استفزاز

بلغ الركب بغداد في أصيل يوم من ربيع الآخر سنة ثنتين وخمسين وثلاثمائة، ونزل أبو الطيب وابنه وعبيده في خان من أفخم خانات المدينة، وكانت بغداد في ذلك الحين لا تزال تحتفظ ببقية من عظمة العباسيين وحضارتهم ومجدهم الأثيل مع ما أصابها من ظلم معز الدولة، وإقطاع قواده وجنوده القرى جميعها، ومصادرته الغاشمة للأموال، وكانت عش العلماء وموئل الأدباء والشعراء وملتقى أمم الأرض من كل أفق ودين، وكانت تزخر في هذا الحين بالجواسيس وأصحاب الأخبار، فمنهم جواسيس لمعز الدولة، وجواسيس لكافور، وجواسيس لسيف الدولة، وجواسيس لعضد الدولة ملك فارس، وآخرون للفاطميين ملوك المغرب.

وصل المتنبي بغداد فتشمَّم الجواسيس الخبر ونقله بعضهم إلى معز الدولة، وأرسله بعضهم إلى ممالكهم على أجنحة الطير، وما كاد معز الدولة يتلقى الخبر حتى بعث في طلب وزيره المهلبي. وكان معز الدولة في التاسعة والأربعين، قوي البناء قوي الشكيمة أصلع الرأس شديد احمرار الوجه له عينان كأنهما عينا نمر، وكان مقطوع اليد اليسرى وبعض أصابع اليمنى، شرسًا سريع الغضب حقودًا شحيحًا، ولم يكن إلا قائدًا ماهرًا وشجاعًا واسع الحيلة، أما الشعر وأما الأدب فكان بينه وبينهما بَوْنٌ بعيد. نشأت به وبأخويه دولة بني بويه، وكان في أول نشأته فقيرًا يعيش من جمع الحطب وبيعه، وحينما استولى على بغداد انتزع الحكم من أيدي الخلفاء واستبد به. فخلع الخليفة المستكفي بالله وسمل عينيه، وولى مكانه الخليفة المطيع على أن يكون شبحًا من أشباح الماضي لا ينقض ولا يبرم. أما وزيره المهلبي فكان رجلًا أديبًا شاعرًا لين الجانب خصيب الجناب، عرف البؤس مُرًّا أيام شبابه فتمسك بمنصبه حريصًا عليه وعطف على الأدباء البائسين، وكان مجلسه منتدى رحيبًا للعلماء والأدباء والشعراء أمثال أبي الفرج الأصفهاني والسري الرفاء وابن البقال وابن سكرة وابن الحجاج.

دخل المهلبي على معز الدولة، فسمعه عن بعد وهو يهدر هدير البعير، فلما رآه صاح: لقد قدم المتنبي بغداد الساعة فماذا ترى؟ أليس في قصري من شعراء بغداد والمتطفلين عليها من يزيدون على الحاجة؟ لقد أصبحت معدتي لا تستطيع هضم أشعارهم، وهذه الأموال التي تبعثر في كل عام عليهم أولى بها أن تتدفق على القواد والجنود.

– يا مولاي إن المتنبي شاعر مر اللسان مر العود شائك الجانب، فإذا لم تقبل عليه وتملأ فمه بعطاياك فربما خرج عن جادة الأدب، وشعر هذا الملعون له أجنحة لا تمل الطيران.

– إنه عرَّض بي وكاد يصرِّح بهجائي في بعض مدائحه لهذا العربي المفتون الذي يدعو نفسه سيف الدولة، فلن يطأ بساطي. ولن ينشد أمامي شعرًا. إن له أن يقيم ببغداد كما يشاء، ففي بغداد من هم شر منه من حثالات الأقطار ونفايات الأمم.

– إن الرجل يا مولاي ليس ممن يستهان بأمرهم، وليس ممن توصد الأبواب في وجوههم، فقد بلغ منزلة من المجد الشعري يجب أن نخضع لها راضين أو كارهين، والذي أشير به ألا نبدأ الرجل بالعدوان، وألا نلقي بأنفسنا عند أقدامه متزلفين متملقين كما فعل الغر سيف الدولة، وكما فعل المأفون الجاهل كافور، فكان جزاؤهما منه الجفاء وشر الهجاء. والذي أنصح به أن ننتظر ونترقب، فإذا جاء إلى القصر مستجديًا متواضعًا كما يجيء غيره من الشعراء، والتمس الإذن بمديح مولانا فتحنا له الأبواب مرحبين، وأجزلنا له الصلة مغدقين، أما إذا لم يفعل شيئًا من ذلك فليس له عندنا إلا أن نترك لجواسيسنا مراقبته من بعيد، وأن نجعل إقامته ببغداد جحيمًا لا تطاق.

– أليس بين شعراء بغداد وأدبائها من يبلغ منزلة هذا المتنبي، ومن يستطيع أن يحطم صلفه وكبرياءه؟ فإن من العار أن يقال: إن دار الخلافة أقفرت من الشعراء فلم يقف فيها شاعر في وجه هذا المغامر الآفاق.

– إن شعراء بغداد يا مولانا كالكلاب المضراة، وهم رهن إشارتي، ولكني لا أعطي هذه الإشارة إلا في وقتها، ويجب أن ننتظر كما قلت.

