الفصل التاسع

الحياة الأدبية في عصر المأمون

(١) توطئة

لكتاب الخلافة «للسير وليام ميور» مكانة رفيعة في التاريخ العربي، ولا سيما عصرنا المأموني، بناحيتيه العلمية والأدبية؛ ذلك لأن الرجل إلى جانب دراسته الدقيقة لمؤلفات العرب وكتابات العرب وبحوث المؤرخين العرب، لم يترك مصدرًا من مصادر المُتشرِّقين أمثال: «نولدكه» و«كريمر» و«هرزلد» و«أمرز» و«بربياد» و«مينارد» و«چوچ»، وغيرهم من عشرات المؤرخين إلا وقد استوعبه واستقصى البحث فيه، كذلك لم يترك مصدرًا من مصادر التاريخ الفارسي، وهو كما نعلم شديد الصلة بعصرنا المأموني، من غير أن يدرسه حق دراسته ويفهمه حق فهمه، فطالع فيما طالعه في ذلك الباب آثار «ماكولم» و «فرازر» و«برون» و«سيكس» و«جوجينس» وغيرهم.

من أجل هذا، ومن أخذ ذلك المؤرخ البحاثة بالدقة في كل ما تصدر له جاءت جلُّ بحوثه أفضل من سواه، وأرفع مكانة من غيره، ونحن نستبيح لأنفسنا أن ننقل إليك ما ذكره في هذا الباب، قال: «كان حكم المأمون مجيدًا عادلًا، وكان عصره مزدهرًا بأنواع العلوم والفنون والفلسفة، وكان أديبًا مولعًا بالشعر متمكنًا منه، ولقد حدث مرة أن شاعرًا كان ينشد بين يديه قصيدة من مائة بيت، فكان الشاعر كلما أنشد شطر بيت بادره المأمون بشطره الآخر، حتى دهش الشاعر وحار في سرعة بديهته. وكان مجلسه حافلًا بالعلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة؛ إذ كان يقربهم إليه، ويجزل لهم العطاء، وكما كان عصره عامرًا بالعلماء والأدباء والنحاة؛ فإنه كان كذلك حافلًا بجماعة المحدثين والمؤرخين والفقهاء؛ كالبخاري والواقدي الذي نحن مدينون له بأوثق السير عن حياة النبي، والشافعي١ وابن حنبل. وكان المأمون يُجلُّ علماء اليهود والنصارى ويحتفي بهم في مجلسه، لا لعلمهم فحسب بل لثقافتهم في لغة العرب وحذقهم في معرفة لغة اليونان وآدابها. ولقد أخرجوا من أديرة سوريا وآسيا الصغرى وسواحل الشام وفلسطين كتبًا خطية في الفلسفة والتاريخ وعلم الهندسة لعلماء اليونان وفلاسفتهم، ثم ترجموها إلى العربية بدقة وعناية عظيمة، وبهذه الوسيلة انتقلت علوم الغرب إلى العالم الإسلامي، ولم تقتصر جهود هؤلاء الجهابذة على نقل هذه الكتب القديمة إلى اللغة العربية، بل توسعوا وأضافوا إليها ما اكتسبوه من مباحثهم واطلاعهم، وأقاموا مرصدًا في «سهل تَدْمُر» مجهزًا بجميع الآلات التي تمكنهم من النجاح في دراسة علمي الفلك والهندسة والتوسع فيهما، وقد صنفوا كتبًا في الرحلات والتاريخ ولا سيما كتب الطب، وعُنُوا عناية كبيرة ببعض علوم تافهة، إلا أنها كانت أكثر ذيوعًا وانتشارًا كالتنجيم والكيمياء، وكان لمجهود هؤلاء العلماء الأثر الأكبر في نهضة أوروبا التي كانت غارقة في بحار الجهالة في العصور الوسطى؛ حيث أيقظتهم من غفلتهم، وأنارت لهم سبل علومهم التي كانوا أغفلوها، وهي علوم اليونان وفلسفتها.» ا.ﻫ.

ويقول الأستاذ البحاثة «كرد علي» في بحث طريف له: إن عصر المأمون قد ازدان بكثير من حملة الشريعة والأدب، منهم: يحيى بن أكثم، وأبو محمد اليزيدي، والحسن بن زياد، وأبو داود الطيالسي، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وابن الأعرابي، والنضر بن شميل، وأبو عمرو الشيباني، ومحمد بن عمر الواقدي، وأبو عبيدة، والفراء، والأخفش، والأصمعي، والصغاني، والضبي، والشافعي، وابن سعد، وأبو داود، وابن أبي دواد، وابن حرب، وابن حنبل، والجاحظ، والقواريري، وقتيبة، وسعدويه الواسطي، وابن الجعد، وابن عُليَّة الأكبر، وأبو نصر التمَّار، وأبو مَعمَر القطيعي، وأبو العوَّام البزَّاز، وابن شُجاع، وبِشر المريسي، وبشر بن الوليد، وسجَّادة، ومحمد بن نوح، وأبو هارون بن البكاء، والهذيل محمد بن الهذيل، وأبو زكريا المُري، ومحمد بن مبشر، إلى مئات غيرهم كانوا فخر الدولة وعنوان نبوغ الأمة.

