الفصل الثاني

تاريخٌ له غاية

أخذ هيجل التاريخ على محمل الجد؛ فعلى النقيض من كانط، الذي كان يعتقد أنه من الممكن أن يجزم على أسس فلسفية محضة بماهية الطبيعة البشرية وما يجب أن تكون عليه دائمًا، قَبِل هيجل برأي شيلر القائل بأن أسس الحالة البشرية يمكن أن تتغير من حقبة تاريخية لأخرى، كما أن مفهوم التغيُّر — أي التطور على مدار التاريخ — عامل أساسي في وجهة نظر هيجل بشأن العالَم. كتب فريدريك إنجلز متأملًا أهمية هيجل بالنسبة له ولزميله كارل ماركس:

إن الأمر الذي ميَّز طريقة تفكير هيجل عن غيره من الفلاسفة هو حِسُّه التاريخي الاستثنائي. ومهما كان الشكل المستخدم مجردًا أو مثاليًّا، كان تطور أفكاره متوازيًا دائمًا مع تطور التاريخ العالمي. ومن المفترض أن يكون التطور الأخير بالتأكيد دليلًا على التطور الأول.

لسنا بحاجة الآن لأن نَقْلق بشأن معنى عبارة إنجلز الأخيرة — الإشارة إلى أن تطور التاريخ العالمي هو «دليل» على النسق الفكري لهيجل — نظرًا لأن التوازي القاطع بين تطور أفكار هيجل وتطور التاريخ العالمي الذي يشير إليه إنجلز هو مبررٌ كافٍ لاستخدام فهم هيجل للتاريخ العالمي كطريق نحو نسقه الفكري.

النقطة الأخرى التي نستنتجها مما كتبه إنجلز هي — ببساطة — أنه في تقييم أهمية تأثير هيجل على ماركس وعلى نفسه، منحَ الحس التاريخي لدى هيجل المرتبة الأولى؛ ولذلك فإننا في بداية تقديمنا لكتاب هيجل «فلسفة التاريخ»، نبدأ بموضوع محوري، ليس فقط لنسق هيجل الفكري، بل أيضًا للأثر المستمر لأفكاره.

ما هي فلسفة التاريخ؟

من الضروري أولًا أن نفهم المقصود بمصطلح «فلسفة التاريخ»، من وجهة نظر هيجل. يتضمن كتاب هيجل «فلسفة التاريخ» كمية كبيرة من المعلومات التاريخية، ويمكن أن يجده القارئ موجِزًا للتاريخ العالمي؛ من الحضارات القديمة في الصين والهند وبلاد فارس، مرورًا باليونان القديمة، وصولًا إلى العصور الرومانية، ثم تتبع مسار التاريخ الأوروبي من النظام الإقطاعي إلى حركة الإصلاح الديني، ثم إلى عصر التنوير والثورة الفرنسية. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن هيجل لم يكن ينظر إلى كتابه هذا بوصفه مجرد سرد للأحداث التاريخية؛ فعمله عمل فلسفي؛ لأنه يأخذ الحقائق التاريخية المجردة باعتبارها مادة خامًا ويحاول أن يتجاوزها لما هو أبعد منها. حتى إن هيجل نفسه قال إن «فلسفة التاريخ تعني فقط التأمل العميق فيه.» ومع أن هذا قد يكون تعريفه الخاص لفلسفة التاريخ، فإنه يعطي فكرة غير كافية عما كان هيجل بصدده في كتابه «فلسفة التاريخ». إن ما غفله هيجل في تعريفه هو مقصده الذي يتمثَّل في أن «التأمل العميق» للتاريخ ينبغي أن يسعى لتقديم مادته الخام باعتبارها جزءًا من عملية تطور عقلانية، وهكذا يكشف معنى تاريخ العالم ودلالته.

وهنا يتضح أحد آراء هيجل المحورية؛ ألَا وهو إيمانه بأن التاريخ يحمل بعض المعاني والدلالات. فلو أن هيجل استعرض التاريخ وفقًا لرؤية ماكبث البائسة للحياة بوصفه «قصة يرويها معتوهٌ، مليئة بالضجة والغضب، ولا تعني شيئًا»؛ لما حاول مطلقًا تأليف كتابه «فلسفة التاريخ»، ولكان أهم عمل في حياته مختلفًا تمامًا. بالطبع تتشابه وجهة النظر العلمية الحديثة كثيرًا مع رؤية ماكبث؛ فهي تخبرنا بأن كوكبنا مجرد نقطة صغيرة في كون بحجم لا يمكن تخيُّله، وأن الحياة على هذا الكوكب بدأتْ من اندماج عرضي للغازات، ثم تطورتْ بواسطة قوى الانتخاب الطبيعي الجامدة. وتماشيًا مع هذه الرؤية لنشأة نوعنا، يرفض معظم الفكر الحديث افتراض أن للتاريخ أيَّ غاية أبعد من الغايات الفردية الهائلة المتنوعة للبشر الذين لا حصر لهم؛ الذين يصنعون التاريخ. في عصر هيجل، لم يكن هناك أيُّ شيء غير مألوف بشأن اعتقاده الراسخ بأن التاريخ البشري ليس مجرد مجموعة غير منظَّمة من الأحداث؛ بالتأكيد هذا الاعتقاد في الواقع ليس غريبًا حتى في وقتنا الحالي؛ نظرًا لأن الفكر الديني كان يرى على نحو تقليدي أن هناك معنًى ودلالة في مسار التاريخ البشري، حتى وإن لم يكن له دلالة إلا كمقدمة لعالَم أفضل لم يأتِ بعدُ.