– فلننتظر إذًا، وإني سأترك لك الأمر كله. وانتهى الحديث فخاضا في شئون أخرى.

وعلم علي بن حمزة اللغوي بقدوم المتنبي، فأسرع إلى الخان وطلب منه أن ينزل بداره فقبل بعد رجاء وإلحاح. وكانت دار ابن حمزة في ربض حميد بالجانب الغربي. فأقام بها أبو الطيب مدة ثوائه ببغداد، وكان يتردد عليه كل يوم شعراء المدينة وأدباؤها ورجال اللغة فيها، واتصل به في هذه الفترة تلميذه أبو الفتح عثمان بن جنى، وكان شابًّا لم يجاوز السادسة والعشرين يتوقد ذكاءً ويلتهب غيرةً على التحصيل والمدارسة، واقتنص علي بن حمزة الفرصة، فروى عنه ديوانه ووقف منه على ما أشكل عليه من ألفاظه ومعانيه، ومرّت بالمتنبي أيام وهو على تلك الحال حتى فاجأه ابن حمزة يومًا سائلًا: ألا تريد أن تزور الوزير المهلبي؟

– إني أنتظر أن يدعوني إليه.

– إن الوزراء والأمراء في بغداد لا يدعون الشعراء، وقد جرت عادة العظماء مثلك أنهم إذا نزلوا بلد ملك أو أمير أن يبدءوه بالزيارة.

– إنني لن أبذل نفسي رخيصة، وكان يجب على المهلبي بعد أن علم بوصولي أن يلح في أن أكون ضيفه، وأن يفرد لي جناحًا بقصر الخلافة. فنظر إليه ابن حمزة في عجب ودهشة، وقال: إن وزيرنا المهلبي رجل شاعر أديب سخي الكف، ولكنه إلى كل ذلك مغال في تقدير كرامته معتز بكبريائه، يرى أن من دون مقامه أن يستجدي شاعرًا أو يتملق أديبًا، على أني أعتقد أنه ينتظر زيارتك في قلق وشغف.

– فلينتظر إذًا طويلًا فإني لا أزور هذا الخليج الماجن.

– لا يا أبا الطيب، إنك رجل جم الآمال بعيد المطامح، وقد قضيت الحياة في كد ووثوب، فبلغت من بعد المنزلة مكانًا قصيًّا، ولكنك لم تصل بعد إلى الغايات التي أقرؤها في شعرك. لقد سقطت من سلم الطموح مرتين كنت فيهما موشكًا على القمة: مرة عندما غضبت على سيف الدولة، ومرة عندما غضب عليك كافور، فإيّاك وأن تسقط الثالثة! إن لنا أملًا كبيرًا في المهلبي وفي معز الدولة، وإن رجلًا مثلك لو ظفر بمودتهما لظفر بكل شيء. فإذا كنت قد طمعت عند كافور في ولاية، فهنا مصدر الولايات، وهنا النبع الفيّاض برفيع المناصب، وهنا خلافة المسلمين التي جعلت كافورًا ملكًا، وسيف الدولة أميرًا.

– كنت أحب أن يبدأ مهلبيكم بدعوتي، والذي أخشاه الآن ألا أقابل بما يليق بمثلي من الكرامة.

– هذا وهم يا سيدي. إن شهرتك غرست في قلوب الناس منك رهبة ولم يخل منها قلب أمير أو وزير. اذهب إليه يا أبا الطيب غدًا.

– سأذهب.

وفي صباح اليوم الثاني ركب أبو الطيب في عظمة تشبه عظمة الملوك وخلفه العبيد والخدم بين فارس وراجل، وقصد إلى قصر الخلافة فاستقبلته حاشية الوزير في إكرام وحفاوة، وأسرع المهلبي فأذن له فدخل عليه المتنبي في تؤدة وجلالة سمت مرتفع الصدر شامخ الأنف، كأنه أسد بن عمار الذي يقول فيه:

يطأ الثرى مترفقًا من تيهه
فكأنه آسٍ يجس عليلًا

فحيا الوزير ورد الوزير تحيته في شيء من الفتور بعدما رأى من تشامخه وتعاظمه، وتقدّم المتنبي فجلس إلى جنبه حتى التصقت ركبته بركبته، وكان بالمجلس أبو الفرج الأصفهاني وابن البقال الشاعر، واتجه المهلبي إلى أبي الطيب، وقال في تهكم لا يكاد يلمح: لقد زرت بغداد منذ شهر يا أبا الطيب ولم تزرنا، أتعد هذا تجنبًا أو تجنيًا؟

– الأعذار كثيرة يا سيدي.

– الأعذار تقول: يا أبا الطيب إنك بخير وعافية، وإنك تقضي وقتًا طويلًا كل يوم في دراسة شعرك مع ابن حمزة وابن جنى. كيف تركت الأسود بمصر؟

– تركته وهو لا يزال أسود.

– ألا تزال تهدِّد الناس بشعرك يا أبا الطيب؟

– إن شعري مرآة أخلاق الناس، وليس على المرآة من ذنب إذا كشفت وجهًا دميمًا.

