مفاجأة ثانية

اضطُر «تختخ» في اليوم التالي أن ينزل مع والدته إلى القاهرة لشراء بعض الحاجيات، وكان «تختخ» يكره المرور على المحلات، وإضاعة الوقت في مناقشة البائع، والانتقال من محلٍّ إلى آخر … فاتفق مع والدته أن يذهب لزيارة المفتش «سامي» في أثناء قيامها بشراء طلباتها، على أن يلتقيا في محل «جروبي» في الساعة الواحدة.

ذهب «تختخ» لزيارة المفتش دون أن يكون في ذهنه خطة مُعيَّنة، ووجد المفتش في غرفته، وجده يقرأ قضية اختطاف «بونجا» بعناية، فرحَّب بحضور «تختخ» الذي جلس بجواره، ولكن لم تمضِ دقيقة على دخوله حتى دقَّ جرس التليفون، وسمع المفتش وهو يقول باحترام: حاضر يا أفندم … حالًا يا أفندم.

ثم وضع المفتش السمَّاعة ووقف قائلًا: آسف … سوف أتركك لدقائق؛ فقد طلبني مدير الأمن العام … إن هناك اهتمامًا كبيرًا باختفاء «بونجا»، ويبدو أن خطفها له آثار سياسية … سأذهب إلى المدير، وتستطيع في هذه الأثناء الاطلاع على ملف القضية فقد تجد فيه جديدًا.

انصرف المفتش، وجلس «تختخ» يقرأ الملف في عناية، صفحة … صفحة … ورقة … ورقة … وسطرًا سطرًا … حتى الكلمات كان يقف عندها … فالقراءة بدقة هي أفضل وسيلة للوصول إلى الحقيقة … وهو نفس الأسلوب الذي يتبعه «تختخ» في المذاكرة … التركيز … والعناية …

كانت أغلب الحقائق التي في الملف يعرفها … فقد عاصر القضية منذ الدقيقة الأولى، بل اشترك فيها وهي ساخنة … وقف «تختخ» طويلًا أمام أقوال الفراشين المسئولين عن جناح الفتاة في الفندق …

قال أحد الفراشين في استجوابه عن رؤيته للفتاة: لقد رأيتها وهي حاضرة مع السكرتير وحملت حقيبتها … وحمل زميلي حقيبة السكرتير … وكانت حقيبتها خفيفةً كأنها فارغة. وقد دخلت معها الغرفة وفتحت لها النوافذ … فوقفتْ في الشرفة وقالت إن المنظر جميل من هذا الارتفاع … ثم تركتها وخرجت … وساعة العشاء طلبته في غرفتها وكذلك السكرتير … وفي العاشرة ليلًا اتصل «ناندا» بالمطعم وطلب إرسال خمسة فناجين من الشاي إلى غرفته. وقد قمت بتوصيل الطلبات إلى الغرفة.

كانت هذه المعلومات مع بساطتها تحمل كثيرًا من الأسئلة إلى رأس «تختخ» … ولكنه مضى يقرأ التقرير بسرعة حتى انتهى إلى تقرير الطبيب الشرعي عن رباط الشاش الذي وُجد في غرفة «بونجا» … وكان التقرير يتكوَّن من بضع كلمات، ولكنه بالنسبة ﻟ «تختخ» كان فاتحةً لتفكير طويل.

وكان نص التقرير يقول: «رباط من الشاش المعقَّم، عليه آثار سائل «الميكروكروم»، ولكن ليس به آثار دماء أو آثار جرح حديث.»

