الفصل السادس

خلاصة الحياة السياسية والاجتماعية

(١) توطئة

أما أثر المال في النفوس وأثر الأحزاب السياسية وكيف تغيرت وجهات النظر في كثير من الأمور الدينية، فإنك قد وقفت على شيء من ذلك فيما سردناه لك.

على أنا نظن أنه قد آن لنا أن ندون بعض ملاحظاتنا في هذا العصر، وآن لنا أن نتكلم عن نصيب الوزراء والقواد والزعماء في هذه الدولة التي كان للوزراء والقواد والزعماء الأثر الكبير في تدعيم بنيانها وتقوية أركانها وتشييد سلطانها.

(٢) نكبة الوزراء

نريد أن نلاحظ أن حياة الوزراء وحياة القواد والزعماء كانت تنتهي في الغالب بنكبتهم في حياتهم أو استصفاء أموالهم.

ومع أنا نحيلك إلى بعض المصادر القيمة في هذا الموضوع مثل كتاب تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء لأبي الحسن الهلالي بن المحسن بن إبراهيم الصابي الكاتب، وإلى ما كتب من الفصول في غيره، نريد أن نلاحظ أن جُلَّهم قد نكبه خليفتُه مثل نكبة المنصور لأبي مسلم وعبد الله بن علي وأبي سلَمة الخلال وأبي الجهل، ونكبته لأبي أيوب المورياني، ونكبة الربيع بن يونس الذي سمَّه الهادي، ونكبة المهدي ليعقوب بن داود، ونكبة الرشيد للبرامكة، والمأمون لمن رأيت.

نلاحظ ذلك ونلاحظ أن غدر الخلفاء بوزرائهم في ذلك العهد قد لاكته الألسنة وتكلمت في الشعراء؛ فقد قال بعضهم حينما قتل المتوكلُ وزيرَه محمد بن عبد الملك الزيات:

يكاد القلب من جزع يطير
إذا ما قيل قد قُتل الوزير
أمير المؤمنين قتلتَ شخصًا
عليه رَحاكُم كانت تدور
فمهلًا يا بني العباس مهلًا
لقد كُويتْ بغدركم الصدور

كما نلاحظ أيضًا تنصُّل شخصيات عظيمة من قبول الوزارة في ذلك العهد لما عهدوه من وخيم عواقبها، وسوء مغبَّة الاضطلاع بها، فقد ذكر ابن طيفور أن ثمامة بن أشرس المتكلم المعروف قال: لما قُتل الفضل بن سهل بعث إليَّ المأمون وكنت لا أنصرفُ من عنده إلا الوَقْعة إلى منزلي، ثم يأتيني رسوله في جوف الليل فآتيه، وكان قد أهَّلني لمكان الفضل بن سهل من الوزارة، فلما رأيته قد ألحَّ عليَّ في ذلك تعاللتُ عليه، فقال لي: إنما أردتك لكذا وكذا، فقلت: يا أمير المؤمنين، إني لا أقوم بذلك، وأحرِ بي أن أضنَّ بموضعي من أمير المؤمنين وحالي أن تزول عنده، فإني لم أر أحدًا تعرض للخدمة والوزارة إلا لم يكن لتسلم حالُه ولا تدوم منزلته. ورشَّح له أحمد بن أبي خالد الأحول، ثم انظر إلى اعتلاله عليه مرة أخرى حينما رشَّح له يحيى بن أكثم؛ فإنك توقن معنا بنفور رجال الدولة من الوزارة وهربهم من شرَكها وسُوء عقباها.

(٣) الاستصفاء

هم ينفرون من الوزارة لأن خاتمة حياتهم كانت التقتيل كما رأيت، وينفرون منها لأن مصير أموالهم وأموال ذويهم كان في الغالب إلى الاستصفاء والاغتصاب.

ولقد عم الاستصفاء سائر رجال الحكومة حتى الرعية، وأصبحت بتوالي الأيام المصدر الأول لتحصيل المال.

فالعامل يستصفي مما للرعية، والوزير يستصفي مما للعمال، والخليفة يستصفي مما للوزراء ومما للناس على اختلاف طبقاتهم، حتى لقد أنشئُوا للاستصفاء ديوانًا خاصًّا مثل سائر دواوين الحكومة، فكان المال يتداول بالاستصفاء كما يتداول بالمتاجرة.

أما أنواع الاستصفاء ومقاديره في ذلك العصر فنترك الكلمة في هذا للوزير ابن الفرات قريب العهد بالمأمون، قال: «تأملت ما صار إلى السلطان من مالي فوجدته ١٠٠٠٠٠٠٠ دينار، وحسبت ما أخذته من الحسين بن عبد الله الجوهري بن الجصاص فكان مثل ذلك». فكأنه لم يخسر شيئًا لأنهم يقبضون بالاستصفاء ويدفعون بالاستصفاء، وإذا استصفي أحدهم من مال لم يكن في وسعه أداؤه كله مُعجَّلًا أجَّلوه بالباقي، وساعدوه على تحصيله أو جمعه بردِّ جاهه وتغيير زيه وإنزاله في دار كبيرة فيها الفرش والآلة الحسنة؛ ليستطيع التدخل في جمع الأموال من الناس.