– أرجو أن تحسن وجوهنا في مرآة شعرك، فابتسم المتنبي ابتسامة ساخرة، ولم تعجبه ملاقاة المهلبي له، وقال:

وأحسن وجه في الورى وجه محسن
وأيمن كف فيهم كف منعم

– نترك الإحسان والإنعام الآن يا أبا الطيب حتى نسمع. والتفت إلى أبي الفرج وأخذ يطارحه الشعر ونوادر الأدب، والمتنبي يشترك في الحديث متعاظمًا، يخطئ هذا ويجبه ذاك، حتى انقضّ المجلس فخرج مغيظًا ساخطًا؛ لأن المهلبي لم يحسن لقاءه كما يحب، ولم يستجد مدحه كما كان يؤمِّل، واشتد غضب المهلبي على المتنبي؛ لأنه لم يمدحه؛ ولأنه أظهر من الصلف والتيه ما لا يجمل بمجالس الوزراء، فصمّم العزم على الكيد له وتلقينه درسًا لا ينساه في وجوب التطامن للوزراء والخضوع للعظماء.

وبلغ الشاعر داره فلقيه ابن حمزة وعاجله سائلًا: كيف الحال يا أبا الطيب؟

– شرُّ حال! إن وزيركم يحسبني من شعرائه المهازيل الذين يقعون حول مائدته لالتقاط فتاتها. ثم قصّ عليه ما دار في المجلس، فانقبض وجه ابن حمزة، وقال في تحسر: لقد أضعت الفرصة يا أبا الطيب، وسلطت عليك أكبر مدرب للكلاب.

– ماذا تقصد؟

– أقصد أنه سيرسل عليك عصابته، وسنسمع غدًا فيك شعرًا هو قيء أمعاء البديع، وأشلاء جيفة البيان.

– لقد قلت في أمثالهم:

وأتعب من ناداك من لا تجيبه
وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
وما التيه طبي فيهم غير أنني
بغيض إلى الجاهل المتعاقل

– لا يا أبا الطيب، إن هؤلاء ليسوا ممن يسهل اتقاء شرهم، أرأيت الأوحال التي كلما حاولت التخلص منها زدت فيها ارتطامًا؟ إن لهم في بغداد حكمًا على الحكام، ونفوذًا على ذوي النفوذ، إنهم يهدِّدون كل عظيم في عرضه وشرفه ومزال ماضيه، فيقبل عليهم خاضعًا مستغيثًا جاثيًا على ركبتيه، باذلًا كل ما يضربونه عليه من مال. إن قطّاع الطريق ولصوص الليل أشرف منهم نفسًا وأكرم خلقًا؛ لأنهم يعفون عن استلاب النساء وقتل الأطفال، أما هؤلاء فلا تسلم منهم حرمة، ولا يتنزهون عن ملأمة. إنهم يرسلون البيت من الشعر مسمومًا كما يرسل القرمطي سهمه لا يبالي إلى أي قلب نفذ. وهؤلاء جميعًا في قبضة المهلبي يوسوس لهم بالدنانير فيقبلون، ثم يوجههم إلى الصيد فيتواثبون، وهو يطل عليهم من بعيد جذلان مسرورًا. وكلّما زاد أحدهم في النهش زادت المكافأة وكلما ولغ أحدهم في الدماء عظم الجزاء. إن هؤلاء الشعراء يحكموننا الآن يا أبا الطيب، فهم يوجبون علينا طاعتهم، ويفرضون علينا من الضرائب والإتاوات ما يشاءون. والويل ثم الويل لمن أظهر العصيان أو حدثته نفسه باستنكار شيء أو التأفف من شيء! لا يا أبا الطيب، اشتر عرضك من هؤلاء، واذهب بعد أيام إلى المهلبي وفي كمك قصيدة في مديحه. وأنتم الشعراء أجرأ خلق الله على الكذب، وأقدرهم على تصوير ممدوح خيالي تعطونه اسم من ترجون صلته. والذي مدح كافورًا يا أبا محمد لا يعجز عن مدح الجاحظ بالجمال، وهبنقة بالذكاء، والحجّاج بالرفق والحنان.

– لن أمدح المغرور المستهتر، ولن أذهب إليه. ولن أبالي بكلابه المساعير.

– ذلك لك يا أبا الطيب، ولكني أحذِّرك من ابن الحجاج وابن سكرة وابن لنكك والحاتمي، أحذر هؤلاء يا أبا الطيب وتجنب الاشتباك معهم، وإذا دفعت إلى لقائهم فجاملهم وتلطف.

– لو كانت المجاملة من خلقي يا ابن حمزة لكنت في حال غير هذه الحال.

وبعد مرور يوم أو يومين على هذا الحديث اجتمع بحانة بالكرخ تعرف بحانة أبي نواس ثلاثة رجال جلسوا في حجرة بعيدة عن الطرّاق، وطلب أحدهم من فتاة الحان خمرًا رومية معتقة فأحضرتها، وأخذوا يتساقون ويتهامسون ثم قال أحدهم: لقد جعل لكل شاعر منا خمسمائة دينار.

– هذا ليس بالكثير يا ابن الحجاج.

– ما أطمعك يا ابن سكرة. أتستقل خمسمائة دينار في عشرين بيتًا أو نحوها من أقذر الشعر وأفحشه تقذف بها في وجه المتنبي، ثم تنال من بعدها شهرة الأبد؟ ما رأيك يا ابن لنكك؟

– أرى أن العرض حسن، ولقد أعددت بالأمس أبياتًا وسأزيد عليها؛ لأن الوزير وعدني بزيادة العطاء إذا فحش الهجاء وتعددت فنونه.

