الفصل الثالث

النزاع بين الأمين والمأمون

(١) توطئة

عرفت مما ذكرناه لك في مجمل كلامنا عن الرشيد والأمين، أن الرشيد أعلن ولاية العهد للأمين في سنة ١٧٥ هجرية، وسِنُّ الأمين فيما قيل وقتئذٍ خمس سنين، ثم أشرك معه المأمون في ولاية العهد سنة ١٨٣ هجرية، ثم استوثق لكليهما من أخيه سنة ١٨٦ هجرية، وهو عام حج الرشيد، بأن استكتب كلًّا منهما عهدًا بما عليه وله قبل الآخر، وعلَّق العهدين بالكعبة، كما قدمنا.

ويؤخذ من نصوص العهدين وما تبودل بعد ذلك من الرسائل بين الأمين والمأمون، مما سنورد لك بعضه لما تضمنته من «الديبلوماطيقية العباسية»؛ وهي: لين في حزم، وتيئيس في تأميل طويل الأجل، ويؤخذ منها أن خراسان ونواحيها إلى الري كانت تحت إمرة المأمون يتصرف في جميع شئونها من سياسية وحربية واقتصادية وقضائية تصرفًا تامًّا، لا تربطه بحاضرة الخلافة إلا رابطة الدعاء للخليفة، وقد صارت إليه إمرة هذه النواحي في عهد الرشيد، وهي من الأمور التي أخذ الأمين بالوفاء بها فيما أخذ به من عهود ومواثيق.

وكان الرشيد قد أشرك في سنة ١٨٨ هجرية ولده القاسم مع أخويه في ولاية العهد، وجعل من نصيبه العمل على الشام وقنسرين والعواصم والثغور.

وكانت الأمور جارية مجراها الطبيعي آخر أيام الرشيد، ثم شطرًا كبيرًا من السنة الأولى من خلافة الأمين، إلا ما كان من أشياء طوى عليها المأمون كشحًا دُرْبة منه وسياسة، وحصافة وكياسة، وتريثًا وتعقلًا، وحزامة وتمهلًا.

ولم تنقض السنة الأولى من خلافة الأمين حتى كانت الدسائس قد فعلت فعلها، وحتى كانت المنافسة العنيفة بين البطانتين قد بلغت غايتها، وأخذ كل من الأخوين يحذر أخاه ويتقيه، وامتلأت الصدور حفائظ وإحنًا، ولم يبق إلا أن تُلمس فتنفجر. وسنفصل لك كل ذلك تفصيلًا.

(٢) بيعة الأمين وخلافته

لما خرج رافع١ بن الليث بن نصر بن سيار بخراسان، وكثُف أنصارُه، وقويت شكوته، وعظم خطره، رأى الرشيد أن يخرج إليه بنفسه لمحاربته، وتسكين حبل الأمن الذي اضطرب في تلك النواحي، فأصابه من مشاق السفر وتغير الطقس وشدة التفكير ما أعلَّ صحته، وبدا له من ظروف الأحوال ما حمله على تجديد البيعة للمأمون الذي كان بمرو، وأوصى بأن يصير ما معه من قواد وجند وسلاح ومال إلى جانبه، وأخذ المواثيق على من معه بأن يُوفوا بهذه الوصية.

ثم أخذت تشتدُّ به العلة حتى وافته مَنيَّته بطوس سنة ١٩٣ هجرية، وبويع للأمين بالخلافة في عسكر الرشيد، ووصله نعي الرشيد في بغداد يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جُمادى الآخرة، وقيل: ليلة النصف من هذا الشهر، فكتَم الخبر بقية يومه وليلته، ثم أظهره يوم الجمعة.

ويحدثنا التاريخ أن الأمين لما بلغه اشتداد المرض على الرشيد وتوقَّع وفاته بعَث بكر بن المعتمر رسولًا إلى مقر الخليفة ليوافيه بالأخبار كل يوم، وكتب معه كتبًا، وجعلها في قوائم صناديق منقورة ألبسها جلد البقر ليخفي أمرها، وكلفه ألا يُظهر أحدًا على شيء من أمره وما توجَّه فيه ولو قُتل، حتى إذا نفذ أمر الله في الرشيد دفع إلى كل مَن له كتاب كتابه.

فلما وصل رسول الأمين رابَ الرشيدُ قدومه، فسأله عما جاء له، فلمَّا لم يجد في جوابه ما يزيل ريبه أمر بتفتيشه وحبسه. ولعلك تصيب لباب الصواب أو لا تعدوه كثيرًا إذا افترضت أن هذا الريب الذي خامره من رسول الأمين كان من العوامل التي حملته على تجديد البيعة للمأمون، وأن يوصي له بما معه من جند وسلاح ومال.

لبث رسول الأمين في الحبس أشهرًا؛ إذ تاريخ الكتب التي يحملها إلى مَن أرسلت إليهم شوال سنة ١٩٢ﻫ، ووفاة الرشيد كانت في جُمادى الآخرة سنة ١٩٣ﻫ، ثم بدا للرشيد أن يحمل بكرًا على الإقرار، فكلَّف الفضل بن الربيع ذلك، وأن يُهدِّده بالموت إذا لم يقرَّ. وقد حالت وفاة الرشيد في ذلك اليوم دون تمام هذا الإقرار، ثم لما وثق الرسول من وفاة الرشيد دفع إلى كلٍّ كتابه.

وقد أثبتنا لك من هذه الكتب كتابه إلى أخيه المأمون وكتابه إلى أخيه صالح، في موضعهما من المجلد الثالث من هذا الكتاب؛ لما لهما من خطر في موضوع النزاع، فإنهما يدلان على أن الأمين لم يكن لينكث ما عقد من عهود ومواثيق، وإنما بطانة السوء هي التي زينت له أن يفعل ما فعل، فراجعهما ثمة، وتأمل طويلًا فيما لبطانات السوء من وخيم العواقب بين الأشقاء والزعماء والأمراء، وما تجره على البلاد من انتثار العقد وتشتيت الشمل، وتشعث الألفة، وفرقة الجماعة، وسريان الفتن، وذيوع الفوضى، وانتشار الاضطرابات، واندلاع نيران الثورات، ومن ترجيح كفة الأشرار على الأبرار، إلى غير ذلك من شتى النتائج السيئة والعواقب المهلكة التي سنحدثك عنها، وستراها واضحة جلية في كلمتنا الآتية.

(٣) مبدأ النزاع وكيف تقلب ونتيجته

قد تطلب إليَّ، وفقك الله، أن تقف على ما كان لتلك الكتب من أثر في نفوس من أرسلت إليهم، وإني شافٍ غُلتك، مُجيبك إلى سُؤْلك، مُحيلك إلى الطبري في هذا الصدد إذ يقول:

لما قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد ﺑ «طوس» من القواد والجند وأولاد هارون، تشاوروا في اللحاق بمحمد، فقال الفضل بن الرييع: لا أدع مُلكًا حاضرًا لآخر لا يدري ما يكون من أمره. وأمَر الناس بالرحيل ففعلوا ذلك؛ محبةً منهم للحوق بأهلهم ومنازلهم ببغداد، وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون.

أما المأمون، بعد أن انتهى إليه بمرو خبر نكث القوم للعهود التي أخذت عليهم وفرارهم إلى بغداد بما كان الرشيد أوصى بأن يكون له من جند ومال وسلاح، فقد اجتمعت كلمة الرواة على حسن تيقظه وسرعة مبادرته لشتى أموره، وأنه شد لها حيازيمه، وحسر لها عن ساقه. ويحدثنا التاريخ أنه قد جمَع من معه من قواد أبيه وأخبرهم الخبر وشاورهم في الأمر، فأشاروا عليه أن يلحق القومَ في ألفي فارس ويحولَ بينهم وبين ما أرادوا.

ولكن المأمون عمل بمشورة الفضل بن سهل الذي كان يثق به وبكفايته، ويؤمن بكياسته وحسن سياسته، ويقتنع بثقوب بصره وصدق نظره، فقد قال له الفضل: إن فعلت ما أشاروا به عليك جعلت هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتابًا، وتُوجِّه إليهم فتذكرهم البيعة وتسألهم الوفاء، وتُحذِّرهم الحنث وما يلزمهم في ذلك في الدنيا والدين، وإن كتابك ورسلك تقوم مقامك فتستبرئ ما عند القوم، وتُوجِّه سهل بن صاعد، وكان على قهرمته، فإنه يأمُلك ويرجو أن ينال أمله، فلم يألوك نصحًا، وتوجِّه معه نوفلًا الخادم مولى موسى أمير المؤمنين، وكان عاقلًا، فلم ير المأمون وهو الحاذق الفطن ندحة دون صدوره عن رأي ابن سهل، فكتب كتابًا ووجَّه من أشار بهما الفضل إلى القوم، فلحقاهم بنيسابور، فقال الفضل بن الربيع لما وصله كتاب المأمون معتذرًا متعللًا: «إنما أنا واحد منهم!» وقد نال بعضُهم من المأمون وأغلظ لرسوليه، ثم رجع الرسولان بالخبر.

وكان ممكنًا بعد أن طوى المأمون كشحًا على ما وقع من القوم من نكث للعهود، واغتصاب لما أوصى به الرشيد له من جند ومال وسلاح، وبعد أن أخذ يُهدي إلى أخيه خير ما وصلت إليه يُمناه من تُحف خراسان ونفائسها، أن تسير الأمور في مجراها الطبيعي، وأن يستقر الأمر بين الأخوين على ما أراد الرشيد، لولا أن بطانة الأمين أوغرت صدره على أخيه، ولولا أن بطانة المأمون حفزته إلى مقابلة العدوان بمثله، وأفعمت قلبه ثقة بالغلبة والظفر، وإيمانًا بالفوز والنُّجح.

وإن كلمة الفضل بن الربيع «لا أدع ملكًا حاضرًا لآخر لا يدري ما يكون من أمره» فيها الغنية والكفاية في تفهيمنا الأساس الذي بنيت عليه تصرفاته بين الأخوين، فهو ينظر لمصلحة من بيده الملك اليوم، لا يحفل ببيعة ولا عهد، ولا يكترث لوحدة قومية، ولا يحفل بإحلال الوفاق بين العباد، ولا يعمل على مصافاة ولا وداد، وإنما همه الملك الحاضر، والإمعان في إرضاء الملك الحاضر.

كذلك كانت حال الفضل بن سهل في موقفه مع عبد الله المأمون، ومهما كانت صورة المأمون التي صورها لنا التاريخ بأنه المغلوب على أمره في النزاع الذي نشب بين الأخوين، وأن الأمين هو الناكث الغادر، ومهما كانت القلوب الإنسانية تحنو على المظلوم، وتعطف على المغلوب، مهما كان كل ذلك، مما يجعلنا نستسيغ تصرفات الفضل بن سهل مع المأمون، بل مما يدفعنا إلى الافتنان بها، وعزو الحصافة والأصالة والكياسة إلى صاحبها، وأن ليس هناك من هو أنهدُ منه في مثل مواقفه ولا أجزى، ولا أحكم من تدبيراته ولا أوفى، ولا أرهف غرارًا من عزماته ولا أمضَى، ولا أقدر منه في خططه ولا أغنَى، بيد أنا مع ذلك إذا جردنا النفس الإنسانية من بعض صفاتها ونظرنا «ببرود» — على حد التعبير الإنجليزي — وبحيدة ونَصفة منه وله، فإنا نقرر من غير أن نعدو الحق والواقع، أن الفضل بن سهل لعب مع المأمون ذلك الدور الخطير بذاته الذي لعبه الفضل بن الربيع مع الأمين، وأن كلًّا قد توكأ على أميره لغايته، واستغله في سبيل نجح سياسته، ودفع به إلى حيث يريد.