وتعددت أسباب الاستصفاء وجهاته حتى أصبح كل صاحب مال أو منصب عرضة له، وهاك بيانًا لما قبضه ابن الفرات من الاستصفاء على أيام الراضي بالله ننشرها لك لتكون أنموذجًا لأنواع الاستصفاءات ومقاديرها:

دينار
٧٣٠٥٦٨٠
٧٣٠٠ من أحمد بن محمد بن إبراهيم البسطامي، عن النصف مما بقى عليه من استصفائه في سنة ٣٠٠ﻫ.
١١٠٠٠ من علي بن الحسين الباذبيني الكاتب، عما تولاه من الموصل.
٣٠٠٠٠ من محمد بن عبد الله الشافعي، عما تصرف فيه لعلي بن عيسى.
٨٠٠٠٠ من محمد بن علي بن مُقلة، عما تصرف فيه.
١٠٠٠٠٠ من محمد بن الحسن المعروف بأبي طاهر.
١٣٠٠٠ من الحسن بن أبي عيسى الناقد، عما ذكر أنه وديعة لعلي بن عيسى.
٤٠٠٠ ومنه أيضًا صُلحًا عن نفسه.
٢٠٠٠٠ من إبراهيم بن أحمد المادرائي.
٣٦٣٣٠ من عبد الواحد بن عبيد الله بن عيسى، عن بقية استصفاء والده.
١٠٠٠٠ من أحمد بن يحيى بن حاني الكاتب عن مصلحةٍ وجبتْ.
٦٠٠٠ من إبراهيم بن أحمد بن إدريس الجهبذ، عن صلحه.
٤٠٠٠ من محمد بن عبد السلام بن سهل، عما عنده من الوديعة لمحمد بن علي وإبراهيم بن أحمد المادرائي.
٤٠٠٠٠ من عبد الوهاب بن أحمد بن ما شاء الله، عن صلحه.
١٠٠٠٠ من محمد بن عبد الله بن الحارث، عن صلحه.
٢٥٠٠٠٠ من محمد بن أحمد بن حماد، عما تصرف فيه بالموصل وغيرها.
١٥٠٠٠ من إبراهيم بن أحمد المادرائي، عن الباقي عليه من جملة خمسين ألفًا.
٣٠٠٠ من أبي عمر محمد بن أحمد الصباح الجرجراي، عن ضمانه الباقي على أبي العباس أحمد بن محمد بن علي المعروف بقرقر.
٧٠٠٠٠٠ من علي بن محمد بن الحواري وقتل.
٧٠٠٠ من هارون بن أحمد الهمذاني.
٢٠٥٠ من عبد الله بن زيد بن إبراهيم.
١٥٠٠٠ من عبد الله بن زيد، صلحًا عن نفسه.
٦٠٠٠٠ من علي بن مأمون بن عبد الله الإسكافي كاتب ابن الحواري وقتل.
٧٠٠٠٠٠ من يحيى بن عبد الله بن إسحاق، عما تصرف فيه مع حامد.
١٣٠٠٠٠٠ من حامد بن العباس وقُتل.
١٥٠٠٠٠ من محمد بن محمد بن حمدون الواسطي.
٣٢١٠٠٠ من أبي الحسن علي بن عيسى.
١٠٠٠٠٠ من إبراهيم بن يوحنا جهبذ حامد بن العباس.
١٢٠٠٠٠٠ من أبي محمد الحسن بن أحمد المادرائي.
١٠٠٠٠٠٠ ومنه أيضًا.
١٠٠١٠٠٠ من أبي بكر محمد بن علي المادرائي.
١٠٠٠٠ ومنه أيضًا.
درهم
٥٠٠٠٠ من أبي الفضل محمد بن أحمد بن بسطام
٢٠٠٠٠٠ من علي بن الحسن الباذبيني، صلحًا عما تصرف فيه بالموصل وقتل
١٠٠٠٠٠ من أبي عمر محمد بن أحمد بن الصباح الجرجراي، عن ضمان الباقي من استصفاء أبي ياسر إسحاق بن أحمد
١٠٠٠٠٠ من عبيد الله بن أحمد اليعقوبي
١٠٠٠٠٠ من الحسن بن إبراهيم الخرائطي، صلحًا عما اقتطعه من مال الرئيس
١٠٠٠٠٠ من الحسين بن علي بن نصير أخي نصير بن علي
٢٥٠٠ من علي بن محمد بن أحمد بن السمان، عن ورثة قرقر
١٠٠٠٠ من أبي بكر أحمد بن القاسم الأزرق الجرجاني، عن ضياع علي بن عيسى
١٣٠٠٠٠ من الحسين سعد بن القُطْرَبلي
١٥٠٠٠٠٠ من محمد بن أحمد
٣٠٠٠٠٠٠ من أبي الحسن محمد بن أحمد بن بسطام
٥٠٠٠٠ من أحمد بن محمد بن حامد بن العباس
١٣٠٠٠٠ من سليمان بن الحسن بن مخلد

ومن المعقول أن نستنبط من ذلك أن الوزير أو العامل لا بد أن يجنح إلى الرشوة، فيعوض المال الذي سيُستصفَى منه والثروة التي ستُغتصب منه.