– هذا حسن، ولكن أترى أن نأخذ في هجو الرجل دون أن نستدرجه بشيء من الملاحاة والمهارشة؟

– لا. يجب أن نزوره غدًا، وقد علمت أنه غاية في الكبر والأنفة والزهو بنفسه، ومثل هذا يسهل اصطياده واجتذابه إلى المعركة.

– عظيم. غدًا نلتقي في الصباح بداري، ومنها نذهب إلى دار ابن حمزة للتشرف بمقابلة هذا الزق المنتفخ. وانتهى ما في الإناء من شراب، وانتهى ما في عقولهم من كيد وتدبير، فخرجوا من الحانة يترنحون ويصخبون. وجاء الغد وأسرعوا إلى دار ابن حمزة فاستقبلهم ببشر مصنوع وترحيب متكلِّف، ثم دلف إلى حجرة المتنبي فأخبره بزوّاره وكرر تحذيره والنصح له، ودخل الشعراء على أبي الطيب وكان جالسًا فلم يتحرك من مكانه، وأخذ ينظر في وجوههم كمن ينظر إلى حشرات غريبة الخلقة دنيئة الفصيلة ليس له بمثلها عهد، وكرّر الشعراء التحية فبدرت منه تحية فاترة أردفها في عجلة بأمرهم بالجلوس، فجلس القوم والغيظ يحتدم في وجوههم، ثم أخذت ابن الحجاج قهقهة طويلة تصنع أنه لا يستطيع لها كتمًا، فنظر إليه المتنبي في ازدراء وسأل: مم تضحك يا رجل؟

– أضحك. يا سيدي لأنني سخرت بالأمس من رجل زعم أنك كنت تطمع في ملك مصر، وطالما لاحيته وطالما حاججته، ولكن ظهر لي أنك كنت مخطئًا.

– كيف؟

– لأن هذه الجلسة وهذا الصلف وهذه النظرات التعبة الجافية لا تصدر إلا عن ملك.

– ما لك ولكل هذا يا رجل؟ أجئت لتزورني أم لتظهر سخفك؟ فأسرع ابن سكرة، وقال: إن هذه المقابلة التي صدمتنا بها لا تقابل إلا بالسخف والسخرية، أفق أيها الشيخ من سباتك فإننا شعراء بغداد. سل كل إنسان تلاقيه ينبئك من هم شعراء بغداد. إن في جراب أشعارنا علاجًا ناجعًا لأمثالك المغرورين. إننا خلقنا من الشعر ميسمًا يشوّه الوجوه الصلفة، ولجامًا يعقد الألسنة البذيئة، وقارًا يلطّخ العرض فلا تغسله أمواه السماء، فقال المتنبي باسمًا وكأنه لم يسمع إلا طنين ذباب: لم تزد على أن جعلت الشعراء عصابة من قطاع الطريق، فسحقًا لك من شاعر! وما أتعس الشعر بمثلك! ثم التفت إلى ابن لنكك، وقال: وأنت يا شاعر آخر الزمان، هل في جراب شعرك شيء غير الذي في جراب صاحبك؟ فاتجه إليه متحديًا، وقال: أتريد ما في جرابي؟ إذًا فاسمع:

ما أوقح المتنبي
فيما حكى وادعاه
أبيح مالًا عظيمًا
لما أباح قفاه
يا سائلي عن غناه
من ذاك كان غناه
إن كان ذاك نبيًّا
فالجا ثليق إله

فقهقه المتنبي وضرب الأرض برجليه، وقال: هدأ الله أنفسكم كما هدأتم نفسي، وأسعد بالكم كما أسعدتم بالي، أهذا كل شعركم؟ في الحق لقد رعبتموني أول الأمر حتى ظننت أن وراء تهديدكم نارًا وصواعق من الشعر الذي أعرفه، والذي أدخره لأعدائي من الملوك، أما الآن وقد سمعت هذا الشعر الذي عمشت مقلتاه، واختلط فيه قفاه بغناه، فإني أستطيع أن أمد رجلي جذلان مرحًا، وأن أعتقد أنني سأقضي في بغداد وقتًا سعيدًا أترقّب فيه كل يوم ما يضحكني ويذهب بهمومي. رحم الله بغداد! ورحم الله شعراء بغداد! هنا كان النواسي، وهنا كان مسلم، وهنا كان ابن الرومي، وأنتم اليوم تلبسون ثيابهم؟ البسوها ما شئتم فربّ ثوب يتبرأ من كتفي لابسه! أبقي في جرابكم شيء من السباب؟ إن كان فهاتوه فإني مصغ لكم مشغوف بشعركم، وإن لم يكن فاذهبوا لإعداد غيره.

لا تجسر الفصحاء تنشدها هنا
بيتًا ولكني الهِزَبْرُ الباسلُ
ما نال أهل الجاهلية كلهم
شعري، ولا سمعت بسحري بابل
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل

ثم وقف فانصرف القوم صاخبين مهددين. وبقي المتنبي باسم الوجه عابس القلب، إنه استطاع حقًّا أن يسخر منهم وأن يستخف بتهديدهم، ولكنه إلى ذلك علم علم اليقين أن أمله في المهلبي ذهب إلى غير رجعة، وأن بقاءه ببغداد أصبح محفوفًا بالمكاره. واتجه إليه ابن حمزة، وقال: لقد كنت داهية واسع الحيلة في مقابلة هؤلاء الأنذال، ولكني لا أزال أحذرك منهم، فإن الثعبان لا يموت إذا قطع ذنبه، فزفر المتنبي، وقال: لا يزعجني شيء يا ابن حمزة إلا أن أمني في نهاية أيامي بمثل هؤلاء الزعانف.

