الفصل السابع

شخصية المأمون

(١) توطئة

نريد هنا أن نحلل أخلاق المأمون، ونريد أن نستقصي كل ما قيل عنه، وأن ندرس شتى نواحيه الخلقية بما تستحقه من العناية والتعليق والتوضيح، وسنعتمد فيما سنكتبه على الحوادث وما رواه المعاصرون عنه، ونرجو أن نوفق فيما سنعانيه.

(٢) كرمه وسخاؤه

يقول صاحب النجوم الزاهرة: إنه لم يفرِّق ملك ولا سلطان في يوم واحد مثل ما فرَّقه المأمون يوم ولَّى ولده العباس على الجزيرة؛ إذ أمر لكل من المعتصم والعباس بخمسمائة ألف دينار، وأمر بمثل ذلك لعبد الله بن طاهر.

وقد يكون من نافلة القول أن نذكر أن المأمون كان من أكثر خلفاء العباسيين جودًا وأبسطهم يدًا وأسخاهم نفسًا، بعد أن نرى كتب التاريخ والأدب مُفْعَمة بما كان له من حوادث غريبة في السخاء والجود.

والذي يتتبع ما ذكره المؤرخون من حوادث جوده وفيض إنعامه يرى أن كرم المأمون وسخاءه يرجع إلى عناصر مختلفة في نفسه، فمنها ما يرجع إلى ما في فطرته من أريحية واهتزاز للمعروف، ومنها ما يرجع إليه كسياسي يريد أن يظفر ويتملك القلوب ويوطِّد أركان سلطانه بالمال.

ونحن إذا نظرنا إلى الدوحة الهاشمية التي تفرَّع عنها المأمون، وأنه نشأ في حجر الخلافة في النعيم والترف، ومَن هذا شأنه قلَّ حرصه على المال، وإذا نظرنا أيضًا إلى أنه خاض معمعة سياسية وحربية كان المال من أفعل آلاتها وأبعدها أثرًا — وقد بيَّنَّا لك في العصر الأموي ما كان للمال من أثر قوي في إقامة سلطان بني أمية وتوطيده — لم نر غلوًّا كبيرًا فيما أُترعت به كتب الأدب والتاريخ من حوادث جود المأمون وكرمه، ولننظر فيما يرويه لنا ابن طيفور في هذا السبيل فإنه قال: إن المأمون لما فتح «حصن فُرَّة» وغنم ما فيه اشترى السبي بستة وخمسين ألف دينار، ثم خلَّى سبيلهم وأعطاهم دينارًا دينارًا.

وهاك مثالًا مما يصح أن يكون من آثار أريحية المأمون وإرادته توطيد سلطانه:

يحدثنا ابن الأثير والطبري أن العبسي صاحب إسحاق بن إبراهيم قال: كنت مع المأمون بدمشق وكان قد قل المال عنده حتى أضاق وشكا ذلك إلى أبي إسحاق المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين، كأنك بالمال وقد وافاك بعد جُمعة، وكان قد حمَل إليه ثلاثين ألف ألف ألف١ درهم من خراج ما يتولاه له، قال: فلما ورد عليه ذلك المال قال المأمون ليحيى بن أكْثَم: اخرُج بنا ننظر إلى هذا المال، قال: فخرجا حتى أصحرا ووقفا ينظرانه، وكان قد هُيئ بأحسن هيئة، وحُلِّيت أباعره، وألبست الأحلاس الموشَّاة والجلال المصبغة، وقُلِّدت العِهَن، وجعلت البِدَر بالحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر، وأُبديت رءوسها، قال: فنظر المأمون إلى شيء حسن، واستكثر ذلك فعظُم في عينه، واستشرفه الناس ينظرون إليه ويعجبون منه، فقال المأمون ليحيى: يا أبا محمد، ينصرف أصحابنا هؤلاء الذين تراهم الساعة خائبين إلى منازلهم، وننصرف بهذه الأموال وقد ملكناها دونهم، إنَّا إذن للئامٌ! ثم دعا محمد بن يزداد فقال له: وقِّع لآل فلان بألف ألف، ولآل فلان بمثلها، ولآل فلان بمثلها، قال: فوالله إن زال كذلك حتى فرَّق أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورِجلُه في الرِّكاب ثم قال: ادفع الباقي إلى المعلى يعطي جندنا، قال العبسي: فجئت حتى قمت نُصْب عينه، فلم أردَّ طرفي عنها لا يلحظني إلا رآني بتلك الحال، فقال: يا أبا محمد، وقِّع لهذا بخمسين ألف درهم من ستة آلاف الألف، قال: فلم يأت عليَّ ليلتان حتى أخذت المال.

ومما يدل على كرم نفس المأمون وحسن تبسطه ما رواه القاسم بن محمد الطيفوري قال: شكا اليزيدي إلى المأمون خلة أصابته ودَينًا لحقه فقال: ما عندنا في هذه الأيام ما إن أعطيناكه بلغت به ما تريد، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الأمر قد ضاق عليَّ، وإن غرمائي قد أرهقوني، قال: فرُمْ لنفسك أمرًا تنلْ به نفعًا، فقال: لك منادمون فيهم مَن إنْ حرَّكته نلت منه ما أحب، فأطلقْ لي الحيلة فيهم، قال: قل ما بدا لك، قال: فإذا حضروا وحضرت فمُرْ فلانًا الخادم أن يوصل إليك رقعتي، فإذا قرأتَها فأرسِل إليَّ: «دخولك في هذا الوقت متعذر، ولكن اختر لنفسك مَن أحببت»، قال: فلما علم أبو محمد بجلوس المأمون واجتماع ندمائه إليه، وتيقن أنهم قد ثملوا من شربهم أتى الباب فدفع إلى ذلك الخادم رقعة قد كتبها، فأوصلها إلى المأمون فقرأها فإذا فيها:

يا خير إخواني وأصحابي
هذا الطفيلي لدى الباب
خُبِّر أن القوم في لذة
يصبو إليها كل أواب
فصيِّروني واحدًا منكم
أو أخرِجوا لي بعض أترابي

قال: فقرأها المأمون على من حضره، فقالوا: ما ينبغي أن يدخل هذا الطفيلي على مثل هذه الحالة، فأرسل إليه المأمون: «دخولك في هذا الوقت متعذر؛ فاختر لنفسك من أحببت تنادمه» فقال: ما أرى لنفسي اختيارًا غير عبد الله بن طاهر، فقال له المأمون: قد وقع اختياره عليك فسِرْ إليه، قال: يا أمير المؤمنين، فما أكون شريك الطفيلي، قال: ما يمكن رد أبي محمد عن أمرين؛ فإن أحببت أن تخرج وإلا فافتدِ نفسك، فقال: يا أمير المؤمنين، له عليَّ عشرة آلاف درهم! قال: لا أحسب ذلك يقنعه منك ومن مجالستك، قال: فلم يزل يزيده عشرة عشرة والمأمون يقول له: لا أرضى له بذلك حتى بلغ مائة ألف، قال: فقال له المأمون: فعجِّلها له، قال: فكتب له بها إلى وكيله ووجه معه رسولًا، فأرسل إليه المأمون: «قبضُ هذه في هذه الحال أصلحُ لك من منادمته على مثل حاله وأنفع عاقبة».

ويتجلى سخاء المأمون مع الوفاء وطيب النفس في موقفه مع غلام سعيد الجوهري الذي كان قد لزَّ بالمأمون في الكُتَّاب، فكان إذا احتاج المأمون إلى محو لوحه بادر إليه فأخذ اللوح من يده فمحاه، وغلب على غلمان المأمون ومسحه وجاء به فوضعه على المنديل في حجره، فلما سار المأمون إلى خراسان وكان من أخيه محمد الأمين ما كان، خرج إليه غلام سعيد هذا فوقف بالباب حتى جاء أبو محمد اليزيدي، فلما رآه عرفه فدخل فأخبر المأمون، فقال له مستبشرًا بقدومه: لك البشرى! ثم أذن له فدخل عليه، فضحك إليه حين رآه ثم قال: أتذكر وأنت تبادر إلى محو لوحي؟ قال: نعم يا سيدي. فوصله بخمسمائة ألف درهم.

وانظر فيما يحدثنا به الطبري عن محمد بن أيوب قال: إنه كان بالبصرة رجل من بني تميم، وكان شاعرًا ظريفًا خبيثًا ماكرًا، وكنت أنا والي البصرة آنس به وأستحليه، فأردت أن أخدعه وأستنزله فقلت له: أنت شاعر، وأنت ظريف، والمأمون أجود من السحاب الحافل والريح العاصف، فما يمنعك منه؟ قال: ما عندي ما يُقلُّني، قلت: فأنا أعطيك نجيبًا فارهًا ونفقة سابغة وتخرج إليه وقد امتدحته، فإنك إن حظيت بلقائه صرت إلى أمنيتك، قال: والله أيها الأمير، ما إخالك أبعدتَ فأعِدَّ لي ما ذكرت، قال: فدعوت له بنجيب فارهٍ فقلت: شأنك به فامتطه، قال: هذه إحدى الحسنيين، فما بال الأخرى؟

فدعوت له بثلثمائة درهم وقلت: هذه نفقتك، قال: أحسبك أيها الأمير قصَّرت في النفقة، قلت: لا، هي كافية إن قصرت عن السرف، قال: ومتى رأيت في أكابر سعدٍ سرفًا حتى تراه في أصاغرها؟ فأخذ النجيب والنفقة ثم عمل أرجوزة ليست بالطويلة فأنشدنيها وحذف منها ذكري والثناء عليَّ، وكان ماردًا، فقلت له: ما صنعت شيئًا، قال: وكيف؟ قلت: تأتي الخليفة ولا تثني على أميرك! قال: أيها الأمير، أردت أن تخدعني فوجدتني خدَّاعًا، أما والله ما لكرامتي حملتني على نجيبك ولا جُدتَ لي بمالك الذي ما رامه أحد قط إلا جعل الله خده الأسفل، ولكن لأذْكُرك في شعري وأمدحك عند الخليفة، افهم هذا، قلت: قد صدقت، فقال: أما إذ أبديتَ ما في ضميرك، فقد ذكرتك وأثنيت عليك، قلت: فأنشدني ما قلت، فأنشدنيه، فقلت: أحسنت.

ثم ودَّعني وخرج فأتى الشام وإذا المأمون «بسلغوس»، قال: فأخبرني قال: بينا أنا في غزاة قرة قد ركبت نجيبي ذاك، ولبست مقطعاتي وأنا أروم العسكر، فإذا أنا بكهل على بغل فارهٍ ما يقر قراره ولا تدرك خُطاه، قال: فتلقاني مكافحة ومواجهة وأنا أردد نشيد أرجوزتي، فقال: سلام عليكم — بكلام جهوري ولسان بسيط — فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته! قال: قف إن شئتَ، فوقفتُ، فتضوَّعت منه رائحة العنبر والمسك الأذفر، فقال: ما أوَّلك؟ قلت: رجل من مُضر، قال: ونحن من مضر، ثم قال: ثم ماذا؟ قلت: رجل من بني تميم، قال: وما بعد تميم؟ قلت: من بني سعد، قال: هيه! فما أقدمك هذا البلد؟ قال: قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى رائحة، ولا أوسع راحة، ولا أطول باعًا، ولا أمد يفاعًا، قال: فما الذي قصدته به؟ قلت: شعر طيب يلذ على الأفواه وتقتفيه الرواة ويحلو في آذان المستمعين، قال: فأنشدنيه، فغضبتُ وقلت: يا ركيك! أخبرتك أني قصدت الخليفة بشعرٍ قلته ومديح حبَّرته، تقول أنشدنيه! قال: فتغافل والله عنها وتطامن لها وألغى عن جوابها، قال: وما الذي تأمل منه؟ قلت: إن كان على ما ذُكِر لي عنه فألف دينار، قال: فأنا أُعطيك ألف دينار إن رأيت الشعر جيدًا والكلام عذبًا، وأضع عنك العناء وطول الترداد، ومتى تصل إلى الخليفة وبينك وبينه عشرة آلاف رامح ونابل؟ قلت: فلي الله عليك أن تفعل، قال: نعم، لك الله عليَّ أن أفعل، قلت: ومعك الساعة مال؟ قال: هذا بغلي، وهو خير من ألف دينار، أنزل لك عن ظهره، قال: فغضبت أيضًا وعارضني نَزَق سَعْد وخفَّة أحلامها، فقلت: ما يساوي هذا البغل هذا النجيب، قال: فدع عنك البغل، ولك الله عليَّ أن أعطيك الساعة ألف دينار، قال: فأنشدته:

مأمون يا ذا المنن الشريفهْ
وصاحب المرتبة المنيفهْ
وقائد الكتيبة الكثيفه
هل لك في أرجوزة طريفه
أظرف من فقه أبي حنيفه
لا والذي أنت له خليفه
ما ظلمت في أرضنا ضعيفه
أميرنا مُؤنته خفيفه
وما اجتبى شيئًا سوى الوظيفه
فالذئب والنعجة في سقيفه
واللص والتاجر في قطيفه

قال: فوالله ما عدا أن أنشدته، فإذا زُهاء عشرة آلاف فارس قد سدوا الأفق، يقولون: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته!

قال: فأخذني أُفْكَل٢ ونظر إليَّ بتلك الحالة فقال: لا بأس عليك أي أخي.

قلت: يا أمير المؤمنين، جعَلني الله فداءك، أتعرف لغات العرب؟

قال: إي لعَمْرُ الله!

قلت: فمن جعل الكاف منه مكان القاف؟

قال: هذه حِمْير.