ومن المعقول أيضًا أن نعلل لم تعددت الثورات في بعض الولايات، ولم كثرت الشكايات من بعض الولاة في ذلك العهد. وإنه وإن لم يهتم المؤرخون القدماء بإثبات شكايات العامة وأسباب ثوراتهم، فقد عثرنا بين السطور على العبارة الآتية في الجزء الثاني من اليعقوبي، نثبتها لك بنصها: «أخذ الرشيد العمال والتُّناء١ والدهاقين٢ وأصحاب الضياع والمبتاعين للغلات والمُقبِّلين،٣ وكان عليهم أموال مجتمعة، فولَّى مطالبتهم عبد الله بن الهيثم بن سام، فطالبهم بصنوف من العذاب — وكان ذلك سنة ١٨٤، واعتل الرشيد في تلك السنة علة شديدة وشفي منها — فدخل إليه الفضيل فرأى الناس يُعذَّبون في الخراج فقال: ارفعوا عنهم، إني سمعت رسول الله يقول: «من عذب النفس في الدنيا عذبه الله يوم القيامة» فأمر بأن يرفع عن الناس فارتفع العذاب من تلك السنة».٤

ويجوز لنا أن نستدل من هذه العبارة ومما ذكره الطبري وسواه من تخفيض بعض الخلفاء لخراج بعض البلدان عقب ثورة من الرعية أو زيارة ملكية، على أن العمال كانوا يجنحون إلى الشدة والعسف وجمع المال بشتى الوسائل، وكل ذلك من جراء النظام المتبع معهم كما أسلفنا، فتأمل كيف يكون عسف الولاة للرعية بسبب عسف الملوك للولاة والعمال.

يعسفون٥ ويظلمون والرعية وحدها هي التي تحتمل وتصبر، بيد أن التاريخ يحدثنا دائمًا في كافة الدول وكافة الأجيال أن نهاية هذا الاحتمال وذلك الصبر هي يقظة الأمم وانتباهها، ونهضة الشعوب ونضوجها، ورفضها في إباء وشمم، وفي عقيدة وإيمان، وفي شجاعة وحرية، وفي تصميم وقوة إرادة، احتمال أمثال هذه الأدران والمآثم، وتلك الإساءات والمظالم ممن تسلموا مقاليد الرعية من الحكام وذوي السلطان.

(٤) ثروة الخلفاء ورجال الدولة وبذخهم

نريد أن نقيد ملاحظة أخرى وهي نتيجة لازمة من نتائج الاستصفاء والاغتصاب، تلك الملاحظة هي استفحال ثروة الخلفاء طبعًا، واستفحال ثروة كبار رجالاتهم والمقربين من أفراد البيت الملكي من بطانة وحاشية، واستفحال بذخهم، واستفحال أعطياتهم، ونحن وإن كنا لم نجد مصدرًا منظمًا في هذا الموضوع، وخاصة في العصر المأموني، فقد عثرنا في كتاب «لطائف المعارف» للثعالبي أن «المكتفي» وهو قريب الصلة بعصر المأمون قد خلف مائة مليون دنيار! وهذا تفصيلها:

دينار
٢٠٠٠٠٠٠٠ من العين والورق والأواني المعمولة
٢٠٠٠٠٠٠٠ من الفرش
٢٠٠٠٠٠٠٠ من الكراع والسلاح والغلمان
٢٠٠٠٠٠٠٠ الضياع والعقار والأملاك
٢٠٠٠٠٠٠٠ الجوهر والطيب وما يُجرى معهما

ومن المعقول أن نتخذ من حالة هذا الخليفة العباسي مقياسًا لغيره، وإن كنا نعلم أن غيره مثل الرشيد والمأمون كانا أبسط منه سلطانًا وأكثر أعوانًا، فهما إن لم يكونا أرفع منه شأنًا ليسا بأقل منه بالثروة مكانًا.

أما ثروة كبار رجالهم، فإنا نذكر لك هنا على سبيل المثال نصًّا هامًّا يصح أن نتخذه أساسًا لتقدير ثروة أسرة الفضل بن سهل أو أسرة طاهر بن الحسين أو غيرهما من أساطين الدولة وأقطاب المملكة، وهو النص الذي رواه سهل بن هارون، أحد المعاصرين، خاصًّا بثروة البرامكة، وكلامه حجة لا محالة لأنه إلى جانب كونه من المعاصرين الواقفين على مجريات الأمور وبواطنها في ذلك العهد، فقد كان يشغل وظيفة خازن دار الحكمة في أيام المأمون، قال: «… وأمر الرشيد بضم أموالهم فوجد من العشرين ألف ألف التي كانت مبلغ جبايتهم اثني عشر ألف ألف مكتوبٌ على بِدَرها صكوك مختومة تفسيرها رقيمًا حبوا بها، فما كان منها حِباءٌ على غريبة أو استطراف مُلحة تصدق به يحيى، وأثبت ذلك في ديوانها على تواريخ أيامها، فكان ديوان إنفاق واكتساب فائدة، وقبض من سائر أموالهم ثلاثين ألف ألف وستمائة ألف وستة وسبعين ألفًا إلى سائر ضياعهم وغلاتهم ودورهم ورياشهم، والدقيق والجليل من مواعينهم، فإنه لا يصف أقله ولا يعرف أيسره إلا مَن أحصى الأعمال وعرف مُنتهى الآجال».

ويجوز لنا كذلك أن نستخلص مما صرف على زواج بوران بالمأمون مبلغ ثروة الحسن بن سهل، كما يجوز لنا أن نتبين مقدار ثروة عبد الله بن طاهر من رواية صاحب النجوم الزاهرة الخاصة بإحدى مواقفه في الكرم ومُؤدَّاها: أنه افتدى الأسرى من الترك بنحو ألفي ألف درهم، ثم انظر ما رواه المسعودي في مُرُوجه خاصًّا بما فعله إبراهيم بن المهدي في زيارة للرشيد له؛ إذ اصطنع له طاهِيه جملة أطعمة فخمة وكان من جملتها جامُ سمك مقطَّع، فاستصغر الرشيد قِطعَه واستفسر منه عن حقيقتها، فأجابه إبراهيم بن المهدي: يا أمير المؤمنين، هذه ألسنةُ السمك. وقُدِّرت نفقة ما في ذلك الجام بألف درهم.