وفي صباح اليوم التالي أطلق ابن الحجاج من داره كلبة هزيلة بعد أن علق بعنقها ورقة شدها بخيط، ووكل بها ثلاثة من عبيده، وأمرهم أن يمروا بها في جميع أحياء بغداد وأرباعها، وأن يطيلوا الوقوف أمام معاهد العلم ومظان الطلاب، وأن يصونوا الورقة ويحافظوا عليها، حتى إذا جاء المساء أطلقوا الكلبة في حديقة دار ابن حمزة.

وسارت الكلبة خارجة من سوق داخلة في غيرها، واجتمع خلفها خلق عظيم، ومرّت بمسجد ابن رغبان حيث يزدحم طلاب العلم، فاستوقفها أحدهم وأخذ يقرأ ما في الورقة بصوت جهير، فكان فيها:

له الويل ابن أمي كيف مالت
به الدنيا إلى خلق اللئام؟
رمى نسب الكلاب وكان زينًا
بعار من مثالبه وذام
يبيع الشعر «أحمد» لا يبالي
وأين لمثله خوف الملام؟
غدا عبدًا لكافور بمصر
وذل لآل تغلب بالشآم
سأنشده من الأشعار بيتًا
له، إن كان لا يرضى كلامي
(وآنف من أخي لأبي وأمي
إذا ما لم أجده من الكرام)

وما كاد يتم القراءة حتى قهقه الطلاب، وصفقوا وساروا خلف الكلبة يدعون كل عالم وكل أديب وكل ملم بالقراءة إلى قراءة الأبيات، واستمرت الحال هكذا طيلة النهار، وصار المتنبي حديث المدينة، وأصبح اسمه متندرًا لكل مازح، ومضغة في فم كل بذيء، حتى إذا مالت الشمس للغروب قاد العبيد الكلبة إلى دار ابن حمزة، فلمحها أبو الطيب وكان في حديقة الدار، فأمر مفلحًا أن يحضرها بما في عنقها، وحين قرأ الأبيات اكفهر وجهه، وعلم أنه أمام خصوم عاهرين لا تعجزهم دنيئة، ولا تكفهم ذرة من رجولة، فدعا ابن حمزة وألقى إليه الورقة، فلما قرأها قال: قاتلهم الله، ما ألدّ خصامهم. وما أسوأ كيدهم. هذه الكلبة مرت طول النهار بكل ناحية من نواحي المدينة، وهذه الأبيات قرأها آلاف من الناس بين سخرية وقحة، وسباب مقذع. تعسًا لهم. والله ما كنت أظن أنهم يبلغون هذا. أتحب أن أرسل إلى ابن الحجاج يا أبا الطيب؟

– لا يا أبا حمزة، إياك وأن تظهر المبالاة بهم، فإن الكلب الجبان يشجع إذا أظهرت الخوف منه.

واجتمع الشعراء الثلاثة بالوزير المهلبي، وكان الحديث يدور حول حادثة الكلبة وما أثار في المدينة من ضحك وسخرية وفكاهة، وشكرهم الوزير على ما بذلوا من جهد، ووعدهم بمضاعفة الثواب إذا ثابروا.

ومرت أيام وأيام والمتنبي متحصِّن بداره يكاد يخشى الخروج ومقابلة الناس، واتفق أن دعاه أبو الفتح بن جنى للغداء بداره فأجاب الدعوة، وركب في حشد من عبيده يقصد دار صاحبه، وما كاد يبلغ صينية الكرخ حتى اخترق ابن الحجاج صفوف الناس، وعلق بلجام جواده، فتزاحم الناس حولهما من كل جانب، وأخذ ابن الحجاج ينشد بصوت عال قصيدة بذيئة في هجاء أبي الطيب أولها:

يا شيخ أهل العلم فينا ومن
يلزم أهل العلم توقيره

وكان المتنبي مطرقًا في خشوع وجلال في أثناء الإنشاد، لم تظهر على وجهه لمحة استنكار، ولم تبد منه بادرة تدل على أن شعرًا ينشد أو هجاء يقال، وحينما أتم ابن الحجاج إنشاده التفت إليه أبو الطيب، وقال: لقد أجهدت نفسك يا صاحبي بالوقوف في هذه الشمس المحرقة. ثم أرخى عنان فرسه وأطلقه للمسير.