قلت: لعنها الله ولعَن من استعمل هذه اللغة بعد اليوم!

فضحك المأمون وعلم ما أردتُ، والتفت إلى خادم إلى جانبه فقال: أعْطِه ما معك، فأخرج إليَّ كيسًا فيه ثلاثة آلاف دينار.

فقال: هاك، ثم قال: السلام عليك ومضى، فكان آخر العهد به.

أما عن كرم نفسه، فإن ابن طيفور يحدثنا أن مخارقًا قال: كنا عند المأمون أنا والمغنون بدمشق وعريب معنا.

فقال: غنِّ يا مخارق.

فقلت: أنا محموم.

فقال: يا عريب، جسيه.

فرفعت يدها إلى عضدي، فقال لها المأمون: قد اشتهيته، تحبين أن أزوجك؟

قالت: نعم!

فقال: من تريدين؟

قالت: هذا، وأومأت إلى محمد بن حامد، فقال: اشهدوا أني قد زوَّجتها منه، ثم انظر ما يستطرد به مخارق من أن المعتصم لما وَلِي كتب إلى إسحاق بن إبراهيم أن: مُر محمد بن حامد أن يُطلِّق عريبًا، فأمره فتأبى، فكتب إليه أن: اضربه، فضربه بالمقارع حتى طلقها، ففي هذه الرواية ما يساعد على الوصول إلى تنظير في هذه الناحية بين المأمون وأخيه المعتصم.

أما كرم بطانته واقتفاؤهم أثره وترسمهم خطواته، فإن الحديث في ذلك يطول، وقصارانا أن نحيل إلى ما فعل طلحة بن طاهر وعبد الله بن طاهر وغيرهما، فاطلب ذلك في مظانه.

وبعد، فإنه لمن الجميل الممتع حقًّا أن يكون الملك كريمًا بسجيته، جوادًا بنزعته، وقد يكون أجمل وأمتع وأبلغ وأوقع أن يكون من وراء فواضله وإنعاماته تشجيع الكفايات على الظهور، واستحثاث أصحاب الهمم والعزمات، والمواهب والعبقريات، وعلى التبريز والإحسان، والإجادة والإتقان خدمةً لبني الإنسان ورفعة للأوطان.

(٣) كيف تملك المأمون قلوب بطانته؟

نريد أن نترك الكلمة في تصوير هذه الناحية لما يرويه لنا ولاة المأمون أنفسهم، فقد قال رجل من إخوة المأمون للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب، وكذا كان أبوه قبله، فدفع المأمون ذلك وأنكره، ثم عاد بمثل هذا القول، فدس إليه رجلًا ثم قال له: امض في هيئة القُرَّاء والنُّساك إلى مصر، فادع جماعة من كبرائها إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبا، واذكر مناقبه وعلمه وفضائله، ثم صِرْ بعد ذلك إلى بعض بطانة عبد الله بن طاهر، ثم ائته فادعه ورغِّبه في استجابته له، وابحث عن دفين نيته بحثًا شافيًا، وائتني بما تسمع منه.

قال: ففعل الرجل ما قال له وأمره به، حتى إذا دعا جماعة من الرؤساء والأعلام قعد يومًا بباب عبد الله بن طاهر وقد ركب إلى عبيد الله بن السري بعد صلحه وأمانه، فلما انصرف قام إليه الرجل فأخرج من كُمِّه رقعة فدفعها إليه، فأخذها بيده، فما هو إلا أن دخل فخرج الحاجب إليه، فأدخله عليه وهو قاعد على بساطه ما بينه وبين الأرض غيره، وقد مد رجليه وخُفَّاه فيهما.

فقال له: قد فهمت ما في رقعتك من جملة كلامك، فهات ما عندك.

قال: ولي أمانك وذمة الله معك؟

قال: لك ذلك.

قال: فأظهر له ما أراد ودعاه إلى القاسم فأخبره بفضائله وعلمه وزهده.

فقال له عبد الله: أتنصفني؟

قال: نعم.

قال: هل يجب شكر الله على العباد؟

قال: نعم.

قال: فهل يجب شكر بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة والتفضل؟

قال: نعم.

قال: فتجيء إليَّ وأنا في هذه الحال التي ترى؛ لي خاتم في المشرق جائز وفي المغرب كذلك، وفيما بينهما أمري مطاع وقولي مقبول، ثم ما التفتُ يميني ولا شمالي وورائي وقدامي إلا رأيت نعمة رجل أنعمها عليَّ، ومنة ختم بها رقبتي، ويدًا لائحة بيضاء ابتدأني بها تفضلًا وكرمًا، فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان، وتقول: اغدر بمن كان أولًا لهذا وآخرًا، واسعَ في إزالة خيط عنقه وسفك دمه! تراك لو دعوتني إلى الجنة عيانًا من حيث أعلم أكان الله يحب أن أغدر به، وأكفر إحسانه ومنته، وأنكث بيعته! فسكت الرجل، فقال له عبد الله: أما إنه قد بلغني أمرك، وتالله ما أخاف عليك إلا نفسك، فارحل عن هذا البلد فإن السلطان الأعظم إن بلغه أمرك — وما آمن ذلك عليك — كنتَ الجاني على نفسك ونفس غيرك، فلما أيس الرجل مما عنده جاء إلى المأمون فأخبره الخبر، فاستبشر وقال: ذلك غرسُ يدي، وإلفُ أدبي، وتِرْب تلقيحي، ولم يُظهِر من ذلك لأحد شيئًا ولا علم به عبد الله إلا بعد موت المأمون.

وانظر إلى تلك النصيحة التي تقدم بها عبد الله بن طاهر لمنصور بن طلحة ينهاه عن الكلام في الإمامة؛ إذ يقول: «إنما نبت شعرنا على رءوسنا ببني العباس»، ثم انظر إلى ما كتبه المأمون إلى عبد الله المذكور:

أخي أنت ومولاي
ومن أشكر نعماه
فما أحببت من أمر
فإني الدهر أهواه
وما تكره من شيء
فإني لست أرضاه
لك الله على ذاك
لك الله لك الله

وانظر إلى ما رواه الطبري عما قاله عبد الله بن طاهر وهو مُحاصِرٌ بمصر عبيد الله بن السري إذ قال:

بكَرتْ تُسبل دمعًا
أن رأت وشك براحي
وتبدلت صقيلًا
يمنيًا بوشاحي
وتماديت بسير
لغدو ورواح
زعمت جهلًا بأني
تعِبٌ غير مراح
أقصرى عني فإني
سالك قصد فلاحي
أنا للمأمون عبد
منه في ظل جناح
إن يُعاف الله يومًا
فقريب مستراحي
أو يكن هُلك فقولي
بعويل وصياح
حلَّ في مصر قتيل
ودعى عنك التلاحي

ألا يجوز لنا أن نستخلص مما قدمناه لك أن المأمون كان محبوبًا عند بطانته؟ ولسنا ننفي بذلك أن الأمين لم يكن محبوبًا، وأن موته آلم أهل بغداد وجندها، ولا ننكر أن بعضًا من جند طاهر بن الحسين انضم إلى الأمين طمعًا في ماله، وحبًا في سخائه مما بيَّناه لك في موضعه، ولكنا الآن بموقف الذين يحللون أخلاق المأمون، وفي عنقنا ألا نترك ناحية من نواحيه من غير أن نَفِيَها حقَّها من البحث، ونعطيها نصيبها من الاستقراء.

وبعد، فإنه مما لا مندوحة للمليك عنه أن يكون وادعًا محببًا إلى بطانته وحاشيته بإحسانه إليهم، وتعهده إياهم بعطفه ورعايته، وأن يحدب عليهم ويرعاهم بعناية تشملهم ألطافها، وتقلد أعناقهم مِنَنها، وتكون أشمل للرعية وأرعى للأفراد لحقِّهم من شخصه الجليل؛ إذ هو ملك للرعية جميعها، على اختلاف ألوانها وتباين مراتبها، وهو عظيم التبعة أمام الله والتاريخ عمن تملَّك عليهم وتولَّى أمر دنياهم وآخرتهم.

(٤) تقديره لرجال الدولة

كان المأمون أكثر توفيقًا من أخيه الأمين في كفاية بطانته، وقدرة قادته، وحزم مشيريه، وبصر ولاته، وكان مع ظفره بالناصحين من خاصته كثيرَ التأمل لما يجري في ملكه من مظاهر الضعف والقوة، حريصًا على تدبر ما يمر به من مختلف الشئون في تعرف الشخصيات القوية التي يرجو أن يستند إليها الملك ويتأيد بها النظام.

ولقد حدثنا الطبري في تاريخه عن إسحاق بن إبراهيم أن المعتصم قال له: يا إسحاق، في قلبي أمر أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة، وإنما بسطتك في هذا الوقت لأُفشيه إليك، فقلت: قل يا سيدي يا أمير المؤمنين، فإنما أنا عبدك وابن عبدك، قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة أنجبوا، واصطنعتُ أنا أربعة لم يفلح أحد منهم، قلت: ومن الذين اصطنعهم أخوك؟ قال: طاهر بن الحسين، فقد رأيتَ وسمعتَ، وعبد الله بن طاهر، فهو الرجل الذي لم ير مثله، وأنت، فأنت والله الذي لا يعتاض السلطان منك أبدًا، وأخوك محمد بن إبراهيم، وأين مثل محمد؟ وأنا فاصطنعت الأفشين، فقد رأيت إلى ما صار أمره، وإشناس ففشل رأيه، وإيتاخ فلا شيء، ووصيفًا فلا مُغني فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، أُجيب عن أمان من غضبك؟ قال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين، أعزك الله، نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها، واستعمل أمير المؤمنين فروعًا لم تُنجَب؛ إذ لا أصول لها، فقال: يا إسحاق، لمقاساةُ ما مرَّ بي في طول هذه المدة أسهل عليَّ من هذا الجواب.

ولقد كان المأمون، إلى جانب هذه الخبرة بما يحتاج إليه من صفوة الرجال، بصيرًا بما في مملكته من ألوان المكر وصنوف الرياء؛ فقد حدثنا ابن طيفور عن إبراهيم بن المهدي قال: قال المأمون يومًا وفي مجلسه جماعة: هاتوا من عسكرنا من يطلب ما عندنا بالرياء، قال: فقال كل واحد بما عنده؛ إما أن يقول في عدو بما يقدح فيه، أو يقول بما يعلم أنه يسر خليفته، فلما قالوا ذلك قال: ما أرى عند أحد منكم ما يبلغ إرادتي، ثم أنشأ يحدث عن أهل عسكره أهل الرياء، حتى والله لو كان قد أقام في رَحْل كل واحد منهم حولًا محرمًا ما زاد على معرفته، قال: فكان مما حفظت عنه في ثَلْب أصحابه أن قال حين ذكر أهل الرياء وما يعاملون به الناس: تسبيح حميد الطوسي، وصلاة قحطبة، وصيام النوشجاني، ووضوء المريسي، وبناء مالك بن شاهي المساجد، وبكاء إبراهيم بن بريهة على المنبر، وجمع الحسن بن قريش اليتامي، وقصص منجى، وصدقة علي بن الجنيد، وحملان إسحاق بن إبراهيم في السبيل، وصلاة أبي رجاء الضحى، وجمع علي بن هشام القصاص، قال: حتى عددنا جماعة كثيرة، فقال لي رجل من عظماء العسكر حين خرجنا من الدار: بالله هل رأيت أو سمعت بملك قط أعلم برعيته ولا أشد تنقيرًا من هذا؟ قلت: اللهم لا! فحدث بهذا الحديث رجلًا من أصحاب الأخبار والعلم، فقال: وما نصنع بهذا؟ قد شهدت رسالته إلى إسحاق بن إبراهيم في الفقهاء يخبر بمعايبهم رجلًا رجلًا، حتى لهو بها أعلم منهم بما في منازلهم.

وإن في ذيوع هذه الأخبار عن المأمون دليلًا على عنايته بنشر دعوة الملك الموطد الذي ييئس المخاتلون من التنكر له والخروج عليه، فإن ظهور الملوك بالنفاذ إلى سرائر الرعية، يزيدهم قوة إلى قوة وسلطانًا إلى سلطان.

وإنا إذا نظرنا إلى من استوزره وأعلى مكانه واستخلصه لنفسه من رجالات دولته وقواد ملكه؛ لم نتردد في الحكم للمأمون وأنه كان الموفق المسدد في اختيار أهل الكفايات والنبوغ.

وقد كان إلى جانب هذا يقدر الكفاية في خصومه، ونظرة فيما رواه ابن طيفور عن الحسن بن عبد الخالق خاصًّا برأي المأمون في الفضل بن الربيع، وهو الذي تعلم مقدار إساءته إليه، تدلك على هذا، فقد قال المأمون في معرض الحديث عن الفضل:

كان يدبرالخطأ فيقع صوابًا، ويبعث بالجيش الضعيف فيقع به النصر، وأدبر أنا فيقع بغير ذلك، فلما وقفت على البصيرة من أمري، وفكَّرت في نفسي، وعملت بالأحزم في ذلك ملت إلى الحزم فوردت العراق. وإن الفضل بن الربيع بقية الموالي، فلا تخبره بذلك عني؛ فإني أكره أن يبلغه عني ما يسره.

ويؤيد صحة هذه الرواية ما ذكره بشر السلماني من المعاصرين إذ يقول: «سمعت أحمد بن أبي خالد يقول: كان المأمون إذا أمرنا بأمر فظهر من أحدنا فيه تقصير يقول: أترون أني لا أعرف رجلًا ببابي لو قلدته أموري كلها لقام بها؟ فقال بشر: فقلت لأحمد بن أبي خالد: يا أبا العباس، مَن يعني؟ قال: الفضل بن الربيع».