ثم انظر بذَخهم في لباسهم وقد سبق لنا أن أشرنا إلى ما كانوا يلبسونه في المنادمة من مختلف الثياب وغاليها، ونريد أن نبين هنا ما وقفنا عليه من مخلَّفات بعض المعاصرين من الخلفاء والقواد؛ ليكون مثالًا تقريبيًّا لحالة من لم يصل إلى علمنا خبره، فقد ذُكر أن ما خلفه المُكتفي من الألبسة هو:

عدد
٤٠٠٠٠٠٠ من الثياب المقصورة سوى الخامات
٦٣٠٠٠ من الأثواب الخراسانية المَرْوية
٨٠٠٠ من الملاءات
١٣٠٠٠ العمائم المروية
١٨٠٠ الحُلل المُوشَّاة اليمانية وغيرها منسوجة بالذهب
١٨٠٠٠٠ البطائن التي من كِرْمان في أنابيب القصب
١٨٠٠٠ الأبسطة الأرمنية

وذكروا أن ذا اليمينين توفِّي وفي خزانته ألف وثلاثمائة سراويل ديبقي لم يستعملها، وقيل إنهم وجدوا في كسوة بختيشوع الطبيب ٤٠٠ سراويل ديبقي.

وقد اطلعنا في الجزء العشرين من «كتاب نهاية الأرب» على أن ملك التبت قدم على المأمون ومعه صنم من ذهب على سرير من ذهب مرصع بالجوهر، فأسلم الملك وأخذ المأمون الصنم وأرسله إلى الكعبة، وطالعنا فيه أيضًا أن ملك الهند أهدى إليه هدية نفيسة وكتب إليه مُعدِّدًا أمواله وثروته، مما يدل على بذخ العصر وثروة الملوك فيه.

وقد استفحل أمر البذخ في ذلك العصر حتى أصبحنا نرى أبا العتاهية مثلًا وهو المعروف ببخله يهدي إلى الرشيد في سبيل طلبه لعُتْبة ثلاث مَراوِح — وكان العباسيون قد تفننوا فيها وفي المَذَابِّ التي اخترعت في أيامهم — وكتب على كل مروحة بيتًا قال في مجموعها:

ولقد تنسَّمت الرياح لحاجتي
فإذا لها من راحتيه شميم
أعلقتُ نفسي من رجائك ماله
عنقٌ يحث إليك بي ورسيم
ولربما استيأستُ ثم أقول لا
إن الذي ضمن الرياح كريم

ولعلك إذا تذكرت أمر سُفن الأمين وبذخه وإسرافه مضافًا إليه ما ذكرنا هنا وغيره تؤمن بما نقول من بذخ العصر واستفحال ثروته، على أنا قد عثرنا على مصدرين ننشرهما مع الحيطة والحذر لبيان ثروة العصر، يتضمن الأول بيان الجباية في أيام المأمون، ويتضمن الثاني حالتها في أيام أخيه المعتصم مُفترضينَ في كلتا الحالتين جواز المبالغة في التقدير؛ في المصدرين نرى مع ذلك أن أي تقدير متواضع للخراج في ذلك العصر لا بد أن يكون عظيمًا ودالًّا على الثروة والغِنى والبذخ.

(٥) الخراج في عهد المأمون

يمتاز عهد المأمون بوجود أثر تاريخي يدل على مقدار الجباية الخراجية في جميع الأقاليم التي كانت تحت حكم الدولة العباسية، وهو الثبت الذي نقله العلامة ابن خلدون في تاريخه، وقد أحببنا لما في ذلك الثبت من الفائدة أن ننقله عنه، وها هو ذا:

الإقليم الجباية من الدراهم والدنانير الجباية من العروض
الجملة ٣٩٠٨٥٥٠٠٠ درهم
درهم
السواد ٢٧٨٠٠٠٠٠ ٢٠٠ حلة نجرانية
٢٤٠ رطلًا من طين الختم
كسكر ١١٦٠٠٠٠٠
كور دجلة ٢٠٨٠٠٠٠٠
حلوان ٤٨٠٠٠٠٠
الأهواز ٢٥٠٠٠٠٠٠ ٣٠٠٠٠ رطل سكر
فارس ٢٧٠٠٠٠٠٠ ٣٠٠٠٠ قارورة ماء ورد
٢٠٠٠٠ رطل زيت أسود
كرمان ٤٢٠٠٠٠٠ ٥٠٠ ثوب متاع يماني
٢٠٠٠٠ رطل تمر
مكران ٤٠٠٠٠٠
السند وما يليه ١١٥٠٠٠٠٠ ١٥٠ رطل عود هندي
سجستان ٤٠٠٠٠٠٠ ٣٠٠ ثوب معين
٢٠ رطل من الفانيد
خراسان ٢٨٠٠٠٠٠٠ ٢٠٠٠ نقرة فضة
٤٠٠٠ برذون
١٠٠٠ رأس رقيق
٢٠٠٠٠ ثوب متاع
٣٠٠٠٠ رطل إهليلج
جرجان ١٢٠٠٠٠٠٠ ١٠٠٠ شقة إبريسم
قومس ١٥٠٠٠٠٠ ١٠٠٠ نقرة فضة
طبرستان والريان ودماوند ٦٣٠٠٠٠٠ ٦٠٠ قطعة فرش طبري
٢٠٠ كساء و٥٠٠ ثوب
٣٠٠ منديل و٣٠٠ جام
الري ١٢٠٠٠٠٠٠ ٢٠٠٠٠ رطل عسل
همدان ١١٣٠٠٠٠٠ ١٠٠٠ رطل رب الرمانين
١٢٠٠٠ رطل عسل
ماها البصرة والكوفة ١٠٧٠٠٠٠٠
ماسبذان والريان ٤٠٠٠٠٠٠
شهرزور ٦٧٠٠٠٠٠
الموصل وما يليها ٢٤٠٠٠٠٠٠ ٢٠٠٠٠ رطل عسل
أذربيجان ٤٠٠٠٠٠٠
الجزيرة وما يليها من أعمال الفرات ٣٤٠٠٠٠٠٠ ١٠٠٠ رأس رقيق
١٢٠٠٠ زق عسل
١٠ بزاة
٢٠ كساء
أرمينية ١٣٠٠٠٠٠٠ ٢٠ قسط محفور
٥٣٠ رطل رقم
١٠٠٠٠ رطل من المسايح السرماهي
١٠٠٠٠ رطل صونج
٢٠٠ بغل
٣٠ مُهرًا
برقة ١٠٠٠٠٠٠
إفريقية ١٣٠٠٠٠٠٠ ١٢٠ بساط
المجموع ٣١٨٦٠٠٠٠٠ درهم
من الدنانير
قنسرين ٤٠٠٠٠٠ ١٠٠٠ حمل زيت
دمشق ٤٢٠٠٠٠
الأردن ٩٧٠٠٠
فلسطين ٣١٠٠٠٠ ٣٠٠٠٠٠ رطل زيت
مصر ٢٩٢٠٠٠٠
اليمن ٣٧٠٠٠٠ سوى المتاع (الذي لم يذكر)
الحجاز ٣٠٠٠٠٠
٤٨١٧٠٠٠ دينار، وتساوي ٧٢٢٥٥٠٠٠ درهم باعتبار الدينار ١٥ درهمًا، وهو تقديره في ذلك العصر،
فيكون المجموع بالدراهم ٧٢٢٥٥٠٠٠
يضاف إليه جباية الأقاليم المذكورة أعلاه ٣١٨٦٠٠٠٠٠

(٦) الخراج في عهد المعتصم

أما جباية الدولة في أيام المعتصم، فهاك هي نقلًا عن قدامة بن جعفر: كانت جباية السواد معظمها من الحنطة والشعير، وقد ذكر قدامة مقدار كل منهما مفصلًا باعتبار طساسيج السواد، أي نواحيه في الشرق والغرب:

اسم الناحية مقدار الحنطة بالكر مقدار الشعير بالكر الدراهم
مجموع خراج السواد ١١٥٦٠٠ ١٢٣٩٢١ ٨٨٢١٨٠٠
طساسيج السواد في الجانب الغربي:
الأنبار ونهر عيسى ١١٨٠٠ ٦٤٠٠ ٤٠٠٠٠٠
طسوج مسكن ٣٠٠٠ ١٠٠٠ ١٥٠٠٠٠
طسوج قطربل ٢٠٠٠ ١٠٠٠ ٣٠٠٠٠٠
طسوج بادوريا ٣٥٠٠ ١٠٠٠ ١٠٠٠٠٠٠
بهر سبر ١٧٠٠ ١٧٠٠ ١٥٠٠٠٠
الرومقان ٣٣٠٠ ٣٣٠٠ ٢٥٠٠٠٠
كوثى ٣٠٠٠ ٢٠٠٠ ٣٥٠٠٠٠
نهر درقيط ٢٠٠٠ ٢٠٠٠ ٢٠٠٠٠٠
نهر جوبر ١٥٠٠ ٦٠٠٠ ١٥٠٠٠٠
باروسما ونهر الملك ٣٥٠٠ ٤٠٠٠ ١٢٢٠٠٠
الزوابي الثلاثة ١٤٠٠ ٧٢٠٠ ٢٥٠٠٠٠
بابل وخطرنية ٣٠٠٠ ٥٠٠٠ ٣٥٠٠٠٠
الفلوجة العليا ٥٠٠ ٥٠٠ ٧٠٠٠٠
الفلوجة السفلى ٢٠٠٠ ٣٠٠٠ ٢٨٠٠٠٠
طسوج النهرين ٣٠٠ ٤٠٠ ٤٥٠٠٠
طسوج عين التمر ٣٠٠ ٤٠٠ ٤٥٠٠٠
طسوج الجبة والبداة ١٥٠٠ ١٦٠٠ ١٥٠٠٠٠
سورا وبرنسيما ١٥٠٠ ٤٥٠٠ ٢٥٠٠٠٠
البرس الأعلى والأسفل ٥٠٠ ٥٥٠٠ ١٥٠٠٠٠
فرات بادقلي ٢٠٠٠ ٢٥٠٠ ٦٢٠٠٠
طسوج السيلحين ١٠٠٠ ١٥٠٠ ١٤٠٠٠٠
روذستان وهرمزجرد ٥٠٠ ٥٠٠ ٢٠٠٠٠
تستر ٢٢٠٠ ٢٠٠٠ ٣٠٠٠٠٠
إيغار يقطين ١٢٠٠ ٢٠٠٠ ٢٠٤٨٠٠
كسكر ٣٠٠٠٠ ٢٠٠٠٠ ٢٧٠٠٠٠
طساسيج السواد في الجانب الشرقي:
طسوج بزرجسابور ٢٥٠٠ ٢٢٠٠ ٣٠٠٠٠٠
طسوج الراذانين ٤٨٠٠ ٤٨٠٠ ١٢٠٠٠٠
طسوج نهر بوق ٢٠٠ ١٠٠٠ ١٠٠٠٠٠
كلواذى ونهر بين ١٦٠٠ ١٥٠٠ ٣٣٠٠٠٠
جازر والمدينة العتيقة ١٠٠٠ ١٥٠٠ ٢٤٠٠٠٠
روستقباد ١٠٠٠ ١٤٠٠ ٢٤٦٠٠٠
سلسل ومهروذ ٢٠٠٠ ١٥٠٠ ١٥٠٠٠٠
جلولا وجللتا ١٠٠٠ ١٠٠٠ ١٠٠٠٠٠
الذيبين ١٩٠٠ ١٣٠٠ ٤٠٠٠٠
الدسكرة ١٨٠٠ ١٤٠٠ ٦٠٠٠٠
البنذنيجين ٦٠٠ ٥٠٠ ٣٥٠٠٠
طسوج براز الروذ ٣٠٠٠ ٥١٠٠ ١٢٠٠٠٠
النهروان الأعلى ١٧٠٠ ١٨٠٠ ٣٥٠٠٠٠
النهروان الأوسط ١٠٠٠ ٥٠٠ ١٠٠٠٠٠
بدرايا وبكسايا ٤٧٠٠ ٥٠٠٠ ٣٣٠٠٠٠
كور دجلة ٩٠٠ ٤٠٠٠ ٤٣٠٠٠٠
نهر الصلة ١٠٠٠ ٣١٢١ ٥٩٠٠٠
النهروان الأسفل ١٧٠٠ ١٣٠٠ ٥٣٠٠٠

