مخاطرة

كان الوقت أصيلًا، وكان النسيم خائرًا ضعيف المنة يمر بأطراف النخيل فيهتزّ له سعفها في كبر وسخرية، وكانت الشمس ترسل أشعتها صفرًا برَّاقة فوق الرمال الواهنة المجهودة، بعد أن طال بها النهار، واشتد قيظه واشتعل هجيره اللوَّاح. وسار مع المتنبي عشرون بعيرًا لحمل الزاد والماء، وخمسة عشر جوادًا يمتطيها خدمه وعبيده، وقد اكتملت لهم عدّتهم من السيوف والرماح، وتقدم المتنبي الركب وخلفه محسد ومسعود، وكان ينظر إلى الأفق البعيد حيران ذاهلًا متجهم الوجه حزين النفس، يردد الحسرات، ويرسل الزفرات.

لم يكن حديث عقد بالصحراء وجفوة الصحراء، ولم يكن قليل الخبرة بحياة شذّاذ الأعراب وصعاليكهم الضاربين في أنحائها وما لهم من أخلاق وعادات، وما يتصفون به من ختل وتلصص واستباحة للأموال، فإن لصعاليك الصحراء قوانين وشرائع غير ما تعارف عليه الناس من قوانين وشرائع، ومن العجيب أن هذه الشرائع كثيرًا ما تكون متضاربة متناقضة، فهم يقتتلون لأوهن سبب، ويصفحون لأوهن سبب، ويغتصبون الأموال حرامًا ليبعثروها في الكرم والضيافة حلالًا، وقد يحمون الجراد ولا يحمون بني الإنسان، فإدراكهم لمعنى الشرف إدراك غريب كثيرًا ما يؤدي بهم إلى فعل كل ما يخالف قواعد الشرف.

عرف المتنبي حياة الصحراء وأخلاق الأعراب في طليعة صباه، حينما كان يتنقّل بين القبائل في بادية الكوفة ليتلقى اللغة من أفواه رجالها، ثم عرف الصحراء حينما أقام طويلًا في بادية السماوة بالشام بين بني كلاب؛ لهذا لم يكن على الصحراء دخيلًا، ولم يكن عن عادات الأعراب بعيدًا.

سار الركب في هذا البحر المائج الخضم بالرمال، وذلك التيه الذي يضل فيه الخرّيت ويزوغ البصر، وفي تلك الموماة التي يقول في مثلها أبو الطيب: «يهماء تكذب فيها العين والأذن». وقد طمست الأعلام، وانمحت الصور، وزالت الآثار، ولم يبق إلا أن يعتمد الضارب فيها على الشمس أو بعض نجوم السماء. فضاء فسيح كأنه أمل الأحمق، وأرض مجدبة كأنها كف الشحيح، وصخر أصم كأنه قلب اللئيم، ورمال صفر كأنها بطون الحيّات. إنها أرض من الأحلام وجو من الأوهام، جفّت فيها الحياة وجفتها الحياة، فلا نبات ولا عشب، ولا شوك ولا قتاد، لا يمر بها طير إلا خائفًا عابرًا، ولا وحش إلا منطلقًا واجفًا، كأنها نُسيت عند خلق الطين والماء فليس بها أثر للطين ولا قطرة من الماء. تبدو الكثبان بها وسنى مكدودة تمد رؤوسها إلى السماء كأنها تتضرّع طالبة الفرار، وتبدو الوهاد بها مظلمة مخيفة كأنها أشداق الأسود. جفوة وشقاءً ومحول وجمود وقسوة، ثم صمت ورعب وسكون هو سكون الموت، ووحشة القبور.