هناك العديد من الطرق المختلفة التي يمكن بواسطتها استيعاب الادعاء الذي يرى أن التاريخ له مغزًى؛ فيمكن اعتباره ادعاءً يشير إلى أن التاريخ هو مِن تدابير إلهٍ قام بإيجاد هذه العملية بالكامل؛ أو بطريقة أكثر غموضًا، يمكن اعتبار أن الغرض منه هو الإشارة إلى أن الكون ذاته قد تكون له غايات على نحو ما. إن التأكيد على أن التاريخ ذو مغزًى يمكن استنباطه من جميع الدلالات الدينية أو الروحانية، ويمكن فهمه ببساطة من خلال الزعم الأكثر تقييدًا بأن التأمل في ماضينا يمكِّننا من إدراك مسار التاريخ، والغاية التي سيصل إليها في النهاية. وهذه الغاية، لحسن الحظ، هي غاية مرجوَّة؛ ومن ثم يمكننا تقبُّلها باعتبارها هدفًا لمساعينا.

يمكن فهم كتاب هيجل «فلسفة التاريخ» بطرقٍ شتَّى، تتشابه مع هذه الطرق المختلفة لاستيعاب الزعم بأن هناك مغزًى للتاريخ. ووفقًا لاستراتيجيتنا العامة في تناول أفكار هيجل، سنبدأ بالعناصر الموجودة في الكتاب، والتي تؤكد على أن للتاريخ مغزًى، وذلك من خلال الطريقة الثالثة، الأقل غموضًا، من الطرق المتعددة لاستيعاب وجهة النظر هذه.

في مقدمة كتابه «فلسفة التاريخ»، يوضِّح هيجل صراحةً وجهة نظره حول مسار التاريخ البشري كله ووجهته، فيقول: «تاريخ العالَم ليس إلَّا تقدُّم الوعي بالحرية.» تحدِّد هذه الجملة الفكرة الرئيسية للكتاب بالكامل (بل ويمكن القول بأنها أيضًا تلخِّص الفكرة الرئيسية في فكر هيجل؛ لكن المزيد عن ذلك سيأتي لاحقًا). والآن يجب أن نرى كيف قام هيجل بتوضيح فكرته الرئيسية هذه.

يبدأ هيجل بوصف ما أسماه «العالَم الشرقي»، الذي يقصد به الصين والهند والإمبراطورية الفارسية القديمة. ويعتبر هيجل حضارتَيِ الصين والهند القديمتين «جامدتَيْن»؛ أي مجتمعات وصلت لنقطة معينة من التطور، ثم بطريقة ما سرعان ما تجمَّدتْ في مكانها. ويصفهما هيجل بأنهما «خارج نطاق تاريخ العالم»؛ أي ليستا جزءًا من عملية التطور الشاملة التي هي أساس فلسفته التاريخية. يبدأ التاريخ الحقيقي بالإمبراطورية الفارسية، التي يقول عنها هيجل إنها «الإمبراطورية الأولى التي زالتْ».

إن حديث هيجل عن العالم الشرقي يتضمَّن العديد من التفاصيل، تتعلق كلها بفكرة أنه في المجتمع الشرقي يوجد شخص واحد فقط يتمتع بحريته؛ ألَا وهو الحاكم، أما بقية المجتمع، فجميعهم يفتقرون إلى الحرية؛ لأنهم يجب أن يُخضِعوا إرادتهم للبطريرك أو اللاما أو الإمبراطور أو الفرعون أو أيًّا كان اللقب الذي قد يُطلق على الحاكم المطلق المستبِدِّ. ويمتدُّ الافتقار إلى الحرية هذا إلى مستوًى عميق للغاية؛ فلا يعني هذا فقط أن رعايا الحاكم المطلق يعلمون أنه بإمكان الحاكم معاقبتهم بقسوة لعصيانهم رغبته؛ فذلك قد يوحي بأن لديهم إرادة مستقلة، وأن بإمكانهم التفكير — ويفكرون بالفعل — فيما إذا كان من الحكمة أو الصواب طاعة الحاكم المطلق. يُشير هيجل إلى أن الحقيقة هي عدم امتلاك الرعايا الشرقيين إرادةً مستقلة بالمعنى الحديث؛ ففي بلاد الشرق، فإن القانون، وحتى الأخلاق ذاتها، يخضعان لتشريع خارجي. فلا يوجد لديهم مفهومنا عن الضمير الفردي؛ ولذلك لا توجد إمكانية لتشكيل الأفراد لأحكامهم الأخلاقية بأنفسهم بشأن الصواب والخطأ. في وجهة نظر سكان الشرق — ما عدا الحاكم — تأتي الآراء المتعلقة بهذه المسائل من الخارج؛ فهي حقائق خاصة بالعالَم، ولا يمكن التشكيك فيها مثلها مثل وجود الجبال والبحار.

fig5
شكل ٢-١: سيدارتا جوتاما، المعروف باسم بوذا (حوالي ٥٦٣–٤٨٣ قبل الميلاد).

وفقًا لهيجل، تأخذ حالة انعدام الاستقلالية الشخصية هذه أشكالًا مختلفة في الثقافات الشرقية المختلفة، لكن النتيجة دائمًا ما تكون واحدة. يخبرنا هيجل أن الدولة الصينية كانت مؤسَّسة على حكم الأسرة؛ فالحكومة قائمة على الحكم الأبوي للإمبراطور، وينظر الآخرون لأنفسهم على أنهم أبناء الدولة. وهذا هو السبب الذي يجعل المجتمع الصيني يشدِّد بقوة على الاحترام والطاعة اللذين يَدِين بهما الشخص لوالديه. وفي الهند — على النقيض — لا يوجد مفهوم الحرية الفردية؛ لأن النظام الأساسي للمجتمع — نظام الطبقات الاجتماعية الذي يحدِّد لكل شخص من ذكر أو أنثى وظيفته في الحياة — لا يُعدُّ نظامًا سياسيًّا، بل أمرًا طبيعيًّا؛ ومن ثم غير قابل للتغيير. وهكذا لا تكون السلطة الحاكمة في الهند حاكمًا بشريًّا مطلقًا مستبدًّا، وإنما الاستبداد هنا هو استبداد الطبيعة.