انظر إليه وقد عادت وفود المأمون من مقابلة الفضل بن الربيع ومن لحق به من جند وسلاح؛ تَرَهُ يُصارح المأمون عنهم بقوله: أعداء قد استرحت منهم، ولكن افهم عني ما أقول لك: إن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام أبي جعفر، فخرج عليه «المقنع» وهو يدَّعى الربوبية، وقال بعضهم: طلَب بدم أبي مسلم، فتضعضع المعسكر بخروجه بخراسان، فكفى الله المُؤنة، ثم خرج بعده يوسف البرم، وهو عند بعض المسلمين كافر، فكفى الله المُؤنة، ثم خرج أستاذ سيس يدعو إلى الكفر، فسار المهدي من الري إلى نيسابور، فكفَى الله المؤنة.

ولكن ما أصنع أكبر عليك، أخبرني كيف رأيت الناس حين ورد عليهم خبر رافع؟ قال المأمون: «رأيتهم اضطربوا اضطرابًا شديدًا»، فقال له الفضل: وكيف وأنت نازل في أخوالك وبيعتُك في أعناقهم، كيف يكون اضطراب أهل بغداد؟ اصبر وأنا أضمن الخلافة، قال المأمون: «قد فعلتُ وجعلت الأمر إليك فقُم به».

على أنه إذا صدق الرواة فيما يروونه لنا من أن الفضل بن سهل قال للمأمون في حديثه معه: «لأصدقنَّك أنَّ عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ ومَن سمَّينا من أمراء الرؤساء إن قاموا لك بالأمر كان أنفع مني لك برياستهم المشهورة، ولما عندهم من القوة على الحرب، فمن قام بالأمر كنت خادمًا له حتى تصير إليَّ محبتك، وترى رأيك فيَّ»، وصدقوا في أن الفضل بن سهل لقي هؤلاء الزعماء في منازلهم، وذكر لهم البيعة التي في أعناقهم، وما يجب عليهم من الوفاء، وأن الخيبة كانت نصيبَ دعوته لهم وتذكيره إياهم، وأنها مع ذلك لم تَصدِفه عن قصده الذي نهد إليه، ولم تَحُل بينه وبين مضيه قدمًا في سبيل غايته التي تأدَّى بها بأداته، وتذرع لها بذرائعه، وأخذ لها عدته، وأرهف لها عزمته، وأنه قال للمأمون: «لقد قرأت القرآن وسمعت الأحاديث وتفقهت في الدين، فالرأي أن تبعث إلى مَن بالحضرة من الفقهاء فتدعوهم إلى الحق والعمل به، وإحياء السنة، ونقعد على اللبود وتردَّ المظالم»، وصدقوا حقًّا في أن المأمون والفضل فعلا ذلك، وأنهما بعثا إلى الفقهاء وأكرما القواد والملوك وأبناء الملوك، وصدقوا في أن الفضل كان يقول للتميمي: نقيمك مقام موسى بن كعب، وللربعي مقام أبي داود خالد بن إبراهيم، ولليماني مقام قحطبة ومالك بن الهيثم، وصدقوا في أنهما كانا يدعوان كل قبيلة إلى نقباء ورؤساء الدولة كاستمالتهم الرءوس، وصدقوا في أن المأمون والفضل قد حطَّا عن خراسان ربع الخراج حتى حسُن موقع ذلك من الخراسانيين وسُرُّوا به وقالوا: «ابن أختنا وابن عم نبينا »، وصدقوا في أن المأمون تواترت كتبه إلى أخيه محمد الأمين بالتعظيم والهدايا إليه من طرف خراسان، من المتاع والآنية والمسك والدواب والسلاح، حتى أوائل سنة أربع وتسعين ومائة التي عزل فيها الأمين أخاه القاسم عما كان أبوه ولاه من عمل قنسرين والشام والعواصم والثغور، وولَّى مكانه خزيمة بن خازم، والتي أمر فيها بالدعاء لابنه موسى على المنابر بالإمرة، وحتى مكَر كل واحد منهما بصاحبه وظهر بينهما الفساد — إذا صدق الرواة في كل ذلك — فإنا نرى من النصفة العلمية والتاريخية أن نقرر حينئذٍ أن الفضل بن سهل كان دَهِيًّا حقًّا، وممعنًا في الديبلوماتيقية، وكان موقفه لا يقل عن موقف «وارن هاستنج» و«كليف» في الهند، وغيرهما من جهابذة السياسة وأقطاب الدهاء، وربما كانت مكانته أسمى منهما وأرفع وأخلق بمقارنتها بمن يشار إليه بالبنان من ساسة هذا الزمان.

ولننظر معًا — وهبنا الله وإياك الجلد والأناة، ووفقنا إلى ما نرومه من تمحيص وتحقيق، وتفهم وتدقيق — في حوادث سنة أربع وتسعين ومائة؛ لنكون مُلمِّين بتحول النزاع الذي شجر بين الأخوين، ولنؤمن الإيمان كله أن البطانة قد لعبت دورًا شنيعًا في إشعال جذوة الحقد والسخيمة بينهما، وعملت على إضرام أُوارها، وسعَت جهدها في توسيع مسافة الخلف بين الأخوين حتى كان ما كان، نجد أن الفضل بن الربيع، فيما يرويه لنا المؤرخون، سعى بعد مقدمه العراق على محمد مُنصرفًا عن «طوس» وناكثًا للعهود التي كان الرشيد أخذها عليه لابنه عبد الله، وعلم أن الخلافة إن أفضت إلى المأمون يومًا وهو حي لم يُبْق عليه، وكان يترقب في ظفره به عَطَبه — سعى جهده في إغراء محمد به، وأعمل قريحته في حثِّه على خلعه، وزيَّن له، بما في مقدوره، أن يصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى، ولم يكن ذلك في رأي محمد ولا عزمه، بل كان عزمه، فيما ذكر الرواة عنه الوفاء لأخويه عبد الله والقاسم بما كان أخذ عليه لهما والده من العهود والشروط، فلم يزل به الفضل بن الربيع يُصغِّر في عينيه شأن المأمون، ويزيِّن له خلعه، حتى قال له: «ما تنتظر يا أمير المؤمنين بعبد الله والقاسم أخويك، فإن البيعة لك كانت متقدمة قبلهما، وإنما أُدخلا فيها بعدك واحدًا بعد واحد!»

قال ذلك ابن الربيع وضمَّ إلى رأيه معه علي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما ممن بحضرته.

ومن المعقول أن تفترض أن الفضل مضى في الإيقاع على هذه النغمة ثَنْيًا بعد ثني، ومرة إثر أخرى، وقدح في ذلك قريحته، واستخدم شتى وسائل أمثاله ونظرائه حتى أزال محمدًا عن رأيه، وقد ذكر المؤرخون أن أول ما بدأ به محمد عن رأي الفضل بن الربيع فيما دبر من ذلك، أن كتب إلى جميع العمال في الأمصار كلها بالدعاء لابنه موسى بالإمرة بعد الدعاء له، وللمأمون والقاسم بن الرشيد.

والآن، بعد أن وقفت على تصرف محمد وجماعة محمد مع المأمون وجماعة المأمون، لك أن تستنبط ما يفعله الفريق الآخر إجابة على تصرف الفريق الأول، ولك أن تنتظر من المأمون أن يدبر أمره تدبير من يرى أن أخاه يدبر عليه خلعه، ولك أن تنتظر مثل ذلك من جماعة المأمون وأنصاره.

وهكذا تنبئنا حوادث السنة نفسها؛ إذ ينبئنا الطبري أن فيها قطع المأمون البريد عن محمد، وفيها أسقط اسمه من الطرز، وفيها لحق رافع بن الليث بالمأمون، وهو من سلالة نصر بن سيار لما انتهى إليه من الخبر عن المأمون، وحسن سيرته في أهل عمله، وإحسانه إليهم، فيما يرويه المؤرخون، أو سعي المأمون ورجالات المأمون كهرثمة وطاهر في إصلاح ما بينه وبين المأمون، وطلب الأمان له؛ ليكون عدة وظهيرًا للحزب المأموني، كما نستسيغه نحن ونستخلصه، وفيها ولَّى المأمون هرثمة رياسة الحرس، ولهرثمة مكانته وشهرته، وله سيرته ونجدته، ولرافع بيته وأنصاره، وكتائبه وفرسانه، كما أن لطاهر بن الحسين حزمه وشجاعته وفروسته ومرانه، ولابن سهل بلا ريب حذقه في تصرفاته التي بمثلها ترد الأهواء الشاردة، وتستصرف الأبصار الطامحة، وعلى رأسهم أو إلى جانبهم إن شئت المأمون، وقد تسربل بالثوب الذي نُصِح إليه بلبسه، فأضحى محمود الشيم، مرضيَّ الخلال، وهو باستعداده ونزعته ذلك الرجل السياسي المعتدل المزاج، الهادئ الأعصاب، السديد التصرف، السمح الأخلاق، اللين العريكة، الكريم المهزة، مع أناة وجلد وعزم وحزم ونفاذ ومضاء.

ومن المعقول أيضًا أن ينكر الأمين ذلك من ناحيته أيضًا، والمعقول أن يبدأ بالتدبير على المأمون ليصدف عنه قلوب رجاله، وأن تتسلسل الحلقات وتستطرد الإجراءات المحتومة الوقوع في مثل هذه الحالات.

وربما كنا على حق إذا قلنا: إن النزاع أضحى بين الفضلين؛ ابن سهل وابن الربيع، وانقلب عنيفًا أعظم العنف، فقد كان بين كفايتين لا يعرفان الونية والتضجيع،٢ ولهما من الحصافة وثقوب البصيرة، ومن سعة الحيلة وفَدْح الخَتْل، ومن وفرة الحنكة وغناء الاختبار، ومن مضاء العزيمة وثروة الذهن، لهما من ذلك كله وما إلى ذلك من شتى الصفات السياسية ما لا قبل لأحدهما به من صاحبه، فلكلٍّ من صاحبه بواء ونديد، ومُنازِل عنيد، وكميٌّ صنديد.

انظر إلى الأمين قد كتب إلى العباس بن عبد الله بن مالك، وهو عامل المأمون على الريِّ، وأمره بأن يبعث إليه بغرائب غروس الريِّ، فبعث إليه المسكين بما أمره به، غيرَ عالم أن للمأمون ورجاله عيونًا وأرصادًا، ولهم قبل ذلك يقظتهم التي لا تني ولا تغفل، فماذا كان من المأمون؟

بلغ المأمون ما كان من عامله الساذج المسكين فعزله، ووجَّه مكانه الحسن بن علي المأموني، وأردفه بالرُّسغيِّ على البريد، وهكذا حاولت الديبلوماتيقية «الربيعية» أن تصرف قلب عامل كبير عن أمر المأمون والقضية المأمونية؛ نِكايةً بالديبلوماتيقية «السهلية» التي اكتسبت رافعًا وضمَّت إلى حزبها بيت ابن سيار، وناهيك ببيت ابن سيار!

ولنتطرق الآن إلى التكلم عن الحرب الكلامية التي نشبت بين الأخوين، والتي كانت بلا ريب مقدمة لوقوع الحرب العامة، وبعبارة أدق: لنتكلم عن الوفود السياسية محاولين على قدر استطاعتنا، واستنادًا إلى ما بين أيدينا من مصادر ووثائق وصْف الكفايات السياسية في ذلك العصر الغني حقًّا برجالاته ودهاته.

(٤) الوفود السياسية

لنتساءل أولًا: ماذا حدث في السنة التي نحن في صددها، وهي سنة أربع وتسعين ومائة؟ فإنها مليئة — والحق يقال — بمنتجات هاتين العقليتين العاتيتين حقًّا، الجبارتين بلا مبالغة ولا إغراق، ونعني بهما عقليتي الفضل بن الربيع والفضل بن سهل.

حدث أن وجَّه الأمين وفدًا سياسيًّا إلى المأمون قوامه العباس بن موسى، وصالح صاحب المصلى، ومحمد بن عيسى بن نهيك، وطلبوا إليه تقديم موسى بن الأمين الذي سماه «الناطق بالحق» على نفسه، وقد يكون من الطريف الممتع حقًّا أن نوضح ما كان من أمر هذا الوفد، وهل وفق الحزب المأموني فيما حاول من الأخذ بقلوب رجاله، أو بعضهم على الأقل؟ فإن في توضيحنا لذلك ما يمدنا بصورة لا بأس في جملتها، من صور الديبلوماتيقية في ذلك العصر، وإن في تفهمنا هذه الصورة ووقوفنا عليها نفعًا عظيمًا يعيننا، بلا ريب، على تفهم العصر وروح سياسته.

