المقدمة

هذا هو الكتاب الثالث والأخير من سلسلة الكتب التي حاولتُ فيها تناول العلاقة القائمة في العصر الحديث بين عالم الإسلام والعرَب والشرق من ناحية، وبين الغرب وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة من ناحيةٍ أخرى. وكتابي الأول الاستشراق هو أشدُّ هذه الكتب تعميمًا؛ إذ يرصد شتی مراحل تلك العلاقة منذ غزو نابليون لمصر، ويتناول الفترة الاستعمارية الرئيسية، ونشأة دراسات المستشرقين الحديثة في أوروبا حتى انتهاء الهيمنة الإمبريالية، البريطانية والفَرنسية، على الشرق بعد الحرب العالمية الثانية وظهور السيطرة الأمريكية في الوقت نفسِه. وأما الأساس الفكري الذي يقوم عليه كتاب الاستشراق فهو الارتباط الوثيق بين المعرفة1 وبين السلطة أو القوة.
ويقدم الكتاب الثاني وعنوانه المسألة الفلسطينية تاريخ حالة خاصة، إذ يعرِض للصراع ما بين السكان العرب الأصليين لفلسطين، ومعظمُهم من العرب، وبين الحركة الصِّهيونية (إسرائيل فيما بعد) ذات المنشأ الغربي، والتي تنتهج في تعاملها مع حقائق الواقع «الشرقي» نهجًا غربيًّا إلى حدٍّ كبير. وتحاول دراستي عن فلسطين كذلك، وبمنهجٍ أشدَّ صراحةً من منهج الاستشراق، وصْفَ ما اختفى ويختفي تحت السطح في الرؤى الغربية للشرق، وهو في هذه الحالة، الكفاح الوطني الفلسطيني في سبيل تقرير المصير.2
وأما في تغطية الإسلام فإن موضوعي معاصرٌ بصورة مباشرة، وهو المواقف الغربية، والمواقف الأمريكية خصوصًا إزاء العالم الإسلامي الذي بدأ الغربيون يرون، منذ مطلع السبعينيَّات، أن له صلةً وثيقة بهم، ومع ذلك فهو يَمُوج بالقلاقل المعادية لهم، ويُمثل مشكلةً لهم. وكان من بين أسباب هذه الرؤية إحساسُهم الحادُّ بنقص إمدادات الطاقة، وهو الإحساس الذي تركَّز على النفط العربي ونفط الخليج العربي، وعلى منظَّمة البلدان المصدِّرة للبترول (أوبك)، والآثار الضارة الناجمة عن التضخُّم في المجتمعات الغربية، وارتفاع أسعار الوقود ارتفاعًا بالغًا. أضِف إلى ذلك أن الثورة الإيرانية وأزمة الرهائن قدَّمتا أدلةً جديدة، وتدعو إلى الانزعاج، على صحةِ ما أصبح يُشار إليه باسم «عودة الإسلام». وأخيرًا لمحنا عودةَ ظهور المشاعر الوطنية الراديكالية في العالم الإسلامي، وما تبعها من اشتداد المنافسة بين الدُّول العظمى هناك، وهو ما يؤسَف له بصورة خاصة. فأمَّا المثال على الظاهرة الأولى فهو الحرب بين العراق وإيران، وأما المثال على الظاهرة الثانية فهو التدخل السوفييتي في أفغانستان، والاستعدادات الأمريكية لما يُسمَّى بقوات الانتشار السريع في منطقة الخليج.
ورغم أن التورية في عُنوان هذا الكتاب «تغطية الإسلام» سوف تتَّضح لأي قارئ له، فإنه قد يتطلب تفسيرًا مبسَّطًا في البداية. فمن الأفكار التي أطرحُها في هذا الكتاب وفي كتاب الاستشراق أن مصطلح «الإسلام»، في السياقات التي يُستعمل فيها اليوم، يَعني في ظاهره أمرًا واحدًا بسيطًا، وأما في الواقع فالمصطلح من أحد جوانبه ليست له دلالةٌ واقعية، وهو من جانبٍ ثانٍ لا يَزيد عن كونه بطاقةً أيديولوجية، وهو من جانب ثالث اسمٌ لا يتجاوز الحدود الدنيا في الإشارة إلى الدين الإسلامي. فنحن نرى أولًا أن المصطلح بالصورة التي يَشيع فيها لدى الغربيِّين لا ينطبق انطباقًا واقعيًّا على صور الحياة البالغةِ التنوُّع داخل عالم الإسلام، وهو الذي يربو عددُ سكانه على ثمانمائة مليون نسمة، وتصل مساحة أراضيه إلى ملايين الأميال المربعة، معظمها في أفريقيا وآسيا، إلى جانب عشَرات مجتمعاته ودوله، وأشكال تاريخه وجغرافيته وأنماطه الثقافية. وفي مقابل ذلك نرى أن «الإسلام» أصبح يرتبط اليوم في الغرب بالأنباء المثيرة المفجعة بصفةٍ خاصة؛ للأسباب التي أناقشها في غضون هذا الكتاب. فلقد شُغِلَت أجهزة الإعلام الغربية بتغطية الإسلام في الأعوام القليلة الماضية، خصوصًا منذ أن لفَتَت أحداث إيران أنظارَ الناس في أوروبا وأمريكا إليه وشَغلَتهم حقًّا، فإذا بهذه الأجهزة تتصدى لتصوير الإسلام، وتحديد ملامحه، وتحليله، وتُقدم دراسات فورية عنه، ومن ثَم فقد جعلتْه في ظنهم «معلومًا».