أما الشعراء والكتاب فكانوا طبقة عالية كثيرة العدد كالحصى، جيدة المَنحَى والأسلوب، تغلب الرقة والجزالة على أهل هاتين الصناعتين، تأثروا كلهم بالحضارة الجديدة حتى غدا الشعر المدني البديع ظاهر الاختلاف عن الشعر الجاهلي، بعيدًا عن وصف الأطلال والدمن والركاب وطلب الثأر والمفاخرات الفارغة. هذا، وكان الجمهور يشارك الأدباء في فهم الشعر، وقدَّر الخطبَ والرسائل قدرها، فلم يكن الشعراء في واد والأمة في آخر، بل كان الشاعر أو الكاتب إذا قرض شعرًا أو حبر خطابًا تتناقله الأيدي في الحال، وتتعاوره الرواة فيفشو في الأمصار، وهذا ما كان يزيد في طلاوة أدب الأديب، وشعر الشاعر، وخطبة الخطيب، ويحثه على تجويد مقاله. ا.ﻫ.

وبعد، فقد بينا في كلمتنا عن الحياة الأدبية في صدر العصر العباسي ما أخذت تتحول إليه الآداب العربية عامة في الألفاظ والأساليب والمعاني والأغراض، وبينا لك الأسباب التي كانت تبعث على هذا التحول، من شدة الامتزاج بين العناصر المختلفة التي خضعت لسلطان العرب بالغرب، وما استتبعه هذا الامتزاج من إضافة ثقافات ومدنيات جديدة إلى ما كان للعرب من ثقافة ومدنية، ومن اتساع السلطان وامتداد أطرافه، ومن تشجيع الخلفاء لأهل العلم، وإكرامهم لرجال الأدب، ومن انصراف همم أولي الفضل إلى التأليف والترجمة، ومن كثرة حاجات الناس وتنوعها، حتى اضطرت اللغة أمام هذه العوامل وغيرها، مما سبق أن بيناه لك، أن تنفرج جوانبها لتسع هذه الأغراض، ولتقوم بحاجات الناس طبقًا لمقتضيات العصر وخضوعًا لسنة التحول.

بينا لك كل هذا، وقد يكون من التعسف أن نعرض لتحول الآداب في أيام المأمون خاصة، فإنه إذا افترضنا أن الآداب تحولت تحولًا خاصًّا في أيام المأمون، فقد يكون من العسير تبيين هذا التحول وتحديد مداه، ذلك بأن تحوُّل الآداب بطيء، ولا يمكن تبيينه إلا بعد ظهور آثاره ظهورًا لا سبيل إلى الشك فيه، بخلاف الحوادث السياسية، فإنك تستطيع أن تؤقت الحوادث السياسية بالسنة، بل بالشهر، بل باليوم، ولا تستطيع ذلك في الآداب إلا بعشرات السنين.

إذن رأيُنا في الآداب لعصر المأمون هو رأينا في الآداب لصدر العصر العباسي، وإنما الذي حدث أن السبيل التي سلكتها الآداب في صدر العصر العباسي قد بلغت غايتها في أيام المأمون، فعصر المأمون إذن هو الثمرة الناضجة لتغيُّر الآداب في العصر العباسي، أو بعبارة أخرى: يعتبر عصر المأمون العصر الذي بلغت فيه الآداب العربية الذروة من الكمال المقدور لها.

وسبيلنا الآن أن نورد لك من آثار عصر المأمون ما يقوم لديك دليلًا على هذه النتيجة، وقد أوردنا من هذه الآثار في المجلد الثالث ما فيه الكفاية.

(٢) المحادثة أو لغة التخاطب

بدأت لغة التخاطب تنحدر مدارجة عن الفصحى منذ الفتوح الإسلامية بسبب اتصال العرب بغير العرب ممن دان لسلطانهم، وانتظم في ملكهم.

ولقد لاحظنا أثناء مطالعتنا في الطبري وفي غير الطبري في الفترة المأمونية، أن بعض جند خراسان كانوا لا يفهمون العربية فيقولون مثلًا: «پُسر زبيدة» و«مكن» وغيرها من الألفاظ الفارسية التي أثبتها المؤرخون.

وقد يكون من الممتع حقًّا أن يخصص باحث ممن لهم اطلاع على لغات البلدان التي فتحها العرب كتابًا لدراسة مبلغ تأثر اللغة العربية بلغات من خضع لسلطان العرب في الأرجاء المختلفة، وقصارى ما نقرره هنا أن اللغة العربية تأثرت حقًّا من أثر الفتوح، سواء أكانت فتوح سيف أم فتوح ثقافات وترجمات قد أضعفت من بلاغة اللسان، ومتانة اللفظ، بقدر ما أغنت من ثروة ذهنية عظيمة.

وإنك إذا ذكرت ما كتبناه في الفصل السادس وفي نظيره من كتابنا عن الصدر العباسي في شأن ما زيد في الألفاظ العربية، من ألفاظ العلوم المترجمة في ذلك العصر، وذكرت أن الموالي الفرس وغيرهم هم الذين قد عُهد إليهم بالترجمة والنقل والتحرير، إذا ذكرت هذا إلى جانب ما قدمناه لك، فإنك تسوغ معنا ما نذهب إليه من القول بتأثر اللغة في ذلك العصر.