يحدثنا التاريخ أن العباس بن موسى، أحد رجال الوفد الأميني، قال للمأمون: «وما عليك أيها الأمير من ذلك، أي من تقديم موسى عليه، فهذا جدي عيسى بن موسى قد خلع، فما ضرَّه ذلك؟!» ويحدثتا أيضًا بأن الفضل بن سهل كان موجودًا، كما هو المنتظر، في ذلك المؤتمر السياسي، وأنه لما سمع كلمة العباس هذه صاح به: «أسكت فجدُّك كان في أيديهم أسيرًا، وهذا بين أخواله وشيعته!»

أتعرف ماذا كان من أمر الوفد؟

إنه قد انصرف، ولكن لا إلى الأمين، بل إلى منازل خصصها لهم المأمون، حيث أفرد لكل واحد من أعضاء الوفد منزلًا، وأكرمهم مثل ذلك النوع من الإكرام السياسي الذي تتلقى به الحكومات الحاضرة الوفود السياسية، فتأمَّلْ.

ثم لننظر معًا، معتصمين بالأناة والصبر قليلًا، في تصرف الفريق الآخر في السنة عينها، فنرى أن الوفد قد عاد إلى الأمين وأخبره بامتناع المأمون، فألح عليه الفضل به الربيع وعلي بن ماهان في البيعة لابنه موسى «الناطق بالحق»، وخلع المأمون، فأجاب الأمين إلى ذلك، وأحضن ابنه علي بن موسى الذي ولاه العراق، وتسارع بعض ولاة الأمين في انتهاز الفرصة للتقرب منه، والتحبب إليه بالمبادرة بأخذ البيعة له قِبَلهم، وقد كان أول من فعل ذلك بشر بن السعيد الأزدي وصاحب مكة وصاحب المدينة.

لم يكتف الفضل بهذا ولا بالكثير من أمثاله مما يُنتظر من مثله في مثل تلك الظروف، من نهيه عن ذكر عبد الله المأمون والقاسم بن الرشيد، وحظر الدعاء لهما على شيء من المنابر، بل دسَّ من ذكر المأمون بسوء، وحطَّ من قدره، ولصق به أقبح النقائص والمثالب، ووصمه بأشنع الوصمات والمعايب.

ولم يكتب الفضل بهذا، بل وجَّه إلى مكة كتابًا مع محمد بن عبد الله، أحد سدنة البيت الحرام، فأتاه بالكتابين اللذين كان الرشيد كتبهما لعبد الله المأمون على محمد الأمين، وكان حظُّهما من الأمين لما صارا إليه حظَّ غيرهما من العهود في ذلك العصر، و«المعاهدات» و«قصاصات الورق» في عصرنا الحاضر، فمزقهما وأبطلهما، وأجاز سارقهما.

ثم تعال معي لننظر معًا نظرة إنعام وتروٍّ في مشاورة المأمون لشيعته، حينما حزبه الأمر، وضاق به السبيل، فهي لعمرك آية في الحكمة والمهارة السياسية.

يقول الطبري: «كان محمد، فيما ذكر، كتب إلى المأمون، قبل مكاشفة المأمون إياه بالخلاف عليه، يسأله أن يتجافى له عن كور من كور خراسان سماها، وأن يوجه العمال إليها من قبل محمد، وأن يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد عليه ليكتب إليه بخبره، فلما ورد إلى المأمون الكتاب بذلك كبُر ذلك عليه واشتد، فبعث إلى الفضل بن سهل وإلى أخيه الحسن فشاورهما في ذلك، فقال الفضل: «الأمر خطير، ولك من شيعتك وأهل بيتك بطانة، ولهم تأنيس بالمشاورة، وفي قطع الأمل دونهم وحشة، وظهور قلة ثقة، فرأي الأمير في ذلك»، وقال الحسن: كان يقال: «شاور في طلب الرأي من تثق بنصيحته، وتألَّف العدو فيما لا اكتتام له بمشاروته.»

فأحضر المأمون الخاصة من الرؤساء والأعلام، وقرأ عليهم الكتاب، فقالوا جميعًا له: «أيها الأمير، تشاور في مخطر، فاجعل لبديهتنا حظًّا من الروية»، فقال المأمون: ذلك هو الحزم، وأجَّلهم ثلاثًا، فلما اجتمعوا بعد ذلك قال أحدهم: «أيها الأمير، قد حملت على كرهين، ولست أرى خطأ مدافعة بمكروه أولهما مخافة مكروه آخرهما»، وقال آخر: «كان يقال، أيها الأمير أسعدك الله: إذا كان الأمر مخطرًا فإعطاؤك من نازعك طرفًا من بغيته أمثل من أن تصير بالمنع إلى مكاشفته»، وقال آخر: «إنه كان يقال: إذا كان علم الأمور مغيبًا عنك، فخذ ما أمكنك من هدية يومك؛ فإنك لا تأمن أن يكون فساد يومك راجعًا بفساد غدك»، وقال آخر: «لئن خفت للبذل عاقبة، إن أشد منها لما يبعث ألا تأمن الفرقة»، وقال آخر: «لا أرى مفارقة منزلة سلامة، فلعلِّي أُعطى معها العافية»، فقال الحسن: فقد وجب حقكم باجتهادكم، وإن كنت من الرأي على مخالفتكم، قال المأمون: فناظِرْهم! قال: لذلك ما كان الاجتماعُ! وأقبل الحسن عليهم فقال: هل تعلمون أن محمدًا تجاوز إلى طلب شيء ليس له بحق؟ قالوا: نعم، ويحتمل ذلك لما نخاف من ضرر منعه، قال: تثقون بكفه بعد إعطائه إياها فلا يتجاوز الطلب إلى غيرها؟

قالوا: لا، ولعل سلامة تقع من دون ما نخاف ونتوقع، قال: فإن تجاوز بعدها بالمسألة، أفما ترونه قد توهن بما بذل منها في نفسه؟ قالوا: ندفع ما يعرض له في عاقبته بمدافعة ما تنجزون في عاجله، قال: فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء قبلنا؛ قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من كره يومك، ولا تلتمس هدية يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك، قال المأمون للفضل: ما تقول فيما اختلفوا فيه؟ قال: «أيها الأمير، أسعدك الله، هل يؤمن محمد أن يكون طالَبك بفضل قوتك ليستظهرَ بها عليك غدًا على مخالفتك؟ وهل يصير الحازم إلى فضلة من عاجل الدعة بخطر يتعرض له في عاقبته؟ بل إنما أشار الحكماء بحمل ثقل فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم»، فقال المأمون: «بل بإيثار العاجلة صار من صار إلى فساد العاقبة في أمر دنيا وآخرة»، قال القوم: قد قلنا بمبلغ الرأي، والله يؤيد الأمير بالتوفيق، فقال: اكتب يا فضل إليه، فكتب».

ويستطرد الطبري بعد ذلك في القول بأن المأمون أملى على الفضل هذا الكتاب ليبعث به إلى أخيه، وهو: «قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسأل التجافي عن مواضع سماها، مما أثبته الرشيد في العقد، وجعل أمره إليَّ، وما أمر رآه أمير المؤمنين أحد يجاوز أكثره، غير أن الذي جعل إلي الطرف الذي أنابه لا ظنينٌ في النظر لعامته، ولا جاهل بما أسند إليَّ من أمره ولو لم يكن ذلك مثبتًا بالعهود والمواثيق المأخوذة، ثم كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدو مخوف الشوكة، وعامة لا تتألف عن هضمها، وأجناد لا يستتبع طاعتها إلا بالأموال، وطرف من الإفضال، لكان في نظر أمير المؤمنين لعامته، وما يحب من لمِّ أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرًا من عنايته، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله، فكيف بمسألة ما أوجبه الحق، ووكدته مأخوذه العهد؟ وإني لأعلم أن أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع ما كتب بمسألته إلي، ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان إن شاء الله».

ألا يجدر بنا — وقد اطلعنا على تلك المشاورة السياسية التي يجوز لك أن تقول عنها، بالنسبة لوقتها وجيلها، وموضوعات وقتها وجيلها: إنها لا تقل في دقتها وحذقها وقوة مناحيها عمَّا يجري حول المائدة الخضراء بين ساسة اليوم — أن نقول: إن المأمون قد حُصِّن بساسة عُتاة ومُشيرين دُهاة.

ثم انظر إلى مبالغة المأمون في حذره، أو مبالغة حزبه في الحيطة والحذر، فقد أثبت المؤرخون أنهم قد وجَّهوا حُرَّاسًا من قِبَلهم على الحدود حتى لا يتركوا للأمين أو لرجاله فرصة الاتصال برعية المأمون، وبالغوا أيَّما مبالغة في تدبيرهم حتى جاء كما يقول الرواة: «تدبيرًا مؤيدًا، وعقدًا مستحصدًا متأكدًا، فضمنوا بذلك ألا تحمل رعيتهم على منوال خلاف أو مفارقة».

وهنا لا نرى مندوحة من إثبات ذلك المجهود العظيم الذي بذله الفضل بن الربيع أو الأمين، كيفما شئت التعبير، في استمالة القلوب النافرة من الجماعة المأمونية، فقد كان، والحق يقال، طلق اليدين، ندي الكفين، كثيرةً جدواه، وافرةً حُذْياه، عظيمة عطاياه، ولم يألُ جهدًا في إرسال دعاته وأنصاره لبثِّ الدعوة الأمينية في العامة، وإظهارهم على رجحانها وحقها وعدلها، وإظهار الحجة المفارقة، والدعاء لأهل القوة إلى المخالفة. وكان هؤلاء الدعاة يبذلون المال، ويضمنون للأنصار معظم الولايات والقطائع، وصفوة القول أن تصرف الأمين وجماعته من هذه الناحية كان قريب الشبه بتصرف المأمون وجماعته.

ولكن هؤلاء الدعاة وجدوا جميع ذلك ممنوعًا محسومًا، حتى صاروا إلى باب المأمون، وهنا يجب أن نقول: إن الحرب الكلامية قد بدأت تشتد بين الأخوين، والحرب الكلامية، أيدك الله، هي ميزة هامة من ميزات العصر العباسي، وقد صدق «كشاجم» في قوله مشيرًا إلى عداوة أصحاب الأقلام في تلك الدولة ومهادنة أصحاب السيوف:

هنيئًا لأصحاب السيوف بطالة
تُقضَّى بها أوقاتهم في التنعم
فكم فيهم من وادع العيش لم يهج
لحرب ولم ينهد لقرن مصمم
يروح ويغدو عاقدًا في نجاده
حسامًا سليم الحد لم يتثلم
ولكن ذوو الأقلام في كل ساعة
سيوفهم ليست تجف من الدم

وإن المطلع على تاريخ العصر، المستقصي لدقائقه وجلائله، الواقف على أسراره وخفياته، وآدابه ومشاوراته، ليوافق أولئك الذين يذهبون في القول بأن قِوام السياسة في هذه الدولة كان على التحيل والمخادعة أكثر مما كان على القوة والشدة.