سار المتنبي يتقدم ركبه في هذا التيه، ولم يبق في صدره من الآمال الضخام إلا أمل واحد ضئيل خافت هو أن يعيش، هو أن يستطيع أن يخترق هذه الصحراء وفيه ذماء من حياة، هو أن ينجو بجلده من هذا الخطر الداهم والبلاء الواقع، لم يبق من مطامعه أن يكون أميرًا أو ملكًا، ولم يبق من آماله أن يكبت أعداءه ويدوس بقدمه فوق آنافهم، ولم يبق من وساوس نفسه أن يترك في الدنيا «دويًّا كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر» طارت كل هذه الأحلام أمام عظمة الصحراء ومخاوفها؛ لأن الصحراء كالبحر الهائج المضطرب ترتعد لهوله الحياة، ويتوارى عنده الأمل، وتخشع النفوس.

وبدا القمر موشكًا على الاكتمال فلف الصحراء في غلالة من نور، وكان المتنبي فوق صهوة جواده يرمي طرفه هنا وهناك، كما ينظر الصقر من قنته إلى ما حوله من فضاء فسيح، وكان يهمهم بكلمات تقطعها زفرة حينًا، وزمجرة أحيانًا، فقرب منه محسد، وقال: ألا نحط الرحال هنا يا أبي فقد انتصف الليل وكلّت الرواحل؟

– إن سير الليل أروح للعبيد والدواب، وكلما بعدنا عن الفسطاط زال الحذر وسرنا في أمن واطمئنان.

– إننا نسير في طريق لم تطأها قدم مسافر، فمن أين ليد كافور أن تمتد إلينا؟

– إنني أشعر بشيء من الراحة كلما بعدت الشقة بيني وبين الأسود؛ لأنني أريد أن أنسى أني رحلت إلى مصر وأني قصدت الأسود، ويخيل إليَّ أن بين المسافات والفكر اتصالًا، وأنه كلما شسعت المسافات بينك وبين شيء قل تفكيرك فيه.

– اترك كافورًا يا أبي لشأنه، فأنت أعظم وأنبل من أن تحقد على الرجل أو تلقي لمثله بالًا.

– لن يفلت من يدي هذا الوغد الذي جعل مني أضحوكة للشعراء والأمراء. إن أباك يا محسدًا إذا مسّت كبرياؤه فقد مس منه مكان السم في الأفعى. انقل عني يا محسد وأذع:

وأسود أما القلب منه فضيق
نخيب، وأما بطنه فرحيب
إذا ما عدمت الأصل والعقل والندى
فما لحياة في جنابك طيب

– يلوح لي أنك تخفف بهجائه عن نفسك بعض ما تجد.

– نعم يا بني إن هجاءه يروِّح عن نفسي، ولا بد للمصدور أن ينفث، وللحزين أن يرسل الدموع.

– حقًّا لقد أساء إليك، وأغرى بك حثالة الشعراء، ومسترزقة العلماء. كنت منذ شهر أسير بخطة مسجد عبد الله مع الشريف إبراهيم العلوي، فقابلنا الشيخ المعتوه الموسوس محمد بن موسى الذي يلقبونه بسيبويه، وكان على حماره، وهو لا ينزل عنه لأمير أو عظيم، فسلَّم عليه الشريف، ولما عرّفه بي صاح: أنت ابن المتنبي! أهلًا أهلًا بابن شاعر الغبراء! لله أبوك فإنه يأتي في شعره بالعجب العجاب. بالله سل أباك يا بني عن قوله في كافور:

يقلّ له القيام على الرءوس
وبذل المكرمات من النفوس

أكان يريد حقًّا أن يقف للأستاذ على رأسه، وأن يطلق رجليه في الهواء؟ يا له من مبتكر بارع! ويا لها من صورة بديعة! ويا لها من مهارة فائقة لا يستطيع أن يباريه فيها إلا «الأزعر الطمطماني» أعظم مضحك بالمدينة! واجتمع الناس حوله لارتفاع صوته وكثرة إشارته، ثم انطلق يقول: كان أبوك بالأمس خيرًا منه اليوم حين قال لأبي الحسين المري:

خير أعضائنا الرءوس ولكن
فضلتها بقصدك الأقدام

ثم هلم إليَّ يا بنيّ هلم! أللإنس يقول أبوك الشعر أم للجن؟ أيقوله ليفهمه الناس أم ليتمتموا به على رءوس المرضى والمصروعين لطرد المردة والشياطين؟ أشهد أني حللت الطلاسم، وفككت الألغاز، وتعلمت لغة الجن، وقرأت خطوط الفراعنة، ولكني لم أفهم قول أبيك:

لا تجزني بضنى بي بعدها بقر
تجري دموعي مسكوبًا بمسكوب

لقد كنا نشمئز من أن يتغزّل الشعراء في الغزلان حتى جاء أبوك فتغزل في البقر! ثم إني أتحدى السيد الشريف، وهو ابن أفصح قريش، أن يدلني على معنى لهذا الكلام الخنفشاري! فخجل الشريف، وزاد في خجله ازدحام الناس وانتصار بعض طلاب العلم لشيخهم الموسوس، فقال: إن في البيت خفاء من غير شك، ولكن الشاعر يسأل الله ألا تجزيه الحسان بالضنى الذي حل به ضنى يحل بهن، كما جزين دمعه المسكوب بدمع سكبنه لفراقه. فصاح المجنون: الله الله! سبحان الفتّاح العليم! سبحان المنعم المتفضِّل واهب القوى والقدر! ألا قال كما يقول الناس:

لا قدر الله أن تضنى ضناي بها
كما جزتني مسكوبًا بمسكوب

على أن المعنى بعد كل هذا ضئيل سخيف، لو رأيته ملقى على قارعة الطريق ما مددت يدي لالتقاطه. ثم أنحى بعصاه على حماره وهو يصيح: أسرع بنا أيها الحمار قبل أن يفسد ذوقي وذوقك!

وما كاد يتم محسد حديثه حتى زفر المتنبي، وقال في كبر وأنفة: هؤلاء يا بنيّ لا يفهمون معنى الشعر، فإن من أولى خصائصه وأكبر ما يدفع فيه إلى اللَّذة والاستمتاع، أن يكون خفيًّا تضطرب في إدراكه العقول.

واستمر الركب يقطع البيداء، يقيل وقت الظهيرة، ويعرّس في أخريات الليل، حتى رأى العبيد نخيلات عن بعد فصاحوا في جذل وابتهاج: لقد بلغنا منابت العشب! سنرى بعد قليل الزرع والماء! وسنجد بعد قليل نخلًا نلجأ إلى ظلها الظليل! ولقد كانوا في تفاؤلهم صادقين، فقد بلغوا ما يعرف «بنخل» ولكنهم ما كادوا يصلون إليه ويحمدون عاقبة السرى، حتى وجدوا عنده شرذمة من لصوص الأعراب تسقي خيلها، وما إن رأتهم حتى وثبت عليهم تبغي انتهاب ما معهم من خيل وإبل وغنائم، فقاتلهم المتنبي وعبيده وأثخنوا فيهم، فسقط من سقط منهم، وفر الباقون يلتمسون النجاة. وفرح العبيد بانتصارهم، واندفعوا إلى الماء يشربون ويسقون دوابهم ويغمسون رءوسهم فيه حبًّا له وشوقًا إليه، ثم أخذوا يرقصون ويغنون على طريقتهم في الرقص والغناء.

ونزل أبو الطيب بنخل ضيفًا على أبي النجم ملاعب الأسنة، وهو كبير الأعراب في هذه الحلة، فأحسن ضيافته، وأكرم مثواه. وبعد أيام نال فيها العبيد شيئًا من الراحة أمر المتنبي بالمسير وشد الترحال، فعادت الخيل إلى خبها، والإبل إلى وخيدها، وكان السير مملًّا مضنيًا، والطريق وعرًا موحشًا، لا ترى فيه العيون إلا هياكل بشرية لقوم قتلهم ظمأ الصحراء، أو إبل قضى عليها طول السفار.