ولكن هذه التغطية، كما ألمحتُ إلى ذلك ضمنًا، تغطيةٌ مُضلِّلة حتى ولو بدَت شاملة، ويُضاف إليها عملُ الخبراء الأكاديميين في الإسلام، ورجال الاستراتيجيات الجغرافية السياسية الذين يتحدثون عن «هلال الأزمة» وعمل المفكرين الثقافيِّين الذين يَنْعون «تدهور الغرب». ومصدر التضليل هو أن التغطية توحي لمن يتلقَّون الأنباء بأنهم قد فهموا الإسلام، دون أن تقول لهم إن جانبًا كبيرًا من هذه التغطية النشطة يستند إلى مادةٍ أبعدَ ما تكون عن الموضوعية. فلقد أدَّى استعمال مصطلح «الإسلام» إلى السماح بقدرٍ واضح من الأخطاء، وبأقوالٍ تَنمُّ عن التعبير عن التحيُّز العِرقي الشديد، والكراهية الثقافية بل والعنصرية، والعداء العميق الذي قد يتذبذب صعودًا وهبوطًا، وهذه من إحدى المفارقات. ويجري ذلك كلُّه في إطار ما يُفترض أنه تغطية مُنصِفة ومتوازنة مسئولة للإسلام. وبغضِّ النظر عن عدم تناول أجهزة الإعلام للمسيحية أو لليهودية بنفس الحماس الانفعاليِّ الذي تتناول به الإسلام، وإن كان كلٌّ منهما يمرُّ بنهضةٍ بارزة (أو ما يُسمَّى «العودة») فالافتراض المسلَّم به هو أنه من الممكن تحديدُ صفات الإسلام دونما حدودٍ باستعمال حَفْنةٍ من القوالب اللفظية (الكليشيهات) التي تتَّسم بالتعميم الذي ينمُّ عن التهور، والتي تُستخدم مِرارًا وتَكرارًا. ودائمًا ما يُفترض أن «الإسلام» الذي يتحدثون عنه شيء حقيقي ثابتٌ له وجود واقعي في المكان الذي تصادفَ أن وُجدت فيه إمداداتُ «بترولهم».

ولقد صاحبَ هذا اللونَ من التغطية قدرٌ كبيرٌ من التستُّر والتكتُّم. فعندما تُحاول صحيفة نيويورك تايمز أن تشرح المقاومة الإيرانية المدهشة للغزو العراقي، نجدها قد لجأت إلى المقولة القديمة من أن «للشيعة وَلَعًا بالاستشهاد»، وأمثالُ هذه المقولات لها حظُّها من القَبول من الناحية السطحية، ولكنني أعتقد أنها تُستخدم لتغطية الكثير مما لا يدري الصحفيُّ عنه شيئًا. والجهل باللغة لا يُمثل إلا جانبًا واحدًا أشملَ وأعظم، إذ كثيرًا ما تبعث الصحيفةُ بمراسلها إلى بلدٍ غريب، دون استعدادٍ ودون خبرة، لا لسببٍ إلَّا لذكائه وقدرته على التقاط الأنباء بسرعة؛ أي للماحيَّته، أو لأنه تصادف وجوده في مكان قريب من الجبهة التي تُزوِّد الصحيفةَ بأنباء الصفحة الأولى. وهكذا فبدلًا من محاولة معرفة المزيد عن ذلك البلد، نجد أن الصحفي قد التقط ما هو قريبٌ منه، وعادةً ما يكون كليشيهًا أو فكرةً صحفية جذَّابة ليس من المحتمل أن يشكَّ في صحتها قرَّاءُ صحيفته في بلده. وهكذا وجدنا ما يقرب من ثلاثمائة صحفي في طهران في الأيام الأولى من أزمة الرهائن، دون أن يكون من بينهم مَن يتحدث اللغة الفارسية، ولم يكن من الغريب إذن أن تُكرِّر جميع الأنباء الصحفية الخارجة من إيران، في جوهرها، نفسَ المقولات البالية عن الأحداث الجارية هناك. وبطبيعة الحال لم يلحظ أحدٌ ولم يلتفت الناس إلى غيرها من الأحداث والتحوُّلات السياسية في إيران، وهي التي تعذَّر تصنيفها باعتبارها نماذجَ «للعقلية الإسلامية» أو «لمُعاداة أمريكا».