ويظهر أن خطة المأمون في تقدير الكفايات أنَّي وُجدتْ قد اتبعها قادة المأمون نفسه، فإن ابن طيفور يحدثنا أنه لما وُلِّي طاهر بن الحسين على شرطة المأمون سنة أربع ومائتين، وكان عليها من قبلُ العباس بن المسيب بن زهير، كتب طاهر إلى الفضل بن الربيع: «إن في رأيك البركة، وفي مشورتك الصواب، فإن رأيت أن تختار لي رجلين للجسر!» فكتب إليه ابن الربيع: «قد وجدتهما لك، وهما: خيار السندي بن يحيى، وعياش بن القاسم». فولَّاهما طاهرٌ الجسرين.

وبعد، فإنا نظن أن في هذا القدر الكفاية لإثبات ما كان من تقدير المأمون ورجاله لأهل الكفاية والاقتدار، وحرصهم على استعمال أصحاب المواهب، والاستعانة بهم وبكفاياتهم في خدمة الدولة.

(٥) قدره للشجاعة الأدبية

كان المأمون يرضيه أن يكون الرجل نقي السريرة، رابط الجأش، يُقدم على كلمة الحق غير هياب، وقد حدثنا ابن أبي طاهر طيفور عمن روى عنه قال: «حدثني أحمد بن أبي خالد الأحول بخراسان فيما كان يخبرني به عن كرم المأمون وفضله واحتماله وحسن معاشرته، أنه سمع المأمون يومًا وعنده علي بن هشام وأخواه أحمد والحسين ذكَر عمرو بن مسعدة فاستبطأه، وقال: أيحسب عمرو أني لا أعرف أخباره وما يُجبي إليه وما يعامل به الناس؟ بلي والله، ثم بعثه ألا يسقط علي منه شيء! ونهض وانصرفنا، فقصدت عمرًا من ساعتي فخبرته بما جرى، وأُنسيتُ أن أستحلَّه من حكايته عني، فراح عمرو إلى المأمون، فظن المأمون أنه لم يحضر إلا لأمر مهم؛ لموقعه من الرسائل والمظالم والوزارة، فأذن له، فخبرني عمرو أنه لما دخل عليه وضع سيفه بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين، أنا عائذ بالله من سخطه، ثم عائذ بك من سخطك يا أمير المؤمنين، أنا أقل من أن يشكوني أمير المؤمنين إلى أحد، أو يُسرَّ عليَّ ضغنًا يبعثه بعض الكلام على إظهاره ما يظهر منه! فقال لي: وما ذاك؟ فخبَّرته بما بلغني ولم أُسمِّ له مُخبري، فقال لي: لم يكن الأمر كما بلغك، وإنما كانت جملة من تفصيل كنت على أن أخبرك به، وإنما أخرج مني ما أخرج معنًى تجاريناه، وليس لك عندي إلا ما تُحب، فليفرخ روعك، وليحسن ظنك. فأعدت الكلام، فما زال يسكن مني ويطيب من نفسي حتى تحلَّل بعض ما كان في قلبي، ثم بدأ فضمني إلى نفسه، وقبلت يده، فأهوى ليعانقني فشكرته، وتبينت في وجهه الحياء والخجل مما تأدَّى إليَّ، قال أحمد: فلما غدوت على المأمون قال لي: يا أحمد، أما لمجلسي حرمة؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، وهل الحُرم إلا لما فصل عن مجلسك! قال: ما أراكم ترضون بهذه المعاملة فيما بينكم! قلت: وأية معاملة يا أمير المؤمنين؟ هذا كلام لا أعرفه، قال: بلى، أما سمعت ما كنا فيه أمس من ذكر عمرو؟ ذهب بعض من حضر من بني هاشم فخبره به، فراح إلي عمرو مظهرًا منه ما وجب عليه أن يُظهره، فدفعت منه ما أمكن دفعه، وجعلت أعتذر إليه منه بعذر قد تبين فيَّ الخجل منه، وكيف يكون اعتذار إنسان من كلام قد تكلم به إلا كذلك يتبين في عينيه وشفتيه ووجهه، ولقد أعطيته ما كان يقنع مني بأقل منه، وما حداني عليه إلا ما دخلني من الخساسة، وإنما كان نطق به اللسان عن غير روية ولا احتمال مكروه به، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا أخبرت عمرًا به لا أحد من ولد هاشم، فقال: أنت! قلت: أنا، فقال: ما حملك على ما فعلت؟ فقلت: الشكر لك والنصح والمحبة لأن تتم نعمتك على أوليائك وخدمك، أنا أعلم أن أمير المؤمنين يحب أن يصلح له الأعداء والبعداء، فكيف الأولياء والأقرباء؟ ولا سيما مثل عمرو في دنوه من الخدمة، وموقعه من العمل ومكانه من رأي أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه. سمعت أمير المؤمنين أنكر منه شيئًا، فخبرته به ليصلحه ويقوم من نفسه أوَدها لسيده ومولاه، ويتلافى ما فرَط منه ولا يفسده مثله ولا يبطل العناء فيه، وإنما كان يكون ما فعلت عيبًا لو أشعت سرًّا فيه قدح في السلطان، أو نقضُ تدبير قد استتبَّ، فأما مثل هذا فما حسبته يبلغ أن يكون ذنبًا عليَّ، فنظر إلي مليًّا ثم قال: كيف قلتَ؟ فأعدت عليه، ثم قال: أعد، فأعدت الثالثة، فقال: أحسنت والله يا أحمد، لما خبَّرتني به أحب إلي من ألف ألف وألف ألف وألف ألف! وعقد خنصره وبنصره والوسطى ثم قال: أما ألف ألف فلنفيك عني سوء الظن، وأطلق وسطاه، وأما ألف ألف فلصدقك إياي عن نفسك، وأطلق البنصر، وأما ألف ألف فلحسن جوابك، وأطلق الخنصر، وأمر لي بمال».

وهذه الشجاعة من أتباع المأمون تدلنا على ما كان فيه من الاستعداد لقدر كرائم الخلال، فلو أنه كان معروفًا بالاستبداد لما أمكن هذه النفوس أن تبلغ ما كانت تطمح إليه من النبل والكرامة، وفي استماعه لاحتجاج جليسه حرصٌ على استبقائه واستكناه ما في نفسه، فضلًا عما يتوقعه من عواقب هذا التشجيع المقصود من التفاف حول شخصه، وتفانٍ في الوفاء له، وإمعان في خدمته وخدمة بلاده، خدمة الحر للحر بباعث وجداني، لا خدمة العبد للسيد بعامل الإرهاب والإكراه. ولن تكون الخدمة الخالصة للبلاد بالإرهاب والإكراه، ولن تكون خدمة الملوك على وجهها الصحيح بدافع العسف والإعنات، وإنما يكون ذلك جميعه بحسن الصنيع وجميل الأثر، والإحسان بالقول والفعل، وصفاء النفوس من عوامل البغضاء والغل والعدوان.

ثم انظر فيما يرويه لنا أبو الشماخ قال: قال لي المأمون وعنده الزيدي والنقفي مولي الخيزُران، وإسماعيل بن نَوبَخْت، وتذاكروا الشعراء فقالوا: النابغة وقالوا: الأعشى وخاضوا فيهم، فقال: لا أشعرهم إلا واحدًا كان خليعًا؛ الحسن بن هانئ، فقالوا: صدق أمير المؤمنين، قال: الصدق على المناظرة أحسن من الصدق على الهيبة، فقالوا: فبم قدمته؟ قال بقوله:

يا شقيق النفس من حكم
نمت عن ليلى ولم أنم

ثم لم يسبقه إلى هذا البيت أحد:

ثم دبت في عروقهم
كدبيب البرء في السَّقَم

وفي عبارة «الصدق على المناظرة أحسن من الصدق على الهيبة» دلالة على رغبته في إحياء الغرائز الأدبية التي تُميتها المصانعة، ويقبرها الرياء، ولا يفوتنا أن نشير إلى أن تقديمه ابن هانئ لتجويده في وصف الراح له دلالته وله مغزاه، فهو يدل إلى حد غير قليل إلى جانب ما علمناه عن المأمون؛ أصيد الهمة، مستحصد العزم، على أنه كان في أوقات أنسه ومرحه الرجل المرح الطروب الذي يتذوق المعاني الفرحة وما لها من مجاملات وأفانين.

وبعد، فإن تربية الشعوب على قدر كرامتها الخاصة ورفعة شأنها بين الأمم لتتطلب تعهدًا خاصًّا ممن يتولى أمرها في هذا السبيل، فيعمل على أن يُحسَّ الأفراد والحكام ممن هم في عنقه وتحت هيمنته ما لهم من مكانة ومنزلة، وما لآرائهم وتصرفاتهم من احترام وقدر، أخذًا لهم بالشجاعة في المجاهرة بمعتقداتهم، وتنمية للروح الذي تفيده هذه الألفاظ «حرية، إخاء، مساواة» في نفوسهم، وإن في انتهاجهم هذا السبيل لأجلَّ خدمة لممالكهم وشعوبهم وعروشهم.

(٦) عدله وإنصافه

كان المأمون عدلًا منصفًا إلى حد بعيد، وقد عرف فيه الناس هذه الخلة، فكانوا يطمعون في أنصاره والمقربين إليه، ويجهرون بالشكوى من كل من يسوءهم طمعه أو ينفذ إليهم عدوانه.

حدث بعض المعاصرين قال: «شهدت المأمون وقد ركب بالشماسية وخلف ظهره أحمد بن هشام، فصاح به رجل من أهل فارس: الله الله يا أمير المؤمنين! فإن أحمد بن هشام ظلمني واعتدى عليَّ، فقال: كن بالباب حتى أرجع، ثم مضى، فلما جاز الموضع بعُدوة التفت إلى أحمد فقال: ما أقبح بنا وبك أن نقفك وصاحبك هذا رءوس هذه الجماعة، ويقعد في مجلس خصمك، ويسمع منه كما يسمع منك، ثم تكون محقًّا، ثم تكون مبطلًا، فكيف إن كنت في صفته لك، فوجِّه إليك من يُحوِّله من بابنا إلى رَحْلِك، وأنصفه من نفسك، وأعطه ما أنفق في طريقه إلينا، ولا تجعل لنا ذريعة إلى ما تكره من لائمتك، فوالله لو ظلمت العباس ابني كنت أقل نكيرًا عليك من أن تظلم ضعيفًا لا يجدني في كل وقت ولا مَجْلوًّا له وجهي، وسيما من تجشم السفر البعيد وكابد حرَّ الهواجر وطول المسافة».

قال المحدث المعاصر: فوجه إليه أحمد فجاء به وكتب إلى عامله يرد عليه ما أخذ منه، ويشتمه ويعنفه، ووصل الرجل بأربعة آلاف درهم وأمره بالخروج من يومه.

وهناك الكثير من هذا المثل؛ كموقفه مع موسى بن الحسن وإنصافه بأن أخذ حقه من محمد بن أبي العباس الطوسي، وموقفه مع النصراني الذي من أهل٣ كَشكَر.

ثم انظر موقفه المشرف له وللقضاء في أيامه؛ فقد قالوا: إن رجلًا دخل على المأمون وفي يده رقعة فيها مظلمة من أمير المؤمنين، فقال: أمظلمة مني؟ فقال الرجل: أفأُخاطبُ يا أمير المؤمنين سواك؟ قال: وما هي ظلامتك؟ قال: إن سعيدًا وكيلك اشترى مني جواهر بثلاثين ألف دينار، قال: فإذا اشترى سعيد منك الجوهر تشكو الظلامة مني! قال: نعم، إذ كانت الوكالة قد صحَّت له منك! قال: لعل سعيدًا قد اشترى منك الجوهر وحمل إليك المال أو اشتراه لنفسه، وعليه فلا يلزمني لك حق، ولا أعرف لك ظلامة، فقال له — بعد كلام طويل: إن في وصية عمر بن الخطاب لقضاتكم: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر»، قال المأمون: إنك قد عَدِمت البينة، فما يجب لك إلا حَلْفة، ولئن حلفتها لأنا صادق إذ كنت لا أعرف لك حقًّا يلزمني، قال: فإذن أدعوك إلى القاضي الذي نصبته لرعيتك، قال: نعم، يا غلام، عليَّ بيحيى بن أكثم، فإذا هو قد مثَل بين يديه، فقال له المأمون: اقضِ بيننا! قال: في حكم وقضية؟ قال: نعم، قال: إنك لم تجعل ذلك مجلس قضاء، قال: قد فعلت، قال: فإني أبدأ بالعامة أولًا ليصلُح المجلس للقضاء، قال: افعل، ففتح الباب وقعد في ناحية من الباب وأذن للعامة، ثم دُعي بالرجل المتظلم فقال له يحيى: ما تقول؟ قال: أقول أن تدعو بخصمي أمير المؤمنين المأمون، فنادى المنادي، فإذا المأمون قد خرج ومعه غلام يحمل مصلًّى حتى وقف على يحيى وهو جالس، فقال له: اجلس، فطرح المصلى ليقعد عليها، فقال له يحيى: يا أمير المؤمنين، لا تأخذ على خصمك شرف المجلس، فطُرح له مُصلًى آخر، ثم نظر في دعوى الرجل، وطالب المأمون باليمين فحلف، ووثب يحيى بعد فراغ المأمون من يمينه فقام على رجليه، فقال له المأمون: ما أقامك؟ فقال: إني كنت في حق الله جل وعز حتى أخذته منك، وليس الآن من حقي أن أتصدر عليك، ثم أمر المأمون أن يحضر ما ادَّعى الرجل من المال، فقال له: خذه إليك، والله ما كنت أحلف على فَجْرة ثم أسمح لك فأفسد ديني ودنياي، والله يعلم ما دفعت إليك هذا المال إلا خوفًا من هذه الرعية، لعلها ترى أني تناولتك من وجه القدرة، وإنها لتعلم الآن أني ما كنت أسمح لك باليمين وبالمال.

