الفصل الخامس

الوزارة والأعمال الحكومية في عصر المأمون

تاريخ الوزارات المأمونية

(١) توطئة

لسنا نريد أن نتكلم عن تاريخ الوزارة ومكانتها في العصر العباسي، فقد تعرض لدرسها كثيرون نذكر منهم، على سبيل التمثيل، الأستاذ «برون» في كتابه تاريخ الفرس الأدبي، والمؤرخ ابن طباطبا في الآداب السلطانية، وإنما قُصارى ما نرمى إليه كتابة فذلكة موجزة عن حياة البارزين من وزراء المأمون، حتى تقف بذلك على صورة كاملة قدر المستطاع عن العصر الذي تصدرنا للكتابة عنه ومكانة رجالاته البارزين فيه فنقول:

وزارتا الفضل بن سهل وأخيه الحسن

يحدثنا التاريخ أن أولَ وزراء المأمونِ الفضلُ بن سهل، وهو من رجال جعفر البرمكي، فلا غرو إذا نزع في سياسة الملك منزع البرامكة، ولا غرو إذا ائتمَّ بهم وتلا تِلْوهم في تدبير أمور السلطان، ولا غرو إذا كانت دولة بني سهل غرَّة في جبين الدهر ودُرَّة على مفرق العصر؛ لأنها كانت كما يقول الفخري: مختصر الدولة البرمكية.

أما طريقة اتصاله بالمأمون، فإن المظان التاريخية والأدبية تحدثنا أن جعفرًا البرمكي لما عزم على استخدامه للمأمون وصَفه يحيى بن خالد بحضرة الرشيد، فقال له الرشيد: أوْصِلْه إلي، فلما وصل إليه أدركته حيرة فسكتْ، فنظر الرشيد إلى يحيى نظَرَ مُنكرٍ لاختياره، فقال ابن سهل: يا أمير المؤمنين، إن من أعدل الشواهد على فَرَاهة المملوك أن يملك قلبَه هيبةُ سيده، فقال الرشيد: لئن كنت سكتَّ لتصوغ هذا الكلام فلقد أحسنت، وإن كان بديهةً إنه لأحسن وأحسن، ثم لم يسأله بعد ذلك عن شيء إلا أجابه بما يصدِّق وصف يحيى له.

ويروي لنا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وهو — كما تعلم — شيخ من مشيخة الأدب والبيان في عصرنا المأموني، في كتابه «الحيوان»: أن جعفرًا الضبي وصف الفضل بن سهل بقوله: أيها الأمير، أسكتني عن وصفك تساوي أفعالك في السؤدد، وحيرني فيها كثرة عددها، فليس إلى ذكر جميعها سبيل، وإن أردت وصف واحدة اعترضت أختها إذ لم تكن الأولى أحق بالذكر، ولست أصفها إلا بإظهار العجز عن وصفها.

ويقول ابن طباطبا: إن الفضل كان سخيًّا كريمًا يجاري البرامكة في جوده، شديد العقوبة، سهل الانعطاف، حليمًا بليغًا عالمًا بآداب الملوك، بصيرًا جيد الحدس مُحصلًا للأموال، وكان يقال له: الوزير الأمير.

وكان الفضل بن سهل يتشيع كمذهب غالب الفرس، وكانت له إصابة حسنة بعلم النجوم، كما أسلفنا لك القول في كلمتنا عن المأمون في صباه، ومما يؤيد ذلك ما رواه أبو الحسين علي بن أحمد السلامي في تاريخ ولاة خراسان، أن المأمون لما عزم على إرسال طاهر بن الحسين إلى محاربة أخيه محمد الأمين، نظر الفضل بن سهل في مسألته، فوجد الدليل في وسط السماء، وكان ذا يمينين، فأخبر المأمون بأن طاهرًا يظفر بالأمين ويلقب بذي اليمينين، فتعجب المأمون من إصابة الفضل ولقب طاهرًا بذلك.

وكان الفضل بن سهل شبيهًا بأساتذته البرامكة في رفد الشعراء وتشجيع الشعر، وكان مُنتجَع القُصَّاد منهم قبل وزارته، فإن كتب الأدب تحدثنا أن مسلم بن الوليد قال فيه حين ذاك وكان من ندمائه وسمَّاره:

وقائل ليست له همة
كلا ولكن ليس لي مال
وهمة المقتر أُمنية
عون على الدهر وأثقال
لا جدة ينهض عزمي بها
والناس سُؤَّال وبُخَّال
فاصبر على الدهر إلى دولة
يرفع فيها حالَك الحالُ

ويقول لنا الفخري: إن الفضل لما علت حالُه وتولى الوزارة قصده مسلم بن الوليد، فلما رآه سُرَّ به وقال له: هذه الدولة التي يرفع فيها حالك الحال، وأمر له بثلاثين ألف درهم، وولاه بريد جُرجان، فاستفاد من ثمَّ مالًا طائلًا.

