الفصل الأول

ساكِنُ الدَّوحَة

(١) أُمْنِيَّةُ الْمَلِكِ

كانَ لِمَلِكِ «بَنَارِسَ» أُمْنِيَّةٌ واحِدَةٌ، يَسْعَى إِلَى تَحْقِيقِها جاهِدًا (مُجْتَهِدًا)، وَلا يَهْنَأُ لَهُ بَالٌ أَوْ يَظْفَرَ بِإِدْراكِها، ولا يَرْتاحُ قُلْبُهُ حَتَّى يَفُوزَ بِها. وَقَدْ شَغَلَتْهُ هذِهِ الْأُمْنِيَّةُ الْجَمِيلَةُ زَمَنًا طَوِيلًا؛ فَأَصْبَحَتْ تُؤَرِّقُهُ (تُسْهِرُهُ، وَتَقْطَعُ عَلَيْهِ نَوْمَهُ فِي اللَّيْلِ)، وَتَشْغَلُهُ وَتُهِمُّ خاطِرَهُ (تَمْلأُ قَلْبَهُ غَمًّا وَهَمًّا فِي النَّهارِ).

أَمَّا هذِهِ الْأُمْنِيَّةُ الْعَزِيزَةُ الْمَنالِ، الَّتِي فَكَّرَ فِيها مَلكُ «بَنَارِسَ» وَقَدَّرَ، ثُمَّ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَهِيَ أَنْ يُشَيِّدَ (يَبْنِيَ) لِنَفْسِهِ قَصْرًا مُبْتَدَعًا، لَمْ يَسبِقْهُ — إِلَى بِنَاء مِثْلِهِ — أَحَدٌ مِن مُلُوكِ الهِنْدِ قَاطِبَةً.

(٢) نَمُوذَجُ الْقَصرِ

وَكانَتْ هذِهِ الْأُمْنِيَّةُ — فِي الْحَقِيقَةِ — صَعْبَةَ الْإِدْراكِ، بَعِيدَةَ التَّحقِيقِ؛ لِأَنَّ مُلُوكَ الْهِندِ قَد تَفَنَّنُوا فِي بِناء الْقُصُورِ، وَبَذلُوا وَأَنْفَقُوا — فِي تَشْيِيدِها — أمْوالًا كَثِيرَةً لا تُحصَى، وَتَأَنَّقُوا (استَعمَلوا الْإِتْقَانَ) فِي هَنْدَسَتِها، وَتَفَنَّنُوا فِي زَخْرَفَتِها، ما شاءَ لَهُمُ الْإِبدَاعُ وَالْفَنُّ، وَلَم يَدَعُوا لِأَحَدٍ — مِن بَعدِهِم — مَجالًا لِلتَّأنُّقِ وَالافْتِنانِ.

وَقَد رَأَى مَلِكُ «بَنَارِسَ» أَنَّ كُلَّ جُهْدٍ يَبْذُلُه فِي رِفْعَةِ الْبِنَاء وَاتِّساعِهِ وَتَنْسِيقِهِ، لَنْ يُثْمِرَ، وَلَنْ يُغْنِيَ أَقَلَّ غَنَاء (لَن يَأْتِيَ بِأَيِّ فَائِدَةٍ). وَأَيْقَنَ أَنَّهُ مَهْما يُبْذَلْ مِنْ جُهْدٍ وَمَالٍ، فَلَنْ يَبْلُغَ شَيْئًا مِمَّا يَرُومُ وَيَطْلُبُ، وَلَنْ يُحَقِّقَ بَعْضَ ما تَصْبُو وَتَمِيلُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ.

ثُمَّ اهْتَدَى — بَعْدَ تَفْكِيرٍ طَوِيلٍ — إِلَى طَرِيقَةٍ فَذَّةٍ (وَحيدَةٍ مُنْفَرِدَةٍ) تُظْفِرُهُ بِأُمْنِيَّتِهِ، وَتُنِيلُهُ رَغْبَتَهُ، بِأَيسَرِ نَفَقَةٍ، وَأَقَلِّ مَالٍ.

فَمَثَّلَ (صَوَّرَ) — لِهذا الْقَصْرِ — نَمُوذَجًا مُبْتَدَعًا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ مُلُوكِ الْهِنْدِ قاطِبَةً، وَرَأَى أَن يُشَيِّدَهُ عَلَى عَمُودٍ وَاحِدٍ. وَهذا — كَما تَرَى — مِثَالٌ لَمْ يُفَكِّرْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ.

وَلستُ أَعْرِفُ: ما الَّذِي أَوحَى إِلَيهِ فِكْرَةَ هذا الْقَصرِ الْعَجِيبِ الَّذِي يُشْبِهُ — فِي شَكْلِهِ وَهَيْئَتِهِ — بُرْجَ الْحَمامِ؟ وَلَكِنَّنِي أَعْرِفُ أَنَّهُ قَدْ وُفِّقَ — عَلَى أَيِّ حَالٍ — فِي الاهْتِداء إِلَى مِثالٍ جَدِيدٍ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ كَائِنٌ كَانَ.