لننتقل الآن إلى ذكر الكتاب الذي بعث به الأمين إلى أخيه مع رسله الذين بعثهم للدعوة وإثارة رجالات المأمون قبل كل اعتبار، فهاكه: «أما بعد، فإن أمير المؤمنين الرشيد وإن كان أفردك بالطرف، وضم ما ضم إليك من كور الجبل تأييدًا لأمرك، وتحصينًا لطرفك، فإن ذلك لا يوجب لك فضلة المال عن كفايتك، وقد كان هذا الطرف وخراجه كافيًا لحدثه، ثم يتجاوز بعد الكفاية إلى ما يفضل من رده، وقد ضم لك إلى الطرف كورًا من أمهات كور الأموال لا حاجة لك فيها، فالحق فيها أن تكون مردودة في أهلها ومواضع حقها، فكتبت إليك أسألك رد تلك الكور إلى ما كانت عليه من حالها؛ لتكون فضول ردها مصروفة إلى مواضعها، وأن تأذن لقائم بالخبر يكون بحَضْرتك يؤدي إلينا علم ما نُعنَى به من خبر طرفك، فكتبت تَلِطُّ دون ذلك بما إن تم أمرك عليه صيَّرنا الحقُّ إلى مطالبتك، فانثنِ عن همِّك أنثنِ عن مطالبتك، إن شاء الله».

ورد الكتاب على المأمون، وقرأه المأمون وجماعته، فسرعان ما رد المأمون وحزبه عليه بهذا الكتاب: «أما بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب فيما جهل فأكشف له عن وجهه، ولم يسأل ما لا يوجبه حق فيلزمني الحجة بترك إجابته، وإنما يتجاوز المناظران منزلة النصفة ما ضاقت النصفة عن أهلها، فمتى تجاوزها متجاوز، وهي موجودة الوسع، لم يكن تجاوزها إلا عن نقضها واحتمال ما في تركها، فلا تبعثني يا ابن أبي على مخالفتك وأنا مُذعِن بطاعتك، ولا على قطيعتك وأنا على إيثار ما تحب من صلتك، وارض بما حكم به الحق في أمرك أكن بالمكان الذي أنزلني به الحق فيما بيني وبينك، والسلام».

ثم انظر إلى نعومة المأمون السياسية — ونثق أنها ستروقك كثيرًا، وأنك ستشهد بعلو كعب صاحبها في الفنون السياسية — فإن التاريخ يُحدِّثنا أنه أحضر رُسلَ أخيه وقال لهم: «إن أمير المؤمنين كتبتُ إليه في أمرٍ كتَب إليَّ جوابه، فأبلغوه الكتاب، وأعلموه أني لا أزال على طاعته، حتى يضطرني بترك الحق الواجب إلى مخالفته»، فأراد أعضاء الوفد الأميني أن يذهبوا في أفانين القول، وأرادوا المحاجَّة والمدافعة، وأرادوا المفاوضة والمناقشة، ولكن المأمون السياسي المتيقظ جبار العقل قطَع عليهم سبيل القول وسبيل التفكير؛ إذ جابههم بقوله: «قفوا أنفسكم حيث وقفنا بالقول بكم! وأحسنوا تأدية ما سمعتم، فقد أبلغتمونا من كتابنا ما لا عسى أن تقولوه لنا».

انصرف أعضاء الوفد ولم يستطيعوا أن يثبتوا لأنفسهم حجة قبل المأمون، ولم يوفقوا إلى حمل خبر يؤدونه إلى صاحبهم، ورأوا من المأمون وجماعة المأمون كما يقول الطبري: «جِدًّا غير مشوب بهزل في منع ما لهم من حقِّهم الواقع بزعمهم».

وصل الخبر إلى الأمين فأرغى وأزبد، واستمرت الحرب الكلامية على حدتها بين الأخوين بشأن المال الذي تركه الرشيد وبشأن غير المال، مما يصح الاطلاع عليه، وعلى ما رواه سهل بن هارون وأضرابه وصفًا لذلك في مظانه.

على أنه يجدر بنا هنا أن نشير إلى ما كان من نصيحة قدمها للأمين أحدُ رجالات عصره المشهود لهم بالحزم ونضوج الرأي، وهو يحيى بن سليم، حينما عزم على خلع أخيه، لعلاقتها بما نحن في سبيل القول فيه من ناحية، ولأنها تساعدنا فوق ذلك على تفهم «الدبلوماتيقية العباسية» في ذلك العصر من ناحية أخرى، وأخيرًا لأنها تبين لنا فرق ما بين الأمين والمأمون في تقدير المشورة والأخذ بالنصيحة.

قال يحيى بن سليم للأمين حين مشاورته له في خلع المأمون: «يا أمير المؤمنين، كيف بذلك لك مع ما قد وكَّد الرشيد من بيعته، وتوثق بها من عهده، والأخذ للأيمان والشرائط في الكتاب الذي كتبه؟» فقال له محمد: «إن رأي الرشيد كان فلتة شبهها عليه جعفر بن يحيى بسحره، واستماله بُرقاه وعُقده، فغرس لنا غرسًا مكروهًا لا ينفعنا ما نحن فيه معه إلا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور إلا باجتثاثه والراحة منه» فقال: «أما إذا كان رأي أمير المؤمنين خلعه فلا تجاهره مجاهرة، فيستنكرها الناس ويستشنعها العامة، ولكن تستدعي الجند بعد الجند، والقائد بعد القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، ونُفرِّق في ثقاته ومن معه، وتُرغِّبهم بالأموال وتستميلهم بالأطماع، فإذا وهنت قوته واستفرغت رجاله أمَرته بالقدوم عليك، فإن قدِم صار إلى الذي تريد منه، وإن أبى كنت قد تناولته وقد كلَّ حدُّه وهيض جناحه، وضعف ركنه وانقطع عزه» فقال محمد: «ما أقطع أمرًا كصريمة! أنت مهذار خطيب، ولستَ بذي رأيٍ، فزُلْ عن هذا الرأي إلى الشيخ الموفق والوزير الناصح، قُمْ فالحق بمدادك وأقلامك».

ونرى من المستصوب، بعد هذا الاستطراد، أن نشير هنا إلى ما رواه الطبري من أن الفضل بن سهل كان قد دسَّ قومًا اختارهم ممن يثق بهم من القواد والوجوه ببغداد؛ ليكاتبوه بأخبار الأمين وجماعته يومًا فيومًا. وكان التجسس لذلك العهد فنًّا منظمًا متقدمًا، فكان للأمين، وهو ولي عهد، على والده الرشيد عيون، وكان لأخيه حين ذاك عيون، وكان للخليفة على ولاته وعماله وأولاده عيون، ولولاته وعماله عليه عيون، وكان للوزراء والكبراء والزعماء وغيرهم مثل ذلك من العيون والأرصاد بعضهم على بعض، وكانت روح العصر تساعد على ذيوع الجاسوسية واستفحال أمرها، فمن المعقول إذا شاور الأمين أو الفضل بن الربيع أحدًا وقال بما فيه مصلحة القضية المأمونية، أن يصل خبر ذلك من فوره إلى المأمون، فيقف بذلك المأمون وجماعته على جلية الخبر وحقيقة الحال عند خصومهم السياسيين. ونكاد نرجح من ناحيتنا أن لتقدم فن الجاسوسية عند المأمون أثره العظيم في غلبته وظهوره على أخيه.

ولننتقل الآن إلى أخبار سنة خمس وتسعين ومائة، ولننظر في حوادثها الجسام نظرة عجلى فيما يهمنا مما نحن في صدده من بحوثنا هذه، فنجد أن الخصومة السياسية بين الأخوين حملت الأمين على أن يأمر بإسقاط ما كان ضُرب لأخيه عبد الله المأمون من الدنانير والدراهم بخراسان في السنة التي قبلها؛ وذلك لأن المأمون كان أمر ألا يثبت فيها اسم محمد، وقال بعض المؤرخين: إن تلك الدنانير والدراهم كانت لا تجوز في بعض الأحايين، وكانت تدعى بالرباعية.

وقد سبق لنا القول: إن الأمين أمر بالامتناع عن الدعاء لأخويه: المأمون والقاسم، وإنه أمر بالدعاء لنفسه ولطفله الصغير من بعده، وإنه صدر في ذلك كله عن رأي الفضل بن الربيع وجماعة الفضل بن الربيع، مما كان من نتائجه نشوب الحرب الكلامية بين الأخوين، وإنذارها بوقوع شر مستطير بين الأميرين.

(٥) نفور الرأي العام واستمرار الوفود السياسية

ونريد الآن أن نقفك على مبلغ نفور الرأي العام من فعل الأمين وجماعته مما رواه لنا المؤرخون، وسنلخصه لك — كطريقتنا التي أخذنا بها أنفسنا، والتي لم نَحِد عنها إلا إذا دعت الضرورة والمصلحة إلى تصوير أمر هام يحتاج إلى الشرح والإيضاح — ونعتمد في تلخيصنا هذا على مصادر عدة؛ منها: الطبري وابن الأثير واليعقوبي وغيرهم من الفرنجة الذين كتبوا في التاريخ الإسلامي في العصر الذي نحن بسبيل القول فيه.

روى المؤرخون أن محمدًا الأمين عقد في السنة التي نسرد عليك مجمل أخبارها لعلي بن عيسى بن ماهان على كور الجبل كلها: نهاوند وهمذان وقم وأصفهان، حربها وخراجها، وضم إليه جماعة من القواد، وأمَر له، فيما ذكر، بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطى الجند مالًا عظيمًا، وأمر له بألفي سيف من السيوف المحلاة، وستة آلاف ثوب للخِلَع، وقيل: إن محمدًا الأمين أحضر بعد ذلك رجال بيته ومشيريه وتكلم فيهم بما كان بين الأخوين، وكان من المنتظر لو أن للأمين ظهيرًا من الرأي العام أن يجد من يمتدح فعلته، أو يخطب في نشر الدعوة له، وبيان أنه على حق فيما يريد أن يفعل، ولكنا نجد أنه انتهى إلى آخر كلامه فلم يتكلم بعده إلا ثلاثة من جماعته الظاهرين ممن عرفنا مصالحهم في الزلفى إليه والتقرب منه؛ وهم: سعيد بن الفضل الخطيب، ومحمد بن عيسى بن نهيك، والفضل بن الربيع.

على أنا يجب أن نقول: إن الفضل بن الربيع كان ماكرًا أعظم ماكر، ولكن مَكْره كان مفضوحًا في هذا الموقف، فقد قال في معرض كلامه: «إن الأمير موسى بن أمير المؤمنين قد أمر لكم، يا معاشر أهل خراسان، من صُلب ماله بثلاثة آلاف درهم تُقسم بينكم».

نقول: إن مَكْره كان مفضوحًا لأنَّا نعلم أن موسى كان طفلًا غرًّا لا يفهم هذه الأمور ولا يعقلها، ولكن الفضل أراد أن يُقرَّ عين الأمين، ولا يمكن أن يكون جادًّا في رغبته في إثارة الخراسانيين بهذه الطريقة المكشوفة، ولكنها البطانة يأبى عليها رياؤها ونفاقها وتزلفها إلا أن تُصوِّر لولي نعمتها أمير المؤمنين أنه الحكمة والعدل، وأنه النباغة والعبقرية، وأن سلالته قد جمَع أحداثُها مرانة الشيوخ وكفايتهم، وأصالة المُجرِّبين ودرايتهم، وذكاء النوابغ ومواهبهم، وهكذا تستمر البطانة على نغمتها هذه؛ لا صفة بمَن عداه وعدا حامَّته وخاصَّته، ما شاء هوى الخليفة، حتى يقع في روعه أن حاشيته لا تنطق إلا حقًّا، ولا تقول إلا صدقًا.

ولنتساءل الآن: ماذا كان من المأمون إزاء تصرفات أخيه؟

إنه لم يتهاون البتة في أموره صغيرها وكبيرها، وكان يقابل كل تصرف من أخيه بمثيله ونظيره، مع وضع كل شيء موضعه، واستقصاء المصلحة والصواب في تصرفه.