ومضت هكذا أيام وأيام نال فيها طول الطريق وقلة الزاد من العبيد، فضويت أجسامهم، ونفد صبرهم، وشكست أخلاقهم وبدت فيهم روح السخط والتمرد، وكان يسيطر عليهم ويتزعم جماعتهم عبدان، هما: مجاهد وشعلان، وكانا أقواهم نفسًا، وأشدهم عزمًا، وأمضاهم ذكاءً وتدبيرًا، وأمهرهم لعبًا بسيف أو تحكمًا في جواد.

وأحسن المتنبي بوادر هذا العصيان، فأمر ابنه ومسعودًا أن يراقبا العبيد عندما يخلون إلى أنفسهم.

واجتمع العبيد في معرّسهم ذات ليلة، وأخذوا يشكون ويتذمرون، وكان مسعود مختفيًا خلف بعير يسمع ولا تراه عين، فقال مجاهد: إن هذا المتنبي الأخرق يسوقنا إلى الدمار. فأجابه شعلان: لقد ضلّ الطريق ما في ذلك شك، ولن تكون نهايتنا إلا مثل تلك العظام التي نراها في الطريق، والتي كان لها لحوم فأكلتها الصحراء، والعجيب أنني كلما نصحت لعبده مسعود أن ننيخ الإبل للراحة، وأن نبحث عن دليل يرشدنا إلى مكان ينقذنا من هذا التيه، ونجد فيه ما تقتات به الدواب، عبس في وجهي وقال في تيه وصلف: أتظن أنك أعلم من سيدي بمجاهل الصحراء ومناهلها؟ إنك لو نبست بشيء من هذا الكلام أمامه لجعلك طعامًا لسيفه. فزمجر العبيد في سخطٍ واستنكارٍ وهمسوا: ماذا نفعل إذًا ونحن أمام موت محقق؟ فقال مجاهد: يجب أن نثور ونحن والحمد لله جمع يبلغ الخمسة والثلاثين، ولا نعجز عن أن نقتله ونقتل ابنه وعبده. فقال أحد العبيد في صوت خافت: ثم نأخذ جميع ما جمعه من أموال مصر وكنوزها، فقال مجاهد: وماذا تنفع الكنوز في هذه الصحراء الجرداء الماحلة؟ فأجاب شعلان: إني أعرف طريق العودة إلى نخل.

– إذًا تكون الثورة غدًا حينما يأمرنا هذا المخاطر المجنون بالرحيل.

وسكت القوم وهومت رءوسهم للنوم، وانطلق مسعود إلى سيده فنفض إليه جملة الخبر، فأطرق المتنبي طويلًا ثم رفع رأسه، وقال: سنذهب معًا حينما يسيطر النوم على هؤلاء الكلاب ونستولي على ما نستطيع من سيوفهم، فإن العقرب لا تلسع إذا قطعت حمتها. اذهب عني الآن يا مسعود وأيقظ محسدًا وسأكون معكما بعد قليل.

ومرّ من الليل ساعة، فغادر المتنبي رحله وقابل ابنه ومسعودًا، وانسلّوا تحت ستار الظلام إلى معرس العبيد فرأوهم نيامًا، وقد ألقى كل سائف منهم سيفه إلى جنبه، فمشوا بينهم في هدوء لا يسمع له ركز ولا تحس نأمة، وندلوا سيوفهم واحدًا بعد واحد. والعبيد في سبات كاد يجعله السغب والكلال موتًا. وتبلّج ضوء الصباح، وتيقظ العبيد فتفقدوا سيوفهم فلم يجدوها فذعروا أول الأمر، ثم عرفوا أن المتنبي شعر بمكيدتهم فسلبهم سلاحهم وهم رقود، فقال مجاهد: لقد سرق سيدنا الأحمق أسلحتنا ونحن نيام، ولكن هذا لن ينجيه من أيدينا، إن بضعة رجال منا يكفون للقبض عليه، ولو كان متسلحًا بسيوف الهند كلها. هلموا إلى الثورة أيها الشجعان!