وكلما طالت إقامة المتنبي ببغداد زادت الحملة قوة وتأجج لهيبها. وكانت تجري هذه الأحاداث وهو ساكت لا ينبس، رزين لا يطيش، ولكن نفسه كانت تتقد غيظًا وقلبه يتفتت كمدًا، جلس مرة مطرقًا حزينًا، وقد مرّت بذهنه هذه الصورة المخزية، وهذه الحرب الكريهة التي ألقى فيها سلاحه ليصون كرامته من أن تنزل في هذا الميدان، ثم أخذ يحادث نفسه ويقول: إلى متى هذه المطاولة؟ وإلى متى هذا الحلم الذي قد يعده الناس جبنًا؟ أين شعرك يا أبا الطيب؟ إن بيتًا واحدًا منك كفيل بأن يلقف ما صنعوا وأن يلتهم حبالهم وعصيّهم. إنهم ذباب قذر يكفي أن تمر بنعلك عليهم فتمحوهم جميعًا. ولكنك إذا هجوتهم كنت لهم قرينًا، والموت خير ألف مرة من أن تكون قرينًا لهؤلاء. اهج المهلبي إذًا، اهجه أبا الطيب، اهج معز الدولة، نعم اهج هذين أو واحدًا منهما، فإن مثلك لا يهجو إلا الملوك والوزراء، وأقسم بالشعر ومناته وعزاه إن قصيدة واحدة منك في هجائهما لن تكون ألفاظًا، ولن تكون حروفًا، ولكنها تكون صاعقة تحطِّم العروش وتبعثر التيجان. ولكن كيف تهجوهما؟ إنك إن فعلت فلن يكون لك مسكن إلا في السماء، نعم إن هجاءهما لا يبقي لك في الأرض مكانًا، لقد غاضبت مصر وجفوت الشام، فإذا فررت من العراق فأين تذهب؟ قد يجول بنفسك أن تذهب إلى بلاد فارس، وأظن أن ملكها عضد الدولة لا يلاقي من هجا عمه معز الدولة بالقبل والعناق. لا يا أبا الطيب، اصبر ما استطعت الصبر، واكظم غيظك المحموم ما قدرت، فإذا لم تقدر فارحل إلى الكوفة، وادفن نفسك بين الكتب، فقد أصبحت ميت الأحياء. وجاء ابن حمزة ذات مساء فدخل على المتنبي مهمومًا يمسح عرقًا تصبب من وجهه، وقال: لقد قابلت الساعة أبا علي الحاتمي، فأخبرني بأنه سيزورك غدًا.

– من أبو علي الحاتمي؟

– إنه من أعلام بغداد وكبار أدبائها، وهو أستاذ كثير من شعرائها وكتَّابها.

– وماذا يريد مني؟

– يريد أن يسعد بلقائك، وأن يجاذبك الحديث في الشعر والأدب، اسمع يا أبا الطيب. إن الحاتمي رجل مهيب رفيع المكانة في بغداد، وليس هو ممن يقابل بالإعراض والسخرية كما قابلت ابن الحجاج وصاحبيه، فرجائي إليك أن تبسط له من نفسك وحديثك، وأن تقابله بما يليق بمنزلته وكرامته، فقد كفانا ما لقينا من الفضائح في دروب بغداد وأزقتها، وكفانا أننا أصبحنا اليوم حديثًا لأدعياء الأدب وسخفاء المجّان.

– اجعل كل هذا دبر أذنك يا ابن حمزة.

– اجعله دبر أذني إن استطعت، ولكني لا أضيف إليه كارثة جديدة بإهانة أعظم أدباء بغداد.

– لا. لن نهينه ما أحسن الكلام والتزم الأدب.

وجاء الحاتمي في الغد وقد اعتزم أن يسقط المتنبي من سماء كبريائه، وأن ينكس رأسه في التراب، وأن يظهر جهله بالشعر والأدب واللغة، ثم ينشر في طول بغداد وعرضها أنه حطم الصنم، وخرق الطبل الأجوف، وأن هذا المتنبي الذي يظن أن شمس العراق لم تطلع على مثله ليس إلا دعيًّا مغرورًا أفاقًا.

جاء الحاتمي وقد ركب بغلة فارهة وحوله عدة من الغلمان بين مماليك وأحرار، فلما بلغ الدار ولمحه أبو الطيب غادر مجلسه ودخل حجرة أخرى واستأذن الحاتمي وأذن له، فاستقبله ابن حمزة أحسن استقبال وحياه أجمل تحية، وكان بالمجلس أبو الفتح بن جني والقاضي أبو الحسن المحاملي، ثم دخل أبو الطيب فسلم عليه الحاتمي مبتسمًا، وقال: لقد لمحتك يا أبا الطيب في هذه الحجرة وأنا بباب الدار، فلما علمت بقدومي تركتها، أفعلت ذلك لكي لا تنهض إليَّ بالسلام؟ فسكت أبو الطيب ولم يجب، ثم جلس على كرسيه معرضًا بنظر إلى السقف والحيطان، ولما فرغ من هذا اتجه إلى ابن جني، وقال: إن البيت هو:

حالفته صدورها والعوالي
لتخوضن دونه الأهوالا

والضاد في «تخوضن» مضمومة؛ لأن الفعل مسند إلى واو المذكرين مؤكد بالنون.

فقال ابن جني: كنت أقرؤه «لتخوضن» بفتح الضاد على أن الفعل مسند إلى ضمير مؤنث يعود على الصدور والعوالي، وكيف يا سيدي يسند الفعل إلى واو المذكرين المحذوفة في «تخوضن»، وهي خاصة بالعقلاء؟

– حينما قلنا: إن صدور الخيل وعوالي الرماح حالفت الممدوح أجريناها مجرى من يعقل من الذكور.