وقد تراسل الأخوان بعد ذلك بكتب عدة، وإنا نثبت هنا نص كتاب المأمون ردًّا على كتاب بعث به إليه الأمين مع وفد سياسي في شأن البيعة لابنه موسى، قال: «أما بعد، فقد انتهى إلي كتاب أمير المؤمنين منكرًا لإبائي منزلة تهضَّمني بها، وأرادني على خلاف ما يعلم من الحق فيها، ولعمري إن أورد أمير المؤمنين موارد النصفة، فلم يطالب إلا بها ولم يوجب نكرة تركها لانبسطتْ بالحجة مطالع مقالته، ولكنت محجوجًا بمفارقة ما يوجب من طاعته، فأما وأنا مذعن بها، وهو على ترك أعمالها، فأولى به أن يدير الحق في أمره، ثم يأخذ به ويعطي من نفسه، فإن صرتُ إلى الحق فرغت عن قلبه، وإن أبيت الحق قام بمعذرته، وأما ما وعد من برِّ طاعته، وأوعد من الوطأة بمخالفته، فهل أحد فارق الحق في فعله فأبقى للمُتبيِّن موضع ثقة بقوله؟! والسلام».

ولقد كان من تصرفات المأمون إزاء تصرفات أخيه وحاشيته أن كتب إلى علي بن عيسى، قائد الجيوش الأمينية، لمَّا بلغه ما عزم عليه:

أما بعد، فإنك في ظل دعوة لم تزل أنت وسلفك بمكان ذبٍّ عن حريمها، وعلى العناية لحفظها، ورعاية لحقها، توجبون ذلك لأئمتكم، وتعتصمون بحبل جماعتكم، وتعطون بالطاعة من أنفسكم، وتكونون يدًا على أهل مخالفتكم، وحزبًا وإخوانًا لأهل موافقتكم تؤثرونهم على الآباء والأبناء، وتتصرفون فيما تصرفوا فيه من منزلة شديدة ورخاء لا ترون شيئًا أبلغ في صلاحكم من الأمر الجامع لألفتكم، ولا أجْرَى لبواركم مما دعا بشتات كلمتكم، ترون من رغب عن ذلك جائزًا عن القصد، ومن أمَّه على منهاج الحق، ثم كنتم على منهاج الحق، ثم كنتم على أولئك سيوفًا من سيوف نقم الله، فكم من أولئك قد صاروا وديعة مَسبعةٍ وجَزَرًا جامدة، قد سفَت الرياحُ في وجهه، وتداعَت السباع إلى مصرعه غير ممهد ولا موسَّد قد صار إلى أُمِّه … وغير عاجل حظه ممن كانت الأئمة تنزلكم لذلك بحيث أنزلتم أنفسكم من الثقة بكم في أمورها، والتقدمة في آثارها، وأنت مستشعر دون كثير من ثقاتها وخاصتها، حتى بلغ الله بك في نفسك أن كنت قريع أهل دعوتك، والعالم القائم بمعظم أمر أمتك، إن قلتَ ادنُوا دَنَوا وإن أشرتَ أقبِلُوا أقبَلوا، وإن أمسكت وقفوا وقرُّوا وِئامًا لك واستنصاحًا، وتزداد نعمة مع الزيادة في نفسك، ويزدادون نعمة مع الزيادة لك بطاعتك، حتى حللت المحل الذي قربت به من يومك، وانقرض فيما دونه أكثر مدتك، لا يُنتظر بعدها إلا ما يكون ختام عملك من خير فيرضَى به ما تقدم من صالح فعلك، أو خلافٍ فيضلُّ له متقدم سعيك. وقد ترى، يا أبا يحيى، حالًا عليها جلوت أهل نعمتك، والولاة القائمة بحق إمامتك، من طعن في عُقدة كنتَ القائم بشدِّها، وبعهود توليت معاقد أخذها، يُبدأ فيها بالأخصِّين حتى أفضى الأمر إلى العامة من المسلمين، بالأيمان المحرجة والمواثيق المؤكدة، وما طلع مما يدعو إلى نشر كلمة وتفريق أمة وشت جماعة، وتتعرض به لتبديل نعمة وزوال ما وطَّأت الأسلاف من الأئمة. ومتى زالت نعمة من ولاة أمركم وصل زوالها إليكم في خواص أنفسكم، ولن يُغير الله ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم. وليس الساعي في نشرها بساعٍ فيها على نفسه دون السعي على حمَلَتها القائمين بحرمتها، قد عرضوهم أن يكونوا جَزَرًا لأعدائهم، وطُعْمة قوم تتظفر مخالبهم في دمائهم، ومكانك المكان الذي إن قلتَ رُجع إلى قولك، وإن أشرت لم تُتَّهم في نصيحتك، ولك مع إيثار الحق الحظوة عند أهل الحق — ولا سواء مَن حَظِي بعاجل مع فراق الحق فأوبق نفسه في عاقبته، ومَن أعان الحق فأدرك به صلاح العاقبة مع وفور الحظ في عاجلته — وليس لك ما تُستدعَى ولا عليه ما تُستعطف، ولكنه حق من حق أحسابك يجب ثوابه على ربك، ثم على من قمت بالحق فيه من أهل إمامتك، فإن أعجزك قول أو فعل، فصر إلى الدار التي تأمن فيها على نفسك، وتحكم فيها برأيك، وتجاوز إلى مَن يحسن تقبُّلًا لصالح فعلك، ويكون مرجعك إلى عقدك وأموالك، ولك بذلك الله، وكفى بالله وكيلًا، وإن تعذر ذلك بقيَّةً على نفسك فإمساكًا بيدك وقولًا بحق ما لم نخَفْ وقوعه بكرهك، فلعل مقتديًا بك ومغتبطًا بنهيك، ثم أعلمني رأيك أعرفه إن شاء الله.

على أن ما يرمي إليه الرواة من تحقير شأن الأمين لا يحول بينك وبين تبيُّن حقيقة الأمين ورجاله؛ لأنك ستلاحظ بلا ريب، في ثنايا سطورهم وفلتات الحوادث التي يروونها لك، ما قد يتيح لك أن تؤمن أن عند الأمين بعض رجالات أفذاذ، فإن الطبري يحدثنا في حوادث سنة خمس وتسعين ومائة، أن ابن الربيع أشار على الأمين بأن يكتب لأخيه كتابًا تستطيب به نفسه وتسكن وحشته؛ فإن ذلك أبلغ في التدبير وأحسن في القالة من مكاثرة بالجنود، ومعاجلته بالكيد، وإنه لذلك أحضر له إسماعيل بن صبيح للكتابة إلى عبد الله، قال: «يا أمير المؤمنين، إن مسألتك الصفح عما في يديه توليد للظن، وتقوية للتهمة، ومدعاة للحذر، ولكن اكتب إليه فأعلمه حاجتك إليه، وما تحب من قربه والاستعانة برأيه، وسَلْه القدوم إليك؛ فإن ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته وإجابته».٣

فقال الفضل: القول ما قال يا أمير المؤمنين.

قال: فليكتب بما رأى، قال: فكتب إليه:

من عند الأمين محمد أمير المؤمنين إلى عبد الله بن هارون أمير المؤمنين

أما بعد، فإن أمير المؤمنين رأى في أمرك والموضع الذي أنت فيه من ثغرك، وما يؤمل في قربك من المعاونة والمكانفة على ما حمَّله الله وقلَّده من أمور عباده وبلاده، وفكَّر فيما كان أمير المؤمنين الرشيد أوجب لك من الولاية، وأمر به من إفرادك على ما يصير إليك منها، فرجا أمير المؤمنين ألا يدخل عليه وَكَفٌ في دينه، ولا نكث في يمينه، إذ كان إشخاصه إياك فيما يعود على المسلمين نفعُه، ويصل إلى عامتهم صلاحه وفضله.

وعلم أمير المؤمنين أن مكانك بالقرب منه أسدُّ للثغور وأصلحُ للجنود وآكد للفيء، وأردُّ على العامة من مقامك ببلاد خراسان مُنقطعًا عن أهل بيتك، متغيبًا عن أمير المؤمنين وما يحب الاستماعَ به من رأيك وتدبيرك. وقد رأى أمير المؤمنين أن يولي موسى ابن أمير المؤمنين فيما يُقلِّده من خلافتك ما يحدث إليه من أمرك ونهيك، فاقدَمْ على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه، بأبسط أمل، وأفسح رجاء، وأحمد عاقبة، وأنفذ بصيرة، فإنك أولى مَن استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النصب فيما فيه صلاح أهل بيته وذمته. والسلام.

ولننظر إلى ما يرويه لنا ابن جرير الطبري عن أعضاء هذا الوفد، فإنه يقول:

لما وصلوا إلى عبد الله أذن لهم، فدفعوا إليه كتاب محمد وما كان بعَث به معهم من الأموال والألطاف، ثم تكلم العباس بن موسى بن عيسى فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الأمير! إن أخاك قد تحمل من الخلافة ثقلًا عظيمًا، ومن النظر في أمور الناس عبئًا جليلًا، وقد صدقت نيتُه في الخير، فأعوزه الوزراء والأعوان والكُفاة على العدل، وقليل ما يأنس بأهل بيته، وأنت أخوه وشقيقه وقد فزع إليك في أموره وأمَّلك للمؤازرة والمكانفة، ولسنا نستبطئك في برِّه اتهامًا لنصرك له، ولا نَحضُّك على طاعته تخوفًا لخلافك عليه، وفي قُدومك عليه أنس عظيم وصلاح لدولته وسلطانه، فأجب أيها الأمير دعوة أخيك، وآثر طاعته، وأعِنْه على ما استعانك عليه في أمره، فإن في ذلك قضاء الحق، وصلة الرحم، وصلاح الدولة، وعز الخلافة. عزم الله للأمير على الرشد في أموره، وجعل له الخيرة والصلاح في عواقب رأيه.

وتكلم عيسى بن جعفر بن أبي جعفر فقال: إن الإكثار على الأمير — الله! الله! — في القول خرق، والاقتصار في تعريفه ما يجب من حق أمير المؤمنين تقصير، وقد غاب الأمير — أكرمه الله — عن أمير المؤمنين، ولم يستغن عن قربه من شهد غيره من أهل بيته، ولا يجد عنه غنًى، ولا يجد منه خلفًا ولا عوضًا، والأمير أولى من برَّ أخاه وأطاع إمامه؛ فليعمل الأمير فيما كتب به إليه أمير المؤمنين بما هو أرضى وأقرب من موافقة أمير المؤمنين ومحبته، فإن القدوم عليه فضل وحظ عظيم، والإبطاء عنه وكَفٌ في الدين، وضرر ومكروه على المسلمين.

وتكلم محمد بن عيسى بن نهيك فقال: أيها الأمير، إنا لا نزيدك بالإكثار والتطويل فيما أنت عليه من المعرفة بحق أمير المؤمنين، ولا نشحذ نيتك بالأساطير والخطب فيما يلزمك من النظر والعناية بأمور المسلمين.

وقد أعوز أمير المؤمنين الكُفَاة والنصحاء بحضرته، وتناولك فزعًا إليك في المعونة والتقوية له على أمره، فإن تُجِب أميرَ المؤمنين فيما دعاك إليه فنعمة عظيمة يتلافى بها رعيتك وأهل بيتك، وإن تقعد يُغْن الله أمير المؤمنين عنك، ولن يضعه ذلك مما هو عليه من البرِّ بك، والاعتماد على طاعتك ونصيحتك.

وتكلم صالح صاحب المُصلَّى فقال: أيها الأمير، إن الخلافة ثقيلة، والأعوان قليل، ومن يكيد هذه الدولة وينطوي على غشها والمعاندة لأوليائها من أهل الخلاف والمعصية كثير، وأنت أخو أمير المؤمنين وشقيقه، وصلاح الأمور وفسادها راجع عليك وعليه؛ إذ أنت ولي عهده والمُشارك في سلطانه وولايته، وقد تناولك أمير المؤمنين بكتابه، ووثق بمعاونتك على ما استعانك عليه من أموره، وفي إجابتك إياه إلى القدوم عليه صلاح عظيم في الخلافة، وأنس وسكون لأهل الملة والذمة. وفَّق الله الأمير في أموره، وقضى له بالذي هو أحب إليه وأنفع له.