(٣) الْحَطَّابُونَ فِي حَضْرَةِ الْمَلِكِ

ثمَّ نادَى مَلِكُ «بَنَارِسَ» كَبِيرَ وُزَرائِهِ، وَقالَ لَهُ: «أَحْضِرْ إِلَيَّ أَقْدَرَ الْحَطَّابِينَ وَأَبْرَعَهُمْ، مِنْ كُلِّ قاصٍ وَدانٍ، وَاجْمَعْهُمْ مِنْ بَعِيدٍ وَقَرِيبٍ. وَمُرْهُمْ أَنْ يُحْضِرُوا إِلَى مَدِينَتِي أَضْخَمَ شَجَرَةٍ أَنْبَتَتْها الْغابَةُ، عَلَى أَنْ يَتِمَّ ذَلِكَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ.»

فَلَمْ يُضِعِ الْوَزِيرُ وَقْتَهَ سُدًى، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَمَعَ لَهُ ثَلاثِينَ حَطَّابًا مَعْرُوفينَ بِالْقُوَّةِ وَالْحِذْقِ، مَوْصُوفينَ بِالْإِتْقانِ وَالْبَرَاعَةِ. وَلَمَّا مَثَلُوا بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ أَفْضَى إِلَيْهِمْ بِرَغْبَتِهِ؛ أَعْنِي: كَشَفَ لَهُمْ عَمَّا يَحْرِصُ عَلَيْهِ، وَأَطْلَعَهُمْ عَلَى ما يَتَمَنَّاهُ وَيَسْعَى إِلَيْهِ.

فَقَالَ الْحَطَّابُونَ لِلْمَلِكِ: «إِنَّ فِي غابَةِ جَلَالَتِكُمْ أَشْجَارًا كَثِيرَةً، مُتَماثِلَةً (مُتَشابِهَةً) فِي الضَّخَامَةِ وَالارْتِفاعِ، وَالصَّلابَةِ وَالْقُوَّةِ، وَكُلُّها صالِحَةٌ لِتَحْقِيقِ هذِهِ الْفِكْرةِ. وَلَكِنَّ إِحْضارَها إِلَى مَدِينَةِ «بَنَارِسَ» أَمْرٌ مُحالٌ، لَا سَبِيِلَ إِلَى تَذْلِيلِهِ (تَسْهِيلِهِ)، وَمُطْلَبٌ عَزِيزُ الْمَنَالِ (لَا أَمَلَ فِي إِدْراكِهِ وَتَحْصِيلِهِ).»

فَقال لَهُمُ الْمَلِكُ: «أَتَعْجَزُونَ — عَلَى وَفْرَةِ عَدَدِكُمْ، وَقُوَّةِ بَأْسِكُمْ وَشَجاعَتِكُمْ — أَنَّ تَقْتَلِعُوا مِثْلَ هذِهِ الْأَشْجارِ، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ مِنَ الضَّخامةِ وَالطُّولِ؟»

فَقالُوا لَهُ: «إِنَّ اقْتِلاعَ هذِهِ الْأَشْجارِ الْعَظِيمَةِ أَمْرٌ مَيْسُورٌ، لَا يُرْهِقُنا وَلا يُتْعِبُنا، وَلا يَسْتَحِيلُ عَلَيْنا تَحْقِيقُهُ، وَلَكِنَّ الصُّعُوبَةَ — الَّتِي لا سَبِيِلَ إِلَى تَذْلِيلِها — إِنَّما هِيَ فِي جَرِّ مِثْلِ هذِهِ الأَشْجارِ وَإِحْضارِها إِلَى الْمَدِينَةِ؛ فَإِنَّ الْطَّرِيقَ وَعْرَةٌ (صَعْبةٌ) طَوِيلَةٌ، وَالْأَشْجار هائِلَةٌ، وَيَصْعُبُ جَرُّها عَلَى أَقْوَى الْأَقْوِياء.»

(٤) حِوارُ المَلِكِ

فقالَ لَهُمْ مُتَعجِّبًا: «عَلَيْكُمْ بِالْجِيادِ (الْخَيْلِ)؛ فَهِيَ قادِرَةٌ عَلَى جَرِّ هذِهِ الْأَشْجارِ.»

فَقالُوا لَهُ: «ما أَعْجَزَ الْجِيادَ — يا مَلِيكَنا الْعظِيمَ — عَنْ تَحْرِيكِ مِثلِ هذا الشجَرِ، وَزَحْزَحَتِهِ عَن مَوْضِعهِ قِيراطًا واحدًا، مَهْما تَبلُغ الْجِيادُ مِنَ الْقُوةِ وَالْبَأْسِ.»

فَقالَ لَهُمْ: «عَلَيكُم بِالثِّيران؛ فَهِيَ أَقدَرُ مِنَ الْخَيلِ عَلَى جَرِّها، وَأَصبَرُ مِنها عَلَى مَشَقَّةِ السَّيرِ، وَوُعُورَةِ الطَّرِيقِ.»

فَأَجابُوهُ حائِرِينَ: «لَيسَ فِي قُدرَةِ الثِّيرانِ — أَيُّها الْمَلِكُ الْجَلِيلُ — أَن تَقْطَعَ فِي هذِهِ الْغابَةِ الْمُقْفِرَةِ (الْخَالِيَةِ) الْوَاسِعَةِ، أَميالًا كثِيرَةً (وَالْأَمْيالُ جَمْعُ مِيلٍ، وَالْمِيلُ طُولُهُ: أَرْبَعَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ).»