كان يدور هذا الحديث والحاتمي متفزز متوثب، ينفخ من الغضب، فالتفت إليه المتنبي، وقال: كيف حالك؟ فأجاب الحاتمي وهو يتميّز من الغيظ: أنا بخير لولا ما جنيته على نفسي من قصدك، وجشّمت دابتي من السعي إلى مثلك، أجبني بالله أيها الرجل! فيم تيهك وخيلاؤك؟ وعجبك وكبرياؤك؟ وهل عدوت أن تكون شاعرًا متكسبًا؟ إذا قصدك شريف في نسبه تجاهلت نسبه، أو عظيم في أدبه صغّرت أدبه، أو متقدم عند سلطانه خفّضت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك؟

فأطرق المتنبي وعلم أن الرجل ليس بهين، وأنه يمكنه أن يلين معه بعض اللين، فقال: خفض عليك واكفف من غربك واستأن فإن الأناة من شيم مثلك. فهدأ الحاتمي قليلًا، ثم قال: إني جئت أسألك عن أشياء وأراجعك في أشياء، حدثني عن قولك:

إذا كان بعض الناس سيفًا لدولة
ففي الناس بوقات لها وطبول

أهكذا تمدح الملوك؟ فالتفت إليه المتنبي في زهو وجبرية، وقال: إن تلاميذي يجيبونك عن كل ما تسأل.

فقال ابن جني: لا أرى في البيت إلا روعة وإبداعًا، فإن للجيس عددًا هي السيوف والبوقات والطبول، وإن السيف خير هذه العدد وهو اسم الممدوح «سيف الدولة»، أما البوقات والطبول فلها ضجيج وجلجلة، ولكنها لا تعمل شيئًا؛ لذلك شبه الشاعر بها غير الممدوح من الملوك.

– هل معز الدولة بوق وطبل؟

– لا أدري، وإنما أنا مفسِّر شعر، ثم غمز بعينه الباقية، وقال: هل قرأت يا سيدي بعد هذا البيت وهو مما لم يسبقه إليه شاعر؟

أنا السابق الهادي إلى ما أقوله
إذ القول قبل القائلين مقول
وما لكلام الناس فيما يريبني
أصول، ولا لقائليه أصول
أعادي على ما يوجب الحب للفتى
وأهدأ والأفكار فيَّ تجول

فقال الحاتمي: وكيف لم يخجل المتنبي من سيف الدولة حين قال في رثاء أمه؟

صلاة الله خالقنا حنوط
على الوجه المكفن بالجمال

فقال ابن جني: وماذا في هذا يا سيدي؟ أتستنكر أن توصف أمك بالجمال؟ أتظنه جمالًا كجمال الراقصات والقيان؟ إنه يا سيدي جمال النفس الرضية والخلق النبيل. اقرأ يا سيدي من هذه القصيدة وسبِّح بحمد واهب المواهب:

مشى الأمراء حوليها حفاة
كأن المرو من زف الرئال
وأبرزت الخدور مخبآت
يضغن النقس أمكنة الغوالي
أتتهن المصيبة غافلات
فدمع الحزن في دمع الدلال
ولو كان النساء كمن فقدنا
لفُضِّلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال

فقال الحاتمي: ويقول المتنبي:

وإذا أشار محدثًا فكأنه
قرد يقهقه أو عجوز تلطم

أما كان في أفانين الهجاء مندوحة عن هذا الكلام؟ فأسرع إليه ابن جنى قائلًا: رحماك يا مولاي، فقد جئت بأبلغ بيت تنفس عنه الهجاء في الشعر العربي! ما أغرب الصورة وما أمهر صناعتها! إنها صورة لو عثر بمثلها حماد عجرد لأغنته عن كل هجائه في بشّار. وفي هذه القصيدة يا سيدي:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
ومن البلية عذل من لا يرعوي
عن جهله وخطاب من لا يفهم

واستمر الجدل على هذا النحو ساعات، وكان المتنبي يشترك فيه أحيانًا في رفق ولين، وشعر الحاتمي أنه إزاء شاعرك لا يدرك، ورأى من عطف المتنبي ومجاملته في أثناء الحديث ما خفف من حدته وهدأ من ثائرته، ولم يجد في نفسه حرجًا من أن يجامل المتنبي هنا ثم يدّعي للوزير المهلبي أنه انتصر عليه وغلبه، ونهض فنهض المتنبي مشيعًا له إلى باب الدار حتى ركب.

وزاد يقين أبي الطيب بأن السحاب يتراكم، وأن الصاعقة توشك أن تنقضّ، فصبر على دخن، وطوى نفسه على غيظ دفين.

وكان كافور قد أقام أبو عوف الكناني بدار الخلافة منذ سنين؛ لينقل إليه أخبارها وليكون سفيره لدى معز الدولة والخليفة، وقد أنبأه أبو عوف بقدوم المتنبي بغداد، وجاءه الجواب بأن يحتال لقتله غيلة، فإذا لم يستطع ألزمه طائعًا أو مكرهًا أن يمدح كافورًا بقصيدة تمحو كل ما جره عليه هجاؤه من العار. وبذل أبو عوف كل ما في مكنته من جهود لإطاعة أمر كافور فلم يوفّق. وفي ليلة دخل عليه منصور الحلي وكان شريكًا له في المؤامرة، فقال: لقد اهتديت إلى أحكم الطرق وأسلمها لإنفاذ المؤامرة. فاتجه إليه الكناني في تشوّف قائلًا: كيف؟