أما في بلاد فارس فالأمر مختلف؛ فعلى الرغم من أن الإمبراطور الفارسي يبدو للوهلة الأولى حاكمًا مطلقًا يتشابه في كثير من الأمور مع إمبراطور الصين، فإن أساس الإمبراطورية الفارسية ليس قائمًا على مبدأ الطاعة الأسرية الطبيعية الذي يمتد إلى جميع أرجاء الدولة فحسب، بل على مبدأ عام يُطبَّق فيه القانون على الحاكم كما يطبق على رعاياه. فبلاد فارس كانت مَلَكية ثيوقراطية قائمة على ديانة زرادشت، التي كانت تتضمن عبادة «النور». يُبدِي هيجل اهتمامًا كبيرًا بفكرة النور بوصفه شيئًا نقيًّا وكونيًّا، مثل الشمس التي تضيء بنورها للجميع وتنفع الجميع على حدٍّ سواء. لا يعني هذا بالطبع أن بلاد فارس كانت تؤيد المساواة بين البشر؛ فالإمبراطور ظلَّ هو الحاكم المطلق؛ ومن ثم الشخص الحر الوحيد في الإمبراطورية. لكن حقيقة أن حكمه كان قائمًا على مبدأ عام ولا ينُظر إليه بوصفه حقيقة طبيعية، كانت تعني وجود احتمالية حدوث تطور. إن فكرة الحكم استنادًا على مبدأ فكري أو روحي تدل على بداية نمو الوعي بالحرية الذي كان هيجل معنيًّا بتتبُّعه؛ وعليه كانت هذه هي بداية «التاريخ الحقيقي».

العالَم اليوناني

كانت إمكانية نمو الوعي بالحرية موجودة في الإمبراطورية الفارسية، لكن هذه الإمكانية لم تكن لتتحقق في ظل هيكل الإمبراطورية. لكن في إطار سعي الإمبراطورية للتوسُّع، تواصلتْ مع أثينا وأسبرطة وغيرهما من مدن اليونان المستقلة القديمة. فطلب الإمبراطور الفارسي من اليونانيين الإقرار بسيادته، لكنهم رفضوا، فقام الإمبراطور بتعبئة جيشٍ جرَّار وأسطول ضخم من السفن، والْتَقى الأسطول الفارسي والأسطول اليوناني عند جزيرة سالاميس. ويشير هيجل إلى أن هذه المعركة الملحمة كانت صراعًا بين حاكم مطلق شرقي كان يسعى إلى عالَم موحَّد تحت راية إمبراطور واحد وسيادة واحدة، ودول منفصلة كانت تدرك مبدأ «الحرية الفردية». كان انتصار اليونانيين يعني أن منعطف تاريخ العالم انتقل من العالم الشرقي ذي الحاكم المطلق إلى عالم المدن اليونانية المستقلة.

ومع أن هيجل يرى العالَم اليوناني كعالَم تُحرِّكه فكرة الحرية الفردية، فإنه يرى تلك الحرية لم تتطور أبدًا بصورة كاملة في هذه المرحلة من التاريخ. يحتجُّ هيجل بسببين مختلفين لاعتبار الرؤية اليونانية للحرية محدودة. ويتسم أحد هذين السببين بالوضوح، والآخر يشوبه بعض التعقيد.

أما السبب الواضح، فهو أن فكرة الحرية عند اليونانيين تسمح بوجود العبودية. إن استخدام الكلمة «تسمح» بلا شك ضعيف جدًّا؛ لأن هيجل يرى أن الشكل الديمقراطي لدى اليونانيين كان يتطلب بالتأكيد وجود العبيد كي يؤدِّي دوره. فإذا كان كل مواطن، كما كان الحال في أثينا، يتمتع بحق وواجب المشاركة في الإكليزيا — وهي الجهة العليا المعنية باتخاذ القرار في المدينة — فمَن تبقَّى لأداء المهام اليومية الخاصة بتوفير ضروريات الحياة؟ يجب أن تكون هناك فئة من العمال الذين يفتقرون لحقوقهم وواجباتهم بوصفهم مواطنين. بعبارة أخرى: يجب أن يكون هناك عبيد.

في العالم الشرقي، هناك شخص واحد فقط حرٌّ، وهو الحاكم. ومعنى وجود عبيد أن العالم اليوناني قد تقدَّم لمرحلة أصبح فيها البعض — لا الكل — أحرارًا. لكن هيجل يرى أنه حتى أولئك المواطنين الأحرار في إحدى المدن اليونانية ليسوا أحرارًا بالكامل. والسبب الذي يدفعه لهذا الرأي ليس من السهل استيعابه؛ فهو يزعم أن اليونانيين ليس لديهم مفهوم الضمير الفردي. فكما رأينا، كان هيجل يعتقد بانعدام هذا المفهوم في العالم الشرقي أيضًا، لكن في حين كانت الشعوب الشرقية تُطيع ببساطة ودون تفكير قانونًا أخلاقيًّا فُرض عليها من سلطة عليا، كان دافع اليونانيين ينبع من داخلهم. ويوضِّح هيجل أنهم كانوا يتمتعون بعادة الحياة من أجل بلدهم دون أي تفكير. ولم تكن هذه العادة نابعة من قبول مبدأ مجرد ما، مثل فكرة أن على الجميع العمل من أجل صالح بلدهم. فاليونانيون بفطرتهم آمنوا بأنهم مرتبطون بدولتهم بقوة لا يمكن زعزعتها، بحيث لم يميِّزوا بين مصالحهم الشخصية ومصالح المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه، فلم يتصوروا حياتهم بعيدًا عن هذا المجتمع — أو ضده — بشتَّى عاداته وصُوَر الحياة الاجتماعية به.