فَقَالَ لَهُمُ الْمَلِكُ: «لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْأَفْيالُ، وَما أَظُنُّها تَعْجِزُ عَنْ تَحْقِيقِ هذِهِ الْغايَةِ، وَلا أَحْسَبُها تَنُوءُ قُوَّتُها بِالاضْطِلاعِ بِهذا الْمُهِمِّ؛ فَهِيَ — فِيما أَعْلَمُ — قادِرَةٌ عَلَى الْقِيامِ بِهذا الْأَمْرِ، بالِغًا ما بَلَغَ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْعناء!»

فَقالُوا لَهُ يَائِسِينَ: «لا سَبيلَ إِلَى ذَلِكَ يَا صاحِبَ الْجَلالَةِ. فَإِنَّ الْأَرْضَ — كَما تَعْلَمُون — لَيْسَتْ صَخْرِيَّةً صُلْبَةً؛ بَلْ هِيَ طِينِيَّةٌ رخْوَةٌ مَمْلوءَةٌ بِالْوَحَلِ. وَلَنْ تَسْتَطِيعَ الْأَفْيالُ أَنْ تَسِيرَ خُطْوَةً وَاحِدَةً، دُونَ أَنْ تَسُوخَ أَقْدامُها، (تُغْرَزَ أَرْجُلُها).»

فاشْتَدَّ غَضَبُ الْمَلِكِ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْغَيْظُ، وَقالَ لَهُمْ مُتَوَعِّدًا: «لَقَدْ أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي، وَلا سَبِيِلَ إِلَى مُخَالَفَتِي فِيما أَمَرْتُكُمْ بِهِ؛ فافْعَلُوا ما شِئْتُمْ، وَذَلِّلُوا الْعَقَباتِ، وَسَهِّلُوا الصُّعُوباتِ وَتَغَلَّبُوا عَلَى الْمُحالِ، وَلا تَرْجِعُوا إِلَيَّ قَبْلَ أَنْ تُحْضِرُوا إِلَى مَدِينَتي — مِنْ أَيِّ مَكانٍ شِئْتُمْ — إِحْدَى هذِهِ الْأَشْجار الضَّخْمَةِ الَّتِي حَدَّثْتُمُونِي بِها. وَقَدْ حَتَمْتُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُنْجِزُوا هذا الْعَمَلَ فِي مَدَى أُسْبوعٍ واحِدٍ.»

(٥) دَوْحَةُ الْمَلَكِ

فَرَحَلَ الْحَطَّابُونَ — مِنْ فَوْرِهِمْ — حَتَّى وَصَلُوا إِلَى دَوْحَةٍ (شَجَرَةٍ) كَبِيرَةٍ ضَخْمَةٍ، فِي قَرْيَةٍ لَا تَبْعُدُ عَنِ الْمَدِينَةِ إِلَّا مَسَافةً يَسِيرَةً. وَكَانَتْ هذِهِ الدَّوْحَةُ هائِلَةَ الحَجْمِ، صُلْبَةَ الْعُودِ، أَنِيقَةَ الشَّكْلِ، بَدِيعَةَ الْمَنْظَرِ. وَكانَ أَهْلُ الْقُرَى يُحِبُّونَها، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَلَكًا — مِنَ الْمَلائِكِ — يَسْكُنُها، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذلِكَ الْمَلَكَ هُوَ الَّذِي أَكْسَبَ الدَّوْحَةَ ذلِكَ الْجَمالَ النَّادِرَ، وَأَفْرَدَها — مِنْ بَيْنِ الْأَشْجارِ الْأُخْرَى — بِالْقُوَّةِ وَالْصَّلابَةِ وَحُسْنِ التَّنْسِيقِ.

وَوَقَفَ الْحَطَّابُونَ أَمامَ الدَّوْحَةِ مُفَكِّرِينَ، مُطْرِقِي رُءُوسِهِم صَامِتِينَ، وَطالَ تَرَدُّدُهُم فِي اقْتِلاعِها، وَحَزَنَهُم ذلِكَ، وَمَلَأَ نُفُوسَهُم رَهْبَةً وَفَزَعًا. وَلكِنَّ الْمُضْطَرَّ يَركَبُ الصَّعبَ مِنَ الْأُمُورِ.

وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ إِطاعَةِ الْمَلِكِ وَتَلْبِيَةِ أَمْرِهِ، وَلَيْسَ فِي إِمْكانِهِمْ أَنْ يَحْمِلُوا إِلَيْهِ شَجَرَةً أُخْرَى مِنَ الْغابةِ الْبَعِيدَةِ!

(٦) أَعْرَاسُ الْحَطَّابِينَ

وَهكَذا قَرَّ قَرَارُ الْحَطَّابِينَ — بَعْدَ إِحْجامٍ (تَراجُعٍ وَتَرَدُّدٍ) — عَلَى أَنْ يَقْتَلِعُوا هذِهِ الدَّوْحَةَ الْعَظِيمَةَ، وَرَأَوْا — بَعْدَ التَّفْكِيرِ وَالرَّوِيَّةِ — أَنْ يَتَرَضُّوا ذلِكَ الْمَلَكَ الْكَرِيمَ (الرُّوحَ السَّماوِيَّ) الَّذِي يَحُلُّ بِها.