ويحق لنا أن نستنبط من هذا الموقف قيمة القضاء في تلك الأيام، واحترام الخلفاء أو من يَمُتُّ إلى الخلفاء لشعائره وأحكامه، ولا نستبعد البتة صحة تلك الرواية؛ لأن تصرفات المأمون العباسي تجعلنا نقرها ونؤمن بصدقها من جهة، ولأنا قرأنا شبيهاتها من جهة أخرى، فقد قيل: إن إبراهيم بن المهدي تنازع وابن بختيشوع الطبيب بين يدي أحمد بن أبي دُوَاد في مجلس الحكم في عقار بناحية السواد، فأربى عليه إبراهيم وأغلظ، فأحفظ ذلك ابن أبي دُوَاد فقال: يا إبراهيم، إذا نازعت في مجلس الحكم بحضرتنا امرأً فلا أعلمن أنك رفعت عليه صوتًا ولا أشرتَ بيد، وليكن قصدك أممًا وريحُك ساكنة، وكلامك معتدلًا، ووفِ مجالس الخليفة حقوقها من التعظيم والتوقير والاستكانة والتوجه إلى الواجب، فإن ذلك أشكل بك وأشمل لمذهبك في محتدك وعظيم خطره، ولا تعجلنَّ؛ فرب عجلة تهب ريثًا، والله يعصمك من خطل القول والعمل، وأن يتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل، إن ربك حكيم عليم، فقال إبراهيم: أصلحك الله تعالى، أمرت بسداد وحضضت على رشاد، ولست عائدًا لما يَثلِم مروءتي عندك، ويُسقطني من عينيك، ويخرجني من مقدار الواجب إلى الاعتذار، فهأنذا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقر بذنبه معترف بجرمه، ولا يزال الغضب يستفزني بمواده، فيردني مثلك بحلمه، وتلك عادة الله عندك وعندنا منك، وقد جعلت حقي من هذا العقار لابن بختيشوع؛ فليت ذلك يكون وافيًا بأرش الجناية عليه، ولم يتلف مال أفاد موعظة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فترى مما قدمناه لك مبلغ سلطان القضاء وحرمته عند البيت المالك.

وقد يكون أجمل من هذا كله — فيما لو صح — ذلك الموقف الروائي الذي تقدمت إلى المأمون فيه امرأة تشكو ظلم ابنه العباس؛ فقد شكت إليه بأبيات رقيقة فلم يسعه إلا أن يعدها الإنصاف بأبيات رقيقة على الوزن والقافية، وكانت تلك الأبيات في خفتها وجودة الخاطر بها في ساعتها بردًا وسلامًا على قلب تلك المرأة المظلومة.

قال الشيباني: جلس المأمون يومًا للمظالم، فكان آخر من تقدم إليه وقد همَّ بالقيام امرأة عليها هيئة السفر، وعليها ثياب رثة، فوقفت بين يديه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم، فقال لها يحيى: وعليك السلام يا أمة الله، تكلمي في حاجتك، فقالت:

يا خير منتصف يُهدى له الرشد
ويا إمامًا به قد أشرق البلد
تشكو إليك عميد القوم أرملة
عدا عليها فلم يترك لها سبَد
وابتزَّ منِّي ضياعي بعد مَنْعَتها
ظلمًا وفُرِّق مني الأهل والولد

فأطرق المأمون حينًا ثم رفع رأسه إليها وهو يقول:

في دون ما قلت زال الصبر والجلد
عني وأقرح مني القلب والكبد
هذا أذان صلاة العصر فانصرفي
وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد
والمجلس السبت إن يُقض الجلوس لنا
ننصفك منه وإلا المجلسُ الأحد

فلما كان اليومُ الأحدَ جلس، فكان أول من تقدم إليه تلك المرأة فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك السلام، أين الخصم؟ فقالت الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين. وأومأت إلى العباس ابنه، فقال لأحمد بن أبي طالب: خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم، فجعل كلامُها يعلو كلام العباس، فقال لها أحمد بن أبي طالب: يا أمة الله، إنك بين يدي أمير المؤمنين، وإنك تكلمين الأمير، فاخفضي من صوتك، فقال المأمون: دعها يا أحمد، فإن الحق أنطقها وأخرسه، ثم قضى لها برد ضيعتها إليها، وظلم العباس بظلمه لها، وأمر بالكتاب لها إلى العامل ببلدها أن يوفر لها ضيعتها ويحسن معاونتها، وأمر لها بنفقة.

وبعد فإن المؤرخ المنصف لجدير به أن يقف أمام هذه المثل العليا وقفة احترام وإجلال، وعظة واعتبار، وأن يرغب رغبة صادقة في إذاعة هذه المثل ونشرها، والعمل على تداولها وذكرها؛ لأنها قدوة صالحة لحملة التيجان في إنصاف زميلهم الإنسان، وإن قُدس العدالة لواجب احترامه، وأحق الناس باحترامه هم الولاة وحملة التيجان، وإن في شعور الرعية وعامة الناس بأنهم وحكامهم سواسية لمدعاة للرضا والاغتباط، والإمعان في خدمة الأوطان، والذب بأرواحهم وقلوبهم عن الملوك وأصحاب السلطان.

(٧) عفوه

كان المأمون مضرب المثل في العفو حتى لقد كان يَخشَى أن لا يؤجر عليه؛ إذ صار فطرة فيه، وأظرف أنواع عفوه تغاضيه عما كان يحدث في قصره.

قالت شُكْر مولاة أم جعفر بنت جعفر بن المنصور: سمعت المأمون أمير المؤمنين وكانت عنده أم جعفر فدعا بمقاريض،٤ فقال الغلام: قد ذُهِب بالمقاريض إلى الشمَّاسية، ثم قال: يا غلام، بُلَّ لنا الخَيْش٥ فوق، فقال الغلام: لا، قال: يُبَلُّ، فقالت أم جعفر: سبحان الله يا أمير المؤمنين! ما هذا؟ وأنكرتْ أن يكون سأل عن شيئين فلم يُعملا، فقال المأمون: من قدرت على عقوبته لسوء فعله وقبيح جرمه، فقدرتك عليه كافيتُك نصرًا لك منه، ولا معنى لعقوبة بعد قدرة، الحلم عن الذنب أبلغ من الأخذ به.

وهو هنا يعلل العفو تعليلًا مقبولًا جديرًا بأن يكون درسًا في الأخلاق.

ثم انظر مبلغ عفوه وحلمه وسماحة نفسه فيما يرويه أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور في كتابه، قال: «كان للمأمون خادم يتولى وضوءه، فكان يسرق طِساسَه، فبلغ ذلك المأمون فعاتبه، ثم قال له يومًا وهو يُوضِّئه: ويحك! لِمَ تَسرقُ هذه الطِّساسَ؟ لو كنت إذا سرقتها أتيتي بها اشتريتُها منك! قال: فاشتر هذا الذي بين يديك! قال: بكم؟ قال: بدينارين، قال المأمون: أعطوه دينارين، قال: هذا الآن في الأمان».

ومهما يكن على هذه الرواية من مسحة المبالغة، أو أنها أقصوصة أكثر منها حقيقة، فإن طبيعة المأمون وسجيته وجنوحه إلى العفو وأخذه بالحلم لمما يؤيد لبابها وعصارتها، ويقرر جوهرها وخلاصتها، ولمما يصدق فيه قول من قال له:

أمير المؤمنين عفوت حتى
كأن الناس ليس لهم ذنوب

أما حديث حلمه مع عمه إبراهيم بن المهدي فمتعارف مشهور، ومُذاع مذكور، فقد أبي إبراهيم أن يبايعه ثم ذهب إلى الري وادعى فيها الخلافة لنفسه، وأقام مالكها سنة وأحد عشر شهرًا واثني عشر يومًا، والمأمون يتوقع منه الانقياد إلى الطاعة، والانتظام في سلك الجماعة، حتى يئس من عوده، فركب بخيله ورَجْله، وذهب إلى الري وحاصر المدينة وافتتحها، فهرب إبراهيم وتنكر ثم أخذ بعد لأْيٍ، وقدم إلى المأمون في زي امرأة، فلما مثَل بين يديه سلَّم عليه بالخلافة، فقال المأمون: لا سلَّم الله عليك، ولا حيَّاك ولا رعاك! فقال إبراهيم: مهلًا يا أمير المؤمنين، إن وليَّ الثأر محكَّم في القصاص، ولكن العفو أقرب للتقوى، ومَن تناوله الاغترار بما مُدَّ له من أسباب الشقاء، أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب، كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن أخذت فبحقك، وإن عفوت فبفضلك، ثم أنشد:

ذنبي إليك عظيم
وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أوْ لَا
فاصفح بفضلك عنه
إن لم أكن في فعالي
من الكرام فكُنْه
فقال المأمون: شاورتُ أبا إسحاق والعباس في قتلك فأشارا به، فقال: فما قلت لهما يا أمير المؤمنين؟ قال المأمون: قلت لهما: نبدؤه بإحسان، ونستأمره فيه، فإن غيَّر فالله يُغيِّر ما به، قال: أمَّا أن يكونا قد نصحا في عظيم بما جرَتْ عليه السياسىة فقد فعلًا، وبلغا ما يلزمهما، وهو الرأي السديد، ولكنك أبيت أن تستجلب النصر إلا من حيثُ عوَّدك الله، ثم استعبر باكيًا، فقال له المأمون: ما يُبكيك؟ قال: جذَلًا إذ كان ذنبي إلى مَن هذه صفته في الإنعام، ثم قال: إنه وإن كان قد بلغ جرمي استحلال دمي، فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلغانني عفوه، ولي بعدهما شفاعة الإقرار بالذنب، وحق الأُبوَّة بعد الأب، فقال المأمون: يا إبراهيم، لقد حُبِّب إليَّ العفو حتى خفت ألا أُؤجَر عليه. أما لو علم الناس ما لنا في العفو من اللذة لتقربوا إلينا بالجنايات! لا تثريب٦ عليك، يغفر الله لك، ولو لم يكن في حق نسبك ما يبلِّغ الصفح عن جرمك، لبلَّغك ما أمَّلت حسنُ تفضلك ولطفُ توصُّلك، ثم أمر برد ضياعه وأمواله، فقال إبراهيم:
رددت مالي ولم تبخل علي به
وقبل ردك مالي قد حقنت دمي
وقام علمك بي فاحتج عندك لي
مقام شاهد عدل غير متهم
فلو بذلت دمي أبغى رضاك به
والمال حتى أسُلَّ النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عارية سلفت
لو لم تَهَبْها لكنتَ اليوم لم تُلَم

وبعد، فشدَّ ما يحتاج الولاة والقادة والزعماء إلى خلة العفو والإحسان في حزم وحسن مواتاة؛ ليستلوا من القلوب عداوتها، وليستأصلوا من النفوس سخيمتها، وليضمنوا من الرعية والأتباع الإخلاص المحض والود الصحيح.

(٨) احتماله

ومن الدلائل على صلاحية المأمون لما أعدته له الأيام اتصافه بالاحتمال الذي لا يقوم الملك إلا به، ولا تسير الأمور بدونه، وهو خُلقٌ يراه البعض سماحة، ونراه من المأمون سياسة هي من الصميم في آداب الملوك، وإنه ليحتمل حتى لتحسبه من الغافلين، ولكن الرجل كان يعرف أن للمُلك مصاعب ومتاعب أقلُّها مداراة الناس، والنزول لهم عن بعض ما يشتهون.

روى بعضهم عن قثم بن جعفر أنه قال: قال المأمون في يوم الخميس، وقد حضر الناس الدار، لعلي بن صالح: ادعُ إسماعيل، قال: فخرج ابن صالح فأدخل إسماعيل بن جعفر، وأراد المأمونُ إسماعيلَ بن موسى، فلما بَصُر به من بعيد، وكان أشد الناس له بغضًا، رفع يديه مادَّهما إلى السماء ثم قال: اللهم أبدلني من ابن صالح مطيعًا؛ فإنه لصداقته لهذا آثر هواه على هواي، قال: فلما دنا إسماعيل بن جعفر سلَّم فرد عليه، ثم دنا فقبل يده، فقال: هات حوائجك؟ قال: ضيعتي بالمغيثة غُصبتُها وقُهرتُ عليها، قال: نأمر بردها عليك، ثم قال: حاجتك؟ قال: يأذن لي أمير المؤمنين في الحج، قال: أذنَّا لك، ثم قال: حاجتك؟ قال: وقف أبي أُخرِج من يدي وصار إلى قثم والقاسم ابني جعفر، قال: فتريد ماذا؟ قال: يردُّ إليَّ، قال: أمَّا ما كان يُمكننا من أمرك فقد جُدْنا لك به، وأما وقفُ أبيك فذاك إلى ورثته ومواليه، فإن رضوا بك واليًا عليهم وقيمًا لهم رددناه إليك، وإلا أقررناه في يد من هو في يده، ثم خرج، فقال المأمون لعلي بن صالح: ما لي ولك عافاك الله! متى رأيتني نشطت لإسماعيل بن جعفر وعنيت به وهو صاحبي بالأمس بالبصرة؟! قال: ذهب عن فكري يا أمير المؤمنين، قال: صدقت، لعمري ذهب عن فكرك ما كان يجب عليك حفظه، وحفظ فكرك ما كان يجب عليك ألا يخطر به، فأما إذ أخطأتَ فلا تُعلم إسماعيل ما دار بيني وبينك في أمره.