ويحدثنا ابن خلكان أن الفضل بن سهل قال يومًا لثُمامة بن الأشرس المتكلم المعروف: ما أدري ما أصنع بطلاب الحاجات، فقد كثُروا علي وأضجروني، فقال له: زُلْ عن موضعك وعليَّ ألا يلقاك أحد منهم! فقال: صدقت! وانتصب لقضاء أشغالهم، وكان قد مرض بخراسان وأشفَى على التلَف، فلما أصاب العافية جلس للناس فدخلوا عليه وهنئوه بالسلامة وتصرفوا في الكلام، فلما فرغوا من كلامهم أقبل على الناس وقال: إن في العلل لنعمًا لا ينبغي للعقلاء أن يجهلوها: تمحيص الذنوب، والتعرض لثواب الصبر، والإيقاظ من الغفلة، والإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء التوبة، والحض على الصدقة.

وقد مدحه جماعة من أعيان الشعراء، وفيه يقول إبراهيم بن عباس الصولي:

للفضل بن سهل يد
تقاصر عنها المثل
فنائلها للغنى
وسطوتها للأجل
وباطنها للندى
وظاهرها للقبل

ويقول ابن خلكان: إن ابن الرومي أخذ من قول الصولي هذا مدحته التي صاغها في الوزير القاسم بن عبيد الله التي فيها:

أصبحت بين خصاصة وتجمل
والحر بينهما يموت هزيلًا
فامدُد إلي يدًا تعوَّد بطنُها
بذل النوال وظهرُها التقبيلا

وفيه يقول آخر:

لعمرك ما الأشراف في كل بلدة
وإن عظموا للفضل إلا صنائع
ترى عظماء الناس للفضل خُشَّعًا
إذا ما بدا والفضلُ لله خاشع
تواضع لما زاده الله رفعة
وكل جليل عنده متواضع

وحكى الجهشياري أن الفضل بن سهل أصيب بابن له يقال له: العباس، فجزع عليه أشد الجزع، فدخل عليه إبراهيم بن موسى بن جعفر العلوي وأنشده:

خير من العباس أجرُك بعده
والله خيرٌ منك للعباس

وقال فيه مسلم بن الوليد من قصيدة له:

لو نطق الناس أو أثنَوا بعلمهم
ونبَّأت عن معالي دهرك الكتب
لم يبلغوا منك أدنى ما يمتُّ به
إذا تفاخرت الأملاكُ وانتسبوا

فأمر له عن كل بيت من هذه القصيدة بألف درهم.

وإنه ليلوح لنا من قراءتنا الطويلة لكتب الأدب والتاريخ أن جماعة الشعراء الذين كانوا يمتدحون البرامكة — وما أكثرهم — هم بأنفسهم الذين امتدحوا آل سهل، واتخذوا منهم برامكة آخرين.

كما يلوح لنا أن لمقولاتهم وقصائدهم في امتداحهم وإظهار قوتهم واستفحال سلطانهم بعض الأثر في نكبتهم؛ لأنه غير معقول البتة أن يمر على المأمون قول مثل قول القائل:

أقمت خلافة وأزلت أخرى
جليل ما أقمت وما أزلتا

من غير أن يترك في نفسه بعض ما كانت تتركه على البرامكة أمثالُ تلك الأقوال في نفس الرشيد، ومهما قيل عن حلم المأمون وعفوه واعتدال مزاجه وسعة صدره؛ فإن النفس الإنسانية هي هي.

وقد مرَّ بك فيما أجملناه لك من الحوادث التي وقعت في حكم المأمون، أنه جعل في سنة ٢٠١ﻫ علي بن موسى العلوي وليَّ عهد المسلمين والخليفة من بعده، وسماه الرضا من آل محمد ، وأنه أمر جنده بطرح السواد ولبس الخضرة، وبيَّنَّا ما كان لذلك من ثورات وفتن لم تهدأ إلا بعد أن عاد إلى مقر ملكه، وأعلم آله وأنصاره بوفاة الرضا، وعاد إلى لبس السواد وهو شعار العباسيين.