كل هذا يعني أن استعداد اليونانيين للقيام بما يخدم مصلحة المجتمع ككلٍّ ينبع من داخلهم، وهذا يدل على أن اليونانيين كانوا أحرارًا بطريقة لم يتمتع بها الشرقيون؛ فقد كانوا يقومون بما تُمليه عليهم أنفسهم، لا ما تُمليه عليهم بعض القوانين الخارجية. ومع ذلك، يقول هيجل إن هذا الشكل من الحرية ليس كاملًا لمجرد أن الدافع إليه يأتي بصورة طبيعية جدًّا؛ فنتاج العادات والأعراف التي نتربَّى عليها ليس نتيجة لاستخدام عقولنا. فإذا أقدمتُ على فعل شيء نتيجةً لعادة، فأنا لم أختَرْ أن أقومَ به عن عَمْد. فيمكن القول بأن أفعالي ما زالت تخضع لقوًى خارجة عن إرادتي — القوى الاجتماعية التي منحتْني عاداتي — حتى وإن لم يكن هناك حاكم مطلق يخبرني بما عليَّ فعله، وإن بدا أن الدافع وراء الفعل ينبع من داخلي.

وكأحد أعراض هذا الاعتماد على القوى الخارجية، يشير هيجل إلى ميل اليونانيين لاستشارة وسيط روحاني لإرشادهم قبل أن يُقدِموا على أي مجازفة مُهِمَّة. قد تكون مشورة الوسيط الروحاني قائمة على حالة أمعاء حيوان تمَّ ذبحُه قربانًا، أو على حدث طبيعي آخر ليس له أي علاقة بفكر الشخص. فالأحرار بحق لم يكونوا ليسمحوا بأن تتحدد أهمُّ قراراتهم استنادًا إلى مثل هذه الأحداث، بل كانوا يتخذون قراراتهم بأنفسهم مستخدمين قدرتهم على التفكير. فالعقل يرتقي بالأحرار فوق الأحداث الطبيعية العَرَضِيَّة، ويمَكِّنهم من التفكير بصورة انتقادية في موقفهم والقوى التي تؤثر فيهم. وهكذا لا يمكن أن تتحقق الحرية بالكامل دون التأمل أو التفكير النقدي.

لذا فإن التأمل أو التفكير النقدي هو المفتاح الرئيسي لإحراز أي تقدم في عملية تطور الحرية. إن أمر الإله أبولو عند اليونانيين كان يدفعهم نحو هذا الطريق: «أيها الإنسان، اعرف نفسك.» هذه الدعوة للبحث الحر وغير المقيَّد بالمعتقدات العُرْفية تبنَّاها الفلاسفة اليونانيون، ولا سيما سقراط. يعبِّر سقراط عن وجهة نظره بطريقة نموذجية في شكل حوار مع شخص بارز من أهل أثينا يعتقد أنه يعرف جيدًا ما هو صالح أو عادل. لكن يتضح أن هذه «المعرفة» ليست سوى قدرته على ترديد بعض الأقوال المأثورة عن الصلاح أو العدالة، ولا يَجِد سقراط أيَّ صعوبة في أن يُبرْهِن على أن هذا المفهوم العرفي للأخلاق لا يمكن أن يكون شاملًا؛ فعلى سبيل المثال، على عكس الفكرة السائدة أن العدالة تكمن في إعطاء كل ذي حق حقه، يطرح سقراط مثالًا يقوم فيه أحد أصدقائك بإعارتك سلاحًا، ثم يصير صديقك هذا مختلًّا. ربما في هذه الحالة تكون مدينًا له بالسلاح، لكن هل من العدل حقًّا أن تردَّ له سلاحه؟ وبهذه الطريقة يقود سقراط قرَّاءه للتأمل النقدي في الأخلاق العرفية التي طالما قَبِلوها. فهذا التأمل النقدي يجعل من العقل، لا الأعراف الاجتماعية، الحَكَم الفصل في تحديد ما هو صواب وما هو خطأ.

يرى هيجل المبدأ الذي أوضحه سقراط باعتباره قوة ثورية ضد أثينا؛ ولذلك يعتبر الحُكْم بالإعدام الصادر ضد سقراط ملائمًا بلا شك؛ فاليونانيون كانوا يُدينون العدوَّ الأكثر فتكًا بالأخلاق العرفية التي كانت حياتهم المجتمعية تقوم عليها. ومع ذلك كان مبدأ التفكير المستقل راسخًا بقوة في أثينا بحيث لا يمكن استئصاله بموت شخص واحد؛ ولذلك جاء اليوم الذي أُدِين فيه متهمو سقراط، وتمت فيه تبرئةُ ساحة سقراط نفسه بعد وفاته. وكان مبدأ التفكير المستقل هذا، مع ذلك، هو السبب الرئيسي في سقوط أثينا، ويشير إلى بداية النهاية للدور التاريخي العالمي الذي اضطلعت به الحضارة اليونانية.