فَجاءُوا بِطاقاتِ الْأَزْهارِ، وَنَسَّقُوا مِنْها أَكالِيلَ بَدَيعَةَ الْمَنْظَرِ، ثُمَّ نَثَرُوا الْمَصَابِيحَ في أَثْنائِها. وَلَمْ يَأْلُوا جُهْدًا (لَمْ يَتْرُكُوا وَسِيلَةً) في إِدْخالِ السُّرُورِ عَلَى «مَلَكِ الدَّوْحَةِ»؛ فَصَدَحَتِ الْمُوسِيقَى، وَعَزَفَ الْعازِفُونَ، وَغَنَّى الشَّادُونَ (الْمُغَنُّونَ)؛ لِيُشْعِرُوا «مَلَكَ الدَّوْحَةِ» بِما قَرَّرَهُ مَلِيكُهُمْ، وَيَحْتِمُوا عَلَيْهِ (يُلْزِمُوهُ) أَنْ يَهْجُرَ الدَّوْحَةَ قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ الْأُسْبُوعُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدِ اعْتَزَمُوا أَنْ يَقْتَلِعُوها، تَلْبِيَةً لِأَمْرِ: مَلِكِ « بَنَارِسَ».

فَجاءُوا بِطاقاتِ الْأَزْهارِ، وَنَسَّقُوا مِنْها أَكالِيلَ بَدَيعَةَ الْمَنْظَرِ، ثُمَّ نَثَرُوا الْمَصَابِيحَ في أَثْنائِها. وَلَمْ يَأْلُوا جُهْدًا (لَمْ يَتْرُكُوا وَسِيلَةً) في إِدْخالِ السُّرُورِ عَلَى «مَلَكِ الدَّوْحَةِ»؛ فَصَدَحَتِ الْمُوسِيقَى، وَعَزَفَ الْعازِفُونَ، وَغَنَّى الشَّادُونَ (الْمُغَنُّونَ)؛ لِيُشْعِرُوا «مَلَكَ الدَّوْحَةِ» بِما قَرَّرَهُ مَلِيكُهُمْ، وَيَحْتِمُوا عَلَيْهِ (يُلْزِمُوهُ) أَنْ يَهْجُرَ الدَّوْحَةَ قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ الْأُسْبُوعُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدِ اعْتَزَمُوا أَنْ يَقْتَلِعُوها، تَلْبِيَةً لِأَمْرِ: مَلِكِ «بَنَارِسَ».

وَقَدِ افْتَنَّ الْحَطَّابُونَ في تَنْسِيقِ الْأَزْهارِ، وَوَضَعُوا مَصَابِيحَهُمْ حَوْلَ الْدَّوْحَةِ — عَلَى شَكْلِ دَائِرَةٍ — وَعَلَّقُوا أَكالِيلَ الياسَمِينِ عَلَى أَغْصانِها، وَرَبَطوا — فِي أَوْراقِ الدَّوْحَةِ — طاقاتِ الْوَرْدِ وَالرَّياحينِ، وَجَعَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَصابِعَ يَدَيْهِ بَعْضَها في بَعْضٍ، رَهْبَةً وَخُشُوعًا، وَتَفَنَّنَ جَماعةٌ مِنْهُمْ في تَوْقيعِ الْأَلْحانِ عَلَى طَنَابِيرِهِمْ وَعَلَى قِيثارَتِهِمْ، وَهيَ: آلاتٌ لِلطَّرَبِ ذَواتُ أَوْتارٍ، وَغَنَّى آخَرُونَ طائِفةً مِنَ الْأَغانِي الْمُعْجِبَةِ.

وَقَدْ فَعَلُوا ذلِكَ لِيَبْهَجُوا «مَلَكَ الدَّوْحَةِ» (يُفْرِحُوهُ)، ثُمَّ يُنْذِرُوهُ بِقَرارِ مَلِيكِهِمْ فِي أَرَقِّ عِبارَةٍ وَأَجْمَلِ أُسْلُوبٍ.

(٧) نَشِيدُ الْحَطَّابِينَ

وَأَخَذَ الْحَطَّابُونَ يُحَيُّونَ ذلِكَ الْمَلَكَ الْكَرِيمَ بِما هُوَ أَهْلُهُ مِنَ التَّحِيَّةِ، وَيُمَجِّدُونَهُ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ أَحْسَنَ الثَّناءِ، وَيَقُولونَ لَهُ: «يَا سَيِّدَ الرَّابِيَةِ (الأرضِ الْمُرْتَفِعَةِ)، ويا رُوحَ الْأَزْهارِ النَّامِيَةِ النَّاضِرَةِ (الْمُتَفَتِّحَةِ الشَّدِيدةِ الْخُضْرَةِ): حُقَّ لَنا أَنْ نُبَصِّرَكَ وَنُعَرِّفَكَ بما انْتَوَيْناهُ (نُخْبِرَكَ بما فِي نِيَّتِنا أَنْ نَقُومَ بِهِ): هذِهِ فُئُوسُنا الْماضِيَةُ (الْحادَّةُ)، جِئْنا بِها لِنَقْتَلِعَ دَوْحَتَكَ؛ لِكَيْ تَكُونَ قَاعِدَةً رَاسِخَةً، يَرْسُو (يَسْتَقِرُّ) عَلَيْها قَصْرُ الْمَلِيكِ الْبَاذِخُ الشَّامِخُ (الْمُرْتَفِعُ)، الَّذِي يَسْمُو فِي الْجَوِّ كَأَنَّهُ يَحْرُسُ السَّماءَ؛ فاتْرُكِ الدَّوْحَةَ، وانْجُ بِنَفْسِكَ.»

