجل غريب، فلما جاءتهم البلية، ونزل بهم، يا أمير المؤمنين، من الرشيد ما نزل، أجحفني عمرو بنُ مسعدة وألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج ما لا يفي دخلُهما به، فلما تحامل عليَّ الدهر كنت في آخر الليل أقصد خرابات دورهم، فأندبهم وأذكر حسن صنيعهم إليَّ، وأبكي على إحسانهم، فقال المأمون: عليَّ بعمرو بن مسعدة. فلما أُتي به قال له: تعرف هذا الرجل؟ قال: يا أمير المؤمنين، هو بعض صنائع البرامكة، قال: كم ألزمته في ضيعته؟ قال: كذا وكذا، فقال له: ردَّ إليه كل ما أخذت منه في مدته، وأفرِغهما له ليكونا له ولعقبه من بعده، قال: فعلا نحيبُ الرجل، فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال له: يا هذا، قد أحسنا إليك، فما يبكيك؟ قال: يا أمير المؤمنين، وهذا أيضًا من صنيع البرامكة! لو لم آتِ خراباتهم فأبكيهم وأندبهم حتى اتصل خبري إلى أمير المؤمنين ففعل بي ما فعل، مِن أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين؟ قال إبراهيم بن ميمون: فرأيت المأمون وقد دمعت عيناه وظهر عليه حزنه، وقال: «لعمري هذا من صنائع البرامكة! فعليهم فابكِ، وإياهم فاشكرْ، ولهم فأوفِ، ولإحسانهم فاذكرْ.»

مما يدل على تقدير المأمون للبرامكة ما رواه القاضي يحيى بن أكثم قال: سمعت المأمون يقول: لم يكن كيحيى بن خالد وولده أحدٌ في الكفاية والبلاغة والجود والشجاعة، قال القاضي: فقلتُ: يا أمير المؤمنين، أما الكفاية والبلاغة والسماحة فنعرفها فيهم، ففيمن الشجاعة؟ فقال: في موسى بن يحيى، وقد رأيتُ أن أُولِّيه ثغر السند.

•••

مكانة عالية بلا ريب مكانة آل برمك، وسلطان لا حد له سلطانهم، وغنى فاحش قبل الإسلام، وصولة ونفوذ قول في دولة الرشيد، فما الذي يا ترى غيَّر قلب الرشيد عليهم حتى نكبهم؟

لنذكر ما يقوله المعاصرون ونُعقِّب عليه بكلمة هادئة حكيمة لابن خلدون:

أما بَختيشُوع الطبيب المأموني فإنه يقول نقلًا عن أبيه جبريل: إنه لقاعد في مجلس الرشيد إذ طلع يحيى بن خالد — وكان فيما مضى يدخل بلا إذن — فلما دخل وصار بالقرب من الرشيد وسلَّم، ردَّ عليه ردًّا ضعيفًا، فعلم يحيى أن أمرهم قد تغيَّر، قال: ثم أقبل عليَّ الرشيد فقال: يا جبريل، يدخل عليك وأنت في منزلك أحد بلا إذنك؟ فقلت: لا، ولا يطمع في ذلك، قال: فما بالنا يُدخل علينا بلا إذن؟! فقام يحيى فقال: يا أمير المؤمنين، قدَّمني الله قبلك، والله ما ابتدأتُ ذلك الساعة، وما هو إلا شيء كان خصني به أمير المؤمنين، ورفَع به ذكري، حتى إن كنت لأدخل وهو في فراشه مجرَّدًا حينًا، وحينًا في بعض إزاره، وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب، وإذ قد علمت فإني أكون عنده في الطبقة الثانية من أهل الإذن أو الثالثة، إن أمرني سيدي بذلك، قال: فاستحيا الرشيد، وكان من أرقِّ الخلفاء وجهًا، وعيناه في الأرض ما يرفع إليه طرفه، ثم قال: ما أردت ما تكره ولكن الناس يقولون، قال جبريل: فظننتُ أنه لم يسنح له جواب يرتضيه، فأجاب بهذا القول، ثم أمسك عنه وخرج يحيى.

أما أحمد بن يوسف كاتب عصرنا المأموني النابه، فإنه يحدثنا عن ثمامة بن أشرس بحديث سننقله لك. وقبل إيراد هذا الحديث نودُّ أن نذكرك بأن محمد بن الليث الذي سيرد فيه هو محمد بن الليث الذي اختاره المهدي كاتبًا للسر في مجلس مشاورته لتدبير رأي في حرب خراسان، وأمره بحفظ مراجعة أعضاء المجالس، وإثبات مقالتهم في كتاب.