ونريد الآن أن نشير هنا إلى ما كان من الفضل بن سهل فيما نحن في صدده، ونعتمد على ما رواه الطبري، قال: إن علي بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي أخبر المأمون بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قتل أخوه، وبما كان الفضل بن سهل يستر عنه من الأخبار، وأن أهل بيته والناس قد نقموا عليه أشياء، وأنهم يقولون: إنه مسحور مجنون، وأنهم لما رأوا ذلك بايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي بالخلافة، فقال المأمون: إنهم لم يبايعوا له بالخلافة وإنما صيروه أميرًا يقوم بأمرهم على ما أخبر به الفضل، فأعلمه أن الفضل قد كذبه وغشَّه، وأن الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن بن سهل، وأن الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه، ومكاني ومكان بيعتك لي مِن بعدك، فقال: ومَن يعلم هذا من أهل عسكري؟ فقال له: يحيى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وعدة من وجوه أهل العسكر، فقال له: أدخلهم عليَّ حتى أسائلهم عما ذكرت، فأدخلهم عليه، وهم: يحيى بن معاذ، وعبد العزيز بن عمران، وموسى وعلي بن أبي سعيد، وهو ابن أخت الفضل، وخلف المصري، فسألهم عما أخبره فأبوا أن يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل بن سهل ألَّا يَعرِض لهم فضمن ذلك لهم وكتب لكل رجل منهم كتابًا بخطه ودفعه إليهم، فأخبروه بما فيه الناس من الفتن وبينوا ذلك له، وأخبروه بغضب أهل بيته ومواليه وقواده عليه في أشياء كثيرة، وبما موَّه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأن هرثمة إنما جاء لينصحه وليُبيِّن له ما يعمل عليه، وأنه إن لم يتدارك أمره خرجت الخلافة منه ومن أهل بيته، وأن الفضل دسَّ إلى هرثمة من قتله، وأنه أراد نصحه، وأن طاهر بن الحسين قد أبلى في طاعته ما أبلى، وافتتح ما افتتح، وقاد إليه الخلافة مزمومة حتى إذا وطَّأ الأمر أُخرج من ذلك كله، وصُيِّر في زاوية من الأرض بالرقة قد حُظرت عليه الأموال حتى ضعُف أمره، فشغب عليه جندُه، وأنه لو كان على خلافتك ببغداد لضبط الملك ولم يُجترأ عليه بمثل ما اجتُرئ به على الحسن بن سهل، وأن الدنيا قد تفتقت من أقطارها، وأن طاهرًا بن الحسين قد تُنوسي في هذه السنين منذ قُتل محمد في الرقة لا يُستعان به في شيء من هذه الحروب، وقد استعين بمن هو دونه أضعافًا، وسألوا المأمون الخروج إلى بغداد؛ فإن بني هاشم والموالي والقواد والجند لو رأوا غرَّتك سكنوا إلى ذلك، وبخعوا بالطاعة لك.

فلما تحقق ذلك عند المأمون أمر بالرحيل إلى بغداد، فلما أمر بذلك علِم الفضلُ بن سهل ببعض ذلك من أمرهم، فتعنَّتهم حتى ضرب بعضهم بالسياط وحبس بعضًا ونتف لحى بعض، فعاوده علي بن موسى في أمرهم، وأعلمه ما كان من ضمانه لهم، فأعلمه أنه يُداري ما هو فيه، ثم ارتحل من مرو، فلما أتى سَرَخْس شدَّ قوم على الفضل بن سهل وهو في الحمام فضربوه بالسيوف حتى مات، وذلك يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان سنة ٢٠٢ فأُخِذوا. وكان الذين قتلوا الفضل من حشم المأمون، وهم أربعة نفر: غالب المسعودي الأسود، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفق الصقلي، وقتلوه وله ستون سنة وهربوا، فبعَث المأمون في طلبهم، وجعَل لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار، فجاء بهم العباس بن الهيثم بن بزرجمهر الدِّينوري، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله، فأمر بهم فضُربت أعناقهم، وقد قيل: إن الذين قتلوا الفضل لما أُخِذوا سألهم المأمون، فمنهم من قال: إن علي بن أبي سعيد، ابن أخت الفضل، دسَّهم، ومنهم من أنكر ذلك، وأمر بهم فقتلوا، ثم بعث إلى عبد العزيز بن عمران وعلي وموسى وخلف فسألهم فأنكروا أن يكونوا علموا بشيء من ذلك، فلم يقبل ذلك منهم، وأمر بهم فقتلوا، وبعث برءوسهم إلى الحسن بن سهل في واسط، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل، وأنه قد صيَّره مكانه، وتزوج المأمون من ابنته بوران، وأظهر الحسنُ في حفلة زواجها من الكرم الخارق، والجود الحاتمي ما دعا المأمون إلى أن نسبه فيه إلى السرف، ولقد قدم على الحسن بن سهل شاعرٌ يلتمس صلته وعارفته، فاشتغل عنه مُديدة فكتب إليه:

المال والعقل مما يستعان به
على المقام بأبواب السلاطين
وأنت تعلم أني منهما عَطِل
إذا تأملتني يا ابن الدهاقين
أما تدلك أثوابي على عَدَمي
والوجه أني رئيس في المجانين
والله يعلم ما للملك من رجل
سواك يصلح للدنيا وللدين

فقيل: إن الحسن أمر له بعشرة آلاف درهم ووقع في رقعته:

أعجلتنا فأتاك عاجل بِرِّنا
قُلًّا ولو أنظرتنا لم يُقلل
فخذ القليل وكُن كأنك لم تَنل
ونكون نحن كأننا لم نُسأل

ويظهر لنا مما قرأناه عن الحسن بن سهل في أمالي أبي علي القالي وغيره من مظان الكتب الأدبية، أن له بصرًا بالأدب عظيمًا، ومكانة في الكتابة سامية، وحظًّا بأفانين القول ومناحيه وفيرًا.

فقد روي عنه أنه كتب إلى محمد بن سماعة القاضي: «أما بعد، فإني احتجت لبعض أموري إلى رجل جامع لخصال الخير، ذي عفة ونزاهة طُعْمة،١ قد هذَّبته الأخلاق وأحكمته التجارب، ليس بظنين في رأيه، ولا بمطعون في حسبه، إن اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قُلِّد مُهمًّا من الأمور أجزأ فيه، له سن مع أدب ولسان، تقعده الرزانة ويسكنه الحلم، قد فُرَّ عن ذكاء وفطنة، وعضَّ على قارحة من الكمال، تكفيه اللحظة، وترشده السكتة، قد أبصر خدمة الملوك وأحكمها، وقام في أمورهم فحُمد فيها، له أناة الوزراء وصولة الأمراء، وتواضع العلماء وفهم الفقهاء وجواب الحكماء، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يكاد يسترق قلوب الرجال بحلاوة لسانه وحسن بيانه، دلائل الفضل عليه لائحة وأمارات العلم له شاهدة، مُضطلعًا بما استُنهِض مُستقلًّا بما حُمِّل، وقد آثرتك بطلبه وحبوتك بارتياده؛ ثقة بفضل اختيارك ومَعرفةً بحُسن تأتِّيك».

ويقول ابن طباطبا: إن الحسن بن سهل كان أعظم الناس منزلة عند المأمون، وكان المأمون شديد المحبة لمفاوضته، فكان إذا حضر عنده طاوله في الحديث، وكلما أراد الانصراف منَعه، فانقطع زمان الحسن بذلك وثقُلت عليه الملازمة، فصار يتراخى عن الحضور بمجلس المأمون، ويستخلف أحد كُتَّابه كأحمد بن أبي خالد وأحمد بن يوسف وغيرهما، ثم عرضت له سوداء كان أصلُها جزعَه على أخيه، فكانت سبب انقطاعه في داره واحتجابه عن الناس. وقد هجاه حين ذاك بعض الشعراء فقال:

تولت دولة الحسن بن سهل
ولم أبلُل لهاتي من نداها
فلا تجزعْ على ما فات منها
وأبكَى اللهُ عينيْ مَن بكاها

وقد قرأنا في كتاب الأغاني ما يستدل منه على أن الحسن بن سهل هو صاحب الوساطة في العفو عن إبراهيم بن المهدي، وذلك يختلف مع ما رواه البعض من أن بوران ابنته هي التي طلبت العفو عنه، وما وراه البعض الآخر من أن طاهر بن الحسين هو صاحب الوساطة.

