قصة السكرتير

كان السكرتير — واسمه «ناندا» — يُجيد اللغة العربية؛ فقد تلقَّى تعليمه في القاهرة، ولهذا اختير لمصاحبة «بونجا» إلى جمهورية مصر العربية، وشاهد «تختخ» «ناندا» جالسًا في فراشه شاحب الوجه، وقد بدا عليه الإعياء الشديد، والتفَّ حوله رجال الشرطة يسألونه عن قصة الاختطاف كاملة.

قال «ناندا» بصوت ضعيف: لقد وصلنا إلى أسوان على طائرة خاصة منذ يومين، وكانت «بونجا» تُريد زيارة السد العالي، ونزلنا في فندق «جزيرة آمون» في وسط النيل أمام فندق «كتراكت»، ومعنا مربيتها السيدة «لوكا».

وتأوَّه «ناندا» ثم واصل حديثه قائلًا: وذهبنا لزيارة السد العالي … وأثناء عودتنا بالسيارة إلى الفندق ظهرت سيارة من طريق جانبي وكادت تصطدم بنا، لولا أن استطاع السائق بمهارة أن يتفادى الاصطدام، ولكننا اصطدمنا بجوانب السيارة، ممَّا أدَّى إلى إصابة «بونجا» بإصابات في وجهها ولكن دون خطورة، وقد أسعفناها وربطنا وجهها المجروح بالشاش. أمَّا السيدة «لوكا» فقد أُصيبت بإصابات خطيرة، فتركناها في أسوان وحضرنا بالطائرة إلى القاهرة.

وعاد «ناندا» إلى الصمت، ثم شرب جرعةً من الماء وعاد إلى الحديث قائلًا: وأمس ليلًا زارنا عدد من الموظفين للاتفاق معهم على المدرسة التي ستدخلها «بونجا» مع تخصيص مُدرِّس لتعليمها اللغة العربية، وطلبنا لهم الشاي وجلسنا معًا نتحدَّث، وأحسست وأنا جالس معهم بثقل في رأسي وأطرافي … وشيئًا فشيئًا بدأت أغيب عن وعيي … وعندما حاولت الوقوف لأسعف نفسي، أو أتصل بأحدٍ من رجال الفندق سقطت على الأرض … ولم أدرِ ماذا حدث بعد ذلك إلَّا عندما استيقظت الآن … فماذا حدث؟

المفتش: لقد حدث أن اختُطفت «بونجا» ولا ندري أين ذهبت، ومن الواضح أن الذين حضروا إليكما أمس ليلًا لم يكونوا هم الذين عيَّنتهم الحكومة للاهتمام بالفتاة … ولكنهم عصابة يُهمُّها خطف «بونجا» لأسباب لا نعرفها.

ارتجف «ناندا» وهو يستمع إلى حديث المفتش، وقال في خوف: «بونجا» اختفت! هذه كارثة رهيبة … هذه مصيبة … ثم حاول الوقوف، ولكنه دار مرةً أخرى وكاد يسقط لولا أن المفتش أمسك به وأخذ يُحدِّثه قائلًا: لا فائدة من هذا الاضطراب … المهم الآن أن نعثر على «بونجا»، فهل تشتبه في شخص أو أشخاص لهم مصلحة في خطفها؟

ناندا: لا أذكر شيئًا، وإن كان والدها كما تعلم رجلًا هامًّا، وله أعداء كثيرون … ولكن لماذا لم يخطفوها في بلادها؟ كيف وصلوا إلى هنا؟

المفتش: هذه أسئلة لن نستطيع الإجابة عليها الآن.

ناندا: يجب أن أتصل بالسفير فورًا وأُبلغه بما حدث لإخطار والدها.

المفتش: سأذهب بنفسي إلى السفارة وأُخطر السفير بما حدث، وعليك أن ترتاح الآن؛ فقد دسَّ لك رجال العصابة مُخدِّرًا قويًّا في الشاي، وفي الغالب ﻟ «بونجا» أيضًا، وبعد أن سقطت، وغابت هي عن وعيها حملوها وخرجوا بها من الفندق، ونرجو أن نتمكَّن من العثور عليهم سريعًا.