وفي هذا القدر الكفاية، ولنتدرج إلى ذكر كلمة عن الخطابة.

(٣) الخطابة

قلنا فيما سبق: إن عصر المأمون كان الثمرة الناضجة للآداب العربية في العصر العباسي، فهل كان الأمر كذلك في الخطابة أيضًا؟

أنت تعلم أن قوة الشيء ترجع إلى قوة عوامله وأسبابه، ونحن نرى، معتمدين على ما لدينا من آثار خطابية لهذا العصر، أن أسباب الخطابة وعواملها كانت ضعيفة ضعفًا نسبيًّا، ومن ثم لم تُماشِ الخطابةُ سائر أنواع الآداب في سبيلها إلى الكمال المقدور لها، ولعل ذلك يرجع إلى ضيق مجالها وضعف الحاجة إليها، فبعد أن كنا نراها في العصر الأموي الوسيلة إلى قمع الفتن ورد البدع، ولسان الخليفة في رعيته، والقائد في جنده، والزعيم في أتباعه، وبعد أن كنا نرى حظها في عصر الانتقال وصدر العصر العباسي لا يقل عن حظها في العصر الأموي لحاجة الدعاية والزعماء إليها، أصبحنا نرى مجالها في عصر المأمون يضيق، حتى كادت تقصر على التهنئة والتعزية والخطب الدينية؛ كالجمعة والعيدين. وضيق مجالها يرجع إلى استغناء الخلفاء العباسيين وعمالهم وقوَّادهم عنها بالمنشورات العامة، حيث يتبسطون فيها ويُضمِّنونها ما يريدون من أغراض، ثم تُتلى على من يُراد أن تُتلى عليهم، ولعل ذلك لاصطباغ الخلافة العباسية بالصبغة الفارسية، ولاحتجاب الخلفاء عن مخالطة الجماهير، ولأن جل عمال بني العباس في ذلك العصر كانوا من الموالي، وهؤلاء وإن أُوتوا حظًّا عظيمًا من بلاغة القول وحسن البيان، فقد كانت لا تزال بألسنتهم لوثة من العُجمة تحول بينهم وبين ما تقتضيه الخطابة من اندفاع الألفاظ وتدفقها.

لعل لكل هذا أو بعضه أثرًا ما في تضييق مجال الخطابة والاستغناء عنها بالرسائل والمنشورات العامة، ومهما يكن من شيء فقد ألقيت في عصر المأمون خطب قليلة القدر والقيمة، ننشر لك منها على سبيل المثال خطبتين: إحداهما للمأمون في عيد الفطر، والآخرى تهنئة بمقدم المأمون إلى بغداد.

خطبة المأمون

ألا وإن يومكم هذا يوم عيد وسنة وابتهال ورغبة، يوم ختم به الله صيام شهر رمضان، وافتتح به حج بيته الحرام، فجعله أول أيام شهور الحج، وجعله معقبًا لمفروض صيامكم، ومتنفل قيامكم؛ فاطلبوا إلى الله حوائجكم، واستغفروه لتفريطكم؛ فإنه يقال: لا كثير مع ندم واستغفار، ولا قليل مع تمادٍ وإصرار. اتقوا الله عبادَ الله، وبادروا الأمر الذي لم يحضر الشك فيه أحدًا منكم، وهو الموت المكتوب عليكم؛ فإنه لا يستقال بعده عثرة، ولا يُحظر قبله توبة، واعلموا أنه لا شيء بعده إلا فوقه، ولا يُعين على جزعه وعَلَزه وكُرَبه، وعلى القبر وظلمته، ووحشته وضيقه، وهول مطلعه، ومسألة ملَكيه إلا العمل الصالح الذي أمر الله به، فمن زلت عند الموت قدمه، فقد ظهرت ندامته وفاتته استقالته، ودعا من الرجعة ما لا يجاب إليه، وبذل من الفدية ما لا يقبل منه، فالله الله عباد الله، كونوا قومًا سألوا الرَّجعة فأُعطُوها إذ مُنِعها الذين طلبوها، فإنه ليس يتمنى المتقدمون قبلكم إلا هذا الأجل المبسوط لكم، فاحذروا ما حذركم الله منه، واتقوا اليوم الذي يجمعكم الله فيه لوضع موازينكم، ونشر صحفكم الحافظة لأعمالكم، فلينظر عبد ما يضع في ميزانه مما يثقل به، ومما يُملى في صحيفته الحافظة لما عليه، ولستُ أنهاكم عن الدنيا بأكثر مما نهتكم به الدنيا عن نفسها، فإن كلَّ ما بها يُحذِّر منها ويَنهَى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها، وأعظم ما رأته أعينكم من فجائعها وزوالها ذم الله لها والنهي عنها، فإنه يقول تبارك وتعالى: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ، وقال: أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ، فانتفعوا بمعرفتكم بها وبإخبار الله عنها، واعلموا أن قومًا من عباد الله أدركتهم عصمة الله فحذِروا مصارعها، وجانبوا خدائعها، وآثروا طاعة الله فيها، وأدركوا الجنة بما يتركون منها.