وقد ساهمَت أنشطة تغطية الإسلام والتستُّر على الإسلام فيما بينها إلى حدٍّ كبير في صرف النظر عن المرض الذي تُعتبر هذه الأنشطة من أعراضه، ألا وهو المشكلة العامة المتمثلة في الحياة في عالم أصبح يتَّسم بقدرٍ بالغ من التنوع والتعقيد إلى الحد الذي يستحيل معه إطلاقُ التعميمات الفورية والميسَّرة. ومصطلح الإسلام نموذج ينطبق عليه هذا القول، وهو نموذج ذو خصوصية أيضًا، بسبب تاريخ الإسلام في الغرب؛ فهو تاريخ قديم وذو سِماتٍ محددة بدقة، وأعني بذلك أن الإسلام لا ينتمي إلى أوروبا ولا إلى مجموعة البلدان المتقدِّمة صناعيًّا مثل اليابان، بل يشترك في عدم الانتماء المذكور مع سِمات كثيرة أخرى من سِمات عالَمِ ما بعد الاستعمار؛ إذ يعتبر واقعًا في نِطاق ما يُسمى «المنظورات الإنمائية» وهي التسمية التي تعني بأسلوب آخر أن النظرة السائدة على امتداد ثلاثة عقودٍ على الأقل تقول بأن المجتمعات الإسلامية في حاجةٍ إلى «تحديث». ونَجمَت عن أيديولوجية التحديث نظرةٌ خاصة إلى الإسلام بلغَت ذروتها وأوْجَها في شاه إيران، سواءٌ في قمة مجده باعتباره حاكمًا «حديثًا» أو عندما انهار نظامُ حكمه، باعتباره ضحيةً من ضحايا الحركة التي اعتبرها الغربيون نموذجًا لتعصب العصور الوسطى واستمساكها بالدين.
ومن ناحيةٍ أخرى كان الإسلام دائمًا ولا يزال يُمثِّل تهديدًا خاصًّا للغرب؛ للأسباب التي ناقشتُها في كتابي الاستشراق وأعيد فحصها في هذا الكتاب. ومن المحال أن يُقال عن أي دينٍ آخر، أو أي تجمع ثقافيٍّ آخر، وبنفس الدرجة من التأكيد، ما يُقال الآن عن الإسلام، أي إنه يُمثل تهديدًا للحضارة الغربية. وليس من قبيل المصادفة أن تؤدِّيَ القلاقلُ والاضطرابات التي نشهدها في عالم المسلمين اليوم (وهي التي ترجع إلى عوامل اجتماعية واقتصادية وتاريخية أكثرَ مما ترجع إلى الإسلام وحده) إلى فضح مناحي قصور القوالب الثابتة (الكليشيهات) التي وضعَها المستشرقون وهي القوالب الساذجة التي تتحدث عن «الإيمان بالقدَر» والتواكل لدى المسلمين، دون أن يأتوا ببدائلَ لها سوى الحنين إلى الأيام الخوالي التي كانت الجيوش الأوروبية فيها تُسيطر على عالم المسلمين كلِّه تقريبًا، من شبه القارة الهندية إلى شماليِّ أفريقيا. وما النجاحُ الذي لاقته الكتبُ والصحف ولاقاه كبار الشخصيات العامة الذين يَدْعون إلى إعادة احتلال منطقة الخليج، مبرِّرين دعوتهم بالحديث عن الهمجية الإسلامية، إلا جانبٌ من جوانب هذه الظاهرة. ولا يقلُّ عن ذلك غرابةً أن نشهد هذه الأيامَ ذيوع صيت بعض «الخبراء» في أمريكا، مثل ج. ب. کیلي، الأستاذ السابق للتاريخ الإمبريالي في جامعة ويسكونسن، والذي كان يومًا ما مستشارًا للشيخ زايد بن سلطان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة (رحمه الله)3 والذي غدا ينتقد المسلمين، ورجال الغرب الضعفاء الذين يختلفون عنه في أنهم أسلَسوا زِمامهم «لعرب النفط»، ولقد عرَضَت بعض المقالات لكتابه وانتقدَته أحيانًا دون أن تقول إحداها كلمةً واحدة عن محاكاته للأجداد الإمبرياليين محاكاةً صريحة تدعو إلى الدهشة في الفقرة الأخيرة من هذا الكتاب، وهي جديرةٌ بالاقتطاف هنا بسببِ ما تتضمَّنه من اشتهاءٍ خالص للغزو الإمبریالی ومن مواقفَ عنصرية لا ينجح تمامًا في إخفائها:
من المُحال أن نتنبَّأ بطول المدة الزمنية التي بقيَت لأوروبا الغربية حتى تحتفظَ أو تستعيد ميراثها الاستراتيجي شرقيَّ السويس. ففي الفترة التي ساد فيها ما يُسمى بالسلام البريطاني، أي من العَقد الرابع أو الخامس للقرن التاسع عشر حتى سنوات منتصفِ هذا القرن (العشرين) ساد الهدوءُ البحارَ الشرقية، وحوْل سواحل غربيِّ المحيط الهندي. ولا يزال الهدوء المؤقَّت قائمًا في تلك المناطق، لكنه ظِلٌّ عابرٌ من ظلال النظام الإمبريالي القديم، فإذا كان لنا أن نتعلَّم شيئًا ما من التاريخ في القرون الأربعة أو الخمسة الماضية، فهو أن ذلك السلام الهشَّ لن يستطيع الصمود طويلًا. إن معظم بلدان آسيا قد انتكسَت فعادت إلى الحكم الاستبدادي، وعادت معظمُ أفريقيا إلى الهمجية — أي باختصارٍ إلى الحال التي كانت تعيشها قبل أن يكتشف فاسكو دي جاما طريق رأس الرجاء الصالح، ويضعَ أسُس سيطرة البرتغال على الشرق … لا تزال عُمان مِفتاحَ التحكُّم في الخليج ومداخلِه البحرية، مثلما لا تزال عدن مفتاحَ المرور في البحر الأحمر. ولقد تخلَّت الدول الغربية من قبلُ عن أحد هذين المِفتاحَين؛ وأما المفتاح الآخَر فلا يزال في متناول أيديها. لكننا لم نعرف حتى الآن ما إذا كانت لديها الجُرأة اللازمة، مثل ربابنة البرتغال القدماء، للقبض عليه.4

وإذا كان بعض القراء قد يجدون من غرابةٍ وطرافة فيما يوحي به کیلي من أن الاستعمار البرتغالي في القرنَين الخامس عشر والسادس عشر يعتبر أنسبَ مرشدٍ للسياسيين الغربيين المعاصرين، فإن تبسيطه للتاريخ هو أشدُّ ما يُمثِّل الاتجاهَ الفكري الراهن. فهو يقول إن الاستعمار أتى بالهدوء، كأنما كان إخضاعُ ملايين البشر نعيمًا مثاليًّا وكأنما كانت أيامُ الاستعمار أفضلَ أيامٍ عهدوها، وأما انتهاكُ مشاعرهم، وتشويه تاريخهم، وتعاسةُ مصائرهم، فلا قيمة لها «ما دُمنا»، من وجهة نظره، نواصل الظفر بما هو مفيدٌ «لنا» — أي بالموارد الثمينة، والبقاع الاستراتيجية من الزاوية السياسية، وذلك الحشد الكبير من الأيدي العاملة المحلية الرخيصة. وأما استقلال البلدان في أفريقيا وآسيا بعد قرونٍ من السيطرة الاستعمارية فهو يرفضه باعتباره انتكاسًا وعودةً إلى حالة الهمجية أو الحكم الاستبدادي. وهكذا يقول کیلي إن السبيل الوحيد المتاح، بعد ما وصفه بأنه وفاةُ النظام الإمبريالي القديم التي وصمت أهله بالجبن، هو القيام بغزوة جديدة. وفي طيَّات هذه الدعوة التي يُقدمها کیلي إلى الغرب للحصول على ما ينتمي بحقٍّ «لنا»، يكمُن احتقارٌ عميق للثقافة الإسلامية الوطنية في آسيا التي يرغب کیلي أن نتولَّى «نحن» حكمها.