فظن عليٌّ أنه عنى بقوله هذا إسماعيل بن موسى، فأخبر إسماعيل بن جعفر القصة حرفًا حرفًا، فأذاعها، وبلغ الخبر المأمون فقال: الحمد لله الذي وهب لي هذه الأخلاق التي أصبحت أحتمل بها علي بن صالح وابن عمران وابن الطوسي وحميد بن عبد الحميد ومنصور بن النعمان ورعامش.

وبعد، فالاحتمال خلة محببة إلى النفوس تدعو إلى الوفاق والوئام، وهي بالملوك أولى وأجدر لمكانهم من الزعامة والقيادة، ولمنزلتهم من الرياسة والسلطان، ولأنهم أحق الناس بكل سجية تحببهم إلى الناس، وتكون قدوة يرتسمها من عداهم ممن يتصرفون في شئون العباد ومستقبل البلاد.

(٩) بصره بالأدب

سترى فيما نعرض له في القسم الأدبي من آثار المأمون وكتابته مبلغ تبريزه في الفنون الأدبية، وتملكه أعنة البلاغة، وحسن تصريفه لكل أفانين الثقافة العربية، إلى جانب حسن تصريفه لشتى أمور ملكه.

والآن وسبيلنا تحليل شخصية المأمون، نرى من الواجب لتوفية البحث حقه من مختلف وجوهه أن نشير إلى كلَفه بالأدب، مفترضين على كل حال ما قد يكون بمثله من تشيع المُغالين من الولاء له وما قد يضاف إليه من الآثار.

ولكن ذلك كله لن يؤثر في اللب والجوهر، وهو أن المأمون كان أديبًا عالمًا بأفانين القول ومناحيه، وليس ذلك ببعيد على من تتلمذ على شيوخ الأدب العربي، كسيبويه واليزيدي ويحيى بن المبارك بن المغيرة، الذي أخذ العربية عن أمثال أبي عمرو بن العلاء وابن أبي إسحاق الحضرمي، وأخذ اللغة والعروض عن الخليل بن أحمد، والذي ألف كتابًا في النحو لبعض أولاد المأمون.

فقد أفاد المأمون من هؤلاء وأمثالهم من رجال الأدب والكفاية أيما إفادة، قال عمارة بن عقيل: أنشدت المأمون قصيدة مائة بيت، فأبتدئ بصدر البيت فيبادرني إلى قافيته كما قفيته، فقلت: والله يا أمير المؤمنين، ما سمعها مني أحد قط، فقال: هكذا ينبغي أن يكون، ثم قال لي: أما بلغك أن عمر بن أبي ربيعة أنشد عبد الله بن عباس قصيدته التي يقول فيها:

تشط غدًا دارُ جيراننا

فقال ابن عباس:

وللدار بعد غد أبعد

حتى أنشده القصيدة يقفيها ابن عباس، ثم قال: أنا ابن ذاك. ورووا أن المأمون قال:

بعثتك مرتادًا ففزت بنظرة
وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
فناجيتَ من أهوى وكنت مباعدًا
فيا ليت شعري عن دنوِّك ما أَغْني
أرى أثرًا منه بعينيك بيِّنًا
لقد أخذتْ عيناك من عينه حسنا

ومهما قيل: إن المأمون أخذ هذا المعنى من العباس بن الأحنف الذي يقول:

إن تشق عيني بها فقد سعدت
عين رسولي وفزت بالخبر
وكلما جاءني الرسول لها
ردَّدت عهدًا في عينه نظري
خذ مقلتي يا رسولُ عارية
فانظر بها واحتكم على بصري

فإن شعر المأمون يدل في جملته على تذوقه الحسن بالشعر الحسن، والخيال الحسن، ثم لتنظر معي في الحديث الذي دار بين عبد الله بن أبي السمط وعمارة بن عقيل، فإن أولهما يقول لعمارة: أعلمت أن المأمون لا يبصر الشعر؟ فقال عمارة: ومن يكون أعلم منه؟ فوالله إنا لننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره، قال عبد الله: إني أنشدته بيتًا أجدتُ فيه فلم يتحرك له، فقال عمارة: وما هو؟ قال:

أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلًا
بالدين والناس بالدنيا مشاغيل

فقال عمارة: والله ما صنعت شيئًا، هل زدت على أن جعلته عجوزًا في محرابها؟ فإذن من الذي يقوم بأمر الدنيا إذا تشاغل عنها وهو المُطوَّق بها؟ ألا قلت كما قال جدي جرير في عبد العزيز بن الوليد:

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه
ولا عرَض الدنيا عن الدين شاغله

فقال عبد الله: الآن علمتُ أني قد أخطأت.

ولقد كان المأمون واقفًا أتم وقوف وأكمله على شعر العصر ومقولات الشعراء، مع حسن بصر وأتم حذق وأدق تفهم، يدلك على ذلك ما ذكره أبو نزار الضرير الشاعر قال: قال لي علي بن جبلة: قلت لحميد بن عبد الحميد: يا أبا غانم، قد امتدحت أمير المؤمنين بمدح لا يُحسن مثله أحد من أهل الأرض، فاذكرني له، فقال: أَنْشدنيه، فأنشدتُه، فقال: أشهد أنك صادق، فأخذ المديح فأدخله على المأمون، فقال: يا أبا غانم، الجواب في هذا واضح، إن شاء عفونا عنه وجعلنا ذلك ثوابًا لمديحه، وإن شاء جمعنا بين شعره فيك وفي أبي دلف القاسم بن عيسى، فإن كان الذي قال فيك وفيه أجود من الذي مدحنا به، ضربنا ظهره وأطلقنا حبسه، وإن كان الذي قال فينا أجود أعطيته بكل بيت من مديحه ألف درهم، وإن شاء أقلناه، فقلت: يا سيدي، ومن أبو دلف ومن أنا حتى يمدحنا بأجود من مديحك، فقال: ليس هذا الكلام من الجواب عن المسألة في شيء، فاعرضْ ذلك على الرجل، قال علي بن جبلة: فقال لي حميد: ما ترى؟ قلت: الإقالة أحبُّ إلي، فأخبر المأمون، فقال: هو أعلم، قال حميد: فقلت لعلي بن جبلة، إلى أي شيء ذهب في مدحك أبا دلف وفي مدحك لي؟ قال: إلى قولي في أبي دلف:

إنما الدنيا أبو دلف
بين مبداه ومحتضره
فإذا ولَّى أبو دلف
ولَّت الدنيا على أثره

وإلى قولي فيك:

لولا حميد لم يكن
حسب يعدُّ ولا نسب
يا واحد العرب الذي
عزَّتْ بعزته العرب

ثم انظر سعة عطفه وكثير تسامحه وما جبلت عليه نفسه من العفو والحلم فيما رواه أحد قرابة دعبل الشاعر حيث قال: إن دعبلًا هجا المأمون بقوله:

أيسومني المأمون خطة عاجز
أوَما رأى بالأمس رأس محمد
يوفي على هام الخلائف مثلما
توفي الجبال على رءوس القردد٧
ويحل في أكناف كل ممنَّع
حتى يذلل شاهقًا لم يُصعد
إن التراث مسهَّد طلابها
فاكفُف لعابك عن لعاب الأسود

فلم يتقدم المأمون بإيذاء دعبل، وكل ما فعل أن قال: هو يهجو أبا عباد ولا يهجروني. يريد حِدَّة أبي عباد.

وكان بصيرًا بأخبار العرب واقفًا على تاريخ مجاويدهم وغطاريفهم؛ فقد ذكر عمارة بن عقيل قال: قال لي المأمون يومًا وأنا أشرب عنده: ما أخبثك يا أعرابي! قال: قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ وهمَّتني نفسي، قال: كيف قلت:

قالتْ مُفدَّاة لمَّا أن رأت أرقى
والهم يعتاده من طيفه لمم
نهبت مالك في الأدنين آصرة
وفي الأباعد حتى حفَّك العدم
فاطلب إليهم ثرى ما كنت من حسن
تُسدي إليهم فقد باتت لهم صرم٨
فقلت عذلك قد أكثرت لأئمتي
ولم يمتْ حاتم هزلًا ولا هرم
فقال لي المأمون: أين رميت بنفسك إلى هرم بن سنان سيد العرب وحاتم الطائي؟ فعلا كذا وفعلا كذا، وأقبل ينثال٩ عليَّ بفضلهما، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا خير منهما، أنا مسلم وكانا كافرين، وأنا رجل من العرب.

ثم انظر بلاغته ومتانة عبارته في مشافهاته ومبادهاته؛ فقد روى إبراهيم بن عيسى قال: لما أراد المأمون الشخوص إلى دمشق هيَّأت له كلامًا مكثتُ فيه يومين وبعض آخر، فلما مثلت بين يديه قلت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين في أدوم العز وأسبغ الكرامة، وجعلني من كل سوء فداه، إن من أمسى وأصبح يتعرَّف من نعمة الله — له الحمد كثيرًا — عليه برأي أمير المؤمنين أيَّده الله فيه، وحسن تأنيسه له، حقيقٌ بأن يستديم هذه النعمة، ويلتمس الزيادة فيها، بشكر الله، وشكر أمير المؤمنين — مد الله في عمره — عليها، وقد أحب أن يعلم أمير المؤمنين، أيده الله، أني لا أرغب بنفسي عن خدمته، أيده الله، بشيء من الخفض والدعة؛ إذ كان هو، أيده الله، يتجشم خشونة السفر ونصب الظعن، وأولى الناس بمواساته في ذلك وبذل نفسه فيه أنا؛ لما عرفني الله من رأيه، وجعل عندي من طاعته، ومعرفة ما أوجب الله من حقه، فإن رأى أمير المؤمنين، أكرمه الله، أن يكرمني بلزوم خدمته والكينونة معه فعل.

فقال لي المأمون مبتدئًا من غير تروية: لم يعزم أمير المؤمنين في ذلك على شيء، وإن استصحب أحدًا من أهل بيتك بدَأ بك وكنتَ المُقدَّم عنده في ذلك، ولا سيما إذ أنزلت نفسك بحيث أنزلك أمير المؤمنين من نفسه، وإن ترك ذلك فمن غير قلًى لمكانك ولكن بالحاجة إليك، قال إبراهيم: فكان والله ابتداؤه أكثر من ترويتي.

قال أبو العتاهية: وجَّه إليَّ المأمون يومًا فصرت إليه، فألفيته مطرقًا مفكرًا، فأحجمت عن الدنو منه في تلك الحال، فرفع رأسه فنظر إلي وأشار بيده أن ادْنُ فدنوت، ثم أطرق مليًا ورفع رأسه فقال: يا أبا إسحاق، شأن النفس الملل، وحب الاستطراف، تأنس بالوحدة كما تأنس بالألفة، قلت: أجل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا بيت، قال: ما هو؟ قلت:

لا يصلح النفس إذ كانت مدبرة
إلا التنقل من حال إلى حال

ثم انظر إلى بلاغة المأمون التي كانت سليقة فيه وإن نزلت بساحته الهموم والفوادح؛ فقد ذكر المؤرخون أنه أصيب بابنة له كان يجدُ عليها وجدًا شديدًا، فجلس وأمر أن يُؤذن لمن بالباب، فدخل عليه العباس بن الحسن العلوي فقال له: يا أمير المؤمنين، إنا لم نأتك مُعزِّين، ولكن أتيناك مقتدين، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن لساني ينطلق بمدحك غائبًا، وأحب أن يتزيَّد عنك حاضرًا، أفتأذن فأقول، قال المأمون: قل فإنك تقول فتحسن، وتشهد فتزين، وتغيب فتؤتمن، فقال العباس له — وصدق فيما يقول: يا أمير المؤمنين، ما أقول بعد هذا؟! لقد بلغت من مدحي ما لا أبلغه من مدحك.

وانظر إلى حلاوته في بلاغته، وفراهته في طلاوته، ومتانته في عبارته حين نصح لابنه العباس فقال له: ينبغي يا بني لمن أسبغ الله عليه نعمه، وشركه في ملكه وسلطانه، وبسط له في القدرة أن ينافس في الخير بما يبقَى ذكرُه، ويجبُ أجرُه، ويرجى ثوابُه، وأن يجعل همته في عدل ينشره، أو جور يدفنه، وسُنَّة صالحة يحييها أو بدعة يميتها، أو مكرمة يعتقدها، أو صنيعة يسديها، أو يد يودعها ويوليها، أو أثر محمود يتبعه.

ويقول لنا الجاحظ في البيان والتبيين: كان سهل بن هارون شديد الإطناب في وصف المأمون بالبلاغة والجهارة، وبالحلاوة والفخامة، وجودة اللهجة والطلاوة.

ويقول ثمامة بن أشرس النميري: ما رأيت رجلًا أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون.

وإن فيما ذكره ابن الجوزي والعاملي وغيرهما في طرب المأمون للطُّرف واللغة، لمما يثبت بصره بالأدب وحذقه للغة، وتمكنه في النحو، وإنا نختتم كلمتنا هذه بما قاله المأمون لولده وعنده عمرو بن مسعدة ويحيى بن أكثم؛ فإنها في السِّماك بلاغة ودقة معنًى، وحلاوة أسلوب، وسمو سجايا، وحسن تدبير، ونضوج دربة، ولا يقولها إلا من كان إلى جانب ما وصفناه حمال أعباء نهَّاضًا١٠ ببزلاء، قصِيًّا مرمى همته، رفيعًا مناط عزمته، وهي مع كل ذلك من عفو الخاطر ونتاج البديهة.