خطبة التهنئة

قال ابن أبي طاهر: دخل المأمون بغداد فتلقاه وجوهها، فقال له رجل منهم: يا أمير المؤمنين، بارك الله لك في مَقدَمك، وزاد في نعمتك، وشكرك عن رعيتك، تقدمت من قبلك، وأتعبت من بعدك، وأيأست أن يُعاين مثلك، أما فيما مضى فلا نعرفه، وأما فيما يبقى فلا نرجوه، فنحن جميعًا ندعو لك ونثني عليك، خصب لنا جنابُك، وعذب ثوابك، وحسنت نظرتك، وكرمت مقدرتك، جبرت الفقير، وفككت الأسير، والخيرُ بفنائك، والشر بساحة أعدائك، والنصر منوطٌ بلوائك، والخذلان مع ألوية حُسَّادك، والبرُّ فعلك، قد طَحْطَح عدوَّك غضبُك، وهزَم مغايبهم مشهدُك، وسار في الناس عدلُك، وشسع بالنصر ذكرك، وسكَّن قوارع الأعداء ظفرُك، الذهب عطاؤك، والدواة رمزك، والأوراق لحظك وأطرافك.

(٤) الكتابة

قلنا في كلمتنا عن الكتابة في صدر العصر العباسي: إن أسبابًا كثيرة وقوية — ذكرناها هناك — دفعت الكتابة فتعددت أغراضها وتنوعت أساليبها، ومال الكُتَّاب إلى السهولة في العبارة، والتأنق في اللفظ، والجودة في الرصف، وأطالوا في المقدمات، ونوَّعوا المبدأ والختام، والألقاب والدعاء، ومالوا إلى الغلو والمبالغة.

ثم قلنا بعد كلام: أما الإطناب في الكتابة فكان صفة غالبة في كل ما شمل بيعة أو عهدًا أو احتجاجًا، أو انتصارًا أو تقريرًا لمذهب، أو استهواء أو دفعًا لشبهة، أو طلبًا لنعمة … إلخ، وقد أثبتنا لك جملة صالحة من آثار العصر المأموني مما يقوم حجة على ما ذهبنا إليه، ونحيلك إلى رسالة أبي الربيع محمد بن الليث إلى قسطنطين ملك الروم، وإلى رسالة يحيى بن زياد الحارثي في تقريظ أمير المؤمنين الرشيد، وقد أثبتناهما لك، نقلًا عن النسخة الخطية من كتاب «المنظوم والمنثور» لابن طيفور، في باب المنثور في الكتاب الثاني من المجلد الثاني، كما أثبتنا لك في الكتاب الثالث من المجلد الثالث رسالة قيمة للمأمون تسمى «رسالة الخميس»، كان بعث بها إلى أهل خراسان كمنشور من الخليفة، ورسالة ممتعة لسهل بن هارون خازن بيت الحكمة في عهده، فراجع ذلك ثمة.

ولو قد ذهبنا نورد من آثار عصر المأمون الكتابية لعدونا القصد وأمللنا، فحسبنا ما أحلناك إلى مراجعته الآن، وهو فيه الكفاية لإثبات ما ذهبنا إليه، وقد أوردنا هذه الرسائل من غير أن نعرض لها بتحليل أو بيانٍ، فهي في وضوحها ودلالتها على ما أردنا من إيرادها غير محتاجة إلى شيء.

(٥) مجالس المناظرة و«أبهاء» الأدب والغناء والمنادمة

أما مجالس المناظرة ومكانتها السامية في العصر المأموني، فقد وقفت على طرف عظيم منه في الفصول التي عقدناها لك عن المأمون وعلمه وأدبه ودينه وسياسته، فمن نافلة القول وتكراره أن ننقلها لك هنا، وقصارانا أن نقول: إن المناقشات الحادة بين سيبويه والكسائي في شأن مسألة نحوية، وبين الشعراء والأدباء في تفضيل شاعر على شاعر، وبين السُّنيين والمعتزلة في القول بخلق القرآن، وأبْهاء الأدب عند الأمين والمأمون وأنصارهما، وأمراء العرب كأبي دُلَف وعبد الله بن طاهر وغيرهما، لتدل أوضح الدلالة على ما كان للمناظرة في هذا العصر من مكانة، حتى أصبحت من أهم مميزاته وكبريات آثاره.

وأما المنادمة والغناء، فقد سبق أن نقلنا لك ما رواه صاحب «التاج» عن حالة المنادمة في الصدر العباسي، وقد آن لنا أن نُتمَّ لك القول في حالتها في العصر المأموني، ونحيلك في الوقت نفسه إلى كتاب «حلبة الكميت»، و«الأغاني»، و«نهاية الأرب» وغيرها من كتب الأدب، فهي مترعة بأخبار الغناء والمنادمة، غنية بأخبار المنادمين والمغنين.