وربما كان من المفيد أن نزيد القارئ بمحمد بن الليث معرفة، لا لأنه من رجالات عصرنا ومن ذوي الأثر الأدبي القيم فيه، ولا لأنه صاحب تلك الرسالة الشائقة التي بعث بها من الرشيد إلى ملك الروم التي أثبتناها في المجلد الثاني من هذا الكتاب، بل لأنا نرى في توضيح قدره توضيحًا لقدر البرامكة، ولأنك حينما ترى الرشيد يقبض على محمد بن الليث؛ بسبب البرامكة وكرامتهم ومنزلتهم من نفسه؛ لنصحه له بأن يضع حدًّا لاستفحال شأن البرامكة، وللرجل قدرُه ومنزلتُه، تستطيع أن تتصور تصوُّرًا صميمًا مكانة البرامكة من الرشيد ومن الدولة ومن العصر الذي هم فيه، ولأنك حينما تعلم أن الرشيد أطلق محمد بن الليث من حبسه واعتذر له قبيل نكبة البرامكة؛ تستطيع أن تعلم إذن مقدار التحول الذي نال نفسية الرشيد.

سنرى في مشاورة المهدي التي ذكرها ابن عبد ربه في العقد، والتي أثبتناها لك في المجلد الثاني، أن محمد بن الليث يتكلم في المجلس — وكان الرشيد بلا شك ولي العهد — كلامًا يُرضي الرشيد. إذن فمحمد بن الليث كان إلى جانب وظيفته كناموس لمجلس المشاورة صاحبُ رأي في مجلس الاستشارة نفسه يُعتدُّ به، فهو ذو شخصية عظيمة من ذوي شخصيات الدولة الذين لكلامهم خطره، ولقولهم أثره.٢

قال: أول ما أنكر يحيى بن خالد من أمره، أن محمد بن الليث رفع رسالة إلى الرشيد يعظه فيها، ويذكر أن يحيى بن خالد لا يُغني عنك من الله شيئًا، وقد جعلته فيما بينك وبين الله، فكيف أنت إذا وقفت بين يديه فسألك عما عملت في عباده وبلاده، فقلتَ: يا رب، إني استكفيت يحيى أمور عبادك، أتُراك تحتج بحجة يرضَى بها؟ مع كلام فيه توبيخ وتقريع، فدعا الرشيد يحيى وقد تقدم إليه خبرُ الرسالة، فقال: تعرف محمد بن الليث؟ قال: نعم، قال: فأي الرجال هو؟ قال: مُتَّهم على الإسلام — لاحظ كيف يتَّهمُون في الدين — فأمر به الرشيد فوُضع في المطبَق دهرًا.

فلما تنكر الرشيد للبرامكة ذكَره، فأمر بإخراجه فأُحضِر، فقال له بعد مخاطبة طويلة: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: تقول هذا؟! قال: نعم، وضعت في رجلي الأكبال وحُلتَ بيني وبين العيال بلا ذنبِ أتيت ولا حدثٍ أحدثت، سوى قول حاسد يكيد للإسلام وأهله، ويحبُّ الإلحاد وأهله، فكيف أحبُّك؟! قال: صدقت. وأمر بإطلاقه ثم قال: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن قد ذهب ما في قلبي. فأمر أن يُعطى مائة ألف درهم، فأحضرت، فقال: يا محمد، أتحبني؟ قال: أما الآن فنعم! قد أنعمت عليَّ وأحسنت إليَّ، قال: انتقم الله ممن ظلمك، وأخذ لك بحقك ممن بعثني عليك، قال ثمامة: فقال الناس في البرامكة فأكثروا، وكان ذلك أول ما ظهر من تغير حالهم.

فماذا حدث بعد ذلك؟

حدث — كما يخبرنا أحد المعاصرين، وهو محمد بن الفضل بن سفيان مولى سليمان بن أبي جعفر — أن يحيى بن خالد دخل دار الرشيد في الآونة التي نحن في صددها، فقام الغلمان إليه احترامًا وإجلالًا، فما كان من الرشيد إلا أن قال لمسرور الخادم: مر الغلمان ألا يقوموا ليحيى إذا دخل الدار، قال: فدخل فلم يقم له أحد، فاربدَّ لونه، قال: وكان الغلمان والحجاب بعد إذا رأوه أعرضوا عنه، قال: فكان ربما استسقى الشربة من الماء أو غيره فلا يسقونه، وبالحري إن سقوه أن يكون ذلك بعد أن يدعو بها مرارًا.