قال: اعتبروا في علو الهمة بمن ترون من وزرائي وخاصتي، إنهم والله ما بلغوا مراتبهم عندي إلا بأنفسهم، إنه من تبع منكم صغار الأمور تبعه التصغير والتحقير، وكان قليل ما يفتقد من كبارها أكثر من كثير ما يستدرك من الصغار، فترفعوا عن دناءة الهمة، وتفرغوا لجلائل الأمور والتدبير، واستكفوا الثقات، وكونوا مثل كرام السباع التي لا تشتغل بصغار الطير والوحش، بل بجليلها وكبارها، واعلموا أن أقدامكم إن لم تتقدم بكم، فإن قائدكم لا يقدمكم ولا يغني الوليُّ عنكم شيئًا ما لم تعطوه حقه، وأنشده:

نحن الذين إذا تَخمَّط عُصبة
من معشر كنا لها أنكالا
ونرى القُروم مخالة لقرومنا
قبل اللقاء تُقطِّر الأبوالا
نرد المنية لا نخاف ورودها
تحت العجاجة والعيون تلالا
نعطي الجزيل فلا نمُنُّ عطاءنا
قبل السؤال ونحمل الأثقالا
وإذا البلاد على الأنام تزلزلت
كنا لزلزلة البلاد جبالا

وبعد، فشدَّ ما يروق الرعية تبريز ولاتها في البلاغة والبيان، وشدَّ ما يثلج الأفئدة ويقر العيون تملكهم لأعنة القول، واطلاعهم على الغُرر والمُلح وتشجيعهم لذوي الإحسان.

وجميل جدًّا أن تنشر الكفايات، وأن يتخذ الولاة من كلمة المأمون: «إن وزرائي والله ما بلغوا مراتبهم عندي إلا بأنفسهم.» سنة يترسَّمُونها، وقاعدة يتبعونها، وحكمة يذيعونها لترتفع النفوس، وتسمو النزعات، ولينال الإحسان أهل الإحسان.

(١٠) علم المأمون

كان المأمون وافر العلم غزير الاطلاع، وليس ذلك بعزيز على خليفة ملأ عصره بأنواع المعارف الإنسانية، ونفخ فيه من روحه القوي حتى استطاع الباحث أن يسمه بسمته، وأن يرجع فضل الحضارة العباسية إليه.

ولكن المأمون في علمه وثقافته لم يقف عند حد الثقافة الذاتية، وإنما وجه حرصه إلى أن يثير في نفوس أصحابه كوامن الرغبة إلى التعمق في الدرس، والشوق إلى إدراك حقائق الأشياء، وكانت له في ذلك طريقه معروفة هي توجبه السمر والحديث إلى فنون العلم وضروب العرفان، فكان حديث الليل وحديث المائدة يفتح لجلسائه أبوابًا من القول ما كانت تخطر لهم ببال.

قال جعفر بن محمد الأنماطي: إن المأمون لما دخل بغداد وقر بها قراره، وأمر أن يدخل عليه من الفقهاء والمتكلمين وأهل العلم جماعة يختارهم لمجالسته ومحادثته، وكان يقعد في صدر نهاره على لُبود في الشتاء وعلى حصر في الصيف ليس معها شيء من سائر الفرش، ويقعد للمظالم في كل جمعة مرتين لا يمتنع منه أحد، قال: واختير له من الفقهاء لمجالسته مائة رجل، فما زال يختارهم طبقة بعد طبقة حتى حصل منهم عشرة، كان أحمد بن أبي دُوَاد أحدهم، وبشرٌ المريسي. قال جعفر بن محمد الأنماطي: وكنت أحدهم، قال: فتغدينا يومًا عنده، فظننت أنه وضع على المائدة أكثر من ثلاثمائة لون، فكلما وضع لون نظر المأمون إليه فقال: هذا يصلح لكذا، وهذا نافع لكذا، فمن كان منكم صاحب بلغم ورطوبة فليجتنب هذا، ومن كان صاحب صفراء فليأكل من هذا، ومن غلبت عليه السوداء فليأكل من هذا، ومن أحب الزيادة في لحمه فليأكل من هذا، ومن كان قصده قلة الغذاء فليقتصر على هذا، قال: فوالله إن زالت تلك حاله في كل لون يقدم حتى رُفعت الموائد، قال: فقال له يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين، إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته! أو في النجوم كنت هِرْمِس في حسابه! أو الفقه كنت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه في علمه! أو ذكرنا السخاء فأنت فوق حاتم في جوده! أو ذكرنا صدق الحديث كنت أبا ذر في صدق لهجته! أو الكرم كنت كعب بن مامة في إيثاره على نفسه! قال: فسُرَّ بذلك الكلام وقال: يا أبا محمد، إن الإنسان إنما فضل على غيره من الهوام بفعله وعقله وتمييزه، ولولا ذلك لم يكن لحم أطيب من لحم، ولا دم أطيب من دم، وإنك إذا قلت: إن يحيى بن أكثم قد بالغ في تحليل المأمون وغلا في صفته، فأنا معك في ذلك، ولكنني ألاحظ أن هذا الغلو لا يخلو من أثارة من حق وصدق.

ولتنظر معي نظرة مُستقصٍ لاطلاع المأمون وتدفق المعاني إليه، ومواتاة الأفكار له حينما ارتد رجل من أهل خراسان وأمر المأمون بحمله إلى مدينة السلام، فلما أدخل عليه أقبل بوجهه إليه ثم قال له: «أخبرني ما الذي أوحشك مما كنت به آنسًا من ديننا، فوالله لأن أستحييك بحق أحب إليَّ من أن أقتلك بحق، وقد صرت مسلمًا بعد أن كنت كافرًا، ثم عدت كافرًا بعد أن صرت مسلمًا، فإن وجدت عندنا دواء دائك تعالجت به؛ إذ كان المريض يحتاج إلى مشاورة الأطباء، فإن أخطأك الشفاء ونبا عن دائك الدواء، كنت قد أعذرت ولم ترجع على نفسك بلائمة، فإن قتلناك بحكم الشريعة ترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار والثقة، وتعلم أنك لم تُقصِّر في اجتهاد ولم تدع الأخذ بالحزم» فقال المرتد: «أوحشني ما رأيت من كثرة الاختلاف في دينكم» فقال المأمون: «فإن لنا اختلافين؛ أحدهما: كالاختلاف في الأذان وتكبير الجنائز، والاختلاف في التشهد وصلاة الأعياد وتكبير التشريق ووجوه القراءات واختلاف وجوه الفتيا وما أشبه ذلك، وليس هذا باختلاف إنما هو تخيير وتوسعة وتخفيف من المحنة، فمن أذن مثنى وأقام فرادى لم يُؤثِّم من أذَّن مثنى وأقام مثنى، لا يتعايرون ولا يتعايبون، أنت ترى ذلك عيانًا، وتشهد عليه بيانًا، والاختلاف الآخر: كنحو الاختلاف في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث عن نبينا ، مع إجماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عين الخبر، فإن كان الذي أوحشك هذا حتى أنكرت كتابنا فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع ما في التوارة والإنجيل متفقًا على تأويله كالاتفاق على تنزيله، ولا يكون بين الملتين من اليهود والنصارى اختلاف في شيء من التأويلات، وينبغي لك ألا ترجع إلا إلى لغة لا اختلاف في ألفاظها، ولو شاء الله أن ينزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا تحتاج إلى تفسير لفعل، ولكنا لم نر شيئًا من الدين والدنيا دُفع إلينا على الكفاية، ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوَى والمِحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة ولم يكن تفاضل، وليس على هذا بنى الله جل وعز الدنيا» فقال المرتد: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن المسيح عبد الله ورسوله، وأن محمدًا صادق، وأنك أمير المؤمنين حقًّا» قال: فانحرف المأمون نحو القبلة فخرَّ ساجدًا، ثم أقبل على أصحابه فقال: «وفِّروا عليه عرضه، ولا تبروه في يومه، ريثما يعتق إسلامه، كيلا يقول عدوه: إنه يسلم رغبة، ولا تنسوا نصيبكم من بره ونصرته وتأنيسه والفائدة عليه.»

وهذا المنحى الذي نحاه المأمون في إقناع ذلك المرتد يدلنا على ناحيتين من نواحي تفكيره:

  • الأولى: بصره بأسرار الشريعة وعلمه بدقائق الدين وتدقيقه في فهم أنواع الخلاف بين المسلمين، ويكاد هذا التقسيم يقضي على كل شبهة عند من يريبهم هذا النزاع الذي طال بين الفرق الإسلامية، وتشعبت به مذاهب الفقهاء.
  • الثانية: تعمقه في درس النفسيات واستقصاء خلجات القلب وهجسات الضمير، وذلك ظاهر في مراجعته لحياة الرجل الروحية، وتأمله لما ألفته نفسه وسكن إليه وجدانه قبل إسلامه، فقد بنى على هذه السابقة طريقة التآلف والتسامح التي قضى بها على ما مُني به الرجل من الكفر بعد الإيمان.

وبعد، فإن المأمون في علمه وعرفانه أهل للاحتذاء والارتسام من أقرانه، قمين بالتمثل به والاقتفاء من أخذانه، ليكون زمانهم غرة في جبين الدهر كزمانه، وليكون نصيبهم نصيبه في مهابته ورفعة شأنه، ورسوخ عرشه، وقوة بنيانه.

(١١) احترامه للدين

كان المأمون شديد الاحترام للتقاليد الدينية يرى فيها صيانة لنفسه واستبقاء لقلوب رعيته، ولكنه كان يشتطُّ في ذلك فيعاقب على هفوة مرت عليها عشرات السنين، وسنقصُّ عليك حادثة هي دلالة على هذا الإسراف، وهي أيضًا عنوان على ذوقه في نقد الشعر، وإنا لنرجح أن للظرف الذي وقعت فيه هذه الحادثة تعليلًا لما اجتُرح فيها، فلولا مجلس الغناء ولعبه بالنفس لما عزل قاضٍ لهفوة لفظية طال على عهدها الزمان، وإليك الحديث:

ذكر أحد المعاصرين، وهو أبو حشيشة محمد بن علي بن أمية بن عمرو، قال: كنا قدام أمير المؤمنين المأمون بدمشق: فغنى علُّويه:

برئت من الإسلام إن كان ذا الذي
أتاك به الواشون عنى كما قالوا
ولكنهم لما رأوك سريعة
إلي تواصوا بالنميمة واحتالوا

فقال: يا علُّويه، لمن هذا الشعر؟ فقال: للقاضي، قال: أي قاضٍ ويحك؟ قال: قاضي دمشق، فقال: يا أبا إسحاق، اعزله، قال: قد عزلته، قال: فيُحضَر الساعة، قال: فأحضر شيخ مخضوب قصير، فقال له المأمون: مَن تكون؟ قال: فلان بن فلان الفلاني، قال: تقول الشعر؟ قال: قد كنت أقوله، فقال: يا علُّويه، أنشده الشعر، فأنشده، فقال: هذا الشعر لك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ونساؤه طوالق وكل ما يَمْلك في سبيل الله إن كان قال الشعر منذ ثلاثين سنة إلا في زهد أو معاتبة صديق، فقال: يا أبا إسحاق، اعزله؛ فما كنت أولي رقاب المسلمين من يبدأ في هزله بالبراءة من الإسلام … ثم قال: يا علويه، لا تقل: برئت من الإسلام، ولكن قل:

حرمت مُناي منك إن كان ذا الذي
أتاك به الواشون عني كما قالوا

وهذا الموقف من المأمون شبيه كل الشبه بموقفه مع يحيى بن أكثم وزيره وقاضيه، حيث قال له المأمون: «لا أترك قاضيًا يشرب النبيذ!»

ثم لننظر ما يُروى عن سعيد بن زياد أحد المعاصرين؛ فإنه يدلك على تقديس المأمون لآثار النبي واحترامه لها، وتيمنه لها مع ورع وخشوع، فقد قيل: إنه لما دخل المأمون دمشق قال له: «أرني الكتاب الذي كتبه رسول الله لكم» فأراه سعيد إياها، فقال له: «إني لأشتهي أن أدري أي شيء هذا الغشاء على هذا الخاتم» فقال له أبو إسحاق: حل العقدة حتى ترى ما هو، فقال المأمون: ما أشكُّ أن النبي عقد هذا العقد، وما كنت لأحل عقدًا عقده رسول الله ، ثم قال للواثق: خذه فضعه على عينيك؛ لعل الله أن يشفيك، وجعل المأمون يضعه على عينيه ويبكي.

على أنا نرى من الوفاء للنقد العلمي أن نحيل القارئ هنا إلى كلمتنا عن سياسة المأمون، وإلى مذهبه الديني في الاعتزال، كما نحيله إلى مبحثنا في الحياة العلمية والأدبية في عصره، ونظن أنه سيلاحظ معنا أن هذه السذاجة الطيبة، وذلك الإيمان الجميل في تقدير المأمون للآثار النبوية لا تتفق في حقيقة جوهرها مع ما أجمع عليه المؤرخون في سياسته، ولا مع اعتزاله١١ أو توغله فيما ترك الفلاسفة الأولون، ولا مع ما أخذ به المأمون بعض معاصريه من ألوان النقد في شئون دينهم ودنياهم.

