في أسوان

لم يبقَ سوى دقائق على إقلاع الطائرة، ولم يظهر المفتش، وأحسَّ الأصدقاء أنهم حضروا إلى المطار دون فائدة … ولكن فجأةً لمحوا المفتش يدخل إلى صالة المطار الواسعة بخطوات سريعة … وهو يتلفَّت حوله باحثًا عنهم، فأسرعت إليه «لوزة» وتبادلا تحيةً حارة؛ كان المفتش يُحبُّها جدًّا.

قالت «لوزة» وهي بين الأمل واليأس: هل وجدت تذاكر؟

ابتسم المفتش قائلًا: نعم؛ فقد تخلَّف بعض الركاب واعتذروا للشركة، فأخذنا أماكنهم، وقد أحضرت التذاكر معي.

اتجه الجميع إلى الصالة الجانبية الخاصة بالخطوط الداخلية، ووقفوا في الصف يزنون حقائبهم، وقال المفتش موضِّحًا: من حق الراكب أن يأخذ معه ٢٠ كيلو فقط، وحقيبة يد صغيرة.

لوزة: وإذا زاد الوزن؟

المفتش: يدفع قيمة الزيادة التي تتغيَّر حسب المسافة التي سيقطعها الراكب.

وبعد أن وزنوا الحقائب، اتجهوا إلى الطائرة، وكان يقف في أول السلَّم موظف يأخذ التذاكر، وعلى قمة السلَّم تقف مضيفة جميلة تستقبل الركاب بابتسامة حلوة وبكلمة ترحيب.

واتخذ الجميع أماكنهم، فجلس «تختخ» بجوار «لوزة» و«محب» بجوار «عاطف» و«نوسة» بجوار المفتش، وأغلقت الطائرة أبوابها، وأُضيئت الأنوار، وقرأ الجميع التعليمات المضاءة؛ اربط الحزام من فضلك … ممنوع التدخين.

وبعد لحظات أدارت الطائرة محرِّكاتها، وبدأت تسير على أرض المطار وهي تهتز، وسارت على الممر وصوت المحرِّكات يرتفع أكثر فأكثر … ثم وقفت في مواجهة الريح وزادت من سرعتها بشدة … وسارت مسافةً قصيرةً أخرى بسرعة عالية … ثم قفزت في الهواء وأخذت ترتفع شيئًا فشيئًا.

مرَّت المضيفة الجميلة على الركَّاب تتأكَّد من ربط الأحزمة، وقدَّمت لكلٍّ منهم قطعةً من الحلوى … وكانت «لوزة» تجلس بجوار النافذة فنظرت إلى الأرض التي أخذت تبتعد شيئًا فشيئًا، وسمعت صوت المضيفة في مكبِّر الصوت تتحدَّث: سيداتي سادتي … باسم الكابتن «حسين» وأفراد طاقم الطائرة نرحب بكم … نحن نطير على طائرة ماركة «أنتينوف» … بسرعة ٤٥٠ كيلومترًا في الساعة … ونرجو أن نقطع المسافة من القاهرة إلى الأقصر في ساعة وربع ساعة … على ارتفاع ٢٠ ألف قدم.

ثم أعادت المضيفة نفس الكلام مرةً أخرى باللغة الإنجليزية وساد الصمت … والطائرة ترتفع وترتفع … و«لوزة» تُشاهد القاهرة تحتها وقد أخذت تفاصيلها تتلاشى، وتبدو كأنها لعبة صغيرة مرسومة على الأرض …

قالت «لوزة» للمفتش: لقد قرأت أن الطائرات أسرع من هذا بكثير.

المفتش: نعم، الطائرات النفَّاثة أسرع بكثير، وتبلغ سرعة النفَّاثة المستعملة كطائرات ركوب نحو ١٠٠٠ كيلومتر في الساعة، أمَّا الطائرات الحربية فبعضها سرعتها ضعف هذه السرعة.

ومضت الرحلة هادئةً حتى وصلوا إلى الأقصر فنزلت الطائرة، حيث قضى الأصدقاء وبقية الركاب ثلاثة أرباع الساعة في بوفيه المطار حيث تناولوا الشاي، ثمن استأنفت الطائرة رحلتها، وبعد نحو نصف ساعة نزلت في مطار أسوان.

قال «تختخ» للمفتش: أرجو أن نتمكَّن من النزول في فندق «جزيرة آمون» الذي كانت تنزل به «بونجا» مع «ناندا»، ففي هذا المكان على ما أعتقد خُطفت «بونجا» واستُبدلت بالفتاة التي كانت في فندق «شيراتون».

المفتش: ذلك شيء ممكن طبعًا.

قطعت السيارة المسافة بين المطار الجديد إلى مدينة أسوان في نحو ساعة، ونزل الركاب أمام مبنى شركة الطيران على النيل، ولحسن الحظ كان هناك موقف اللنشات التي تحمل نزلاء فندق «آمون». وهكذا استقل الأصدقاء اللنش بعد أن نزلوا سلَّمًا عاليًا بين الشارع والشاطئ، وحملهم اللنش بجوار الصخور العملاقة التي تملأ النيل في هذه المنطقة، ومرُّوا بجزيرة مغطاة بالنباتات فسألوا قائد اللنش عنها، فقال إن اسمها الجزيرة الوسطى، وهي أكبر الجزر التي تعترض مجرى النيل في هذه المنطقة، وخلفها مباشرة جزيرة «آمون» حيث يقع الفندق.