سئل إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن رأيه في حال المنادمة في تلك الأيام، فقال عن الأمين: ما كان أعجب أمره كله، فأما تبذله فما كان يُبالي أين قعد ومع من قعد، وكان لو كان بينه وبين ندمائه مائة حجاب خرقها كلها وألقاها عن وجهه، حتى يقعد حيث قعدوا، وكان من أعطى الخلق لذهب وفضة، وأنهبهم للأموال إذا طرب أو لها، وقد رأيته وقد أمر لبعض أهل بيته في ليلة بوقر زورق ذهبًا فانصرف به، وأمر لي ذات ليلة بأربعين ألف دينار فحملت أمامي، ولقد غناه إبراهيم بن المهدي غناء لم أرتضه، فقام عن مجلسه فأكبَّ عليه فقبَّل رأسه، فقام إبراهيم فقبَّل ما وطئت رجلاه من بساطه، فأمر له بمائتي ألف دينار، ولقد رأيته يومًا وعلى رأسه بعض غلمانه فنظر إليه فقال: ويلك! ثيابك هذه تحتاج إلى أن تغسل، انطلق فخذ ثلاثين بدرة فاغسل بها ثيابك.

ولقد حدثني علُّويه الأعسر، وهو أبو الحسن علي بن عبد الله بن سيف عنه قال: لما أُحيط به وبلغت حجارة المنجنيق بساطه كُنَّا عنده، فغنته جارية له بغناء تركت فيه شيئًا لم تُجِد حكايته، فصاح: يا زانية، تُغنِّينني الخطأ! خذوها فحُمِلت، وكان آخر العهد بها.

وسئل عن حال المنادمة عند المأمون فقال: أقام بعد قدومه عشرين شهرًا لم يسمع حرفًا من الغناء، ثم سمعه من وراء حجاب مُتشبهًا بالرشيد، فكان كذلك سبع حجج، ثم ظهر للندماء والمُغنين، قال: وكان حين أحب السماع ظاهرًا بعينه، أكبر ذاك أهل بيته وبنو أبيه.

ويقال: إنه سأل عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فغمزه بعض من حضر وقالوا: ما يغادر تِيهًا وبَأْوًا، فأمسك عن ذكره، قال: فجاءه زُرْزُر يومًا فقال له: يا إسحاق، نحن اليوم عند أمير المؤمنين، فقال إسحاق: فغنِّه بهذا الشعر:

يا سرحة الماء قد سدت موارده
أما إليك طريق غير مسدود
لحائم حام حتى لا حراك به
مُحلَّأٍ عن سبيل الماء مطرود

فلما غناه به زُرْزُر أطربه وبهجه، وحرك له جوارحه وقال: ويلك! من هذا؟ قال: عبدك المجفو المُطَّرح يا سيدي؛ إسحاق، قال: يحضر الساعة، فجاءه رسوله وإسحاق مستعد قد علم أنه إن سمع الغناء من مجيد مؤدٍّ أنه سيبعث إليه، فجاءه الرسول، فحُدِّثت أنه لما دخل عليه ودنا منه مد يده إليه ثم قال: ادنُ منِّي فأكبَّ عليه، واحتضنه المأمون وأدناه، وأقبل عليه بوجهه مُصغيًا إليه مسرورًا به.

وحسبنا هذا القدر، وإن أردت زيادة وإفاضة فإنا نحيلك إلى بعض أخبارها في الجزء السادس من كتاب بغداد مع ما ذكرناه لك من المراجع.

(٦) الشعر

أشرنا في كلمتنا عن حالة الشعر وفنونه في صدر العصر العباسي إلى ما أخذ يتحول هو إليه أيضًا تبعًا لمقتضيات العصر وظروف الزمان، ومسايرة للحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولِمَا جدَّ على أحوال الناس ومعايشهم من الغنى والترف، وما يستلزمه الغنى والترف من الاستمتاع بألوان اللهو واللذات، والافتنان في بناء القصور والسفن، وإنشاء الحدائق والمتنزهات. ولقد كان في مرجونا أن نفرد لك فصلًا خاصًّا نضمنه ما كان من الخلفاء في إقامة مبانٍ وقصور وحدائق ودُورٍ لم يكن للعرب بها ولا بنظيراتها سابقة عهد، وإنما ألجأتهم إليها المدنية والبذخ، وما أصابوه فيها من رفاهة عيش، وسعة يد، ووفرة غنًى، بيدَ أن ذلك يطول ويخرج بنا عما رسمناه لأنفسنا من القصد والإيجاز، مع الإلمام بكافة النواحي لهذا العصر.

على أنه من الميسور لك أن تتصور مبلغ ما وصل إليه الخلفاء العباسيون وأمراء البيت المالك ورجالات الدولة من الثروة والبذخ، بما أومأنا إليه في كلمتنا عن خراج الدولة وما كان فيها من استصفاء وأعطيات عظيمة.

وقد كانت أيضًا الحياة السياسية والفكرية حادة عنيفة، فقد اشتدت الملاحاة بين شيعة العلويين والعباسيين، وبلغ النزاع غايته بين أصحاب المذاهب وزعماء الآراء، ولا تنس أن تضيف إلى ما تقدم ما كان لترجمة العلوم اليونانية وغير اليونانية من أثر بعيد في أفكار الناس وأخيلتهم وأساليبهم، والدقة في تعبيراتهم، والتنظيم فيما لهم من آثار.

وقد كانت الآثار الشعرية لهذا العصر إلى حد ما مرآة صادقة لأحواله وما كان يجري فيه من شئون.