والمأمون عند صحة هذه الرواية بين اثنتين: إما أن يكون قوي العاطفة الدينية رقيق الحس يخضع لوجدانه وإيمانه، وإما أن يكون في مثل هذه الأحوال رجل سياسة ودهاء يحسب ألف حساب لعواطف الجماهير، ويحترم ميول الجماعات الدينية.

وبعد، فالدين للديان جل جلاله، وأنعِمْ بالولاة الذين يحترمون ما للجماعات من آراء ومعتقدات وديانات.

(١٢) سياسته

ولقد كان المأمون سياسيًّا فذًّا، وليس أدل على «ديبلوماطيقيته» من خطته التي لا نجد لها في عصره ما هو أحكم منها ولا أسدُّ، مع ركونه إلى مشاورة شيعته وأنصاره إذا حزبه أمر، ولا أدل على كياسته وكبير مهارته من تصرفاته مع سفراء أخيه الأمين مما وقفتُك على طرف منه في فصل النزاع بين الأخوين.

وكان سياسيًّا فذًّا في تزوجه من بوران بنت الحسن بن سهل ليكتسب الحزب الفارسي، وفي تزويجه علي بن موسى الرضا ابنته أم حبيب، ومحمد بن علي بن موسى ابنته أم الفضل ليكتسب الحزب العلوي، راميًا بذلك كله إلى ضمان تأييد الأحزاب له، عارفًا لنفسيات الجمهور وأمزجة الجماعات.

وكان سياسيًّا فذًّا مصيبًا لباب الصواب في قوله لأحمد بن أبي دُوَاد عن أهل بغداد: «الناس على طبقات ثلاث في هذه المدينة: ظالم، ومظلوم، ولا ظالم ولا مظلوم، فأما الظالم فليس يتوقع إلا عفونا وإمساكنا، وأما المظلوم فليس يتوقع أن يُنصَف إلا بنا، ومن كان لا ظالمًا ولا مظلومًا فبيتُه يسعه.»

وكان سياسيًّا فذًّا، في مداراته عمَّاله، وليس أدل على ذلك من تصرفه مع إبراهيم بن السندي صاحب الأخبار وقد رفع إليه خبرًا عن حادثة بمصر، فكذبه عبد الله بن طاهر، فعنف المأمون السندي آلم التعنيف أمام ابن طاهر، ثم بعث إليه وقال له: «إني آمر وأُداري عمالي وعمالهم مداراة الخائف، والله ما أجد إلى حملهم على المحجة البيضاء سبيلًا، فاعمل لي على حسب ما تراني أعمل، ولِنْ لهم تسلمْ لك أيامك، ويغَضَّ دينك».

وكان سياسيًّا فذًّا حينما رفع إليه صاحب خبره: «إنا أصبنا يا أمير المؤمنين رقاعًا فيها كلام السفهاء والسفلة، وفيها تهديد ووعيد، وبعضها عندنا محفوظ إلى أن يأمر أمير المؤمنين فيها بأمره، فكتب المأمون بخطه: «هذا أمر إن أكبرناه كثُر غمُّنا به، واتسع علينا خرقه، فمُرْ أصحاب أخبارك متى وجدوا من هذه الرقاع رقعة أن يمزقوها قبل أن ينظروا فيها، فإنهم إذا فعلوا ذلك لم يُر لها أثر ولا عين» ففعلوا ذلك فكان الأمر كما قال.»

وتعال ننظر نظرة تحليلية قصيرة فيما يرويه لنا زيد بن علي بن الحسين قال: «لما كان في العيد، بعد قدوم المأمون سنة أربع ومائتين، والمأمون يتغدى وعلى مائدته طاهر بن الحسين، وسعيد بن سلم، وحميد بن عبد الحميد، وعلى رأسه سعيد الخطيب وهو يقرظه ويذكر مناقبه ويصف سيرته ومجلسه، إذ انهملت عينا المأمون بالدموع، فرفع يده عن الطعام، فأمسك القوم حين رأوه بتلك الحال حتى إذا كفَّ قال لهم: كلوا، قالوا: يا أمير المؤمنين، وهل نسيغ طعامًا أو شرابًا وسيدنا بهذه الحال، قال: أما والله ما ذلك من حدث ولا لمكروه هممت به بأحد، ولكنه جنس من أجناس الشكر لله لعظمته، وذكر نعمته التي أتمَّها عليَّ، كما أتمَّها علي أبوي من قبلي، أما ترون ذلك الذي في صحن الدار، يعني الفضل بن الربيع — قال: وكانت الستور قد رفعت ووضعت الموائد للناس على مراتبهم، وكان يجلس الفضل مع أصحاب الحرس — وكان في أيام الرشيد وحالُه حالُه، يراني بوجه أعرف فيه البغضاء والشنآن، وكان له عندي كالذي لي عنده، ولكني كنت أُداريه خوفًا من سعايته وحذرًا من أكاذيبه، فكنت إذا سلَّمت عليه فرد عليَّ أظل لذلك فرحًا وبه مبتهجًا، وكان صَغْوه إلى المخلوع فحمله على أن أغراه بي ودعاه إلى قتلي، وحرك الآخر ما يحرك القرابة والرحم الماسَّة فقال: أما القتل فلا أقتله، ولكني أجعله بحيث إذا قال لم يطع، وإذا دعا لم يُجب، فكان أحسن حالاتي عنده أن وجَّه مع علي بن عيسى قيد فضة بعدما تنازعا في الفضة والحديد ليُقيِّدني به، وذهب عنه قول الله جل وعز: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ فذاك موضعه من الدار بأخسِّ مجالسها وأدنى مراتبها، وهذا الخطيب على رأسي، وكان بالأمس يقف على هذا المنبر الذي بإزائي مرة، وعلى المنبر الغربي أخرى، فيزعم أني المأفون ولست بالمأمون، ثم هو الساعة يقرظني تقريظه المسيح ومحمدًا عليهما السلام، فقال طاهر بن الحسين: يا سيدنا، فما عندنا فيهما وقد أباحك الله إراقة دمائهما فحصَّنتهما بالعفو والحلم! قال: فعلت ذلك لموضع العفو من الله، ثم قال المأمون: مدوا أيديكم إلى طعامكم، فأكل وأكلوا.»

ألا يسوغ لنا أن نستنبط مما قدمناه لك أن المأمون كان سياسيًّا ذهِنًا، حاذقًا في تصرفه مع الفضل؟ ألم يكن للفضل مكانة عند الرشيد ونفوذ بعيد المدى في الدولة؟ ألا يجوز أن سعايته بالمأمون وأكاذيبه عليه، إن لم يداره، تجد آذانًا مصغية، وأنها قد تجر عليه من الشرور ما ليس في حاجة إليه؟

ألم يكن خير سبيل لاتقاء شانئته أن يُداريه عملًا بقول أبي الدرداء: «إنا لنبَشُّ في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم.»

فهل ترى سياسة أحكم وبصرًا بالأمور أتم من تصرف المأمون ومداراته؟ ثم انظر ما كان من مداراته للفضل بن سهل، كما صرح بذلك لولي عهده علي بن موسى الرضا، ومداراته لطاهر بن الحسين قاتل أخيه، وما كان من تصرفاته مع الوفود الأمينية؛ تؤمن معنا أن المأمون كان سياسيًّا، ولعل لاطلاعه على ما ترجم من المؤلفات اليونانية والفارسية مع استعداده الخاص ونزوعه إلى البحوث الكلامية عامة، وحبه للمشاورة واكتنافه بالرءوس المفكرة الناضجة، لعل لهذا وأمثاله الفضل في تكوين المأمون على ما رأيت وتخريجه على ما شاهدت.

وبعد، فإن للحياة تقاليدها، وإن لسياسة الشعوب أسرارها، كما أن للصراحة محامدها، وللمداراة ضرورتها، وأنعم بمن يضع الأمور في مواضعها، ويزن المواقف بميزانها، ويطب لكل حاجة دواءها وعلاجها.

(١٣) مذهب المأمون الديني

أما مذهب المأمون الديني أو السياسي إن شئت، وهل كان يميل للفرس حقًّا ويؤثرهم على غيرهم من العرب في خدمة الدولة، وهل كان شيعيًّا علويًّا، أو معتدلًا في التشيع أو معتزليًّا؟ فهذا باب يستفيض القول في شتى نواحيه وتزدحم معانيه؛ لاختلاف وجهات النظر فيه، ولعلك تبينت مما كتبناه عن المأمون السياسي بعض ما يساعدك على تفهم مذهبه الديني.

ولما كنا قد أرجأنا الكلام في موضوع المحنة والقول بخلق القرآن إلى قسم العلوم والآداب، فنحن نلفت النظر هنا إلى ذلك.

بيد أنا نرى من واجبنا أن نشير هنا إلى أن المأمون كان محُوطًا بشيوخ الاعتزال والكلام، أمثال ثمامة بن أشرس ويحيى بن المبارك وغيرهما، ويجوز لنا أن نفترض أن المأمون قد أخذ مذهب الاعتزال من يحيى بن المبارك مؤدبه، فإن ياقوتًا الرومي قد ذكر عنه — في الجزء السابع من معجمه — أنه كان يتهم بالميل إلى الاعتزال، فلا يستبعد إذن، وصلته بالمأمون صلة الأستاذ بتلميذه، أن يكون المأمون قد تأثر بميله خصوصًا، أنه اتصل به منذ صباه في أيام الرشيد، وكذلك كان محوطًا بشيوخ آخرين لهم آثارهم ومكانتهم في الدولة مثل يحيى بن أكثم وغير يحيى بن أكثم.

وكان على ذلك متأثرًا بما تُرجم من أخلاقيات فلاسفة اليونان وعلومهم، وآداب الفرس وفنونهم، كما كان، إلى حد غير قليل، تحت سلطان الفرس ووزرائهم أمثال الفضل بن سهل، وكان يحسب للعلويين حسابهم، وللعباسيين حسابهم، فلا غرو إذن أن يكون لكل هذه العوامل أثر غير قليل في تكييف مزاجه الديني، وقد يفتر بعض هذه العوامل حينًا وقد يشتد حينًا آخر طبقًا للأحوال.

هذا هو رأينا في مذهبه الديني أو السياسي على وجه عام، على أن هذا لا يمنعنا، وقد اتخذنا لأنفسنا خطة الحيدة في تدوين التاريخ من أن نثبت آراء القدماء فيه، وأن نذكر طرفًا مما جاء منها في هذا الصدد.

قال ابن الأثير في كامله: «قال أبو العباس أحمد بن عبد الله بن عمار: كان المأمون شديد الميل إلى العلويين والإحسان إليهم، وخبره مشهور معهم، وكان يفعل ذلك طبعًا لا تكلفًا، فمن ذلك أنه توفِّي في أيامه يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين العلوي، فحضر الصلاة عليه بنفسه، ورأى الناس عليه من الحزن والكآبة ما تعجبوا منه، ثم إن ولدًا لزينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وهي ابنة عم المنصور، تُوفِّي بعده، فأرسل له المأمون كفنًا وسيَّر أخاه صالحًا ليصلي عليه ويعزي أمه، فإنها كانت عند العباسيين بمنزلة عظيمة، فأتى إليها وعزَّاها عنه، واعتذر عن تخلفه عن الصلاة عليه، فظهر غضبها وقالت لابن ابنها: تقدم فصلِّ على أبيك، وتمثَّلت:

سبكناه ونحسبه لُجينًا
فأبدى الكير عن خبَث الحديد

ثم قالت لصالح: قل له: يا ابن مراجل، أما لو كان يحيى بن الحسين بن زيد لوضعت ذيلك على فيك وعدوت خلف جنازته.»