بعد نحو عشر دقائق اقترب اللنش من جزيرة آمون العالية، حيث يقع الفندق الصغير، تُحيط به الأشجار والزهور من كل ناحية، وكان المساء قد بدأ يهبط فأضيئت أنوار الفندق في مبناه … وعلى الأشجار … وبين الزهور … وعلت منه موسيقى جميلة، فبدا كل شيء رائعًا … وأسطوريًّا … وكأنه حلم جميل …

قالت «لوزة» وهي تُشير إلى الفندق: هل سننزل هنا؟ إنه أجمل مكان شاهدته في حياتي!

المفتش: لقد نزلت فيه من قبل … وهو حقًّا من أجمل الأماكن في بلادنا، وإن كان ليس مشهورًا مثل فندق «كتراكت»؛ لأن الأخير قديم وله شهرة عالمية.

وقف اللنش على مرسى الجزيرة، وكان في انتظارهم الفراشون في ملابسهم الحمراء المزركشة بالأصفر … ويمتد أمامهم صاعدًا إلى فوق سلَّم يحملهم من شاطئ الجزيرة الصخري إلى المنخفض إلى القمة حيث يقف الفندق.

قال «محب»: إنه مكان صالح لكل شيء، وخاصةً للمغامرات … إنه يُشبه قلعةً حصينة، محاطةً بالماء من جميع الجهات.

ردَّ «تختخ»: فعلًا، وقد كان «ناندا» بارعًا عندما اختار هذا المكان. وقد ساعده تعليمه في مصر وإجادته اللغة العربية في عملية الاختطاف التي قام بها.

كان الأستاذ «سمير» مدير الفندق يقف أمام منصة الاستقبال فرحَّب بهم، واختار لهم ثلاث غرف مشتركة، فنزل «تختخ» مع المفتش في الغرفة رقم ١٥، و«محب» و«نوسة» في الغرفة رقم ١٦، و«عاطف» و«لوزة» في الغرفة رقم ١٧، وكلها في الدور الأرضي من الفندق المكوَّن من دورَين فقط.

بعد أن اغتسل الأصدقاء وغيَّروا ثيابهم، دعاهم مدير الفندق إلى تناول الشاي في الحديقة، ودار الحديث طبعًا حول «بونجا»، فقال المدير: لقد حضرت مع سكرتيرها «ناندا» ومربيتها، وهي فتاة لطيفة، تتحدَّث الإنجليزية وتحب بلادنا جدًّا.

محب: وهل وصلت من المطار وهي مصابة؟

المدير: لا أبدًا، لقد كانت في غاية الصحة وليس بها إصابات على الإطلاق، ثم خرج معها «ناندا» في قارب للنزهة ليلًا، وعندما عادت كانت مصابة، وعندما حاولت أن أطلب لها طبيبًا رفض، ثم غادرتنا في الصباح.

تختخ: لقد تمَّت عملية الاستبدال في القارب.

المفتش: هذا واضح جدًّا.

تختخ: لو استطعنا الوصول إلى صاحب هذا القارب لأمكننا تتبُّع أول خيط.

المدير: ذلك سهل؛ فالمراكبية في هذه المنطقة يعرفون بعضهم بعضًا، وفي استطاعتي الوصول إلى ذلك الرجل.

وقام المدير فاتصل تليفونيًّا بالشاطئ الآخر حيث حضر اللنش الذي يحمل نزلاء الفندق، وتحدَّث مع السائق قليلًا ثم عاد إليهم قائلًا: سيكون المراكبي الذي خرجت معه «بونجا» هنا في الصباح.

قضى الأصدقاء ليلةً هادئة، وتمتَّعوا بنوم عميق، وفي الصباح الباكر استيقظوا وقاموا بجولة في الجزيرة، ومضى وقت طويل دون أن يظهر المراكبي «عثمان» وهو الذي نقل «بونجا» في تلك الليلة التي تمَّ فيها استبدالها بالفتاة الأخرى.

ذهب المفتش والأصدقاء لمقابلة سائق اللنش لسؤاله عن سبب غياب «عثمان»، فقال إنه لا يعرف سبب غيابه، فسأله المفتش: من أي مكان «عثمان» هذا؟

ردَّ السائق: إنه من قرية بعيدة في النوبة الجديدة تُدعى «توشكى».

كان «تختخ» يُتابع الحوار فقال: «توشكى» … إنها على ما أظن آخر قرية على الحدود المصرية السودانية.

السائق: ليست الأخيرة … فبعدها أربع قرًى أخرى، ثم الحدود السودانية.

قال «تختخ» موجِّهًا الحديث إلى المفتش: يجب أن نتجه فورًا إلى «توشكى»، فما دام «عثمان» اختفى عندما علم أننا نطلبه؛ فلا بد أنه مشترك في الخطف … ومن المؤكَّد أنه فرَّ إلى قريته، والقرية قريبة من حدود السودان … وإنني أعتقد أن «ناندا» سيحاول تهريب الفتاة من الحدود.

وأسرع المفتش يتصل بمديرية الأمن في «أسوان»، وطلب إعداد سيارة «جيب» له وللأصدقاء … فلم تكن هناك مواصلات سكة حديدية إلى هذه القرى الجديدة في النوبة، وتأخَّر تجهيز السيارة بعض الوقت، ثم اتصل بهم ضابط الشرطة ليُبلغهم أنها ستكون جاهزةً في الرابعة بعد الظهر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