العالَم الروماني

على عكس التوحُّد القائم على اتِّباع العُرف والتقاليد غير الخاضعة للتفكير التي شكَّلت أساس المدن اليونانية القديمة، يُصوِّر هيجل الإمبراطورية الرومانية على أنها تكوَّنتْ من مجموعة متنوِّعة من الشعوب، تفتقر لجميع الروابط الأبوية الطبيعية أو غيرها من الروابط العرفية؛ ولذلك كانت تتطلب أكثر الأنظمة صرامةً، مدعومًا بالقوة؛ وذلك للحفاظ على ترابطها. وهذا يجعل هيمنة روما في المرحلة التالية من تاريخ العالَم تبدو كعودة للنموذج الشرقي للحاكم المطلق كما في الإمبراطورية الفارسية. لكن حتى وإن كان مسار تاريخ العالم — كما يعرضه هيجل — لا يتقدم على نحو سَلِس وثابت، فإنه بالتأكيد لا يعود للخلف أيضًا؛ فالمكاسب التي حُققتْ في عصرٍ مَضَى لا يمكن أبدًا خسارتها بالكلية؛ لذلك يميز هيجل بدقة بين المبادئ الأساسية التي قامت عليها كلٌّ من الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية. ففكرة الحرية الفردية والقدرة الشخصية على الحكم على الأشياء، التي وُلدتْ في العصر اليوناني، لم تتلاشَ؛ فقد قامت الدولة الرومانية في واقع الأمر على دستور سياسي ونظام قانوني يتضمن الحقوق الفردية باعتبارها أحد مفاهيمه الأساسية. هذا يوضح أن الدولة الرومانية تُقِرُّ بحرية الفرد بطريقة لم تتمكن الإمبراطورية الفارسية مطلقًا من إقرارها؛ الفكرة هي بالطبع أن هذا الإقرار بحرية الفرد مسألة قانونية أو رسمية خالصة؛ يطلق عليها هيجل «الحرية الفردية المجردة». إن الحرية الحقيقية التي تسمح للأفراد بتطوير مجموعة متنوعة من الأفكار وطُرُق العيش، التي يطلق عليها هيجل «الحرية الفردية المادية»، تتحطَّم بقسوة على صخرة القوة الغاشمة لروما.

إذن فالاختلاف الحقيقي بين الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية يتمثل في أن مبدأ الحكم المطلق الشرقي مهيمن تمامًا في الإمبراطورية الفارسية، في حين أنه في الإمبراطورية الرومانية يوجد صراع دائم بين السلطة المطلقة للدولة وفكرة الحرية الفردية. كان هذا الصراع منعدمًا في الإمبراطورية الفارسية؛ لأن فكرة الحرية الفردية كانت لا تزال في طور التطور؛ وكانت منعدمة في العالم اليوناني؛ لأنه على الرغم من بزوغ فكرة الحرية الفردية هناك، فإن السلطة السياسية لم تحتشد بقوة لمقاومتها.

إن العالَم الروماني — كما يصوِّره هيجل — ليس عالَمًا سعيدًا؛ حيث تحطمت روح العالم اليوناني الحرة والعفوية التي تتسم بالبهجة. ففي مواجهة مطالبات الدولة بالامتثال الخارجي، لا يمكن العثور على الحرية إلا في الانطواء على النفس واللجوء إلى مذهب فلسفي مثل مذهب الشك أو مذهب الأبيقوريين أو مذهب الرواقيين. لا يعنينا هنا تفاصيل هذه المذاهب الفلسفية المتعارضة، لكن المهم هنا هو الميل المشترك بينها لازدراء كل ما يقدمه العالم الواقعي — الثراء والسلطة السياسية والمجد الدنيوي — في مقابل نموذج للحياة يجعل تابع هذا المذهب غير مبالٍ بأي شيء يمكن للعالم الخارجي أن يُحدِثه.

يرى هيجل أن انتشار هذه المذاهب الفلسفية كان نتيجة للعجز الذي يشعر به الفرد، الذي يؤمن بأنه كائن حر، في مواجهة السلطة المستبدة التي لا يقدر على تغييرها. إن اللجوء للفلسفة، مع ذلك، هو استجابة سلبية لهذا الموقف؛ فهو شكل من أشكال اليأس أمام عالَم عدائي. كانت هناك حاجة لإيجاد حلٍّ أكثر إيجابية، وهو الحل الذي قدَّمتْه المسيحية.

للتعرُّف على سبب نظر هيجل للمسيحية على هذا النحو، علينا إدراك أن البشر من وجهة نظر هيجل ليسوا مجرد حيوانات شديدة الذكاء؛ فالبشر يحيَوْن في العالم الطبيعي، مثلهم مثل الحيوانات، لكنهم أيضًا يتميزون بأنهم كائنات روحية. وحتى يدرك البشر أنهم كائنات روحية، يظل البشر أسرى في شَرَك العالَم الطبيعي؛ عالَم القوى المادية. وعندما يقاوم العالم الطبيعي تطلُّعهم للحرية معاندًا، مثلما فعل العالَم الروماني، لا يوجد مفرٌّ «داخل» العالم الطبيعي، ما عدا ما سبق وأن ذكرناه من اللجوء إلى فلسفة قائمة على موقف سلبي تمامًا تجاه العالم الطبيعي. ومع ذلك، ما إن يُدرك البشر أنهم كائنات روحية، حتى تنتهي أهمية عدائية العالم الطبيعي، ويكون بالإمكان تجاوزها بطريقة إيجابية لوجود شيء إيجابي يتجاوز العالم الطبيعي.