فقام العبيد وكان المتنبي قد أخذ لهم الأهبة، فما كادوا يصلون إليه وإلى من معه حتى أركضوا فيهم جيادهم، وأخذوا يضربون بالسيوف يمينًا وشمالًا، فبهت العبيد وذعروا وتملكهم الوهل، وفر بعضهم، وقبض أبو الطيب على مجاهد وشعلان وبعض الثوار، وأمر أن يقيدوا وأن يضربوا بالسياط حتى تتهرأ أجسادهم، وتضرّع له العبيد وتذللوا وأعلنوا التوبة، وشفع فيهم محسد فأطلقهم فانكبوا على يديه يقبلونها خاضعين آسفين.

ولم تمض أيام حتى بلغ المتنبي «حسْمَى» وهي أرض طيبة كثيرة الماء تحيط بها الجبال الشامخة، وينبت بها كثير من النبات وَالفاكهة، فنزل بها القوم بعد أن نهكتهم الصحراء وشفهم طول السفر وبعد الطريق. وكان بنو فزارة يخيمون بحسمى، وكان لأبي الطيب صلة قديمة بأميرهم حسّان بن حكمة، فنزل على جار له حتى لا يجر على صديقه غضب كافور إذا علم بنزوله عنده، وكان هذا الجار يدعى «وردان بن ربيعة الطائي» وكان لئيمًا خسيس الطبع جشعًا خائنًا، فما كاد يرى حمول المتنبي وذخائره حتى وسوس إليه الجشع أن ينتهب منها ما يستطيع، وبأي وسيلة يستطيع، فأظهر الحب والمودة لعبيد أبي الطيب، وكان يدعوهم إلى خبائه ويدفع زوجه وكانت ذات ملاحة إلى مجالستهم ومجاملتهم وإغرائهم، وتمكن بهذه الذرائع الخبيثة من دفع العبيد إلى استراق كثير من أموال المتنبي وأمتعته، وكان للمتنبي سيف مقبضه ونعله من الذهب الخالص، فطمع فيه وردان وزين لشعلان سرقته، فتربّص ذات ليلة حتى علم أن القوم أدركهم النعاس، ومشى في رفق وحذر ثم استرق السيف من الرحل، ودفعه إلى مجاهد وأمره أن يركب ويسرع إلى وردان، ثم همّ بأن يسرق فرس المتنبي ليفر به، ولكن المتنبي رآه وهو يحاول حل رسن الفرس فزجره فلم يزدجر وبدا في وجهه الغدر والعناد، فضرب وجهه بالسيف فشطره شطرين، وخرّ العبد صريعًا، فقال:

لئن تك طيئ كانت لئامًا
فألأمها ربيعة أو بنوه
مررنا منه في حسمى بعبد
يمج اللؤم منخره وفوه
أشذّ بعرسه عني عبيدي
فأتلفهم ومالي أتلفوه
فإن شقيت بأيديهم جيادي
لقد شقيت بمنصلي الوجوه

وأسرع المتنبي بالرحيل عن حسمَى بعد أن أقام بها شهرًا، وزادت وساوسه واضطربت نفسه حينما اطلع على كتاب لكافور يطلع فيه إلى رؤساء القبائل النازلين بالصحراء القبض عليه، وإرساله إلى الفسطاط مكبّلًا، بعد أن أغراهم بالعطاء الجم والمال الكثير.

وكانت للمتنبي ثقة بفتى من بني فزارة يسمى «فليتة بن محمد»، فسأله أن يصحبه في الطريق، وأن ينحرف به عن المسالك التي يطرقها العاوون وراءه المتعقبون لأثره.