ثُمَّ خَتَمَ الْحَطَّابُونَ أَغَانِيَهُمْ، وَأَنَاشِيدَهُمُ الْمُعْجِبَةَ الشَّائِقَةَ (الْجَمِيلَةَ الْجَذَّابَةَ) بِالنَّشِيدِ التَّالِي:

يا ساكِنَ الدَّوْحَةِ فَوْقَ الرَّابِيَةْ
وَحـارِسَ الْأَطْيارِ وَهْيَ شادِيَةْ
وَمَـلَكَ الْأَزْهـارِ وَهْيَ نـامِيَةْ

•••

لَقَدْ عَزَفْنا، فَاسْتَمَعْتَ عَزْفَنا
ثُمَّ شَدَوْنا، فَأَجَدْنا شَدْوَنا
ثُمَّ رَقَـصْنـا، فَأَطَلْنا رَقْصَنـا

•••

وَالآنَ يَأْتِي جَمْعُنا لِيُنْذِرَكْ
وَحُقَّ للنَّاصِحِ أَنْ يُبَصِّرَكْ
بِما انْتَـوَيْنَـاهُ، وَأَن يُـحَذِّرَكْ

•••

يا ساكِنَ الدَّوْحَةِ فَوْقَ الرَّابِيَةْ
وَحارِسَ الْأَطْيارِ وَهْيَ شَادِيَةْ:
جِئْنا إِلَيْكَ بِالفُئُوسِ الْماضِيَةْ

•••

شاءَ الْمَلِيكُ فَاسْتَمِعْ مَشِيئَتَهْ:
أَنْ تُصْبِحَ الدَّوْحَةُ — هذِي — دَوْحَتَهْ
وَأَنْ تَحُـلَّ — فِي غَدٍ — مَدِينَتَهْ

•••

لِيَرْسُوَ الْقَصْرُ عَلَيْها راسِخا
مُبْتَدَعَ الشَّكْلِ أَنِيقًا باذِخا
يَسْمُو — عَلَى كُلِّ القُصُورِ — شامِخا

•••

يا ساكِنَ الدَّوْحَةِ فَوْقَ الرَّابِيَةْ
وَحارِسَ الْأَطْيارِ وَهْيَ شَادِيَةْ
اهْرُبْ فَإِنَّ في الْهُرُوبِ الْعَافِيَةْ

•••

شادَ مَلِيكُ الهِنْدِ فِي «بَنَارِسا»
قَصْرًا — عَلَى جَوِّ السَّماءِ — حارِسا
يُسْلِي الْحَزِينَ وَيَسُرُّ الْعابِسـا

•••

فَلا تَلُمْنَا إِذْ نُلَبِّي الْواجِبا
وَلا تَكُنْ — مِنْ أَجْلِ ذاكَ — عاتِبا
وَلا أَخا حِقْدٍ وَلا مُغَاضِبا

(٨) سَاكِنُ الدَّوْحَة

فَلَمَّا سَمِعَ «مَلَكُ الدَّوْحَةِ» ذلِكَ النَّشِيدَ أَدْرَكَ غَايَتَهُمْ، وَعَرَفَ مَقْصِدَهُمْ، وَتَأَكَّدَ لَهُ أَنَّ الْحَطَّابِينَ جادُّونَ فِي إنْفاذِ وَعِيدِهِمْ. فَلَبِثَ هادِئًا ساكِنًا — لَحَظاتٍ قَلِيلَةً — ثُمَّ اضْطَرَبَتِ الْأَوْراقُ، وَتَمَايَلَتِ الْأَغْصَانُ، وَانْحَنَتِ الْفُرُوعُ، كأَنَّما تُشِيرُ إِلَيْهِمْ أَنَّها قَدْ أَدْرَكَتْ ما يَرْمُونَ إِلَيْهِ، وَلَبَّتْ رَجاءَهُمْ، وَلَمْ تَعْصِ لَهُمْ أَمْرًا.

ثُمَّ عادَ الْحَطَّابُون — مِنْ حَيْثُ أتَوْا — وَقَدِ اقْتَنَعُوا بِنَجاحِ مَسْعاهُمْ، وَعَرَفُوا أَنَّ «ساكِنَ الدَّوْحَةِ» قَدْ أَذْعَنَ لِمَشِيئَةِ مَلِكِ «بَنَارِسَ» وَخَضَعَ لَإِرادَتِهِ.