وتفصيل الرواية: أن الحسن بن سهل دخل على المأمون وهو يشرب فقال له: بحياتي وبحقي عليك يا أبا محمد إلا شربت معي قدحًا، وصبَّ له من نبيذه قدحًا، فأخذه بيده وقال: مَن تحب أن يغنِّيك؟ فأومأ إلى إبراهيم بن المهدي، فقال له المأمون: غنِّه يا عم، فغناه:

تسمَع للحَلْي وَسْواسًا إذا انصرفتْ

يُعرِّض به لما كان لحِقَه من السوداء أو الاختلاط، فغضب المأمون حتى ظن إبراهيم أنه سيوقع به، ثم قال له: أبيتَ إلا كُفرًا يا أكفر خلق الله لنعمه! والله ما حقن دمك غيره، ولقد أردت قتلك فقال لي: إن عفوت عنه فعلت فعلًا لم يسبقك إليه أحد! فعفوت والله عنك لقوله، فحقه أن تُعرِّض به ولا تدعُ كيدَك ولا دغَلك! أو أنِفْت من إيمائه إليك بالغناء! فوثب إبراهيم قائمًا وقال: يا أمير المؤمنين، لم أذهب حيث ظننتَ ولست بعائد، فأعرَض عنه.

وزارة أحمد بن أبي خالد

يظهر أن المأمون كان قد صدم صدمة عنيفة من وزارة الفضل بن سهل ومن أخيه، لاستبدادهما بجل الأمور من دونه، ويظهر أنه فكر جديًّا في ألا يستوزر بعد الفضل أحدًا، ويقال: إنه لما دعا إليه أحمد بن أبي خالد — وكان أبوه كاتب سر ابن عبيد الله كاتب المهدي ووزيره — قال له: إني كنت عزمت ألا أستوزر أحدًا، ثم عرض عليه الوزارة، فتنصل أحمد منها وقال: يا أمير المؤمنين، أعفني من التسمي بالوزارة، وطالبني بالواجب فيها، واجعل بيني وبين العامة منزلة يرجوني لها صديقي ويخافني لها عدوي، فما بعد الغايات إلا الآفات!

وتدل هذه المناقشة، وإن كانت قصيرة، على أن أحمد بن أبي خالد قد وجد العبرة في تاريخ الفضل بن سهل وأمثاله، فرأى أن يكون مقتصدًا في مكانته وسلطانه، وقد أعجب المأمون بكلامه واستوزره.

وسترى في كلمتنا المجملة التي عقدناها عن تقدير المأمون للشجاعة الأدبية طرفًا من تصرفات أحمد بن أبي خالد وحسن تخلصه في حادثة عمرو بن مسعدة، وكيف كان شجاعًا وصادقًا، وكيف كان مخلصًا للمأمون عاملًا على إصلاح ما بينه وبين رجالات دولته.

ويقول صاحب الآداب السلطانية والدول الإسلامية: إن المأمون لما ولي طاهر بن الحسين خراسان استشار فيه أحمد بن أبي خالد، فصوب أحمد الرأي في تولية طاهر، فقال المأمون لأحمد: إني أخاف أن يغدر ويخلع ويفارق الطاعة، فقال أحمد: الدرك في ذلك عليَّ — ويجب أن نشير هنا إلى ما جاء بكتاب عيون الأخبار عن دقة المأمون في مثل هذا الموقف، فإن المعلى بن أيوب أحد المعاصرين يحدثنا عن ذلك بقوله: سمعت المأمون يقول: مَن مدح لنا رجلًا فقد تضمن عيبه — فولَّاه المأمون، فلما كان بعد مدة أنكر عليه المأمون أمورًا وكتب إليه كتابًا يتهدده فيه، فكتب طاهر جوابًا أغلظ فيه للمأمون، ثم قطع اسمه من الخطبة ثلاث جمع، فبلغ ذلك المأمون فقال لأحمد بن أبي خالد: أنت الذي أشرت بتولية طاهر وضمنت ما يصدر منه، وقد ترى ما صدر منه من قطع الخطبة ومفارقة الطاعة، فوالله لئن لم تتلطف لهذا الأمر وتصلحه كما أفسدته وإلا ضربت عنقك! فقال أحمد: يا أمير المؤمنين، طب نفسًا؛ فبعد أيام يأتيك البريد بهلاكه، ثم إن أحمد بن أبي خالد أهدى لطاهر هدايا فيها كواميخ مسمومة — وكان طاهر يحب الكامخ٢ — فأكل منها فمات من ساعته.٣

فإن صحت هذه الرواية دلت على أن المأمون ورجاله لم يكونوا قد صرفوا أنفسهم يومئذ عن التذرع إلى الخلاص من بعض رجال الدولة بالقضاء على حياتهم.