– كنت اليوم أزور أبا إسحاق الصابي ودار الحديث حول المتنبي، فأثنى عليه كثيرًا وأخبرني أنه يود أن يدعوه إلى داره؛ ليؤدي له ما يستحق من كرامة، وليعتذر له عما ناله من سلاطة شعراء بغداد وشنيع هجائهم، فقلت له: إنني أؤدي عنك الرسالة يا سيدي، فاكتب إليه رقعة لدعوته غدًا وأنا كفيل بحملها إليه. فكتب هذه الرسالة، وأخرج من كمه ورقة بخط الصابئ، فقال الكناني: وماذا نصنع بهذه الرسالة؟

– تسلمها إلى عبيدك غدًا في الصباح، وتأمرهم أن يذهبوا بها إلى المتنبي بدار ابن حمزة، زاعمين أنهم عبيد أبي إسحاق، وأن سيدهم أمرهم أن يصحبوا المتنبي إلى داره.

– ثم؟

– ثم يذهبون به إلى قصرك الخالي بالزبيدية، وهو قصر منعزل بعيد عن الدور، فإذا بلغوا به القصر وضعوه في إحدى غرفه وقّيده، ثم هددوه بأنه إن لم ينظم قصيدة في مدح كافور قتل شر قتلة.

وجاء الصباح وتمت المؤامرة، ورأى المتنبي نفسه مقيد الرجلين وحوله زنوج تلتهب عيونهم بالغضب، وقد وضع كبيرهم على خوان ورقًا وأقلامًا، وهو يقول: هنا تكتب قصيدة في مدح مولانا كافور، وإلا ذهبت روحك إلى الشيطان! وتكلّف المتنبي الرضا وأظهر الرغبة، فتركوه وذهبوا إلى سرداب القصر فعثروا به على دن ممتلئ بخمر من خمر البلح تغلي وتشتد وتقذف بالزبد، فتصايحوا تصايح الزنوح، وقال كبيرهم: لنشرب حتى يتم شاعرنا القصيدة، فتهافتوا على الشراب وأخذوا يكرعون ويغنون حتى صدعت الخمر رءوسهم.

وجلس المتنبي في غرفته يائسًا ساخطًا، ثم ألقى نظرة على النافذة فلمح من بعيد فتى ينصب فخه للطيور، فأشار إليه وكرّر الإشارة فلم يلتفت، فبحث في الغرفة عن حصاة فقذفه بها فرفع الفتى رأسه، ورأى أبا الطيب وهو يشير إليه إشارات تدل على الاستغاثة وطلب النجدة، فأسرع إليه وصعد في السلم حتى وصل إلى غرفته، فأخبره المتنبي بالقصة وطلب إليه أن يفك قيده فقطعه بسكين كانت في حزامه، ثم قال: هلم يا شيخ فإنك تستطيع أن تخرج الآن آمنًا، فلست أسمع بالدار إلا غناء سكارى.

– إذًا لقد سكر المناكيد!

– يظهر ذلك.

– دعني الآن أكتب شيئًا ثم نخرج معًا وأخذ الورقة وكتب فيها:

ولي همة من رأى همتها النوى
فتُرْكبني من عزمها المركب الوعرا
تروق بني الدنيا عجائبها ولي
فؤاد ببيض الهند لا بيضها مغرى
أخو همم رحالة لا تزال في
نوى تقطع البيداء أو أقطع العمرا
ومن كان عزمي بين جنبيه حثه
وخيل طول الأرض في عينه شبرا
صحبت ملوك الأرض مغتبطًا بهم
وفارقتهم ملآن من حنق صدرا
ولله آيات وليست كهذه
فإنك يا كافور آيته الكبرى
واكفر يا كافور حين تلوح لي
ففارقت مذ فارقتك الشرك والكفرا

فلما أتم الكتابة تسلل مع الفتى من الدار، ورأى جواده تحت الشجرة فامتطاه وطار. وصحا العبيد وذهبوا إلى الغرفة فلم يجدوا للمتنبي أثرًا، ورأوا الورقة فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون في صخب وشكاس، ثم حملوا الورقة إلى الكناني فقرأها وضرب بكف على كف وصاح في العبيد: لقد أفسدتم كل شيء يا عبيد السوء، اكتموا كل ما جرى، وأقنعوا أنفسكم أنه لم يحصل شيء، لو وصل إلى سيدي كافور علم هذه الحادثة لقتلنا جميعًا. وإني أيضًا سأكتم خبر هذه الورقة. ها هي ذي انظروا!! ثم مزقها قطعة قطعة ونثرها في الهواء.

وبلغ المتنبي دار ابن حمزة مجهدًا مكدودًا مضطرب العصب، وهو يصيح: يا محسد: يا مفلح، فلما أقبلا عليه قال: لن نقيم بهذه المدينة إلا الليلة، أسمعتما؟ أعدا الرواحل والجياد، سنرحل غدًا في الصباح. ثم أخذ يغمغم:

عش عزيزًا أو مت وأنت كريم
بين طعن القنا وخفق البنود
فرءوس الرماح أذهب للغيـ
ـظ وأشفى لغل صدر الحقود
لا كما قد حييت غير حميد
وإذا مت مت غير فقيد
فاطلب العز في لظى ودع الذ
ل ولو كان في جنان الخلود

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