(٩) حَدِيثُ الدَّوْحَةِ

وَلَقَدْ مالَتْ بَعْضُ أَوْراقِ الدَّوْحَةِ إِلَىَ بَعْضٍ، وَهيَ تَقُولُ: «لَقَدِ اعْتَزَمَ مَلِيكُ «بَنَارِسَ» أَنْ يُنَفِّذَ قَرَارَهُ، وَلا مَرَدَّ لِحُكْمِهِ، ولا شَيْءَ يدْفعُ أَمْرَهُ وَيُرْجِعُهُ. وَلَسْنا نَخْشَى الْفَناءَ، وَلا نَرْهَبُ الرَّدَى (لا نَخافُ الْمَوْتَ)، وَلَكِنَّنَا نَجْزَعُ وَنَحْزَنُ لِما يَلْقَاهُ ذلِكَ «الْمَلَكُ» الَّذِي يَسْكُنُ هذِهِ الدَّوْحَةَ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى تَرْكِها، وَلا مَأْوَى لَهُ فِي غيْرِها. وَسَيَكُونُ هَلاكُنا — بِلا شَكٍّ — سَبَبًا فِي شَقَاءِ جَمِيعِ الْأَشْجارِ الْمُحِيطَةِ بِنا، وتَهشِيمِها وَتَكْسِيرِها. وَقَدِ احْتَمَتْ — مُنْذُ نَشَأَتْ — بحِمايَتِنا، وَعَاشَتْ — طُولَ عُمْرِها — فِي كَنَفِنا (بَقِيَتْ فِي جانِبِنا وَحِمايَتِنا). وَما هَمَّنا أَنْ نَلْقَى حَتْفَنا وَمَصْرَعَنا، وَنَسْتَقْبِلَ مَوْتَنَا وَهَلاكَنا، وَإِنَّما هَمَّنا وَآلَمَنا مَصَارِعُ هذِهِ الْأَطْفالِ الشَّجَرِيَّةِ الصَّغِيرَةِ، الَّتِي تَمُوتُ — عَلَى الْفَوْرِ — مَتَى وَقَعَتِ الدَّوْحَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَيها. فَمَنْ لَنَا بِمَنْ يُبْلِغُ مَلِكَ «بنارِسَ» أَنَّهُ جائِرٌ (ظالِمٌ) فِي حُكْمِهِ، وَأَنَّهُ سَيُهْلِكُ الْكَثِيرَ مِنْ أَطْفالِنا الْأَعِزَّاءِ فِي سَبِيلِ بِناءِ قَصْرِهِ؟»

(١٠) فِي الْمَنامِ

أَمَّا «ساكِنُ الدَّوْحَةِ»، فَقَدْ قالَ فِي نَفْسِهِ: «لا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِ مَلِك «بنارِسَ» وَشَأْنَهُ، لِيُنَفِّذَ هذا الْقَرارَ الْجائِرَ. وَلا بُدَّ لِي مِنْ زِيَارَتِهِ — فِي عالَمِ الْأَحْلامِ — لَعَلِّي أَسْتَميلُهُ وَأَسْتَعْطِفُهُ، وَأُلَيِّنُ مِنْ قَلْبِهِ الْقاسِي، فَيَعْدِلُ عَنْ تَحْقِيقِ وَعِيدِهِ.»

وَلَمَّا أَقْبَلَ اللَّيْلُ، وَاسْتَسْلَمَ مَلِكُ «بَنارِسَ» لِلنَّوْمِ، ظَهَرَ أَمامَهُ «مَلَكُ الدَّوْحَةِ» — فِي عَاَلَمِ الرُّؤْيا — فِي صُورَةِ شَبَحٍ لامِعٍ، بَهِيِّ الطَّلْعَةِ جَمِيلِ الْمَنْظَرِ، مُؤْتَلِقِ الْمُحَيَّا (مُنِيرِ الْوَجْهِ)، يَلُوحُ عَلَيْهِ النُّورُ الشَعْشَعانِيُّ (الْمُنْتَشِرُ الْمُتَوَهِّجُ)، وَقالَ لَهُ — فِي صَوْتٍ أَشْبَهِ شَيْءٍ بِحَفِيفِ الشَّجَرِ: «هِيهِ يَا مَلِكَ «بَنارِسَ» الْعَظِيمَ! أَلَا تَعْرِفُنِي أَيُّها العزِيزُ الْكَرِيمُ؟ أَنَا مَلَكُ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَمَرْتَ رِجالَكَ بَاقْتِلاعِها. وَقَدْ عَلِمْتُ — الْيَوْمَ — نَبَأَ هذا الْقَرارِ الْخَطِيرِ، وَلَمْ أَكَدْ أَعْلَمُهُ حَتَّى اعْتَزَمْتُ زِيَارَتَكَ لأَثْنِيَكَ (لِأَرُدَّكَ) عَنْ عَزْمِكَ، شَفَقَةً بِنا، وَرَحْمَةً بِأَطْفالِ الدَّوْحَةِ الصِّغارِ.»

فَقال لَهُ مَلِكُ «بَنارسَ»: «لا سَبِيلَ إِلَى الْعُدُولِ عَنْ هذا الْقَرَارِ؛ فَإِنَّ دَوْحَتَك وَحْدَها طِلْبَتِي وَقَصْدِي وَغَايَتِي. وَلَسْتُ أَرَى — فِي كُلِّ أَنْحاءِ بِلادِي — شَجَرَةً غَيْرَها تُحَقِّقُ لي أُمْنِيَّتِي الْعَزِيزَةَ الَّتِي تَصْبُو إِلَيْها نَفْسِي؛ فَهِيَ — فِيما أَعْلَمُ — طَوِيلَةٌ بَاسِقَةٌ، صُلْبَةُ الْعُودِ، كافِيَةٌ لِتَشْيِيدِ الْقَصْرِ فَوْقَها، وَقَدْ أَبَنْتُ لكَ عُذْرِي، وَشَرَحْتُ لَكَ مَقْصِدِي، فِي وُضُوحٍ وَصَرَاحَةٍ وَجَلَاءٍ.»