قال الفخري: إن أحمد بن أبي خالد لما تولَّى طاهر خراسان حسب هذا الحساب؛ فوهب له خادمًا وناوله سمًّا وقال له: متى قطَع خطبة المأمون فاجعل له هذا السم في بعض ما يحب من المآكل، فلما قطع طاهر خطبة المأمون جعل الخادم له السم في كامخ، فأكل منه فمات في ساعته، ووصل الخبر على البريد بموته إلى المأمون بعد أيام، فكان ذلك مما عظم به أمر أحمد بن أبي خالد. فتأمل طريقة التخلص من الزعماء في ذلك الحين، ولاحظ كيف كانت عندهم خاتمة الحياة لمن يتبرمون لهم من كبار القواد والوزراء، ولتعلل بعد ذلك لم أقفرت البلاد من قادتها وكُماتها، ولم أضحت الكلمة النافذة فيما بعد للغِلْمة الأتراك وغيرهم من الغرباء!

وكان أحمد بن أبي خالد إلى جانب كفايته وبصره بالأمور مُصابًا بالشَّرَه، وقد قال أحد المعاصرين لما ناقب المأمون أحمد بن أبي خالد هذا: ما أظن أن الله خلق في الدنيا نفسًا أنبل ولا أكرم من نفس المأمون، فلما سُئل: لماذا؟ قال: لأنه عرف نفس الرجل، يعني أحمد بن أبي خالد، وشرهه فكان إذا وجَّهه إلى رجل برسالة أو في حاجة قال: ائته بالغداة واخلع ثيابك واطمئنَّ عنده، فإن انصرفتَ وقد قمتُ فاكتب إليَّ بجواب ما جئت به في رقعة، وادفعها إلى فَتْحٍ يوصلها إليَّ.

ومما ينسب إليه أنه ولَّى رجلًا كورة عظيمة القدر بخوان فالُوذَج أهداه إليه، وقيل: إن جماعة من أهل كورة الأهواز شكوا عاملًا كان عليهم فعُزل وصار إلى مدينة السلام، فتكلموا فيه فأُنهِي خبرهم إلى المأمون، فأحضرهم وخَصْمهم وأمر أحمد بن أبي خالد بالنظر في أمورهم، فقال رجل من خصوم العامل: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك، تقدَّمْ إلى أحمد ألا يقبل من هذا الفاجر هدية حتى يقطع أمرنا، فوالله لئن أكل من طعامه رغيفًا ومِن فالوذجه جامًا ليُدحِضنَّ اللهُ حجَّتَنا على يديه، وليُبطلنَّ حقنا على يديه، فكان من جرَّاء ما قاله متكلم الجماعة أن المأمون طلب إليهم أن يحضروا إليه يوم الأربعاء لينظر في شكايتهم بنفسه، وكان من جراء مثل هذه الشكاوى وما قيل في ابن أبي خالد من أنه «يقتل المظلوم ويعين الظالم بأكلة»، أن أجرى المأمون عليه في كل يوم ألف درهم لمائدته لئلا يَشْرَه إلى طعام أحد من بطانته أو من طعام الناس.

ومن طريف حوادثه مع المأمون، وهي تؤيد لنا صحة ما يُرمَى به من هذه الناحية وتدل على اقتناع المأمون بإصابته بها، ما يرويه لنا ابن طيفور في تاريخه قال: «حدثني بعض أصحابنا قال: قال المأمون يومًا لأحمد بن أبي خالد: اغدُ علي باكرًا لأخذ القصص التي عندك؛ فإنها قد كثرت لنقطعَ أمور أصحابها، فقد طال انتظارهم إياها. فبكَّر، وقعد له المأمون، فجعل يعرضها عليه ويوقع عليها إلى أن مر بقصة رجل من اليزيديين يقال له: فلان اليزيدي، فصحَّف وكان جائعًا فقال: الثريدي، فضحك المأمون وقال: يا غلام! ثريدة ضخمة لأبي العباس؛ فإنه أصبح جائعًا، فخجل أحمد وقال: ما أنا بجائع يا أمير المؤمنين، ولكن صاحب هذه القصة أحمق، وضع نسبته ثلاث نقط، قال: دعْ هذا عنك فالجوع أضر بك حتى ذكرت الثريد، فجاءوه بصحفة عظيمة كثيرة العُرَاق٤ والودك، فاحتشم أحمد، فقال المأمون: بحياتي عليك لما عدَلت نحوها، فوضع القصص ومال إلى الثريد، فأكل حتى انتهى والمأمون ينظر إليه، فلما فرغ دعا بطَسْت فغسل يده ورجع إلى القصص، فمرت به قصة فلان الحِمْصي، فقال: فلان الخَبِيصي! فضحك المأمون وقال: يا غلام، جامًا ضخمًا فيه خَبِيصٌ؛٥ فإن غداء أبي العباس كان مبتورًا، فخجل أحمد وقال: يا أمير المؤمنين، صاحب هذه القصة أحمق، فتح الميم فصارت كأنها سِنَّتان! قال: دع عنك هذا؛ فلولا حمقه وحمق صاحبه لمتَّ جوعًا، فجاءوه بجام خبيص فخجل، فقال له المأمون: بحياتي عليك إلا مِلْت إليها! فانحرف فانثنى عليه وغسل يده ثم عاد إلى القصص، فما أسقط حرفًا حتى أتى على آخرها».
وبعد، فإنا نستنبط — من هذه الرواية ومما جرى من الحديث بينه وبين المأمون في شأن أكلة ابن أبي خالد عند دينار بن عبد الله التي كلفت المأمون ألف ألف٦ — شَرَه هذا الوزير الجليل.