ولننظر في سبب آخر يرويه لنا أحد المطلعين على أخبار ذلك العصر، وهو أبو محمد اليزيدي، قال: مَن قال: إن الرشيد قتل جعفر بن يحيى بغير سبب يحيى بن عبد الله بن حسن فلا تُصدِّقه، وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه، ثم دعا به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره فأجابه، إلى أن قال: اتق الله في أمري ولا تتعرض أن يكون خصمك غدًا محمدًا ، فوالله ما أحدثت حدثًا ولا آويتُ محدثًا! فرقَّ عليه وقال له: اذهب حيث شئت من بلاد الله، قال: وكيف أذهب ولا آمن أن أُوخذ بعد قليل فأرد إليك أو إلى غيرك؟ فوجه معه من أداه إلى مأمنه، وبلغ الخبرُ الفضلَ بن الربيع من عين كانت له عليه من خاص خدمه، فبَلا الأمر فوجده حقًّا وانكشف عنده، فدخل على الرشيد فأخبره؛ فأراه أنه لا يعبأ بخبره وقال: وما أنت وهذا، لا أم لك، فلعل ذلك عن أمري! فانكسر الفضلُ، وجاءه جعفر فدعا بالغداء فأكلا، وجعل يلقمه ويحادثه إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال: ما فعل يحيى بن عبد الله؟ قال: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس الضيق والأكبال، قال: بحياتي؟ فأحجم جعفر — وكان من أدق الخلق ذهنًا وأصحهم فكرًا — فهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، فقال: لا وحياتك يا سيدي، ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده، قال: نِعْمَ ما فعلتَ، ما عدوتَ ما كان في نفسي. فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد يتوارى عن وجهه ثم قال: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك. فكان من أمره ما كان.

سبب رابع رواه أحمد بن زهير، ونذكره لك هنا على علاته استكمالًا للموضوع من كل نواحيه، يقول الطبري: إنه يظن أن المصدر للرواية هو زاهر بن حرب، قال: «إن سبب هلاك جعفر والبرامكة أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي، وكان يحضرهما إذا جلس للشرب، وذلك بعد أن أعلم جعفرًا قلة صبره عنه وعنها، وقال لجعفر: تزوجها ليحل لك النظر إليها إذا أحضرتها مجلسي. وتقدم إليه ألا يمسها ولا يكون منه شيء مما يكون للرجل إلى زوجته، فزوجها منه على ذلك، فكان يحضرهما مجلسه إذا جلس للشرب، ثم يقوم عن مجلسه ويخليهما، فيثملان من الشراب وهما شابان، فيقوم إليها جعفر فيجامعها، فحملت منه وولدت غلامًا، فخافت على نفسها من الرشيد إن علم بذلك، فوجهت بالمولود مع حواضن له من مماليكها إلى مكة، فلم يزال الأمر مستورًا عن هارون، حتى وقع بين عباسة وبعض جواريها شرٌّ، فأنهتْ أمرها وأمر الصبي إلى الرشيد، وأخبرته بمكانه ومع من هو من جواريها وما معه من الحلي الذي كانت زيَّنته به أمه، فلما حج هارون هذه الحجة، سنة سبع وثمانين ومائة، أرسل إلى الموضع الذي كانت الجارية أخبرته أن الصبي به مَن يأتيه بالصبي وبمن معه من حواضنه، فلما أُحضروا سأل اللواتي معهن الصبي، فأخبرنه بمثل القصة التي أخبرته بها الرافعة على عباسة، فأراد — فيما زُعم — قتل الصبي ثم تحوَّب عن ذلك، وكان جعفر يتخذ للرشيد طعامًا كلما حج بعُسفان فيقربه إذا انصرف شاخصًا من مكة إلى العراق، فلما كان في هذا العام اتخذ الطعام جعفرٌ، كما كان يتخذه هنالك، ثم استزاره فاعتلَّ عليه الرشيد ولم يحضُر طعامه، ولم يزل جعفر معه حتى نزل منزله من الأنبار، فكان من أمره وأمر أبيه ما كان.»