في نظر هيجل، المسيحية ديانة مميزة؛ لأن المسيح كان إنسانًا وفي الوقت نفسه «ابن الإله». وتُلقِّن هذه الحالةُ البشرَ درسًا مفاده أنه على الرغم من أن لديهم قصورًا في بعض النواحي، فإنهم في الوقت ذاته خُلقوا على صورة الإله، وبداخلهم قيمة غير محدودة ومصير خالد. وكانت النتيجة تطور ما يطلق عليه هيجل «الوعي الذاتي الديني»؛ الإقرار بأن العالم الروحي، لا العالم الطبيعي، هو موطننا الحقيقي. لتحقيق هذا الوعي، يتعين على البشر كَسْر قبضة الرغبات الطبيعية، وبالطبع الوجود الطبيعي بأكمله، التي تسيطر عليهم.

إن مهمة الديانة المسيحية هي تحقيق هذا الوعي بأن الطبيعة الروحية للبشر هي الطبيعة المهمة لهم. ومع ذلك، لا يحدث كل ذلك على الفور؛ لأنه لا يتطلب تقوى داخلية فحسب؛ فالتغير الذي يحدث في القلب التقيِّ للمؤمن بالمسيحية يجب أن يحول العالم الخارجي الحقيقي إلى شيء يُلبِّي متطلبات البشر بوصفهم كائنات روحية. وكما سنرى، استغرقتِ البشرية التاريخ المسيحي بأكمله حتى عصر هيجل كي تصبح قادرة على تحقيق هذا.

ما حدث سريعًا، إلى حدٍّ ما، هو إلغاء القيود المفروضة على الحرية التي اتسم بها العصر اليوناني. أولًا: تُعارض المسيحية العبودية لأن كل شخص من البشر يتمتع بنفس القيمة غير المحدودة والأساسية. ثانيًا: انتهى الاعتماد على الوسطاء الروحانيين؛ نظرًا لأن الوسطاء الروحانيين يمثلون هيمنة الأحداث الطبيعية العَرَضِيَّة على الاختيار الحر للكائنات الروحية. ثالثًا: ولنفس السبب، حلَّت الأخلاق القائمة على الفكرة الروحية للحب محل الأخلاق العرفية للمجتمع اليوناني.

بزغت الديانة المسيحية في عهد الإمبراطورية الرومانية، وأصبحت الديانة الرسمية للإمبراطورية في عهد الإمبراطور قسطنطين. وعلى الرغم من سقوط النصف الغربي من الإمبراطورية تحت وطأة غزوات البربر، فإن الإمبراطورية البيزنطية ظلت مسيحية لأكثر من ألف سنة. ومع ذلك، يرى هيجل أن هذه المسيحية جامدة وفاسدة نتيجة لأنها كانت محاولة لوضع مظهر مسيحي زائف فوق أنظمة فاسدة بالفعل حتى النخاع. وقد استلزم الأمر أشخاصًا جددًا لإيصال العقيدة المسيحية إلى مصيرها المحتوم.

العالم الجرماني

قد يبدو غريبًا أن يشير هيجل إلى الفترة التاريخية الممتدة من سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى العصور الحديثة بأكملها بوصفها «العالم الجرماني». ويستخدم هيجل المصطلح Germanische، الذي يعني «جرماني» بدلًا من «ألماني»، ولا يتحدث عن ألمانيا فقط، بل أيضًا عن إسكندينافيا وهولندا وحتى بريطانيا. ولم يتغاضَ أيضًا — كما سنرى — عن التطورات التي حدثت في إيطاليا وفرنسا، مع أنه لم يجد روابط لغوية أو عِرقية لتبرير استخدام المصطلح «جرماني» على نطاق أوسع ليتضمن هذه الدول. قد يشك البعض في أن إطلاق هيجل اسم «العالم الجرماني» على هذا العصر يتسم بقدر من التعصب العرقي، لكن السبب الرئيسي الذي دفعه للقيام بذلك هو أنه يعتبر حركة الإصلاح الديني هي الحدث التاريخي الرئيسي الأوحد منذ العصر الروماني.

يرسم هيجل صورة مقبضة لأوروبا خلال الألف سنة التي مرت عقب سقوط روما؛ ففي أثناء هذه الفترة يرى هيجل أن الكنيسة أفسدت الروح الدينية الحقيقية، بحيث أقحمت نفسها بين الإنسان والعالم الروحي، وأصرَّتْ على الطاعة العمياء لها من أتباعها. ويصف هيجل العصور الوسطى بأنها «ليلة طويلة وطارئة ومفزعة»، ليلة انتهت ببزوغ عصر النهضة الذي يُعدُّ «وميض الفجر الذي يُبشِّر بعودة يوم ساطع ومجيد بعد هبوب عواصف لفترة طويلة.» ومع ذلك، يصف هيجل حركة الإصلاح الديني — وليس عصر النهضة — بأنها «الشمس المنيرة» التي أشرقتْ على يومنا الساطع؛ ألا وهو العصر الحديث.

لقد ظهرتْ حركة الإصلاح الديني نتيجة لفساد الكنيسة، الذي لم يكن ينظر إليه هيجل كتطور عَرَضِي، بل كنتيجة حتمية لحقيقة أن الكنيسة لا تتعامل مع الألوهية بوصفها شيئًا روحيًّا محضًا، بل بدلًا من ذلك قامتْ بتجسيدها في العالم المادي. فالتقيد بالشعائر والطقوس الدينية، وغيرها من المظاهر الخارجية، هو أساسها، ولا يتطلب الأمر سوى الالتزام بها باعتبارها جوهرًا للحياة الدينية. وهكذا تمَّ قصر العنصر الروحي في البشر على أشياء مادية مجردة. إن التعبير المطلق عن هذا الفساد المتغلغل هو بيع شيء يمس طبيعة الإنسان الدفينة والأكثر عمقًا؛ السلام الروحي الذي يصاحب غفران الخطايا، مقابل أكثر الأشياء دنيوية؛ ألَا وهو المال. يشير هيجل بالطبع إلى عملية بيع «صكوك الغفران» التي تسببتْ في بدء احتجاج لوثر.