ثم انظر، رعاك الله، إلى مبلغ دهاء الفضل ودقة سياسته ومحكم أمره وما يرويه بنفسه عن صنيعه مع أحد أعضاء الوفد في إحدى الدفعات التي أُرسل فيها إلى المأمون، لأنَّا نلاحظ وفود الأمين قد أُرسلت إلى أخيه المأمون أكثر من مرة، قال: «أعجبني ما رأيت من ذكاء العباس بن موسى، فخلوتُ به فقلتُ: يذهب عليك بعقلك وسنِّك أن تأخذ بحظك من الإمام — أي المأمون؛ إذ سُمِّي بذلك بسبب خلع الأمين له — فقال له العباس: قد سميتموه بالإمام!» فأجابه الفضل: «قد يكون إمام المسجد والقبيلة! فإن وفيتم لم يضركم، وإن غدرتم فهو ذاك» ثم وصل إلى أن قال للعباس: «لك عندي ولاية الموسم، ولا ولاية أشرف منها، ولك من مواضع الأعمال بمصر ما شئت …»

وصل الفضل إلى ذلك القول وما بَرِح به حتى أخذ عليه البيعة للمأمون بالخلافة، وتحول الأمر إلى أن أصبح للحزب المأموني من العباسِ العينُ التي تبلغهم الأخبار، والمتفاني في المأمونية يمدهم بالأفكار، ويشير عليهم بالآراء، وحتى أضحى منه الشخص الذي يقول لعلي بن يحيى السرخسي: إن ذا الرياستين أكبر مما وصفت، وإنه قد صافح المأمون الإمام، وإنه لذلك يمسح يده على رأس علي بن يحيى لتَنَالَه البركةُ والخير. فتأمل!

وإنه جميل حقًّا أن نرى المأمون يتريث في أمره تريث العاقل الحكيم لما جاءه الوفد الأميني، ويتصرف تصرف الكيس الحاذق إذ قال لهم، فيما أثبت الرواةُ، بعد أن حاجُّوه وناقشوه في أمر الأمين: قد عرفتموني من حق أمير المؤمنين، أكرمه الله، ما لا أُنكره، ودعوتموني من الموالاة والمعونة إلى ما أُوثره ولا أدفعه، وأنا لطاعة أمير المؤمنين مقدم، وعلى المسارعة إلى ما سرَّه ووافقه حريص، وفي الروية تبيان الرأي، وفي إعمال الرأي نصح الاعتزام. والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخر عنه تثبطًا ومدافعة، ولا أتقدم عليه اعتسافًا وعجلة وأنا في ثغرٍ من ثغور المسلمين كَلِبٍ عدوُّه شديد شوكته، وإن أهملت أمره لم آمن دخول الضرر والمكروه على الجنود والرعية، وإن أقمت عليه لم آمن فوت ما أُحبُّ من معونة أمير المؤمنين ومؤازرته وإيثار طاعته؛ فانْصَرِفوا حتى أنظر في أمري ونصح الرأي فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله، ثم أمر بإنزالهم وإكرامهم والإحسان إليهم.

تريث المأمون مع الوفد تريث العاقل الحكيم وإن كان في الواقع قد هاله الأمر وخشي سوء مغبته، ويذكر لنا أحد المعاصرين، وهو سفيان بن محمد، أن المأمون لما قرأ الكتاب سُقِط في يده، وتعاظمه ما ورد عليه منه، ولم يَدرِ ما يردُّ عليه، فدعا الفضل بن سهل فأقرأه الكتاب وقال: ما عندك في هذا الأمر؟ قال: أرى أن تتمسك بموضعك، ولا تجعل علينا سبيلًا وأنت تجد من ذلك بدًّا، قال: وكيف يمكنني التمسك بموضعي ومخالفة محمد وعِظَمُ القواد والجنود معه، وأكثر الأموال والخزائن قد صارت إليه، مع ما قد فرق في أهل بغداد من صلاته وفوائده، وإنما الناس مائلون مع الدراهم منقادون لها، لا ينظرون إذا وجدوها حفظ بيعة ولا يرغبون في وفاء عهد ولا أمانة؟ فقال له الفضل: إذا وقعت التهمة حق الاحتراس، وأنا لغَدْر محمد مُتخوِّف، ومن شَرَهِه إلى ما في يديك مشفق، ولأن تكون في جندك وعزك مقيمًا بين ظهراني أهل ولايتك أحرى، فإن دهمك منه أمر جردت له وناجزته وكايدته، فإما أعطاك الله الظفر عليه بوفائك ونيتك، أو كانت الأخرى فمِتْ محافظًا مُكرمًا غير مُلقٍ بيديك ولا مُمكِّنٍ عدوك من الاحتكام قي نفسك ودمك، قال: إن هذا الأمر لو كان أتاني وأنا في قوة من أمري وصلاح من الأمور كان خطبه يسيرًا، والاحتيال في دفعه ممكنًا، ولكنه أتاني بعد إفساد خراسان، واضطراب عامرها وغامرها، ومفارقة جيغويه الطاعة، والتواء خاقان صاحب التبت، وتهيُّؤ ملك «كابل» للغارة على ما يليه من بلاد خراسان، وامتناع ملك أترابنده بالضريبة التي كان يؤديها، وما لي بواحدة من هذه الأمور يدٌ، وأنا أعلم أن محمدًا لم يطلب قدومي إلا لشر يريده، وما أرى إلا تخلية ما أنا فيه واللحاق بخاقان ملك الترك والاستجارة به وببلاده، فبالحَرَى أن آمن على نفسي وأمتنع ممن أراد قهري والغدر بي، فقال له الفضل: أيها الأمير، إن عاقبة الغدر شديدة، وتبعة الظلم والبغي غير مأمون شرها، ورُبَّ مستذلٍّ قد عاد عزيزًا، ومقهور قد عاد قاهرًا مستطيلًا، وليس النصر بالقلة والكثرة، وحرج الموت أسلم من حرج الذل والضيم، وما أرى أن تفارق ما أنت فيه، وتصير إلى طاعة محمد متجردًا من قوادك وجندك كالرأس المختزل عن بدنه، يجري عليك حكمه فتدخل في جملة أهل مملكته من غير أن تُبلي عذرًا في جهاد ولا قتال، ولكن اكتب إلى جيغويه وخاقان، فولِّهما بلادهما، وعِدْهما التقوية لهما في محاربة الملوك، وابعث إلى ملك كابل بعض هدايا خراسان وطُرفها وسَلْه المُوادعة تجدْه على ذلك حريصًا، وسلِّم لملك أترابنده ضريبته في هذه السنة، وصيِّرها صِلةً منك وصلْتَه بها، ثم اجمع إليك أطرافك، واضمُم إليك من شذَّ من جندك، ثم اضرب الخيل بالخيل والرجال بالرجال، فإن ظفرت وإلا كنت على ما تريد من اللحاق بخاقان قادرًا. فعرف عبد الله صدق ما قال، فقال: اعمل في هذا الأمر وغيره من أموري بما ترى. فتدبَّر، وفَّقك الله، هذا التفكير الدقيق، وهذه السياسة المُحكَمة الأطراف من كليهما.

ثم انظر إلى تصرف المأمون الحكيم، بعد ما قدمناه لك، فإنه أنفذ الكتب إلى رجاله وأنصاره، وعمل على لمِّ شعثه ورأب صَدْعه، واستقدم طاهر بن الحسين، عامله على الري، ليعهد إليه في قيادة جنده، ثم مكث يُدبِّر الرأي فيما يجيب به أخاه، واستقر رأيه على مناجزة أخيه ومنازلته، بعد أن أعلمه ابن سهل أن النصر له، وأن النجوم تنبئ بذلك.

وانظر ما يرويه لنا المؤرخون من أنه كتب إلى الأمين:

أما بعد، فقد وصل إلي كتاب أمير المؤمنين، وإنما أنا عامل من عماله، وعون من أعوانه، أمرني الرشيد، صلوات الله عليه، بلزوم هذا الثغر، ومكايدة من كايد أهله من عدو أمير المؤمنين، ولعمري إن مقامي به أرد على أمير المؤمنين، وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين، وإن كنت مغتبطًا بقربه، مسرورًا بمشاهدة نعمة الله عنده، فإن رأى أن يُقرِّني على عملي، ويعفيني من الشخوص إليه فعَل إن شاء الله. والسلام.

ثم دعا العباس بن موسى وعيسى بن جعفر ومحمدًا وصالحًا فدفع إليهم الكتاب، وأحسن إليهم في جوائزهم، وحمل إلى محمد ما تهيأ له من ألطاف خراسان، وسألهم أن يُحسِّنوا أمره عنده، وأن يقوموا بعذره لديه.

(٦) إعلان الحرب

ولننتقل الآن إلى الكلام عن الحرب العملية التي تلت هذه الحرب الكلامية، كما هو المنتظر، إن التاريخ يحدثنا أن الأمين ورجال الأمين بدءوا في تعبية الجنود، كما بدأ المأمون ورجال المأمون في حشد الكتائب، وإنا لنرتاب كثيرًا في صحة ما ذكره الرواة من أن طاهر بن الحسين، القائد العام للجيوش المأمونية، كان في جيش عدته ثمانمائة وثلاثة آلاف، بينما كان علي بن عيسى بن ماهان، القائد العام للجيوش الأمينية، في زهاء أربعين ألفًا، ونرجح كثيرًا أن الرواة قد نقصوا عدد الجنود المأمونية ليُظهروا للناس مبلغ كفاية طاهر، وأنه استطاع بجند قليل عددهم أن يُنازِل جيوشًا جرارة ويغلبها على أمرها؛ لأنهم كثيرًا ما يجنحون إلى الإغراق والمبالغة في مثل هذه المواقف من مظاهرتهم للأقوياء وانتقاصهم للضعفاء، كما أسلفنا.

نشك في صحة ذلك كثيرًا، ونشك كذلك فيما يروونه من أن الجيوش المأمونية قد عثرت في عسكر ابن ماهان على سبعمائة كيسٍ، في كل كيس ألف درهم، وأنها عثرت كذلك على صناديق عدة فيها خمر سوادي وقناني عِدَّة!

قد يكون أمر الأموال صحيحًا، ولكننا نميل إلى الافتراض بأن أمر الصناديق العدة إن لم يكن مكذوبًا في جملته بقصد الزراية بالجماعة الأمينية، فهو مغالًى فيه كثيرًا.

ويذهب ابن الأثير في بيان غرور علي بن عيسى بن ماهان إلى أنه لما قرب من الري ظن أن طاهر بن الحسين، قائد القوات المأمونية، لا يثبت له، وأن عليًّا قال: «ما طاهر إلا شوكة من أغصاني وشرارة من ناري، وما مثل طاهر يؤمَّر على جيشٍ، وما بينه وبين الأمين٤ إلا أن تقع عينه على سوادكم، فإن السِّخال لا تقوى على نِطاح الكباش، والثعالب لا تقوى على لقاء الأُسد»، وأن علي بن عيسى بن ماهان قال لابنه لما أشار عليه بأن يبعث طلائع ويرتاد موضعًا لعسكره: «ليس طاهر يُستعدُّ له بالمكايد والتحفُّظ؛ إن حال طاهر يؤدي إلى أمرين: إما أن يتحصن بالري فيثب به أهلها ويكفونا مئونته، أو يُخلِّيها ويُدبر»، فقال له ابنه: «إن الشرارة ربما صارت ضرامًا»، فأجابه: «إن طاهرًا ليس قِرنًا في هذا الموضع، وإنما تحترس الرجال من أقرانها».

ونحن نقول: إن من الجائز أن يكون شيء من هذا قد وقع، ومن الجائز أن يكون بعليِّ بن ماهان زهو وغرور وقصرُ نظرٍ وسُوء تدبير، وقد يكون عليٌّ حين المقارنة والموازنة أقل شأنًا من مُنازِله وخصمه طاهر بن الحسين، ولكنا مع ذلك نحس إحساسًا لا يعدو الواقع كثيرًا أن هذا الحديث المعزو إليه من قبيل الروايات المنحولة، والقصص المخترعة التي كثيرًا ما تُخترع وتُنحَل في مثل تلك الظروف.