نظر «تختخ» إلى ساعته، كانت الثانية عشرة والنصف، ولم يبقَ على موعد والدته سوى نصف ساعة، ولم يكن المفتش قد عاد بعد، فترك ورقةً صغيرةً كتب فيها:

سيدي المفتش … معذرةً عن اضطراري للانصراف لارتباطي بموعد. لقد قرأت التقرير، وهناك أسئلة كثيرة في ذهني عنه … وأرجو أن أراك أو أتصل بك في أقرب فرصة …

وانصرف «تختخ» مسرعًا، فاستقل تاكسيًا إلى ميدان «طلعت حرب» حيث يقع محل «جروبي»، وأسرع إلى الداخل، وأحس بالارتياح لأن والدته لم تكن قد حضرت بعد … ولكن شخصًا آخر رآه «تختخ» يجلس وحيدًا يشرب القهوة في ركن من أركان الصالة الواسعة … كان «ناندا» … السكرتير … ولم يتردَّد «تختخ» وتقدَّم منه وحيَّاه، ثم جلس.

قال موجِّهًا الحديث إلى السكرتير: لعلك تذكرني … لقد كنت مع المفتش «سامي» ورجال الشرطة عندما كانوا يتحدَّثون معك في «شيراتون» بعد اختفاء «بونجا».

قال «ناندا»: نعم … إنني أذكر أنني رأيتك هناك. لقد كانت حادثةً مؤسفة … ولست أدري إلى أي حد تقدَّم رجال الشرطة في بحثهم.

تختخ: لم يتقدَّموا كثيرًا. وقد حصروا شبهتهم في ثلاثة أشخاص كانوا في نفس الفندق ونفس الطابق، وقد يتمكَّنون من الوصول إليهم.

ناندا: ذلك شيء مُشجِّع. إنني حزين لأنهم استطاعوا خداعي، ولكن مظهرهم كان محترمًا، ولم يُثيروا شكي.

تختخ: وكيف وضعوا لك المخدِّر في الشاي؟

ناندا: لا أدري كيف حدث هذا، ولعلني قمت لسبب أو آخر من الغرفة، ولعلني دخلت دورة المياه، فانتهزوا الفرصة ووضعوا المخدِّر في الشاي.

تختخ: وعندما أحسستَ أنك ستفقد وعيك، لماذا لم تتصل تليفونيًّا ليحضر أحد لإنقاذكما؟

ناندا: في البداية ظننت أنه مجرَّد دوار بسيط. ولأنني لم أكن أشك فيهم فقد قلت لهم عمَّا أُحس به، ولكنهم طمأنوني، فجلست حتى صرعني المخدِّر دون أن أتمكن من عمل شيء.

تختخ: هل كانت «بونجا» تعرف اللغة العربية؟

ناندا: لا … مطلقًا … ربما فقط بضع كلمات مثل شكرًا … أو صباح الخير، وليس أكثر من هذا.

تختخ: ولكن جاء في أقوال أحد فراشي الفندق أن «بونجا» وقفت في الشرفة وقالت إن المنظر جميل.

ناندا: لم أسمعها تقول هذا الكلام … وربما كان هذا الفراش يعرف اللغة الإنجليزية.

وقبل أن يسأل «تختخ» سؤالًا آخر شاهد والدته تدخل من الباب مُحمَّلةً بما اشترت، فشكر «ناندا» وتواعدا على اللقاء في اليوم التالي في الفندق، ثم أسرع إلى والدته ليحمل عنها بعض ما تحمل.

في ذلك المساء، جلس «تختخ» مع الأصدقاء يتحدَّثون وروى لهم ملاحظاته عن التحقيق الذي قرأه … قال: لقد لاحظت ما قالته «بونجا» عن الجو، وقد أكَّد لي «ناندا» أنها لا تعرف اللغة العربية … ولعل الفراش الذي سمعها يعرف اللغة الإنجليزية، فإذا لم يكن يعرف فأمامنا بداية خيط هام لحل اللغز.

قالت «نوسة»: ماذا تقصد؟

تختخ: أقصد أنه في هذه الحالة فإن الفتاة التي خُطفت من فندق «شيراتون» لم تكن «بونجا» مطلقًا.

عاطف: غير معقول!