فمجموع جباية السواد باعتبار نواحيه ١١٥٦٠٠ كر حنطة، و١٢٣٩٢١ كر شعير، و٨٨٢١٨٠٠ درهم، على أن هذا المجموع يختلف عما قاله قدامة المذكور بعد أن أورد خراج كل ناحية بالتفصيل كما تقدم، فقد قال في إيراد المجموع: «ذلك ارتفاع السواد سوى صدقات البصرة من الحنطة ١٧٧٢٠٠ كر، ومن الشعير ٩٩٧٢١ كرًّا، ومن الورق ٨٠٩٥٨٠٠ درهم»، وقد قال المرحوم جرجي بك زيدان: ولعل سبب هذا الفرق خطأ في قراءة بعض الأعداد، على أن الفرق على كثرته لا يعتد به فيما نحن فيه. بقي علينا أن نحول الحنطة والشعير إلى دراهم، وقد فعل جعفر ذلك فحوَّلهما باعتبار ثمن الكُرَّين المقرونين من الحنطة والشعير ٦٠ دينارًا، والدينار على صرف ١٥ درهمًا بدينار، فبلغ ذلك ١٠٠٣٦١٨٥٠ درهمًا وقال: إن صدقات البصرة ترتفع في السنة ٦٠٠٠٠٠٠ درهم، فإذا جمعت ذلك كله بلغ ١١٤٤٥٧٦٥٠ درهمًا على هذه الصورة:

١١٤٤٥٧٦٥٠ درهمًا
٨٠٩٥٨٠٠ الدراهم المجموعة ورقًا
١٠٠٣٦١٨٥٠ قيمة الحنطة والشعير بالدرهم
٦٠٠٠٠٠٠ صدقات البصرة

هذا هو ارتفاع السواد، فلنتقدم إلى إيراد جبايات سائر الأقاليم بالمشرق والمغرب وهي مع السواد:

أقاليم المشرق درهم
المجموع ٣١١٥٨١٣٥٠
السواد ١١٤٤٥٧٦٥٠
الأهواز ٢٣٠٠٠٠٠٠
فارس ٢٤٠٠٠٠٠٠
كرمان ٦٠٠٠٠٠٠
مكران ١٠٠٠٠٠٠
أصبهان ١٠٥٠٠٠٠٠
سجستان ١٠٠٠٠٠٠
خراسان ٣٧٠٠٠٠٠٠
حلوان ٩٠٠٠٠٠
ماه الكوفة ٥٠٠٠٠٠٠
ماه البصرة ٤٨٠٠٠٠٠
همدان ١٧٠٠٠٠٠
ماسبذان ١٢٠٠٠٠٠
مهرجان قذق ١١٠٠٠٠٠
الإيغارين ٣١٠٠٠٠٠
قم وقاشان ٣٠٠٠٠٠٠
أذربيجان ٤٥٠٠٠٠٠
الري ودماوند ٢٠٠٨٠٠٠٠
قزوين وزنجان وأبهر ١٨٢٨٠٠٠
قومس ١١٥٠٠٠٠
جرجان ٤٠٠٠٠٠٠
طبرستان ٤٢٨٠٧٠٠
تكريت والطيرهان ٩٠٠٠٠٠
شهرزور والصامغان ٢٧٥٠٠٠٠
الموصل وما يليها ٦٣٠٠٠٠٠
قردي وبذيدي ٣٢٠٠٠٠٠
ديار ربيعة ٩٦٣٥٠٠٠
أرزن وميافارقين ٤٢٠٠٠٠٠
طرون ١٠٠٠٠٠
آمد ٢٠٠٠٠٠٠
ديار مضر ٦٠٠٠٠٠٠
أعمال طريق الفرات ٢٩٠٠٠٠٠
أقاليم المغرب دنانير
المجموع ٥١٠٢٠٠٠
قنسرين والعواصم ٣٦٠٠٠٠
جند حمص ٢١٨٠٠٠
جند دمشق ١١٠٠٠٠
جند الأردن ١٠٩٠٠٠
جند فلسطين ٢٩٥٠٠٠
مصر والإسكندرية ٢٥٠٠٠٠٠
الحرمين ١٠٠٠٠٠
اليمن ٦٠٠٠٠٠
اليمامة والبحرين ٥١٠٠٠٠
عمان ٣٠٠٠٠٠