أما نحن فلا نريد القطع بأن نكبة البرامكة كانت أثرًا لسبب بعينه من هذه الأسباب، وربما كانت نتيجةً لطائفة من الأسباب مجتمعة، منها ما نعرفه ومنها ما لم نعرفه بعدُ، ونحب ألا يفوتنا هنا أن نفترض فرضًا — نعترف بأنه فرض لا أكثر ولا أقل، ونعترف بأنه في حاجة إلى التحقيق العلمي، ولكنا نعترف أيضًا أن عرضه على علاته لا يخلو من النفع — وهو أن البرامكة كانوا فيما يظهر متأثرين بالناحية السياسية لمذهب المعتزلة،٣ وهي الاعتدال بين أهواء الأحزاب السياسية المتطرفة وتلطيفُ الخصومة بين جناحي الحزب الهاشمي، فلم يرضَ الرشيد عن هذا النحو من السياسة، ومالأه على ذلك النفعيون من أنصار الجناح العباسي. وسنرى بعد قليل أن المأمون كان يرى رأي البرامكة في هذا النحو من السياسة المعتدلة الموفِّقة بين وجهات النظر المختلفة.

•••

أما كيفية القبض على البرامكة، واحتياط الرشيد وحذره قبل قتلهم ومصادرته لأموالهم، وما قالته الشعراء في رثائهم، فحديث طويل يتطلب رسالة خاصة، وفقنا الله لدراسة موضوع البرامكة ونكبتهم وأثرهم في الدولة العباسية في موضوعنا «عصر الرشيد» في القريب العاجل إن شاء الله.

على أننا نرى من المستصوب قبل أن تتم هذه الفذلكة الموجزة أن نختمها بكلمة لابن خلدون لا تخلو من تحليل صحيح، ومذهب في الموازنة رجيح، وباب في التاريخ جميل المنهج، معقول التعليل.

قال ابن خلدون: إنما نكَب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة واحتجانهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرُّف في أمور ملكه، فعظمت آثارهم، وبَعُدُ صيتهم وعمروا مراتب الدولة وخططها بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم، واحتازوها عمن سواهم: من وزارة وكتابة وقيادة وحجابة وسيف وقلم، يقال: إنه كان بدار الرشيد من ولد يحيى بن خالد خمسة وعشرون رئيسًا من بين صاحب سيف وصاحب قلم، زاحموا فيها أهل الدولة بالمناكب، ودفعوهم عنها بالراح؛ لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون ولي عهد وخليفة، حتى شبَّ في حجره، ودرج من عُشه، وغلبه على أمره، وكان يدعوه: يا أبت، فتوجه الإيثار من السلطان إليهم، وعظمت الدالَّةُ منهم، وانبسط الجاه عندهم، وانصرفت نحوهم الوجوه، وخضعت لهم الرقاب، وقُصِرت عليهم الآمال، وتخطت إليهم من أقصى التخوم هدايا الملوك وتحف الأمراء، وتسربت إلى خزائنهم، في سبيل التزلف والاستمالة، أموال الجباية، وأفاضوا في رجال الشيعة وعظماء القرابة العطاء، وطوَّقوهم المنن، وكسبوا من بيوتات الأشراف المعدم، وفكوا العاني، ومُدِحوا بما لم يُمدَح به خليفتهم، وأسنوا لعُفاتهم الجوائز والصلات، واستولوا على القرى والضياع من الضواحي والأمصار في سائر الممالك، حتى آسفوا البطانة وأحقدوا الخاصة، وأغصُّوا أهل الولاية، فكشفت لهم وجوه المنافسة والحسد، ودبَّت إلى مهادهم الوثيرة من الدولة عقارب السعاية، حتى لقد كان بنو قحطبة أخوالُ جعفرٍ من أعظم الساعين عليهم، لم تَعطِفهم، لما وقر في نفوسهم من الحسد، عواطف الرحم، ولا وزَعتهم أواصر القرابة، وقارَنَ ذلك عند مخدومهم نواشئ الغيرة والاستنكاف من الحجر والأنفة وكامن الحقود التي بعثتها منهم صغائر الدالة، وانتهى بهم الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة.

هوامش

(١) الزواقيل: هم اللصوص، كما في القاموس، وشرحه في مادة «زقل».
(٢) انظر باب المنثور في الكتاب الثاني من المجلد الثاني.
(٣) يخالفنا أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار في هذا بقوله: «ليس الاعتزال مذهبًا سياسيًّا، ولم تَرُج سوق الاعتزال في زمن الرشيد ولم يكن شيئًا يعتدُّ به على عهده.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