على أنا مع ذلك نقرر أن الجيوش المأمونية كانت على أتم تعبية، وأكمل كفاية، وأدق نظام، وأحسن حال، وأن خديعة طاهر وقواد طاهر من حمل صورة البيعة على أسنة رماحهم٥ تعيد إلى الأذهان ما كان بين جند معاوية وجند علي من حمل جند معاوية المصاحف على الرماح.

لننتقل الآن إلى مسألة أخرى لها علاقة بعلي بن عيسى بن ماهان من ناحية، كما أن لها علاقات بما يقع فيه القُصَّاص والمؤرخون والرواة من تناقض من ناحية أخرى، تلك المسألة هي ما يعزى إلى زبيدة من نصيحتها لابن ماهان باحترام المأمون وإجلاله، وأنها قالت له: «يا علي، إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي، إليه تناهت شفقتي، وعليه تكامل حذري، فإني على عبد الله متعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذًى، وإنما ابني ملكٌ نافس أخاه في سلطانه، وغارَّه على ما في يده، والكريم يأكل لحمه ويمنعه غيره، فاعرفْ لعبد الله حق والده وإخوته، ولا تجبهه بالكلام؛ فإنك لستَ نظيره، ولا تقتسرْه اقتسار العبيد، ولا تُرهقه بقيد ولا غُلٍّ، ولا تمنع منه جارية ولا خادمًا، ولا تعنِّف عليه في السير، ولا تُساوه في المسير، ولا تركب قبله، ولا تستقلَّ على دابتك حتى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سَفِه عليك فلا تُرادَّه».

معقول أن يكون ذلك من زبيدة لابن زوجها الرشيد! ولكن التاريخ يُحدِّثنا عن قيد من الفضة قيل إنها أعدته ليقيَّد به المأمون، كما يحدثنا أن المأمون نفسه اعترف بمسألة هذا القيد، بيد أن نص النصيحة وما اشتملت عليه من الأوامر وما جبلت عليه نفسية السيدة زبيدة مما يرجح عدم صحة القول بإعدادها قيد فضة أو ذهب ليقيد به المأمون.

(٧) انتصار الجيوش المأمونية ومقولات الشعراء

وقد كتب الله للجيوش المأمونية الفلج والنصر على الجيوش الأمينية. ونترك هنا الكلمة لطاهر بن الحسين، قائد المأمون، فإنه ينبئ خليفته عن ذلك الانتصار بقوله: «أطال الله بقاءك، وكبَت أعداءك، وجعل من يَشْنَؤُك فداءك، كتبت إليك ورأس علي بن عيسى بين يدي، وخاتمه في أصبعي، والحمد لله رب العالمين».

وذكر بعض أهل خراسان أن المأمون لما أتاه كتاب طاهر بخبر علي بن عيسى بن ماهان، وما نالته جيوشه من فوز وانتصار، وما أوقع الله بجند خصمه من فشل وانكسار، قعد للناس، فكانوا يدخلون عليه فيهنئونه ويدعون له بدوام العز والنصر، وأن المأمون في ذلك اليوم أعلن خلع محمد، كما أعلن خلافته في جميع كور خراسان وما يليها، وسُرَّ بذلك أهل خراسان وخطبت الخطباء وأنشدت الشعراء، وفي ذلك يقول الشاعر:

أصبحت الأمة في غبطة
من أمر دنياها ومن دينها
إذ حفظت عهد إمام الهدى
خير بني حواء مأمونها
على شفًا كانت، فلما وفت
تخلصت من سوء تحيينها
قامت بحق الله إذ دُبِّرت
في ولده كُتْبُ دواوينها
ألا تراها كيف بعد الرَّدى
وفَّقها الله لتزيينها؟!

وهي أبيات كثيرة.

وذكر علي بن صالح الحربي أن علي بن عيسى لما قُتل أرجف الناس ببغداد إرجافًا شديدًا، وندم محمد على ما كان من نكثه وغدره، ومشى القواد بعضهم إلى بعض، وذلك يوم الخميس للنصف من شوال سنة ١٩٥، فقالوا: إن عليًّا قد قُتل، ولسنا نشك أن محمدًا يحتاج إلى الرجال واصطناع أصحاب الصنائع، وإنما يحرك الرجال أنفسها، ويرفعها بأسها وإقدامها، فليأمر كل رجل منكم جندَه بالشغب وطلب الأرزاق والجوائز، فلعلنا أن نصيب منه في هذه الحالة ما يُصلحنا ويُصلح جندنا.

خبرني، لعمرك! أليست هذه بوادر الفوضى وعلامات الانتقاض؟ أوليست هذه هي هي بعينها مبادئ الثورة وأمارات زوال الملك وسقوط العروش وأفول نجم أصحابها؟ أجل إنها لكذلك، وإن في انقسام كلمة الزعماء وإثارتهم النفوس بالاضطراب والقلاقل، وإضرامهم نيران الفتن، وتحريكهم الجند وما إلى الجند للشغب والهياج تقطيعًا لأوصال البلاد، ونذيرًا بالهدم والفناء.

ولننظر ماذا كان من حماقات رجال الأمين؟

إن التاريخ ليحدثنا أن رأيهم قد اجتمع على الشغب والاصطياد في الماء العكر، وأنهم أصبحوا فتوافوا إلى باب الجسر وكبروا، فطلبوا الأرزاق والجوائز، وبلغ الخبر عبد الله بن خازم، فركب إليهم في أصحابه وفي جماعة غيره من قواد الأعراب، فتراموا بالنشاب والحجارة واقتتلوا قتالًا شديدًا، وسمع محمد التكبير والضجيج، فأرسل بعض مواليه أن يأتيه الخبر، فرجع إليه فأعلمه أن الجند قد اجتمعوا وشغبوا لطلب أرزاقهم، قال: فهل يطلبون شيئًا غير الأرزاق؟ قال: لا، قال: ما أهون ما طلبوا! ارجع إلى عبد الله بن خازم فمُرْه فلينصرف عنهم، ثم أمر لهم بأرزاق أربعة أشهر، ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين، وأمر للقواد والخواصِّ بالصلات والجوائز.

ولنتساءل الآن إزاء إجابة الأمين لسُؤْل القادة والجند ومبادرته إلى رفدهم، وإسراعه بمنحهم الأعطيات والهبات والجوائز والصلات: أكان في تصرفه حكيمًا، وفي عمله مُسدَّدًا مُوفَّقًا؟

لا نظن ذلك، وكان الحزم به أولى ليقدَع الفتنة، وليضع حدًّا صارمًا لشهوات ذوي الغايات والمنتفعين الذين يكثر وجودهم وتتوافر جماعتهم في إبانها وفتراتها.

•••

وقد كان اختيار الأمين لعلي بن عيسى بن ماهان خطلًا سياسيًّا؛ لأن سابقة ابن ماهان في خراسان أيام الرشيد كانت سابقة سوء، فهو ممقوت أشد المقت عندهم، ونقرر بهذه المناسبة أنه يخيل إلينا، إلى حدٍّ غير قليل، اختلاق تلك القصة التي تعزى إلى الفضل بن سهل، من أنه كتب إلى الدسيس الذي كان ممن يشاورهم الفضل بن الربيع في أمره، أنه إن أبى جماعة الأمين إلا عزمةً في الخلاف، فألطِف لأن تجعل أمرهم لعلي بن عيسى.

وقال الطبري: وإنما خص ذو الرياستين عليًّا بذلك لسوء أثره في أهل خراسان، واجتماع رأيهم على كرهه، وأن العامة قائله بحربه، فشاور الفضلُ الدسيسَ الذي كان مشاوره، فقال: علي بن عيسى! وإنه إن فعَل فلم يَرمِهم بمثله في بُعد صَوبه، وسخاوة نفسه، وكان في بلاد خراسان في طول ولايته وكثرة صنائعه، ثم هو شيخ الدعوة وبقية أهل المشايعة. فأجمعوا على توجيهه.

نميل إلى القول بأن نسبة اختيار ابن ماهان إلى تدبير ابن سهل، وإسناد كل فضل إليه من باب الدعوة لابن سهل، ونحن ممن يقرُّ بذكائه وسعة حيلته، كما أسلفنا.

ولكننا نقرر أيضًا أن صلة ابن ماهان بالأمين وبدولة الأمين وبابن الربيع كانت مما يحتم على الأمين لا محالة تقليده أمر جيوشه، وتفضيله على غيره من القادة، لا أن دسيس جماعة المأمون هو الذي أشار بندبه واختياره، فلنحترس كثيرًا من مبالغة المؤرخين والرواة، ولنجعل من عقولنا ومنطقنا محكًا وحكمًا.

ونلفت النظر هنا إلى تناقض وقع فيه الرواة من الحزب المأموني، فبينا نراهم يقررون أن جيش المأمون عثر على صناديق عدة من الخمر فيما غنمه من علي بن عيسى بن هامان، إذ بالدسيس يصفه بقوله: «ليس مثله في بُعد صوبه وسخاوة نفسه!»

ومهما قيل بأن وصفه كذلك من باب الختل والخديعة، وبأنه كان في حقيقة الأمر سكِّيرًا مُعَربدًا، فإنا نرى أثر التأليف القصصي في الروايتين ظاهرًا جليًّا.

وسبق لنا أن قد فنَّدنا، حينما كنا بسبيل القول في الأمين، ما رواه محمد بن يحيى بن عبد الملك النيسابوري من أن الأمين قال لمَّا نعَى الناعي إليه قائده: «ويلك! دعني فإن كوثرًا قد اصطاد سمكتين وأنا ما اصطدت شيئًا بعدُ»، وترك الناعي وخبره وأقبل على الصيد وكوثره، فلنضم هذه إلى تلك.

•••

ويجدر بنا الآن أن نطلعك على بعض مقولات الشعراء في موقف الأخوين، مع ملاحظة ما لاحظناه من مبالغتهم في تمداحهم للقوي وغلوهم في زرايتهم على الضعيف.

قال أحد الشعراء البغداديين:

أضاع الخلافة غش الوزير
وفسق الإمام وجهل المشير
ففضل وزير وبكرٌ مُشير
يريدان ما فيه حتف الأمير
وما ذاك إلا طريق غرور
وشر المسالك طرق الغرور
لِواط الخليفة أعجوبة
وأعجب منه خَلاق الوزير
فهذا يدوس وهذا يداس
كذاك لعمري اختلاف الأمور
فلو يستعينان هذا بذاك
لكانا بعُرْضة أمر ستير
ولكن ذا لجَّ في كوثر
ولم يشفِ هذا دِعاس الحمير
فشُنِّع فعلاهما منهما
وصارا خِلافًا كبَولِ البعير
وأعجب من ذا وذا أننا
نبايع للطفل فينا الصغير
ومَن ليس يُحسن غسل استِه
ولم يخلُ مَتنُه من حجر ظير
وما ذاك إلا بفضل وبكر
يريدان نقض الكتاب المنير
وهذانِ لولا انقلاب الزمان
أفي العيرِ هذان أم في النفير؟
ولكنها فتن كالجبال
ترفَّع فيها الوضيع الحقير
فصبرًا ففي الصبر خير جميل
وإن كان قد ضاق صبر الصبور
فيا رب فاقبضهما عاجلًا
إليك وأورد عذاب السعير
ونكِّل بفضل وأشياعه
وصلِّبهُمٌ حول هذي الجسور

(٨) عود على بدء، مجهودات الأمين في سبيل الفوز

ولقد سبق أن قلنا لك: إنه مع ما يرمي إليه الرواه من تحقير شأن الأمين ورجالات الأمين يمكننا مع ذلك تبين حقيقة أمره مما يلاحظ في ثنايا السطور وفلتات الحوادث، وقلنا: إن تلك الفلتات قد تتيح لنا أن نُؤمِنَ بأن عند الأمين بعض رجالات أفذاذ. ونريد الآن أن نثبتَ لك ذلك.