ثم تعال معي نتدبر ما يرويه لنا التغلبي أحد المعاصرين، قال: سمعت١٢ يحيى بن أكثم يقول: أمرني المأمون عند دخوله بغداد أن أجمع له وجوه الفقهاء وأهل العلم من أهل بغداد، فاخترت له من أعلامهم أربعين رجلًا وأحضرتهم، وجلس لهم المأمون فسأل عن مسائل وأفاض في فنون الحديث والعلم، فلما انقضى ذلك المجلس الذي جعلناه للنظر في أمر الدين، قال المأمون: يا أبا محمد، كَرِه هذا المجلس الذي جعلناه للنظر طوائف من الناس بتعديل أهوائهم وتزكية آرائهم، فطائفة عابوا علينا ما نقول في تفضيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وظنوا أنه لا يجوز تفضيل علي إلا بانتقاص غيره من السلف، والله ما أستجيز أن أنتقص الحجاج! فكيف السلف الطيب؟! وإن الرجل ليأتيني بالقُطَيعة من العود أو بالخشبة أو بالشيء الذي لعل قيمته لا تكون إلا درهمًا أو نحوه فيقول: إن هذا كان للنبي قد وضع يده عليه أو شرب فيه أو مسَّه، وما هو عندي بثقة ولا دليل على صدق الرجل، إلا أنِّي بفرط النية والمحبة أقبل ذلك فأشتريه بألف دينار وأقل وأكثر، ثم أضعه على وجهي وعيني وأتبرك بالنظر إليه وبمسِّه، فأستشفي به عند المرض يصيبني أو يصيب من أهتمُّ به، فأصونه كصيانتي نفسي، وإنما هو عود لم يفعل شيئًا ولا فضيلة له تستوجب المحبة إلا ما ذكر من مس رسول الله ، فكيف لا أرعى حق أصحابه وحرمة من قد صحبه وبذل ماله ودمه دونه، وصبر معه أيام الشدة وأوقات العسرة، وعادى العشائر والعمائر والأقارب، وفارق الأهل والأولاد، واغترب عن داره ليعز الله دينه ويظهر دعوته، يا سبحان الله! والله لو لم يكن هذا في الدِّين معروفًا لكان في الأخلاق جميلًا، وإن من المشركين لمن يَرعَى في دينه من الحرمة ما هو أقل من هذا. معاذ الله مما نطق به الجاهلون، ثم لم ترضَ هذه الطائفة بالعيب لمن خالفها حتى نسبته إلى البدعة في تفضيله رجلًا على أخيه ونظيره ومن يقاربه في الفضل، وقد قال الله جل من قائل: وَلَقد فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ علىٰ بَعْضٍ ثم وسع لنا في جهل الفاضل من المفضول، فما فرض علينا ذلك ولا ندبنا إليه إذ شهدنا لجماعتهم بالنبوة، فمن دون النبيين من ذلك بعد إذ شهد لهم بالعدالة والتفضيل امرؤ لو جهله جاهل رجونا ألا يكون اجترح إثمًا. وهم لم يقولوا بدعة فيمن قال بقول واحد من أصحاب النبي وشك الآخرُ، واحتج في كسره وإبطاله من الأحكام في الفروج والدماء والأموال التي النظر فيها أوجب من النظر في التفصيل، فيغلط في مثل هذا أحد يعرف شيئًا، أو له روية أو حسن نظر، أو يدفعه من له عقل، أو معاند يريد الإلطاط،١٣ أو متبع لهواه ذابٌّ عن رياسة اعتقدها.
وطائفة قد اتخذ كل رجل منهم مجلسًا اعتقد به رياسة لعله يدعو فئة إلى ضرب من البدعة، ثم لعل كل رجل منهم يعادي من خالفه في الأمر الذي قد عقد به رياسة بدعة، ويُشيط١٤ بدمه، وهو قد خالفه من أمر الدين فيما هو أعظم من ذلك، إلا أن ذلك أمر لا رياسة له فيه، فسالمه عليه وأمسك عنه عند ذكر مخالفته إياه فيه، فإذا خولف في نِحْلته، ولعلها مما وسَّع الله في جهله بها، أو فيما اختلف السلف في مثله، فلم يُعاد بعضُهم بعضًا، ولم يروا في ذلك إثمًا، ولعله يكفر مخالفه أو يبدعه أو يرميه بالأمور التي حرمها الله عليه من المشركين دون المسلمين، بغيًا عليهم، وهم المترقبون الفتن، والراسخون فيها، لينهبوا أموال الناس ويستحلوها بالغلبة، وقد حال العدل بينهم وبين ما يريدون، يزأرون على الفتنة زئير الأُسد على فرائسها.

وإني لأرجو أن يكون مجلسنا هذا — بتوفيق الله وتأييده ومعونته على إتمامه — سببًا لاجتماع هذه الطوائف على ما هو أرضى وأصلح للدين، إمَّا شاكٌّ فيتبين ويتثبت فينقاد طوعًا، وإما مُعاند فيردُّ بالعدل كَرْهًا.

ولقد همَّ في سبيل علَويته هذه أن يلعن معاوية، وأن يكتب بذلك كتابًا يُقرَأ يوم الدار وحَفْل الناس، فثناه عن ذلك يحيى بن أكثم. وقد يكون من الممتع الطريف حقًّا أن نذكر لك ما قاله يحيى وغيره لتتبين نفسية الزعماء فيما نحن بسبيله.

«قال يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين، إن العامة لا تحتمل هذا، ولا سيما أهل خراسان، ولا تأمن أن تكون لهم نفرة وإن كانت لم تَدرِ ما عاقبتها، والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه، ولا تُظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة، وأحرى في التدبير، فركن المأمون إلى رأيه، ثم دخل عليه ثمامة، أحد المعاصرين، فقال له المأمون: يا ثمامة، قد علمت ما كنا دبرناه في معاوية، وقد عارضنا رأي هو أصلح في تدبير المملكة وأبقى ذكرًا في العامة، ثم أخبره أن ابن أكثم خوَّفه إياها، وأخبره بنفورها عن هذا الرأي، فقال ثمامة: يا أمير المؤمنين، والعامة في هذا الموضع الذي وصفها به يحيى، والله لو وجهت إنسانًا على عاتقه سواد ومعه عصا لساق إليك بعصاه عشرة آلاف منها، والله يا أمير المؤمنين، ما رضي الله جل ثناؤه أن سواها بالأنعام حتى جعلها أضل منها سبيلًا، فقال تبارك وتعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا والله يا أمير المؤمنين، لقد مررت منذ أيام في شارع الخُلْد وأنا أريد الدار، فإذا إنسان قد بسط كساءه، وألقى عليه أدوية وهو قائم ينادي عليها: هذا الدواء لبياض العين والعَشا والغِشاوة والظلمة وضعف البصر، وإن إحدى عينيه لمطموسة، وفي الأخرى مُؤسًى له، والناس قد انثالوا عليه وأجفلوا إليه يستوصفونه، فنزلت عن دابتي ناحية ودخلت في غمار تلك الجماعة فقلت: يا هذا، أرى عينك أحوج هذه الأعين إلى العلاج وأنت تصف هذا الدواء وتخبر أنه شفاء لوجع العين، فلِمَ لا تستعمله؟ فقال: أنا في هذا الموضع منذ عشر سنين ما مر بي شيخ أجهل منك، فقلت له: وكيف؟ قال: يا جاهل، أين اشتكت عيني؟ قلت: لا أدري، قال: بمصر، فأقبلتْ عليَّ تلك الجماعة فقالوا: صدق الرجل، أنت جاهل، وهمُّوا بي، فقلت: لا والله، ما علمتُ أن عينه اشتكتْ بمصر، فما تخلصتُ منهم إلا بهذه الحجة.»

نريد بعد ما قدمناه لك أن نقول لك: إن مذهب المأمون الديني كان متمشيًا تمامًا مع مذهبه السياسي، وإنه إذا كان يريد من وراء خطته السياسية من التزوج من هذا الحزب وذاك، ومن إرضاء هذا الطرف وذاك أن يظفر بتكوين وحدة سياسية من شتى الأحزاب ولو أدى ذلك أن يكون من العلويين خليفة، ثم من العباسيين خليفة ما دامت بغيته متحققة من استتباب الأمن، وامتزاج الأحزاب، وتوحيد القوى، فكذلك كان يريد أن يتخذ من مذهبه الديني مذهبًا وسطًا. ويُخيل إلينا من النتائج التي وقفنا عليها من دراسة هذا العصر أن المأمون لم يظفر بغايته لا من الوجهة السياسية كما علمت من انتهاء حياة الرضا من آل محمد، ولا من الوجهة الدينية.

وبعد، فقد قلنا لك: إن الدين للديان جل جلاله، وأكبرنا وأكبرت معنا أولئك الولاة الذين يحترمون ما للجماعات من آراء ومعتقدات وديانات، ويظهر أن المأمون لم يكن فيما رامه في هذا السبيل موفقًا توفيقه فيما عداه، وأن له زلة كان يجدر ألا يقع مثله في مثلها، وسترى ذلك موضحًا في الفصل الذي عقدناه عن «محنة القرآن».

(١٤) كلمة ختامية عن المأمون

وإنا بعد أن حللنا شخصية المأمون بما يجب من التفصيل والتوضيح، نرى من المستصوب أن نضم إلى آراء المؤرخين العرب وروايات المعاصرين للمأمون التي لا تخلو من مبالغة في تمدحهم بفضائله، رأي مؤرخ متشرق عكف على دراسة عصر المأمون، وهو السير وليم موير، فربما أفادنا كثيرًا من ناحية استيعاب وجهات النظر عند الفرنجة من المؤرخين، ذلك لأن الحقيقة العلمية لا تخدم بمثل ما يخدمها تباين الآراء واختلاف المصادر وتناقض الروايات، وليس من مهمتنا أن نعرض للرد على «السير موير»، وإنما نحن بسبيل إثبات وجهات النظر المختلفة كما قلنا.

قال الأستاذ موير في كتاب الخلافة في مختتم بحثه عن المأمون ما نترجمة لك بنصه: «فمما لا نزاع فيه أن المأمون كان على وجه العموم متصفًا بالعدل والحلم، وإنما يؤخذ بأنه كان متقلبًا في آرائه وشعوره، سواء أكان ذلك في المسائل السياسية أم الدينية».

ويرجع السبب في ذلك إلى نزعته الفارسية التي ورثها عن أمه، والبيئة التي رُبِّي فيها من جهة، وإلى غريزة حبه للاستسلام بتأثير من حوله كما كان حاله مع الفضل من جهة أخرى.

على أننا مع اعترافنا بعدله لا نستطيع أن ننزهه عن الجنوح في بعض الأحايين إلى الجور واستعمال القسوة من غير مسوغ، فإنه قد تصرف في بعض الحوادث تصرف الجبابرة والقساة من أسلافه الذين أتوا من المنكرات ما سوَّدوا به صحائف تاريخهم.

وسأذكر على سبيل المثال حادثة استعمل فيها المأمون وحشية غريبة، ذلك أن أبا دُلف — وكان بطلًا من أشراف العرب وزعيمًا لإمارة همذان؛ إذ كان من أسرة كريمة نالت شهرة عظيمة وصيتًا واسعًا بين عشائرها وذوي البيوتات فيها — كان من الذين انضموا إلى نصرة الأمين وشايعوه، فلما قُتل واستقلَّ المأمون بالخلافة، أبي أبو دُلف أن يدخل في طاعته، وآثر العودة إلى مسقط رأسه في فارس، فمدحه شاعر أعمى بقصيدة رائعة، وغالى في مدحه وإطرائه، ووصفه بأنه أشرف العرب والمقدم عليهم، فاغتاظ المأمون من الشاعر غيظًا شديدًا؛ إذ ظن أن الشاعر يقصد إهانته، فأمر بتعذيبه وقتله شر قتلة، ولكن لم يمضِ على ذلك غير قليل من الزمن حتى دخل أبو دُلف في طاعة المأمون، فاحتفل به وقربه إليه، فإن كان تجاوزه عن أبي دلف وسعة حلمه عليه مما يعظم شأن المأمون، ويدل على رحابة صدره، فهذا التجاوز لا يغير حكمنا عليه بالقسوة الوحشية في قتل ذلك الشاعر الأعمى، ولو أغضينا عن الشبهات التي حامت حول مقتل الفضل وموت علي الرضا غدرًا وغيلة، فإننا لا نستطيع أن نغضي عن معاملته الجائرة لابن عائشة، وما لقيه هرثمة وطاهر مع تفانيهما في نصرته وتوطيد حكمه، واضطهاده لكثير من أجلاء المفكرين وأصحاب الآراء المخالفة لرأيه في بعض مسائل الدين في مجلس المناظرة، مما يدل على قسوته، إلا أننا إذا راعينا طول مدة حكمه وموقفه النبيل في عفوه عن الخارجين عليه في بغداد، نرى كفة عدله وحلمه أرجح من كفة جوره وقسوته، وقصارى القول أن عصر خلافته كان بوجه الإجمال من أزهى عصور التاريخ الإسلامي. ا.ﻫ.

•••

وبعد، فلقد حللنا شخصية المأمون الفذة البارزة بما استحقته من الاستقصاء والاستيعاب والدرس والتحليل، وأعقبنا كل كلمة عن سجاياه ما نعتبره موضع العظة والاعتبار من دراسة هذا العصر المُترَع بالمثل العليا، ونأمل أن نكون قد وفقنا فيما رُمناه من إصابة شاكلة الحق ولُباب الصواب.

هوامش

(١) يقول أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار: «أحسب أن ألفًا زائدة في عباراتهم المنقولة؛ لأن حساب ذلك يئول إلى مليارين من الدنانير، وغلة بني العباس في عشر سنوات لا تفي بذلك، فكيف بمصر وحدها؟»
(٢) أُفْكَل: رعدة وقشعريرة.
(٣) انظر هذه الحكاية في الجزء السادس من تاريخ بغداد، ص١٠١.
(٤) جمع مقراض وهو ما يقطع به الثواب أو غيره، وهو المعروف بالمقص.
(٥) العادة كانت جارية في العراق أن يوضع الخيش فوق سطح المنزل ويبل وقت الحر ليكون تأثير الشمس واقعًا عليه دون السقف، وهكذا كانت تفعل ملوك فارس، فلما كان زمن المأمون عمل بطانة للسقف استغنى بها عن الخيش وبله، وهي ما نسيمه «بغدادلي»، وفي بعض البلاد يسمى المأموني.
(٦) التثريب: اللوم والتعيير بالذنب.
(٧) القردد: ما ارتفع وغلظ من الأرض.
(٨) الصرم: جمع صرمة، وهي القطعة من الإبل نحو الثلاثين.
(٩) يعدد محاسنهما ويذكرها.
(١٠) يقال: هو نهاض ببزلاء أي صاحب همة يقوم بالأمور العظام.
(١١) يقول الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار: «الاعتزال مذهب من مذاهب التوحيد أراد القائمون به تنزيه الله عن الأشباه، فنفوا أن يكون لله صفات لئلا يتعدَّد القدماء، ثم انتقلوا إلى الأفعال فنفوا أن يكون لله أثر في فعل الشر فقالوا: إن الله منزهٌ عن الشر، وإن الإنسان يخلق أفعال نفسه الاختيارية بقدرة أودعها الله فيه إلخ ما قالوا. وليس في هذا ما ينافي إجلال المأمون لآثار رسول الله
(١٢) هذه القطعة منقولة كما هي عن «تاريخ بغداد»، ج٦، ص٧٥ وما بعدها.
(١٣) الإلطاط: الاشتداد في الأمر والخصومة.
(١٤) يشيط بدمه: يهدره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