وإذا ما حوَّلنا هذه الدنانير إلى دراهم باعتبار الدينار ١٥ درهمًا؛ فإنها تساوي ٧٦٧١٠٠٠٠ درهم، وبإضافتها إلى مجموع جباية أقاليم المشرق والجزيرة يكون مجموع ذلك كله ٣٨٨٢٩١٣٥٠ درهمًا، وهو ارتفاع الخراج على تقدير قدامة.

(٧) السعايات والجاسوسية

وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالقيد وهي انتشار السعايات والدسائس في ذلك العصر انتشارًا مروعًا، ولعل سبب ذلك جنوح العباسيين إلى استعمال الجواسيس والرقباء بكثرة هائلة، فانظر مثلًا ما جاء في الجزء العشرين من كتاب «نهاية الأرب» عن المأمون؛ إذ يقول: إنه كان يحب سماع أخبار الناس حتى جعل برسم الأخبار ببغداد ألف عجوز وسبعمائة عجوز، فتأمل جاسوسية العصر التي لا يبعد البتة أن تكون لها يومئذ إدارات خاصة.

وبعد، فمهما يكن من افتراضك للمبالغة والغلو فيما يرويه لنا صاحب نهاية الأرب، فإن اطِّلاعك على كتاب ابن طيفور الذي كان معاصرًا لكثير من رواته، والذي كان قريب العهد بالمأمون وعصره، يقنعك بكثرة العيون وكثرة الأرصاد كثرةً قد تهولُك حقًّا وتدهشك صدقًا.

وقد سبق أن قلنا: إن جل الساسة العباسيين كانوا يوصون بحفظ الأسرار، ويحبون الرجل الكُتَمة القُفَلة، وكان لحفظ الأسرار عندهم مكانة عظيمة، وإنك إذا نظرت إلى قول المأمون: «تحتمل الملوك كل شيء إلا ثلاثة: إفشاء السر، والقدح في الملك، والتعرض للحرم» علمت حينئذ مكانة حفظ السر عندهم، وأنها في المنزلة الأولى من اعتبارهم، واستطعت أن تعلل لم كانت خططهم غير واضحة ولا جلية، وربما كانت مُعمَّاة مبهمة.

(٨) الدعاوة «البروپاچندا»

وهناك مسألة أخرى نحدثك بها، وهي جديرة بالملاحظة قمينة بالبحث، تلك هي عنايتهم بأمر الدعاوة وتقويتهم حملاتهم فيما يريدون الدفاع عنه، فقد كان إتقانهم لأمرها وعلمهم بأفانينها ووقوفهم على نظمها بالغًا مبلغًا عظيمًا؛ إذ كان في مكنتهم وطوع بنانهم أن يصوروا الحق باطلًا والباطل حقًّا، وإن فيما رواه الطبري وغير الطبري عن سِنيِّ حياة المأمون واستخدامه للرقاع تعلَّق على ظهر من يقتل أو يعاقب من رجالات دولته الغُنية والكفاية فيما نحن بسبيل القول فيه.

وإنا نسوق إليك مثلين لتأييد ما ذهبنا إليه:

فقد ذكر الطبري أن المأمون لما قتل علي بن هشام أمر أن تكتب رقعة وتعلق على رأسه ليقرأها الناس، فكُتب — وقد ذكرنا هذا الكتاب فيما سبق لمناسبة أخرى:

أما بعد، فإن أمير المؤمنين كان دعا علي بن هشام فيمن دعا من أهل خراسان أيام المخلوع إلى معاونته والقيام بحقه، وكان فيمن أجاب وأسرع الإجابة، وعاون فأحسن المعاونة، فرعى أمير المؤمنين ذلك له واصطنعه وهو يظن به تقوى الله وطاعته، والانتهاء إلى أمر أمير المؤمنين في عمل إن أسند إليه في حسن السيرة وعفاف الطعمة، وبدأه أمير المؤمنين بالإفضال عليه، فولاه الأعمال السنية ووصله بالصلات الجزيلة التي أمر أمير المؤمنين بالنظر في قدرها، فوجدها أكثر من خمسين ألف ألف درهم، فمد يده إلى الخيانة والتضييع لما استرعاه من الأمانة، فباعده عنه وأقصاه، ثم استقال أمير المؤمنين عثرته، فأقاله إياها وولَّاه الجبل وأذربيجان وكور أرمينية ومحاربة أعداء الله الخونة، على ألا يعود لما كان منه، فعاود أكثر ما كان بتقديمه الدينار والدرهم على العمل لله ودينه، وأساء السيرة، وعسف الرعية، وسفك الدماء المحرمة، فوجه أمير المؤمنين عجيف بن عنبسة مباشرًا لأمره، وداعيًا إلى تلافي ما كان منه، فوثب بعجيف يريد قتله، فقوَّى الله عجيفًا بنيته الصادقة في طاعة أمير المؤمنين حتى دفعه عن نفسه، ولو تم ما أراد بعجيف لكان في ذلك ما لا يستدرك ولا يستقال، ولكن الله إذا أراد أمرًا كان مفعولًا، فلما أمضى أمير المؤمنين حكم الله في علي بن هشام، رأى ألا يؤاخذ من خلفه بذنبه، فأمر أن يُجرَى لولده ولعياله ولمن اتصل بهم ومن كان يجري عليهم مثل الذي كان جاريًا لهم في حياته، ولولا أن علي بن هشام أراد العُظمَى بعجيف لكان في عداد من كان في عسكره ممن خالف وخان كعيسى بن منصور ونظرائه. والسلام.