وهذا الطبري يحدثنا في حوادث سنة ست وتسعين ومائة، أنه لما قوي طاهر واستعلى أمرُه، وهزم من هزم من قواد محمد وجيوشه، دخل عبد الملك بن صالح على محمد — وكان عبد الملك محبوسًا في حبس الرشيد، فلما توفِّي الرشيد وأفضى الأمر إلى محمد أمر بتخلية سبيله، وذلك في ذي القعدة سنة ١٩٣، فكان عبد الملك يشكر ذلك لمحمد ويوجب به على نفسه طاعته ونصيحته — فقال: يا أمير المؤمنين، إني أرى الناس قد طمعوا فيك، وأهل العسكرين قد اعتمدوا ذلك، وقد بذلت سماحتك، فإن أتممت على أمرك أفسدتهم وأبطرتهم، وإن كففت أمرك عن العطاء والبذل أسخطتهم وأغضبتهم، وليستْ تُمْلكُ الجنود بالإمساك، ولا تبقى بيوت الأموال على الإنفاق والسرف، ومع هذا فإن جندك قد رعبتهم الهزائم، ونهكتهم وأضعفتهم الحرب والوقائع، وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوِّهم، ونكولًا عن لقائهم ومناهضتهم، فإن سيَّرتهم إلى طاهر غلَب بقليل من معه كثيرهم، وهزم بقوة نيَّته ضعف نصائحهم ونيَّاتهم، وأهل الشام قوم قد ضرستهم الحروب، وأدَّبتهم الشدائد، وجلُّهم مُنقاد إليَّ مُسارعٌ إلى طاعتي، فإن وجَّهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندًا تعظم نكايتهم في عدوه، ويؤيد الله بهم أولياءه وأهل طاعته، فقال محمد: فإني مُولِّيك أمرهم، ومُقوِّيك بما سألت من مال وعُدَّة، فعجِّل الشخوص إلى ما هنالك، فاعملْ عملًا يظهر أثره، وتُحمد بركته برأيك ونظرك فيه، إن شاء الله. فولَّاه الشام والجزيرة واستحثَّه بالخروج استحثاثًا شديدًا، ووجه معه كنفًا من الجند والأبناء.

حاول الأمين بعد ذلك أن ينتصر على أخيه بكل ما في مقدوره، وبعث له الجند تلو الجند، وإنا مع اعترافنا بكفاية قادته، أمثال عبد الرحمن بن جبلة الذي ندب أهل البأس والنجدة والغَنَاء، نقرر أن طريقة الإرجاف وبث الدعاة التي اتبعها القادة المأمونيون كانت خطرة جدًّا.

انظر إلى مَن يقول لأهل حمص: يا أهل حمص، الهرب أهون من العطب، والموت أهون من الذل! إنكم بَعُدتم عن بلادكم، وخرجتم من أقاليمكم، ترجون الكثرة بعد القلة، والعزة بعد الذلة، ألا وفي الشر وقعتم، وإلى حومة الموت أنختم. إن المنايا في شوارب المسوِّدة وقلانسهم، النفير النفير! قبل أن ينقطع السبيل وينزل الأمر الجليل، ويفوت المطلب ويعسر المذهب، ويبعد العمل ويقترب الأجل. وقام رجل من كلب في غرز ناقته ثم قال:

شؤبوب حرب خاب من يَصلاها
قد شرعت فرسانها قناها
فأورد الله لظَى لظاها
إن عمَرت كلبٌ بها لحاها

ثم انظر لمن يقول: «يا معشر كلب، إنها الراية السوداء، والله ما ولَّت ولا عدلت، ولا ذلَّ نصيرها ولا ضعف وليها، وإنكم لتعرفون مواقع سيوف أهل خراسان في رقابكم، وآثار أسنتهم في صدوركم، اعتزلوا الشر قبل أن يعظُم، وتخطوه قبل أن يضطرم شامكم، داركم داركم! الموتُ الفِلَسطينيُّ خير من العيش الجَزَري، ألا وإني راجعٌ، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي!» ثم سار وسار معه عامة أهل الشام.

أرأيت إلى أي مدًى كان أثر الدعاية المأمونية؟

لقد كان المأمون مُوفَّقًا بلا ريب، وكانت ظروف النصر والإقبال تواتيه من هنا ومن هناك، وتُظاهره على النجاح من جرَّاء حكمته وكفاية رجالاته، كما كانت تظاهره من جراء حماقة خصومه وقلة غنائهم.

ثم انظر ما كان من أمر العصبية في حوادث سنتي خمس وتسعين ومائة وست وتسعين ومائة، وما كان من اشتطاط جند الأمين في طلب المال، وما كان من عدم قدرته على إجابة طلبات القادة الكُماة، أمثال أسد بن يزيد، وما كان من تقلب الحسين بن علي معه وعليه، وما كان من لَيَان الأمين معه بعد أن حبسه، فإن التاريخ يحدثنا بأن كل ما فعله الأمين معه هو أن لامَه على خلافه وقال له: «ألم أُقدِّم أباك على الناس، وأُولِّه أعنَّة الخيل، وأملأ يده من الأموال، وأشرِّف أقداركم في أهل خراسان، وأرفع منازلكم على غيركم من القواد؟!» فقال له: بلى، قال: «فما الذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي وتُؤلِّب الناس عليَّ وتندُبهم إلى قتالي؟» قال: الثقة بعفو أمير المؤمنين، وحسن الظن بصفحه وتفضله، قال: «فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، وولَّاك الطلب بثأرك ومن قُتل من أهل بيتك» ثم دعا له بخلعة فخلعها عليه، وحمله على مراكب وأمره بالمسير إلى حُلْوان، وولَّاه ما وراء بابه.

انظر إلى ذلك كله، فإنك تستطيع أن تقتنع معنا بأن لسوء التدبير حظًّا غير قليل في خذلان الأمين وضياع ملكه.

(٩) مظاهر الثورة وخطباؤها

على أن هناك ظاهرة في الجيش الأميني والأطراف الأمينية مثل ظاهرة الثورة الفرنسية من بعض وجوهها يجدر بنا أن نقيدها لك ولو «على الهامش» كما يقولون.

ذلك أن الزواقيل واللصوص والثوار لعبوا دورهم الخطير، كما أن الفوضى ضربت بجرانها على كل البقاع الأمينية، ولم يكن ثمة من طاعة ولا نظام لا في الجند الأميني ولا في قادة الجند الأميني.

وقد كان هناك خطباء كما كان في الثورة الفرنسية، وإن الطبري ليحدثنا أن محمد بن أبي خالد قام بباب الشام فقال: أيها الناس، والله ما أدري بأي سبب يتأمر الحسين بن علي علينا، ويتولى هذا الأمر دوننا؟ ما هو بأكبرنا سنًّا، ولا أكرمنا حسبًا، ولا أعظمنا منزلة! وإن فينا من لا يرضى بالدنية ولا يُقاد بالمخادعة، وإني أولكم نقضًا لعهده، وإظهارًا للتغيير عليه والإنكار لفعله، فمن كان رأيه رأيي فليعتزلْ معي، وقام أسد الحربي فقال: يا معشر الحربية، هذا يوم له ما بعده، إنكم قد نمتم وطال نومكم، وتأخرتم فقُدِّم عليكم غيرُكم، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسْره، فاذهبوا بذكر فكِّه وإطلاقه.

يحدثنا التاريخ عن ذلك كله كما يحدثنا بأن شيخًا كبيرًا من أهل الكفاية قد أقبل على فرس فصاح بالناس: اسكتوا! فسكتوا فقال: أيها الناس، هل تعتدُّون على محمد بقطع منه لأرزاقكم؟ قالوا: لا، قال: فهل قصر بأحد منكم أو من رؤسائكم وكبرائكم؟ قالوا: ما علمنا، قال: فهل عزل أحدًا من قوادكم؟ قالوا: معاذ الله أن يكون فعل ذلك، قال: فما بالُكم خذلتموه وأعنتم عدوه على اضطهاده وأسره؟! أما والله ما قتل قوم خليفتهم قطُّ إلا سلَّط الله عليهم السيف القاتل والحتف الجارف. انهضوا إلى خليفتكم وادفعوا عنه وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به.

أما ما أصاب بغداد من سلب ونهب وتحريق وتخريب، وفتنة شعواء وقتل ودماء، فإنا نترك الكلمة في ذلك لشعراء العصر مما أثبتناه لك في باب المنظوم من الكتاب الثالث من المجلد الثالث، فلتراجع ثمَّة.

(١٠) قتل الأمين

ولقد ضيق طاهر وهرثمة على الأمين الخناق، وفكَّرا فيمن يتسلَّم الأمين ليكون له قصب السبق، وإنه لمن المؤلم حقًّا أن ترى الأمين وهو يُقبِّل أولاده، ومن المؤلم أن تسمعه وهو يقول: «وددت أن الله قتل الفريقين جميعًا، فما منهم إلا عدوٌّ من معي ومن عليَّ، أما هؤلاء فيريدون مالي، وأما أولئك فيريدون نفسي!» وقال:

تفرقوا ودعوني
يا معشر الأعوان
فكلكم ذو وجوه
كثيرة الألوان
وما أرى غير إفك
وتُرَّهات الأماني
ولست أملك شيئًا
فسائلوا خُزَّاني
فالويل لي ما دهاني
من نازل البستان؟

وإنه لمن المؤلم حقًّا أن يتفقا على أن يأخذ أحدهما بدنه، والآخر خاتم الخلافة وشاراتها! ومن المؤلم حقًّا أن تُختم حياته بمأساته المُروِّعة.

هوامش

(١) هو حفيد نصر بن سيار آخر والٍ لبني أمية بخراسان إذ دالَتْ بعد ذلك دولتهم، وسبب خروج رافع هذا أنه طمع في زواج امرأة يحيى بن الأشعث بن يحيى الطائي لشرفها ومالها، وكانت مغاضبة لزوجها، فحمَلها على أن تُعلن الكفر لتُطلَّق ثم تَزوَّج منها، فبلغ أمره الرشيدُ الذي كلف عامله أن يفرق بينهما، وأن يعاقب رافعًا ويجلده الحد، ويُقيده ويطوف به في مدينة سمرقند مُقيدًا على حمار حتى يكون عظة لغيره، فدرأ عنه العامل الحدَّ وطاف به ثم سجنه، فهرب من الحبس، فطارده عمال الرشيد، وما زال أمره يشتدُّ حتى اضطر الرشيد إلى الذهاب إليه بنفسه.
(٢) التضجيع: التقصير.
(٣) يرى أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار «أن هذه المكيدة التي دبرها الفضل بن الربيع جاءت مفضوحة مهتوكة الأستار، وكان أجدر بكياسته أن يرسل ذلك الخطاب أول الأمر، بعد أن يردَّ على المأمون ما أوصى به الرشيد من مال وكراع وسلاح، فأما بعد نكث الجنود والوزير والأمراء، وبعد طلب الكور، وبعد طلب تقديم القائم على المأمون، وبعد تلك الوفود السياسية وتمزيق العهود التي كانت في نظرهم مقدسة ومؤكدة بأخذها وتعليقها في جوف الكعبة، فإن الأمر أتى بعد أوانه، ولا ينتظر منه سوى الخيبة والفشل.»
(٤) أي إلاَّ أن يؤخذ أسيرًا عند الأمين.
(٥) يخالفنا أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار في هذا بقوله: «لم يكن كل الجند المأموني حاملًا صورة البيعة ولا كثير منهم، ولكن الأمر في ذلك أن أحمد بن هشام علق البيعة للمأمون على رمحه — وكان علي بن عيسى هو الذي أخذها للمأمون على أهل خراسان أيام كان واليًا بها — ليقيم بذلك الحجة على علي بن عيسى، فدنا منه أحمد بن هشام بعد أن طلب الأمان وأمَّنه عليُّ بن عيسى، وقال له أحمد: ألا تتقي الله عز وجل؟ أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصة؟ اتق الله؛ فقد بلغت باب قبرك. فلم يأبه علي بن عيسى، بل قال: من أتاني به فله ألف درهم. فشتمه أصحاب أحمد … إلخ من ابن الأثير.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