(١١) عِنادُ الْمَلِكِ

فَقالَ لَهُ «مَلَكُ الدَّوْحَةِ»: «تَرَوَّ أَيُّها الْمَلِيكُ الْعَظِيمُ (فَكِّرَ عَلَى مَهَلٍ)، وَتَدَبَّرْ ما تقُولُ، وَأَمْعِنِ الْفِكْرَ، وَدَقِّقِ الْنَّظَرَ فِيما أَنْتَ قادِمٌ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ جَلَلٍ (خَطِيرٍ عَظِيمٍ). وَاذْكُرْ: أَنَّنِي قَدِ اتَّخَذْتُ هذِهِ الدَّوْحَةَ لِي مَوْطِنًا مُنْذُ سِتِّينَ أَلْفِ عَامٍ، وَأَنَّ سُكَّانَ الْقُرَى جَمِيعًا يُكْرِمُونَ الدَّوْحَةَ مِنْ أَجْلِي، وَأَنَّنِي قَدْ كافَأْتُهُم — عَلَى ذلِكَ — أَحْسَنَ مُكَافَأَةٍ؛ فَأَسْدَيْتُ إِلَيْهِمُ الْجَمِيلَ، وَقَدَّمْتُ لَهُمُ الْخَيْرَ، وَتَعَهَّدْتُ الشَّجَرَ مُوَالِيًا إِيَّاهُ بِعِنايَتِي، وَشَمَلْتُ الْأَطْيارَ بِرِعايَتِي، وَبَعَثْتُ ظِلالَ الدَّوْحَةِ عَلَى مَسافَةٍ كَبيرَةٍ مِن الْحَشائِشِ الَّتِي تَكْتنِفُها (تُحِيطُ بِها). وَقَدْ أَنِسَ النَّاسُ بِظِلالِها الوَارِفَةِ (الْمُنْبَسِطَةِ)، وَارْتاحُوا لِلْجُلُوسِ إِلَى جانِبِها، ليَنْسِمُوا الْهَواءَ الْعلِيلَ (يَسْتَنْشِقُوهُ). وَلَسْتُ جَديرًا مِنْكَ — بَعْد ما أَسْدَيْتُهُ إِلَى شَعْبِكَ مِن حَسَناتٍ وَخَيْرَاتٍ — أَنْ تُنْزِلَ بِدَوحَتِي مِثْلَ هذا الْعِقابِ الظَّالِمِ، وَتُقَابِلَ صَنِيعِي هذا بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكارِ، وَتَجْزِيَنِي عَلَى الْإِحسانِ، بِالعُقُوقِ وَالكُفْرانِ.»

فَقالَ لَهُ مَلِكُ «بَنارِسَ»: «لَقَدْ أَعْجَبَنِي حُسْنُ حَدِيثِكَ، وأَقْنَعَتْنِي حُجَجُكَ وَأَدِلَّتُكَ الصَّحِيحَةُ. وَلَكِنَّنِي لا أَسْتَطِيعُ تَلْبِيَةَ مُلْتَمَسِك، وَإِجَابَةَ مَطْلَبِكَ؛ فَقَدْ أَسْلَفْتُ قَضائِي، وَقَدَّمْتُ حُكْمِي فِي ذلِكَ، وَأَمَرْتُ رِجالِيِ بِاقْتِلَاعِ هذِهِ الدَّوْحَةِ، وَلَيْسَ إِلَى تَبْدِيلِ أَمْرِي مِنْ سَبِيلٍ.»

(١٢) الرَّجَاءُ الْأَخِيرُ

فَحَنَى «مَلَكُ الدَّوْحَةِ» رَأْسَهُ إِلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ قال فِي هَمْسٍ وَخُفُوتٍ: «لَمْ يَبْقَ لِي — بعْدَ أَنْ رَفَضْتَ رَجائِي، وَأَبَيْتَ تَحْقِيقَ رَغْبَتِي إِلَّا مُلْتَمَسٌ وَاحِدٌ، آمُلُ أَنْ تَعِدَنِي بِإِجَابَتِهِ، وَأَرْجُو أَنْ تُعْطِيَنِي وَعْدًا بِقَبُولِهِ.»

فَقالَ مَلِكُ «بَنارِسَ»: «قُلْ، فَأَنَا أَسْمَعُ.»

فَقالَ «مَلَكُ الدَّوْحَةِ»: «أَرْجُو أَنْ تَأْمُرَ رِجالَكَ بِقَطْعِ الدَّوْحَةِ ثَلَاثَ قِطَعٍ: الرَّأْسَ — أَوَّلًا — بِما يُكَلِّلُهُ مِنْ فُرُوعٍ وَأَوْراقٍ خُضْرٍ مُتَمَوِّجَةٍ، وَالْوَسَطَ — ثَانِيًا — بِما عَلَيْهِ مِنْ فُرُوعٍ وَأَغْصانٍ هِيَ أَذْرُعُ الدَّوْحَةِ، وَعَدَدُها مِائَةُ ذِراعٍ، فَإِذَا انْتَهَوْا مِنْ ذلِكَ قَطَعُوا الْجِذْعَ الَّذِي يَحْمِلُ ذلِكَ الطَّوْدَ الشَّامِخَ (الْجَبَلَ العَالِيَ) الْعَظِيمَ.»