ويجدر بنا أن نقيد هنا ملاحظة أخرى، وهي طول احتمال المأمون وكبير جلده وقوة اصطباره على مطالعة شكاوى الجمهور ومظالمهم، غير مكترثٍ لألم الجوع ولا جانح إلى الرغد والراحة في سبيل نظرها وإنصاف أصحابها.

على أن هذه الهنة في هذا الوزير وإن كانت عائبة للرجل ناقصة من كرامته، فكفايته مقطوع بها، وليس أدل على عظيم قدره وسمو مكانته من حضور المأمون جنازته وصلاته بنفسه عليه، وقوله عنه بعد أن دُلِّي في حفرته وترحم عليه: أنت والله كما قال القائل:

أخو الجِدِّ إن جدَّ الرجال وشمروا
وذو باطل إن كان في القوم باطل

وزارة أحمد بن يوسف

وقد استوزر المأمون بعد ابن أبي خالدٍ أحمدَ بن يوسف الكاتب، ولما كنا سنعقد له بحثًا خاصًّا في قسم الآداب والعلوم، فستجد ثمة طرفًا عن حياته وأثره.

وزارة يحيى بن أكثم التميمي

استوزر المأمون بعد أحمدَ يحيى بنُ أكثم، وهو من أصحاب ثمامة بن أشرس المتكلم المعروف، ولَّاه المأمون وظيفتي الوزارة وقاضي القضاة.

ولم أجد اختلافًا قويًّا، هو اختلاف النقيضين، كاختلاف القدماء في يحيى بن أكثم، ولما كان له مظهر بارز في الدولة المأمونية من الوجهة العلمية والأدبية — لأنه كان كما يقول أحمد بن حنبل رضي الله عنه: مُتفننًا فيها؛ فكان إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث، وإذا رآه يحفظ الحديث سأله في النحو، وإذا رآه يعلم النحو سأله عن الكلام ليقطعه ويُخجِله — آثرنا أن نُلمَّ بحياته وأقوال الناس فيه من قادح ومادح، ونبين قدره على وجه الإجمال لا التفصيل، وسنورد كلامنا فيه أيضًا في قسم العلوم والآداب من هذا الكتاب.

وزارات أخرى

وقد ذُكر أن المأمون استوزر بعدَ مَن قدَّمناه لك أبا عبَّاد ثابت بن يحيى بن يسار وأبا عبد الله بن يَزداد، وقد ائتمَّا في سيرتيهما بمن سبقهما، كما أنه ذكر أنه استوزر عمرو بن مسعدة، وهو صِنْو أحمد بن يوسف نباهة وكفاية وكتابة. وإنا لا نرى مدعاة لإثبات ما هو من لون واحد، ففي ذلك إضاعة للوقت وتكرار للقول.

(٢) الجند والقواد في عصر المأمون

لا نريد هنا أن نتكلم عن ديوان الجند وتاريخه ولا عن مرتبات الجند وتحولهم منذ العهود الأولى فإن ذلك يطول كثيرًا، على أنا نحيلك مع ذلك إلى ما جاء بالجزء الأول من تاريخ التمدين الإسلامي في هذا الباب، وقصارى ما نريد قوله الآن أن راتب الجندي الراجل، وهو مثل «النفر» في النظام العسكري الحديث، هو ٢٤٠ درهمًا في السنة، فضلًا عن حصته في الغنائم عند الغزوات. ويظهر أن حصة الجنود من الغنائم كانت حبست عنهم حتى ردها عليهم الأمين سنة ١٩٨ هجرية، فأصاب الرجل ستة دنانير.