فأنت ترى من هذا إلى أية درجة من العناية والاهتمام وصلت الدعاوة «البروباجندة» المأمونية.

ولا غرو فقد أفادت المأمون أيَّما إفادة، وقد كان المسلمون بسبب نشاط العباسين في الدعوة لأنفسهم أطوع لهم مما كانوا لبني أمية، واعتقدوا أن خلافتهم تبقى أبد الدهر حتى يأتي السيد المسيح، وغُرس في أذهان الناس بتوالي الأزمان أن الخليفة العباسي إذا قتل اختل نظام العالم، واحتجبت الشمس وامتنع القطر وجف النبات! كل ذلك من أثر عناية العباسيين بالدعاوة لأنفسهم، واهتمامهم أيَّما اهتمام بتبرير تصرفاتهم وتزكية أعمالهم.

ثم انظر ماذا حصل لإبراهيم بن المهدي ترَ أن الدعوة المأمونية أبتْ إلا أن يقعد في دار المأمون لينظر إليه بنو هاشم والقواد والجند، وصيَّر الدعاةُ المِقْنَعة التي كان متنقِّبًا بها في عنقه، والملحفة التي كان مُلتحفًا بها في صدره ليراه الناس ويعلموا كيف أُخِذ.

وانظر أخيرًا — رعاك الله ووفقك — إلى ما يحدِّثنا به أحمد بن أبي دواد عن كلمة المأمون في هذا الصدد، قال: «قال لي المأمون: لا يستطيع الناس أن ينصفوا الملوك من وزرائهم، ولا يستطيعون أن ينظروا بالعدل بين الملوك وحُماتهم وكُفاتهم، وبين صنائعهم وبطانتهم، وذلك أنهم يرون ظاهرَ حرمة وخدمة واجتهاد ونصيحة، ويرون إيقاع الملوك بهم ظاهرًا، حتى يزال الرجل يقول: ما أوقع به إلا رغبة في ماله أو رهبة في بعض ما لا تجود النفوس به، ولعل الحسد والملالة وشهوة الاستبدال اشتركت في ذلك، وهناك خيانات في صلب الملك أو في بعض الحُرَم فلا يستطيع الملك أن يكشف للعامة موضع العورة في الملك، ولا أن يحتج لتلك العقوبة بما يستحق ذلك الذنب، ولا يستطيع الملك ترك عقابه لما في ذلك من الفساد على علمه بأن عذره غير مبسوط للعامة ولا معروف عند أكثر الخاصة».

(٩) صعوبة مهمة المؤرخ

والحق أنها مهمة صعبة أن تستكشف حقيقة الظالم من المظلوم، والغالب من المغلوب، والهادي والضال في هذه الدولة التي لعبت فيها الأقلام والألسنة دورًا عظيمًا، ولولا ما جنحنا إليه من الاطلاع على شتى المصادر، وقضينا في ذلك تمهيدًا طويلًا ودرسًا مملًّا مُتعبًا، فطالعنا أقوال الأحزاب المتضاربة، ووازنَّا بين كلمة هذا ودفاع ذاك لما كنا بالغين بعض ما بلغناه من إماطة اللثام عن بعض الحقائق التاريخية. وفي هذا القدر الكفاية عن حياة المأمون الخليفة، وآن لنا أن نتكلم عن نواحيه الخلقية.

هوامش

(١) التُّنَّاء «وِزان سُكَّان»: جمع تانئ، والتانئ: الدهقان، انظر القاموس.
(٢) الدهاقين: جمع دهقان، وهو التاجر أو رئيس الإقليم، وهو فارسي مُعرَّب.
(٣) هم ملتزمو جباية الخراج للولاة.
(٤) يرى الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار أن عمل الرشيد هذا لم يكن من قبيل الاستصفاء، وإنما هو من قبيل الإعنات في استيفاء الحقوق.
(٥) يلاحظ الأستاذ النجار أيضًا أن كل ما ذكر في هذا الباب لا يتناول زمن المأمون، وإنما كان ذلك بعده، والرشيد لم يحفظ عليه إلا استصفاء البرامكة حين نكبهم، وأن المأمون رفعت إليه رقعة فيها أن فلانًا مات وترك لورثته كذا وكذا، وكان المال يبلغ الملايين من الدراهم، فكتب في الرقعة: هذا قليل لمن تقلب في دولتنا وطالت خدمته لنا؛ فبارَك الله لورثته فيما ترك لهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