وانطلق الركب بين الحذر والوجل، وأرسل المتنبي نظره إلى نواحي الأفق البعيد خائفًا مذعورًا، «إذا رأى غير شيء ظنه رجلًا» كما يقول، وما مر بالقوم يومان حتى صاح فليته ذات صباح، وكان مطرح النظر، يرى بعيني زرقاء اليمامة: إني أرى عن بعد سربًا من الخيل يسير إلى جانب الجبل، وأحسب فرسانه من أعوان كافور، فمد المتنبي عنقه، وحدّق بعينيه وقال: صدقت يا ابن محمد. يجب أن نختفي جميعًا وراء هذه الأكمة وهي منا جد قريب. ومال بجواده نحوها فسار خلفه العبيد وهم لا يعلمون من الأمر شيئًا، ووقف هو ومن معه خلف الأكمة ساعتين أو أكثر، ثم أرسل مسعودًا ليكشف له أمر الفرسان فلم يجد لهم أثرًا. فقال فليته: أغلب الظن أنهم عادوا من حيث أتوا بعد أن يئسوا من الطلب. وزفر المتنبي وقال: ألا يزال هذا الأسود يطلبني ويسأل عني كل رملة من رمال الصحراء؟ تعس العبد. والله لن ينال مني ظلًّا.

قطعت بسيري كل يهماء مفزع
وجبت بخيلي كل بيداء بلقع
وثلمت سيفي في رءوس وأدرع
وحطمت رمحي في نحور وأضلع
وفارقت مصرًا والأسيود عينه
حذار مسيري تستهل بأدمع
ألم يفهم الأفعى مقالي وأنني
أفارق من أقلي بقلب مشيع؟
ولا أرعوي إلا إلى من يودني
ولا يطبيني منزل غير ممرع
أبا النتن، قد قيدتني بمواعد
مخافة نظم للفؤاد مروع
وقدرت من فرط الجهالة أنني
أقيم على كذب رصيف مصنع
وأترك سيف الدولة الملك الرضا
كريم المحيا أروعا وابن أروع
فتى بحره عذب، ومقصده غنى
ومرتع مرعى جوده خير مرتع

ورحل القوم بعد أن هدأت أنفاس دوابهم، فواصلوا السير حتى وردوا «البويرة» بعد ثلاث ليال، فأقاموا بها يومين ثم رحلوا عنها يغذّون السير ويطوون المراحل إلى أن نزلوا «بسيطة»، وهي أرض تقرب من الكوفة، فانزاح الهم قليلًا عن صدر أبي الطيب، وابتهج العبيد بقرب انتهاء الصحراء، وأخذوا يرقصون وينغمون أصواتًا يظنونها غناءً وتطريبًا، وقد زاغت أبصارهم من وهج الصحراء وشدة قيظها، فرأى بعضهم نعامة فظنها نخلة، ورأى ثورًا فظنه منارة مسجد.

ثم أمر أبو الطيب بشد الرحال فانطلق الركب، وما زال ينتقل من حلة إلى حلة، ومن منهل إلى منهل، حتى بدت له معالم الكوفة بمآذنها وقبابها، فكبَّر القوم وهللوا، وصاح محسد: هذه هي الكوفة! هنا ولد أعظم شاعر! هنا ولد شاعر العرب الذي تفتّحت له سماوات الوحي، وتدانت له قطوف الإلهام! لقد قهرنا الصحراء وأذللنا صعابها وشققنا منها قلبًا لم يشقه منسم ولا حافر، وألقينا على كافور درسًا لن ينساه، وعلمناه أن أظافره وإن طالت لم تمس للبطل العربي الهمام شسعًا!

ودخل المتنبي الكوفة بعد أن قضى في الصحراء ثلاثة أشهر، وبعد أن نجا من أهوالها كمن ينجو من ماضغي أسد، أو يقذف به اليم إلى الساحل بعد صراع عنيف. دخل الكوفة شامخ الرأي تياهًا، وهو يقول:

ألا كل ماشية الخيزلي
فدى كل ماشية الهيدبي
ضربت بها التيه ضرب القما
ر إما لهذا وإما لذا
لتعلم مصر ومن بالعراق
ومن بالعواصم أني الفتى!
وأني وفيت، وأني أبيت
وأني عتوت على من عتا
وماذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكى؟
بها نبطي من أهل السواد
يدرّس أنساب أهل الفلا
وأسود مشفره نصفه
يقال له: أنت بدر الدجى
ومن جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