ولما قام النزاع بين الأمين والمأمون جعل المأمون راتب الجندي ثمانين درهمًا في الشهر، على أن هذا الراتب عاد إلى ما كان عليه بعد انتهاء الفتنة.

أما القواد العظام في هذا العصر، فإنا نكتفي بما وقفتَ عليه أثناء النزاع بين الأخوين؛ لأن من التكرار في القول أن نعيد هنا ما قلناه هناك.

(٣) ديوان القضاء والمظالم والحسبة

ستقف من بحوثنا التي أفردناها لتحليل أخلاق المأمون على شيء من سلطان القضاة في ذلك العهد، ونحيلك هنا إلى المحاضرة القيمة التي ألقيت في المجمع العلمي بدمشق عن تاريخ القضاة في الإسلام، كما نحيلك إلى الفصل المسهب الذي أفرده في هذا الموضوع صاحب التمدين الإسلامي.

ويكفينا هنا أن نقول: إن نظام الحكم أو الفصل في الدعاوى في ذلك العهد كان مُتشعِّبًا بقدر ما كان مُحكَمًا؛ إذ قد كان يوجد إلى جانب ديوان القضاء ديوان المظالم وديوان نظر الحسبة، وهذه الدواوين كلها كانت تنظر فيما يرفع إليها من دعاوى.

ويطول بنا الحديث في هذا المقام لو أردنا استيعاب بيان كل نوع من هذه الدواوين وما يختص بالنظر فيه.

على أنه يجوز لك أن تفترض إلى حدٍّ ما أن ديوان المظالم كان يشبه في بعض نظامه وسلطته المحاكم العليا كمحاكم الاستئناف والنقض والإبرام، كما يشبه إلى حد غير قليل المجالس التأديبية.

وإنا نحيلك هنا إلى الفصول الممتعة التي أفردها أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي في كتابه القيم «الأحكام السلطانية»، فقد عالج فيها الكلام عن القضاة وما يختصون به من الدعاوى، وعن ولاة المظالم وما يختصون به أيضًا، وكذلك عن ولاة الحسبة وحدود سلطانهم، وقد نقل عنه صاحب نهاية الأرب في نهاية الجزء السادس جملة صالحة منه؛ فراجعها.

أما راتب القضاة فنقول: إن راتب القاضي بلغ في أيام المأمون ٤٠٠٠ درهم في الشهر، أي حوالي ٢٧٠ دينارًا، وهذا الراتب في ذاته يدل على ما وصلت إليه الثروة في ذلك العصر. وقد كنا نود أن نختص الولاة وراتبهم بكلمة لولا أن المصادر في ذلك تنقصنا، وفيما بيناه عن القضاة مقياس لمن كان في مكانتهم ولمن كان أرفع منهم أو أقل مرتبة؛ فعليك أن تفكر وتقارن.

هوامش

(١) الطُّعمة — بضم الطاء وكسرها: وجه الكسب الطيب أو الخبيث.
(٢) هو إدام يُؤتَدم به، وقيل: هو خُبز بخَلٍّ، مُعرَّب كامه بالفارسية، وخصَّه بعضهم بالمخللات التي تستعمل لتشهي الطعام.
(٣) يقول أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار: «يلوح لي أن هذه الحكاية مصنوعة؛ فكيف يجترئ أحمد بن أبي خالد على هذا الأمر وهو يعلم مكانة عبد الله بن طاهر ومكيدته وأنفته وحسن تأتيه للأمور؟ فهل يأمن أن يعتريه عبد الله بما يوبقه ويعجل هلاكه؟ وبعدُ فهذه الرواية تناقض الرواية الأخرى؛ وهي أن صاحب البريد كتب إلى المأمون بما كان من طاهر من ترك الدعاء له، وكتب إليه في اليوم الثاني بموته.»
(٤) العراق: جمع عرق وهو القطعة من اللحم. وهو أحد الجموع النادرة، وقد عدَّ هذه الجموع ابنُ السكيت في لسان العرب مادة عرق؛ فراجعها. والودك: الدسم.
(٥) نوع من الحلوى.
(٦) انظر هذه الحكاية في تاريخ بغداد لابن طيفور، ص٢٢٢–٢٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