محب: ولماذا إذن تخدير «ناندا»؟ ومن كانت الفتاة التي كانت في الفندق؟ وهؤلاء الرجال الثلاثة؟

تختخ: إن فكرةً مُعيَّنة تدور في ذهني … ولكن دعوني أروي لكم الملاحظة الثانية … لقد قال الطبيب الشرعي في تقريره إن الشاش الطبي الذي وُجد في الغرفة، عليه آثار «ميكروكروم» … وليس عليه آثار دماء أو آثار جرح حديث … فماذا يعني هذا بالنسبة لكم؟

محب: إنه ليس هناك جرح على الإطلاق.

تختخ: بالضبط … فليس من المعقول أن يُشفى جرح في الوجه في يومَين حتى لا يترك أثرًا في الشاش … والحل الوحيد ألَّا يكون هناك جرح على الإطلاق كما قال «محب».

نوسة: وماذا يعني هذا؟

تختخ: يعني أشياء كثيرةً جدًّا … ولكن قبل أن نقفز إلى استنتاجات جديدة، لا بد لي من لقاء الفراش و«ناندا» غدًا … إن الحديث معهما سوف يكشف أشياء كثيرة.

قام «تختخ» ليتصل بالمفتش للمرة الثالثة، ولكن لم يجده لا في منزله ولا في مكتبه، وعلم أنه قام مع رجاله بحملة تفتيش واسعة لمحاولة القبض على الرجال الثلاثة من الأوصاف التي حصل عليها من العاملين في الفندق عنهم، ومن المعلومات التي تجمَّعت عنهم عنده.

انصرف الأصدقاء على أن يقوم «تختخ» في اليوم التالي بالذهاب إلى القاهرة للقاء «ناندا» في الفندق حسب اتفاقهما، ولسؤال فراش الفندق عن اللغة التي تحدَّثت بها «بونجا» في لحظة وصولها إلى الفندق. وفي الصباح الباكر اتصل «تختخ» بالمفتش تليفونيًّا في منزله قبل أن يخرج، واتفقا على أن يلتقيا معًا قبل أن يذهبا إلى الفندق ليتحدَّثا عن آخر تطوُّرات الحادث.

وبعد نحو ساعة كان «تختخ» يجلس مع المفتش في مكتبه يتحدَّثان، قال المفتش: للأسف لم نصل من حملة التفتيش إلى شيء … وكأن الرجال الثلاثة قد تحوَّلوا إلى أشباح لم يمكن القبض عليهم … فقد اتضح أن العناوين زائفة.

قال «تختخ»: إن في رأسي أكثر من فكرة عن خطف «بونجا». والمهم الآن أن نذهب إلى الفندق للحديث مع الفراشين ومع «ناندا»، فسوف تتضح أفكاري بعد الحديث معهما.

ركبا السيارة معًا، واتجها إلى الفندق، وعندما وقفا أمام موظف الاستقبال كانت في انتظارهما المفاجأة الثانية في الحادث … فقد أنهى «ناندا» إقامته في الفندق في اليوم السابق في الساعة الثالثة بعد الظهر … أي بعد لقائه مع «تختخ» بنحو ساعة، ولم يترك خبرًا عن المكان الذي انتقل إليه … وعندما اتصل المفتش بالسفارة لعلهم يعرفون مكانه … علم أنه لم يتصل بالسفارة منذ أمس!

استدعى المدير الفراش الذي سمع حديث «بونجا» فسأله «تختخ»: تذكر أنك قلت في أقوالك في التحقيق إنك سمعت الفتاة تقول إن المنظر جميل من هذا المكان المرتفع … فبأي لغة كانت تتكلَّم؟

الفراش: كانت تتكلَّم بالعربية.

تختخ: لم تتحدث بالإنجليزية؟

الفراش: لا طبعًا … ولو تحدَّثت بالإنجليزية لما فهمت شيئًا؛ فأنا لا أعرف هذه اللغة.

نظر «تختخ» إلى المفتش طويلًا ثم قال: سنعيد النظر في كل معلوماتنا عن خطف «بونجا»؛ لقد وقعنا في خطأ كبير، أو كنا ضحية خطة خداع بارعة وقعنا فيها مغمضي العيون!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