انتهى الحديث مع «ناندا» ونام في فراشه، ووقف المفتش والضابط يتحدثان، في حين ذهب «تختخ» إلى الشرفة، وأخذ يُطل على النيل، يتأمَّل بإعجاب المنظر الذي أمامه، ويُفكِّر في اختطاف الفتاة الصغيرة «بونجا»، وهل سيمكن العثور عليها أم تختفي إلى الأبد في عشرات الملايين الذين يسكنون الجمهورية من أسوان جنوبًا إلى الإسكندرية شمالًا؟

أفاق «تختخ» من تأمُّلاته على صوت المفتش وهو يقول: ما رأيك أيها المخبر النشيط؟ لقد جاءتك المغامرة حتى بابك، فهل تُقدم عليها؟

ردَّ «تختخ»: إن من واجب المغامرين الخمسة أن يتدخَّلوا لإنقاذ المظلومين، وسوف أجتمع ببقية الأصدقاء للاتفاق معهم … وإن كنت أعتقد أن بُعد الحادث عن المعادي سوف يجعلنا نتردَّد في الاشتراك في حلِّه.

المفتش: على كل حال ليست هذه من نوع المغامرات التي تشتركون فيها، فحوادث الاختطاف تقوم بها عصابات منظمة قوية، لا يصح أن تقفوا في وجهها.

تختخ: لا تنسَ يا حضرة المفتش أننا حللنا قبلًا لغز اختطاف الأمير، وكانت وراءه عصابة خطيرة. إننا لا نخاف، المهم أن تتوافر الأدلة التي تُساعدنا على العمل.

المفتش: من الواضح أنه ليست هناك أدلة.

تختخ: يُمكنكم رفع البصمات الموجودة على أكواب الشاي.

المفتش: لقد كانت العصابة ذكيةً بما يكفي؛ فقد وجدنا الأكواب كلها مغسولةً ونظيفة، ولا أثر للبصمات عليها مطلقًا.

تختخ: هناك شيء آخر، كيف خرج الرجال بالفتاة؟ هل يُمكن أن يخرجوا بها محمولةً على أيديهم أو على أكتافهم أو في حقيبة كبيرة مثلًا؟! يجب أن تستجوبوا العاملين في الفندق، إذا كان أحدهم قد شاهد الرجال وهم يخرجون.

المفتش: إن هذا ما نفعله الآن فعلًا، وهي مهمة شاقة، ففي فندق «شيراتون» كما تعلم ٣٠ طابقًا، وبه ٤٠٠ غرفة، وبه مئات العاملين، وذلك كله يستدعي وقتًا وجهدًا كبيرَين.

تختخ: إذن ليس أمامي ما أفعله، فأنتم تفعلون ما بوسعكم، وسأعود الآن إلى الأصدقاء ثم نعود إلى المعادي، وسوف أتصل بك لتخبرني إذا جدَّ جديد.

المفتش: اتفقنا.

وهكذا عاد «تختخ» إلى الأصدقاء الذين قابلوه بعشرات الأسئلة، فروى لهم كل ما حدث، ثم انصرفوا عائدين إلى المعادي وهم يتبادلون الأحاديث حول حادث الاختطاف.

عندما وصل الأصدقاء إلى منازلهم في المعادي وجدوا في انتظارهم دعوات لحضور حفل عيد ميلاد أحد أصدقائهم، واتفقوا تليفونيًّا على أن يذهبوا معًا إلى منزل الصديق.

والْتقى الأصدقاء، وكان الجو باردًا في هذه الليلة من منتصف فبراير، فارتدوا جميعًا ملابس ثقيلة، واشتروا بعض هدايا كالزهور والكتب للصديق ثم اتجهوا إلى منزله.