ويعتقد هيجل أن الإصلاح الديني كان إنجازًا للشعب الجرماني، نبع من «صدق وإخلاص قلبه». يعتبر هيجل «الإخلاص» و«القلب» العنصرين الرئيسيين للإصلاح الديني، الذي بدأه راهب ألماني بسيط، هو لوثر، وترسَّخ في الشعوب الجرمانية فقط. وكانت نتيجتُه التخلص من أُبَّهة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ووضعها، وإحلال فكرة أن كل إنسان تربطه، في قلبه، علاقة مباشرة بالمسيح.

إن تقديم حركة الإصلاح الديني بوصفها حدثًا داخل جزء معزول من الحياة يسمى «الدين»، مع ذلك، قد يكون مناقضًا تمامًا لوجهة نظر هيجل؛ أولًا: طالما أكَّد هيجل على ترابط الجوانب المختلفة لتطورنا التاريخي. ثانيًا: كما رأينا بالفعل، لكي يحقق البشر طبيعتهم الروحية لا يكفي أن يرتقوا بحياتهم الدينية، بل يجب أن يجعلوا من العالم الذي يعيشون فيه مكانًا مناسبًا لحياة الكائنات الروحية الحرة. وهكذا يرى هيجل حركة الإصلاح الديني أكثر من مجرد هجوم على الكنيسة القديمة واستبدال البروتستانتية بالكاثوليكية الرومانية. تنادي حركة الإصلاح الديني بأنه يمكن لكل إنسان التعرف على حقيقة طبيعته الروحية، ويمكنه تحقيق خَلَاصه؛ فلا حاجة لوجود سلطة خارجية لتفسير النصوص المقدسة أو لأداء الشعائر. فالضمير الفردي هو الحكم النهائي في تحديد الحقيقة والصلاح. وتأكيدًا لهذا، رفعتْ حركة الإصلاح الديني «راية الروح الحرة» وجعلتْ مبدأها الرئيسي: «الإنسان بطبيعته خُلِق ليكون حُرًّا.»

fig6
شكل ٢-٢: مارتن لوثر (١٤٨٣–١٥٤٦).

منذ حركة الإصلاح الديني، أصبح دور التاريخ يقتصر على تغيير شكل العالَم وفقًا للمبدأ الرئيسي للحركة. وهي مهمة غير سهلة؛ فلو أن كل إنسان قادر بحرية على استخدام قواه الفكرية للحكم على ما هو حقيقي وصالح، لما أمكن العالم أن يَلقَى قبولًا كونيًّا إلا عندما يطابق المعايير العقلانية؛ ولذا يجب على جميع المؤسسات الاجتماعية — بما في ذلك القانون والتملك والأخلاق الاجتماعية والحكومة والدساتير وغيرها — أن توضع وفقًا للمبادئ العامة للعقل، وحينها فقط سيختار الأفراد بحرية قبول ودعم هذه المؤسسات. وحينها فقط سيتوقف كلٌّ من القانون والأخلاق والحكومة عن كونها قواعد وقوًى قسرية يجب على الإنسان الحر الامتثال لها، وحينها فقط سيكون البشر أحرارًا، وفي الوقت نفسه متصالحين بالكامل مع العالم الذي يعيشون فيه.

إن فكرة امتثال جميع المؤسسات الاجتماعية للمبادئ العامة للعقل تحمل في طياتها طابع حركة التنوير؛ فإخضاع كلِّ شيء لضوء العقل البارد والواضح، مع رفض كلِّ ما تأسس على الخرافة أو الامتيازات الموروثة، كان مذهب المفكرين الفرنسيين في القرن الثامن عشر؛ مثل فولتير وديدرو. إن حركة التنوير وما أعقبها من اندلاع الثورة الفرنسية هما بالتأكيد الحدثان التاليان — وتقريبًا الأخيران — في حديث هيجل عن تاريخ العالم. ومع ذلك، نجد أن موقف هيجل نحوهما ليس تمامًا ما يمكن أن يتوقعه المرء من ملاحظاته حول جوهر حركة الإصلاح الديني.

يقبل هيجل وجهة النظر التي تقول بأن الثورة الفرنسية كانت نتيجة الانتقادات الموجَّهة للنظام الذي كان موجودًا في فرنسا من قِبَل الفلاسفة الفرنسيين. ففرنسا قبل الثورة كانت لديها طبقة نبلاء لا تتمتع بقوة حقيقة، وإنما كانت تتمتع بمجموعة من الامتيازات المضطربة غير القائمة على أي أساس عقلاني. وفي مواجهة هذا الوضع غير العقلاني تمامًا، تجلَّى مفهوم الفلاسفة عن حقوق الإنسان وانتصر. ولا يَدَعُنا هيجل نحتار فيما يتعلق بوجهة نظره بشأن أهمية هذا الحدث، فيعلن عنها قائلًا:

لم يحدث منذ ظهور الشمس في السماء ودوران الكواكب حولها أن تمَّ إدراك أن وجود الإنسان يكمن في رأسه؛ أي فِكْره، الذي يلهمه لبناء عالَم الواقع … لم يستطع الإنسان إلا الآن إدراك مبدأ أن الفِكْر يجب أن يحكم الواقع الروحي. كان هذا إذنْ فجرًا فكريًّا مجيدًا. وجميع البشر شاركوا في الاحتفال بهذا الحدث.