فَقالَ مَلِكُ «بَنارِسَ»: «هَذَا الْتِماسٌ عَجِيبٌ، وَمَطْلَبٌ يَدْعُو إِلَى الدَّهْشَةِ، وَلَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِهِ طُولَ عُمْرِي. وَإِنِّي لَيُدْهِشُني أَنْ تَلْتَمِسَ مِنِّي أَنْ أُعَذِّبَكَ، وَأُذِيقَكَ الْمَوْتَ، مَرَّاتٍ ثَلَاثًا! أَلَيْسَ مِنَ الْبِرِّ وَالرَّحْمَةِ بِكَ أَنْ تَحْتَمِلَ آلامَ الْمَوْتِ مَرَّةً وَاحِدَةً؟»

فَقالَ «مَلَكُ الدَّوْحَةِ»: «كَلَّا — أَيُّها الْمَلِيكُ الْعَظِيمُ — فَلَيْسَ يُزْعِجُنِي أَنْ أَمُوتَ وَأَلْقَى مَصْرَعِي؛ فَإِنَّ الْمَوْتَ حَقٌّ عَلَى كلِّ كَائِنٍ فِي الوُجُودِ. وَلكِنَّ مَا يَهُمُّني وَيُقْلِقُ بالِي أَنَّ جَمْهَرَةً (جَمَاعَةً) مِنَ الْأَطْفَالِ الشَّجَرِيَّةِ النَامِيَةِ مِنْ أُسْرَتِي بِجِوَارِ الدَّوْحَةِ خَرَجَتْ مِنْ ثِمَارِي، وَعَاشَتْ فِي كَنَفِي (تَحْتَ ظِلِّي). فَإِذا سَقَطَتْ دَوْحَتِي عَلَيْها مَرَّةً وَاحِدَةً أَهْلَكتْ — بِثِقَلِها الْعَظِيم — أَكْثرَ أَطْفالِي الصِّغَارِ، وَأَسْلَمتْها إِلَى الْمَوْتِ. وَإِنَّ حُبِّي وَشَفَقَتِي وَبِرِّي بِهَذِهِ الْأَبْناءِ الصَّغِيرَةِ لَتَدْفَعُنِي إِلَى تَقْطِيعِ أَوْصالِي (تَمْزِيقِ أَعْضائِي)، وَتَحمُّل آلامِ الْمَوْتِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ؛ حَتَّى تَنْجُوَ أَكْثَرُ الْأَشْجارِ مِنَ الْهَلاكِ، وَتَسْلَمَ مِنَ الْأَذَى، فَهَلْ أَنْتَ مُجِيِبي إِلَى هذا الرَّجاء، وَمُحَقِّقٌ لِي هذا الْمُلْتَمَسَ الْعادِلَ؟»

فَاستَوْلَى الْعَجَبُ عَلَى مَلِكِ «بَنارِسَ» مِمَّا سَمِعَ، وَتَعَاظَمَتْهُ الدَّهْشَةُ (اشْتَدَّ تَعَجُّبُهُ) مِمَّا نَطَقَ بِهِ «مَلَكُ الدَّوْحَةِ.»

فَقالَ لَهُ: «عَلَيَّ أَنْ أُجِيبَكَ إِلَى هذا الالْتِماس!»

وَما أَتَمَّ مَلِكُ «بَنارِسَ» كلِمَتَهُ، حَتَّى تَلَاشَى ذلِكَ الطَّيْفُ: طَيْفُ «مَلَكِ الدَّوْحَةِ»، وَاسْتَخْفَى عَنْهُ.

(١٣) الْقَصْرُ الْجَدِيدُ

وَلَمَّا جاءَ الْيَوْمُ التَّالِي نَادَى مَلِكُ «بَنارِسَ» وَزَيرَهُ الْحَكيمَ «نارادا»، وَأَمَرَهُ بِاسْتِدْعاءِ الْحَطَّابِينَ إِلَيْهِ. وَلمَّا مَثَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ لَهُمْ: «لَقَدْ عَدَلْتُ عَنْ رَأْيِي، وَلا حاجَة بِي إِلَى اقْتِلَاعِ الدَّوْحَةِ الَّتِي أَمَرْتُكُمْ بِإِحْضارِها إِلَى مَدِينَتِي. وَقَدْ عَنَّ لِي (خَطَرَ بِبَالِي) أَنْ أُقِيمَ عَمُودًا — مِنَ الصَّخْرِ الصُّلْبِ — فِي مِثْلِ ارْتِفَاعِ هذِهِ الدَّوْحَةِ؛ لِأُشَيِّدَ عَلَيْهِ قَصْرِيَ الْجَدِيدَ.»

ثُمَّ اسْتَأْنَفَ حَدِيثَهُ (عاوَدَ كلامَهُ) قَائِلًا: «لَقَدْ بَهَرَنِي (أَدْهَشَنِي) ما رَأَيْتُهُ مِنْ جَلِيلِ الصِّفاتِ، وَنَبيلِ الْمَزايا، فِي مَلَكِ هذِهِ الدَّوْحَةِ، وَهَالَني وَمَلَأَ نَفْسِي إِعْجابًا بِهِ، وَإِكْبارًا لَهُ: ما أَبْصَرْتُهُ فِيهِ مِنَ الْوَفاءِ وَالْحُبِّ وَإِنْكَارِ الذَّاتِ، وَالْجُودِ بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ إِنْقاذِ غَيْرِهِ.»

ثُمَّ قَصَّ مَلِكُ «بَنارِسَ» عَلَيْهِمْ قِصَّةَ «مَلَكِ الدَّوْحَةِ» وَذَكَرَ لَهُمْ حَدِيثَهُ — مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ — فَدَهِشُوا لِهذا الرُّوحِ الْكَرِيمِ، وَأُعْجِبُوا بِما أَبْداهُ مِنْ خُلُقٍ رائِعٍ قَوِيمٍ، وَوَفاءٍ نَادِرٍ عَظِيمٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