كان صديقهم «جعفر» من السودان، ووالده موظف بالسفارة السودانية بالقاهرة. وكان أسمر رقيقًا محبوبًا من الزملاء والأصدقاء، فامتلأ منزله بعشرات من الأصدقاء حتى ضاق بهم المكان. وعلى أصوات الموسيقى السودانية رقص الجميع، واستمتعوا بوقت طيب. وكان ﻟ «جعفر» أخت صغيرة سمراء مثله جلست بجوار «تختخ»، وأخذا يتحدَّثان معًا، وطاف بخاطر «تختخ» مصير الفتاة «بونجا» السمراء التي خُطفت، فكفَّ عن الحديث واستغرق في التفكير. إن أخت «جعفر» شكلها واضح بين جميع الفتيات لأنها سمراء واضحة الشكل في ملابسها الوطنية البيضاء الجميلة، فهل يتذكَّر الذين شاهدوا «بونجا» في «شيراتون» شكلها؟ إن تحرُّكات الفتاة الصغيرة في الساعات التي قضتها في الفندق الكبير لا بد جعلتها موضع اهتمام من شاهدها، فهل يمكن أن يتذكَّر العاملون هناك شكلها وما فعلت خلال إقامتها القصيرة هناك؟

وأمام هذه الخواطر قرَّر «تختخ» أن يقوم بزيارة الفندق مرةً أخرى غدًا بعد أن يستأذن المفتش «سامي»؛ فهناك فكرة مُعيَّنة خطرت بباله في حاجة إلى أن يُثبتها، وليس هناك دراسة غدًا؛ فهم في إجازة نصف السنة.

انتهت الحفلة الجميلة، وانصرف المغامرون الخمسة معًا بعد أن كرَّروا التهنئة ﻟ «جعفر» بعيد ميلاده وشكرهم على الدعوة التي أرسلها.

كانت المسافة بين منزل «جعفر» ومنازل الأصدقاء بعيدةً إلى حد ما ولكنهم قرَّروا أن يسيروا معًا، يتمتعون بالمشي والدفء الذي تبعثه الحركة في أجسامهم.

كان «تختخ» صامتًا يُفكِّر، فقالت «نوسة»: هل هناك خواطر جديدة أو أفكار جديدة حول لغز اختفاء «بونجا»؟

ردَّ «تختخ»: أعتقد أنني في حاجة إلى زيارة سريعة لفندق «شيراتون» غدًا؛ فهناك بعض الأسئلة التي أُريد أن أحصل على إجابة عنها.

لوزة: هل آتي معك يا «تختخ»؟

تختخ: هذا ممكن جدًّا، وسأمر عليك غدًا في التاسعة صباحًا لنذهب معًا.

افترق الأصدقاء، وعاد كلٌّ منهم إلى منزله، واتصل «تختخ» بالمفتش «سامي» تليفونيًّا وسأله عن آخر تطوُّرات التحقيق في اختفاء الفتاة.

فقال المفتش: ليست هناك معلومات ذات قيمة؛ فإن أحدًا لم يُشاهد «بونجا» وهي تخرج من الفندق مطلقًا. كما أن رجال الأمن في فندق «شيراتون» أكَّدوا أنهم لم يُشاهدوا مجموعةً من الرجال تصعد إلى الدور الحادي عشر معًا … وشهد بذلك أيضًا العاملون في المصاعد.

تختخ: هل هذا يعني أن «ناندا» قد كذب؟

المفتش: هذا ممكن، ولكن من الممكن أن يكون رجال العصابة قد صعدوا واحدًا واحدًا حتى لا يلفتوا الأنظار إليهم.

تختخ: وهناك احتمال ثالث … أن يكون رجال العصابة من نزلاء الفندق … نزلوا فيه وقت وصول «بونجا» أو قبل ذلك، وفي ليلة أمس تجمَّعوا وذهبوا إلى جناحها بالفندق حيث قاموا بتخدير «ناندا» وربما «بونجا» أيضًا ونفَّذوا خطتهم.

المفتش: هذا احتمال ممكن فعلًا.

تختخ: في هذه الحالة لا بد من الاطلاع على سجل نزلاء الفندق وحصر الشبهة في عدد من النزلاء؛ ربما وصلنا إلى خيط يؤدي إلى حل اللغز.

المفتش: ممكن جدًّا.

تختخ: هل أستطيع الحضور غدًا ومعي «لوزة»؟

المفتش: لا مانع مطلقًا … نلتقي أمام الفندق في العاشرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