إلا أن النتيجة المباشرة لهذا «الفجر الفكري المجيد» كانت «الإرهاب الثوري»، وهو شكل من أشكال الاستبداد الذي مارسَ سلطاته دون أي إجراءات قانونية، وكان عقابه يتمثَّل في الإعدام بالمقصلة. ما الخطأ الذي حدث؟ كان الخطأ هو محاولة تطبيق مبادئ فلسفية مجردة تمامًا دون النظر إلى طبيعة البشر. فهذه المحاولة كانت تستند إلى سوء فهم لدَوْر الفِكْر، الذي لا يمكن أن يُطبَّق بمعزل عن المجتمع الحالي والأشخاص الذين يشكلونه.

وهكذا كانت الثورة الفرنسية في ذاتها فاشلة، إلا أن أهميتها التاريخية العالمية تكمن في المبادئ التي نقلتْها للشعوب الأخرى، ولا سيما ألمانيا؛ فقد كانت الانتصارات القصيرةُ الأجلِ التي حققها نابليون كافيةً لوضع قانون للحقوق داخل ألمانيا لترسيخ حرية الإنسان وحرية التملك، ولفتح هيئات الدولة أمام أكثر المواطنين كفاءة للعمل فيها، ولإلغاء الالتزامات الإقطاعية. يبقى المَلِك هو رأس الحكومة، وقراره الشخصي هو القرار النهائي، إلا أنه في ظل القوانين الراسخة والنظام المستقر للدولة لم يتبقَّ للقرار الشخصي للملك — كما يقول هيجل — «في الحقيقة، سوى القليل.»

يصل هيجل بحديثه عن تاريخ العالم إلى نهايته بوصوله إلى العصر الذي عاش فيه. ويختتم هيجل الكتاب بتكرار — وإن بكلمات مختلفة قليلًا — الفكرة الرئيسية التي قدَّمها في البداية: «تاريخ العالم ليس إلا تطور فكرة الحرية»، مقترحًا أن تقدُّم فكرة الحرية قد بلغ الآن مداه. كان المطلوب أمرين: أن يحكم الأفرادُ أنفسَهم وفقًا لضمائرهم وقناعاتهم، وأن يتم تنظيم العالَم الموضوعي — العالم الواقعي بكل ما فيه من مؤسسات اجتماعية وسياسية — بصورة عقلانية. فلا يكفي أن يحكم الأفراد أنفسهم وفقًا لضمائرهم وقناعاتهم؛ لأنها ستكون مجرد «حرية ذاتية»؛ فما دام العالم الموضوعي لم يتمَّ تنظيمه بصورة عقلانية، سيتصارع الأفراد الذين يتصرفون وفقًا لضمائرهم الشخصية مع القانون والأخلاق، وسيصبح القانون المطبق والأخلاق القائمة شيئين مناوئين لهم وقيدين على حريتهم. من جهة أخرى، ما إن يتم تنظيم العالم الموضوعي بصورة عقلانية، فسيختار الأفراد الذين يتبعون ضمائرهم بحرية التصرفَ وفقًا لقانون وأخلاقيات العالم الموضوعي. وهكذا ستتحقق الحرية على كلٍّ من المستويين الذاتي والموضوعي، ولن تكون هناك قيود على الحرية؛ نظرًا لوجود تناغم تامٍّ بين الاختيارات الحرة للأفراد واحتياجات المجتمع ككلٍّ، وستتحول فكرة الحرية إلى واقع؛ ومن ثم يكون تاريخ العالم قد حقَّق هدفَه.

fig7
شكل ٢-٣: كان سقوط سجن الباستيل في ١٧٨٩ شرارة بدء الثورة الفرنسية.

هذه خاتمة رائعة بالفعل، لكنها تترك سؤالًا واضحًا معلقًا: ما الشكل الذي ينبغي أن يكون عليه التنظيم العقلاني للأخلاق والقانون والمؤسسات الاجتماعية الأخرى؟ ما الدولة العقلانية حقًّا؟ لم يذكر هيجل في كتابه «فلسفة التاريخ» إلا القليل جدًّا عن ذلك. فوصفُه الورديُّ لألمانيا في عصره، بالإضافة إلى حديثه عن أن تقدُّم فكرة الحرية قد بلغ الآن مداه، لا يمكن أن نستشفَّ منه سوى إيمانه بأن بلاده — في عصره — قد وصلتْ لوضع المجتمع المنظم بعقلانية. ومع ذلك، يمتنع هيجل عن قول ذلك صراحةً، ويتسم وصفه لألمانيا الحديثة بالإيجاز الشديد لدرجة لا تسمح لنا باكتشاف سبب اعتباره للتدابير الخاصة التي يصفها أنها أكثر عقلانية من الأشكال السابقة للحكم.

السبب وراء هذا الإيجاز قد يكمن ببساطة في أن كتاب «فلسفة التاريخ» تمَّ تحريره كمجموعة من المحاضرات. والمحاضرات الجامعية — كما نعلم جميعًا — كثيرًا ما يفتقر فيها المحاضر إلى الوقت قُرْب نهايتها. لكن يمكن أيضًا أن يكون هيجل قد تعمَّد التحدث بإيجاز عن هذا الموضوع في كتابه «فلسفة التاريخ»؛ لأنه سيكون محورَ كتابه «فلسفة الحق»، وهو الكتاب الذي يجب أن نقرأه للحصول على صورة أكثر شمولًا لما يعتبره هيجل مجتمعًا منظمًا بصورة عقلانية، ومن ثم حرًّا بحقٍّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