أسرف الناس في شرب الخمر فافتنَّ الشعراء في وصف الخمر ووصف كئوسها، وتخيَّر الناس السقاة من الغلمان ومن في زي الغلمان، فوصف الشعراء السقاة وتغزلوا في الغلمان، وولع الناس بالصيد، فوصف الشعراء الصيد وما يجري في مجال الصيد، وافتنَّ الناس كما قلنا في بناء القصور وغير القصور، ففتحوا المجال واسعًا لخيال الشعراء في شتى الأبواب، واشتدت المنافسة السياسية بين شيعة العلويين والعباسيين، فأخذ شعراء كل فريق ينضحون عن رأيهم، ويؤيدون مذهبهم، وألَّف العلماء في الفقه والأخلاق والكلام، فأخذ الشعراء يعالجون نظم الفقه والأخلاق والكلام، وهكذا تعددت أغراض الشعر، وتنوعت ألوانه.

وتحضَّر الناس في بغداد وغير بغداد من الحواضر الإسلامية، فرقَّت طباعُهم، ولانت أخلاقهم، ونبَتْ عن الحوشية أذواقهم، فرقَّ شعر أهل الحواضر، وسلست ألفاظه، وبعُدت من الحوشية، وترجمت العلوم اليونانية وغير اليونانية من فلسفة ومنطق وأخلاق، فكان لهذه العلوم أثرها في تنظيم أفكار الشعراء ودقة خيالاتهم.

ولو ذهبنا نورد لك شواهد على كل هذا وغيره لأطلنا وأمللنا، وإنما نحيلك على آثار شعراء هذا العصر، كأبي نواس في الخمر وكئوسها، وأوقات شرابها وسُقاتها، والغزل بالغلمان، والصيد والطرد، ووصف مظاهر الحضارة العباسية، وكدعبل الخزاعي والسيد الحميري في النزاع السياسي بين العلويين والعباسيين، وكأبي العتاهية في الأخلاق، وأبان بن عبد الحميد في نظم العلوم كالفقه وغير الفقه، وهذه الإحالة لا تمنعنا أن نورد لك أمثالًا من آثار هذا العصر الشعرية.

وهنا تعرض لنا ملاحظةٌ نرى إيرادها حتمًا علينا، وهذه الملاحظة هي أن الشعر في عصر المأمون كان مرآة صادقة للحياة وما يجري فيها من شئون إلى حد ما.

نقول: «إلى حد ما»، ويدفعنا إلى هذا القول معتقدنا القوي الذي تكوَّن لنا من دراستنا لروح هذا العصر، ذلك بأنا نرى كثيرًا من شعراء الحاضرة المجيدين في هذا العصر وفي العصر الذي قبله يَنحلون نتائج أفكارهم وما تجود به قرائحهم شعراء الجاهلية وأعراب البادية.

ونرى أيضًا أن كبار الرواة وأهل الأدب ينشدون الشعر الجيد لمحدث، فيعجبون به على أنه قديم أو لأعرابي، حتى إذا تبين لهم أنه لمحدث أنكروه وازورُّوا عنه.

هذا يدلنا على أن جماعة قوية يعتد بها في هذا العصر كانت تميل إلى إيثار الشعر القديم وشعر أعراب البادية على الشعر الجديد ورجال الشعر الجديد، وإذا كان هذا حقًّا كان من الطبيعي أن يعيش الشعراء من الناحية الشعرية في غير عصرهم، وأن يكونوا بأخيلتهم في غير حاضرتهم، لكي يتملقوا الروح الغالبة، ويظفروا برضا العلماء، وقد يكون لهؤلاء العلماء والرواة حظ كبير في صرف أذهان الناس إلى الشعر القديم.

وليس معنى ذلك أن شعر المحدثين لم تكن له مكانة رفيعة عند القوم، بل على النقيض كانت له منزلة رفيعة في النفوس.

لذلك نحن نميل إلى القول بأن خير من يمثل هذا العصر أولئك المجددون الذين لم يتقيدوا ببكاء الأطلال، والحنين إلى الرسوم؛ كأبي نواس وأضراب أبي نواس.

على أنه يجدر بنا أن نورد لك مثلين مما كانوا يتذوقونه في هذا العصر من شعر المحدثين وما قاله أبو دُلَف ناعيًا منهح التقعر، بعد إيرادنا لك ما وعدناك بإيراده من شعر لهذا العصر في شتى الأنحاء.

وقد نشرنا لك في باب المنظوم من الكتاب الثالث من المجلد الثالث أمثلة من شعر هذا العصر، كما نشرنا لك تلك القصيدة التي أنشدها محمد بن عبد الملك للمأمون يحرضه فيها على قتل إبراهيم بن المهدي حين ظفر به، فقال المأمون: لا والله أُشمِتُه به، بل أعفو عنه! وانظر إلى مطلع القصيدة تر الفلسفة اليونانية جاثمة فيه:

ألم تر أن الشيء للشيء علة
يكون له كالنار تُقدح بالزَّنْد

وكان للمأمون جارية تسمى عريبَ — كانت تعشق جعفر بن حامد — وكان يتعشَّقها، فلما وجدت من المأمون غفلة وضعت على فراشها مثال رخام يحسب من رآه من بعيد أنها نائمة، وكان جعفر بن حامد قد نزل إلى جانب قصر المأمون، فصعدت إلى السطح ونزلت في زنبيل، فلما قضى نهمَتَه منها قعدت في الزنبيل فصعدت ورجعت إلى مكانها، وطلبها المأمون قبل أن ترجع إلى فراشها فلم يجدها، فعلم إلى أين صارت، فقال أبو موسى حاكيًا لهذه القصة:

قاتل الله عريبا
فعلت فعلًا عجيبا
ركبت والليل داجٍ
مركبًا صعبًا مهيبا
فارتقت متَّصلًا بالنـْ
ـنَجم أو منه قريبا
صبرت حتى إذا ما
أقصَد النومُ الرقيبا
مثَّلت بين حشايا
ها لكي لا يستريبا
خلفًا منها إذا نُو
ديَ لم يُلفَ مجيبا
ومضت يحملها الخو
ف قضيبًا وكثيبا
مُحَّة لو حركت خِفـْ
ـت عليها أن تذوبا
فتدلَّت لمُحبٍّ
فتلقاها حبيبا
جذلًا قد نال بالد
نيا من الدنيا رغيبا
أيها الظبى الذي تسـْ
ـحرُ عيناه القلوبا
والذي يأكل بعضًا
بعضه حسنًا وطيبا
كنت نهبًا لذئاب
فلقد أطمعت ذيبا
وكذا الشاة إذا لم
يك راعيها لبيبا
لا يبالي وَبَأَ المَرْ
عَى إذا كان خَصيبا
ولقد أصبح عبدُ
الله كَشخانًا٢ حريبا
قد لعمري لطم الخدْ
د وقد شق الجيوبا
وجرت منه دموعٌ
بلَّت الذقن الخضيبا

ومما يعتبر من الهجاء السياسي قصيدة جحشويه الشاعر في يحيى بن أكثم قاضي المأمون بالبصرة، إذ فيه أيضًا هجو لآل العباس وخلافتهم، قال:

أنطقنى الدهرُ بعد إخراس
بحادثات أطلن وَسْواسي
يا بؤس للدهر لا يزال كما
يرفع ناسًا يحطُّ من ناس
لا أفلحت أمة وحق لها
بطول لعنٍ وطول إتعاس
ترضى بيحيى يكون سائسها
وليس يحيى لها بسوَّاس
قاضٍ يرى الحدَّ من الزناء ولا
يرى على من يلُوط من باس
يحكم للأمرد الظريف على
مثل جُوَينٍ ومثل عُدَّاس٣
فالحمد لله قد ذهب الـْ
ـجُود وقلَّ الوفاء في الناس
أميرنا جائرٌ وقاضينا
يلوط والرأسُ شرُّ ما راس
لو قصد الرأسُ واستقام لقد
قام على القصد كل مُرْتاس
ما أحسب الجور ينقضي وعلى الـْ
ـناس أميرٌ من آل عباس

وقد أثبتنا لك في باب المنظوم من الكتاب الثالث في مجلدنا الثالث مثلًا آخر من الهجاء قاله بعض الشعراء في يحيى بن أكثم، فراجعه ثمة.

وهناك نوع من الشعر يمثل لك ناحية من نواحي العصبية بين القبائل، وهو إلى حد ما يعتبر من الشعر السياسي، وهذا النوع مثل ما قاله مسلم بن الوليد في هجاء قريش والافتخار بالأنصار، ورد ابن قنبر عليه، وإنا نحيلك على موضع ذلك من مجلدنا الثاني للاطلاع عليه؛ لضيق المقام عن إيراده هنا.

وفي هذه القصة الآتية طرافة من الفراسة في العصر آثرنا إثباتها لذلك، وهي:

قال أبو السمراء: خرجنا مع الأمير عبد الله بن طاهر متوجهين إلى مصر، حتى إذا كنا بين الرملة ودمشق إذ نحن بأعرابي قد اعترض، فإذا شيخ فيه بقية على بعير له أورق، فسلم علينا فرددنا عليه السلام، قال أبو السمراء: وأنا وإسحاق بن إبراهيم الرافقي وإسحاق بن أبي ربعي ونحن نساير الأمير، وكنا يومئذٍ أفره من الأمير دوابَّ، وأجود منه كُسًا، قال: فجعل الأعرابي ينظر في وجوهنا، قال: فقلت: يا شيخ، قد ألححت في النظر، أعرفتَ شيئًا أم أنكرته؟ قال: لا والله ما عرفتكم قبل يومي هذا، ولا أنكرتكم لسوء أراه فيكم، ولكني رجل حسن الفراسة في الناس جيد المعرفة بهم، قال: فأشرت له إلى إسحاق بن أبي ربعي فقلت: ما تقول في هذا؟ فقال:

أرى كاتبًا داهي الكتابة بيِّنٌ
عليه وتأديبُ العراق منير
له حركات قد يشاهدْنَ أنه
عليمٌ بتقسيط الخراج بصير

ونظر إلى إسحاق بن إبراهيم الرافقي فقال:

ومظهر نسكٍ ما عليه ضميرُه
يحبُّ الهدايا بالرجال مكور
أخال به جبنًا وبخلًا وشيمة
تخبِّر عنه إنه لوزير

ثم نظر إليَّ وأنشأ يقول:

وهذا نديم للأمير ومؤنس
يكون له بالقرب منه سرور
وأحسبه للشعر والعلم راويًا
فبعضٌ نديمٌ مرة وسمير

ثم نظر إلى الأمير وأنشأ يقول:

وهذا الأمير المرتجى سيْبُ كفِّه
فما إن له فيمن رأيتُ نظير
عليه رداء من جمال وهيبةٍ
ووجهٌ بإدراك النجاح بشير
لقد عُصم الإسلام منه بذائد
به عاش معروف ومات نكير
ألا إنما عبدُ الإله بن طاهر
لنا والد برٌّ بنا وأمير

قال: فوقع ذلك من عبد الله أحسن موقع، وأعجبه ما قال الشيخ، فأمر له بخمسمائة دينار وأمره أن يصحبه.

هذا، وقد حدث بعضهم قال: احتج أصحاب المأمون عنده يومًا فأفاضوا في ذكر الشعر والشعراء، فقال بعضهم: أين أنت يا أمير المؤمنين من مسلم بن الوليد حيث يقول؟ قال: ماذا قال؟ قال: حيث يقول ورَثَى رجلًا:

أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه
فطِيبُ تراب القبر دلَّ على القبر

وهجا رجلًا بقبح الوجه والأخلاق فقال:

قبُحتْ مناظُره فحين خبرته
حسنت مناظره لقبح المخبر

ومدح رجلًا بالشجاعة فقال:

يجود بالنفس إن ضنَّ الجواد بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وتغزَّل فقال:

هوًى يجِدُّ وحبيب يلعب
أنت لقى٤ بينهما مُعذَّب

ومما كان يستحسنه المأمون من دعبل الحزاعي هجاء المأمون المعروف قوله:

ألم يأنِ للسَّفْر الذين تحمَّلوا
إلى وطنٍ قبل الممات رجوع
فقلتُ ولم أملكْ سوابق عبرة
نطَقن بما ضمَّت عليه ضلوع
تبيَّن فكم دار تفرَّق شملها
وشمل شتيت عاد وهو جميع
طِوال الليالي صَرفُهن كما ترى
لكل أناس جدبة وربيع
وقد حدث ابن طيفور عن مشيخته أن منصورًا النمري والحسن بن هانئ وأبا العتاهية وأبا زغبة٥ اجتمعوا فتذاكروا أبياتًا على وزن واحد، ففُضِّل أبو العتاهية عليهم، فقال النمري:
أعمير كيف بحاجة
طُلبت إلى صُمِّ الصخور
لله در عُدَاتكم
كيف انتسبن إلى الغرور
ولقد تبيتُ أناملي
يَجنينَ رُمَّان النحور

وقال أبو العتاهية:

لهفي على الزمن القصير
بين الخورنق والسدير
إذ نحن في غُرف الجنا
ن نعُوم في بحر السرور

وقال الحسن بن هانئ:

وعظتك واعظة القتير٦
وعلَتْك أُبهة الكبير
ورددت ما كنت استعر
ت من الشباب إلى المعير
ولقد تحل بعقوة الـ٧
ـألباب من بقر القُصور
صور إليك مؤنثًا
تُ الدَّلِّ في زي الذكور
أُرهِفنَ إرهاف الأعنـْ
ـنة والحمائل والسيور
أصداغهن معقربًا
تٌ والشوارب من عبير

قال المحدث: ولا أحفظ ما قال أبو زغبة، ففضَّلوا أبا العتاهية، وأبو نواس عندي أشعرهم.

وقد روى ابن طيفور أن عامل أبي دُلَف قد قصَّر في أمره، فبعث إليه من عزله وقيده وحبسه، فكتب إلى أبي دُلَف من السجن كتابًا تنطع فيه وقعَّر وطوَّل، فكتب إليه أبو دُلَف:

يا صاحب التطويل في كُتبه
وصاحب التقصير في فعله
وراكب الغامض من جهله
وتارك الواضح من عقله
لم يحظ من ألزمه قيده
بل صير القيد إلى أهله
قيده للحبس تقعيره
فالقيد لم يخرج من رجله
والله لا فارقه قيده
أو يقطع التقعير من أصله

وفي الختام نرى لزامًا في عنقنا أن نحيلك على ما قاله الشعراء وصفًا لثورة بغداد وحريقها، وعلى رثائهم للأمين، ونماذج أخرى لمختلف مقولاتهم في مختلف المناحي، وقد نشرنا لك من هذا جملة صالحة في باب المنظوم من الكتاب الثالث من مجلدنا الثالث، فإنها تعطيك صورة صادقة لدرجة الشعر في ذلك العصر، فراجعة ثمة.

هوامش

(١) يقول أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار: «لم يكن للشافعي اتصال بالمأمون.»
(٢) الكشخان — بفتح الكاف وبكسر: الديوث.
(٣) كذا في تاريخ بغداد وفي ابن خلكان ج٢، ص٣٢٦: «مثل جرير ومثل عباس.»
(٤) اللقى: الملقى المطروح.
(٥) كذا في تاريخ بغداد، وعلق عليه ناشره بأنه في ديوانه: «ابن زغيب».
(٦) القتير: الشيب.
(٧) العقوة: ساحة الدار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