فلْنضرب صفحًا عن المنطق المعكوس الذي يستند إليه کیلي في كتابته، وهو الذي أتى له بآيات الترحيب والاحترام من الجناح اليميني من المفكرين الأمريكيين، من ويليم ف. باكلي إلى صحيفة نيو ريببلك، فالأهمُّ من ذلك في النظرة التي يقدمها هو أمام تفضيل الحلول الشاملة الجاهزة فورًا على كل حلولٍ أخرى للمشاكل المعقَّدة المتشابكة، خصوصًا حين تُوصي هذه الحلولُ باتخاذ عملٍ قويٍّ ضد «الإسلام». ولا أحد يذكر أيَّ شيء عمَّا عساه يجري الآن داخل اليمن مثلًا، أو في تركيا، أو عبر البحر الأحمر في السودان، أو موريتانيا، أو في المغرب أو حتى في مصر. فالصحافة تلتزم الصمتَ إزاء ذلك كلِّه، إذ لا يَشغلها إلا تغطيةُ أنباء أزمة الرهائن، والجامعات تلتزم الصمت، إذ لا يَشغلها إلا إسداءُ المشورة لرجال صناعة النفط، وللحكومة بشأن التنبُّؤ باتجاهات الخليج العربي، والحكومة تلتزم الصمت، إذ إنها لا تطلب المعلومات إلا حيث يوجِّهنا «أصدقاؤنا» (مثل الشاة أو أنور السادات) إلى مكان طلبها. فلا يهمُّ هذه الجهاتِ جميعًا إلا القولُ بأن «الإسلام» هو وحده الذي يمتلك احتياطات النفط اللازمة للغرب، ولا اعتدادَ بغير ذلك، ولا شيء سِواه يستحق الالتفات إليه.

فإذا نظرنا إلى الحالة الراهنة للدراسات الأكاديمية للإسلام، لم نجد فيها ما يكفي لتصحيح الأوضاع، بل إن المجال برُمته يعتبر من بعض زواياه هامشيًّا بالنسبة للثقافة العامة، كما أنه — من زوايا أخرى — قد استقطبته الحكومة والشركات. وقد أدَّى ذلك، بصفة عامة، إلى عدم تأهيله لتغطية الإسلام بالمناهج التي ربما كشفَت لنا عمَّا نجهله مما يدور تحت السطح في المجتمعات الإسلامية، وذلك إلى جانب المشكلات المنهجية والفكرية العديدة التي لم تُحسم حتى الآن: هل يوجد ما يُسمَّى بالسلوك الإسلامي؟ ما الذي يربط الإسلامَ على مستوى الحياة اليومية بالإسلام على مستوى العقيدة في شتى المجتمعات الإسلامية؟ ما مدى فائدة استعمال مصطلح «الإسلام» باعتباره من المفاهيم النظرية في تفهُّم الأحوال القائمة في نفس الوقت في المغرب والمملكة العربية السعودية وسوريا وإندونيسيا؟ فإذا أدركنا، على نحوِ ما أشار إليه كثيرٌ من العلماء في الآونة الأخيرة، أنه من الممكن اعتبارُ أن العقيدة الإسلامية تُبرر الرأسمالية مثلما تبرر الاشتراكية، وتبرر الكفاح مثلما تُبرر التسليم بالقدر، وتبرر مدَّ الأيدي إلى الأديان جميعًا والترابط بينها مثلما تُبرر الانفراد والانحصار، بدأنا في إدراك الهُوة الشاسعة التي تفصل بين التوصيفات الأكاديمية للإسلام (ومن المحتوم ألا تُقدم لها أجهزةُ الإعلام إلا صورًا شائهة) وبين الحقائق المحددة القائمة على أرض الواقع في العالم الإسلامي.

ومع ذلك فالآراء تتفق على اعتبار «الإسلام» كبشَ الفداء الذي ننسب إليه كلَّ ما يتصادف أن نكرهَه في الأنساق السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة في عالم اليوم. فاليمين يرى أن الإسلام يُمثل الهمجية، واليسار يرى أنه يُمثل حكم الدين في القرون الوسطى، والوسط يرى أنه يُمثل الغرابة الممجوجة، وأما ما تتَّفق عليه هذه الدوائرُ جميعًا (وعلى الرغم من ضآلة ما تعرفه عن العالم الإسلامي) فهو استحالة قَبول جوانبَ كثيرة من جوانبه. وينحصر ما تعتبره هذه الدوائرُ ذا قيمة في الإسلام، وبصفة رئيسية، في عدائه للشيوعية، إلى جانب المفارقة الظاهرة في أن العداء للشيوعية في العالم الإسلامي يعتبر في جميع الأحوال تقريبًا مرادفًا لنُظُمِ الحكم القمعية الموالية لأمريكا. والرئيس الباکستاني ضیاء الحق خير مثال لذلك.

ما أبعدَ هذا الكتابَ إذن عن أن يكون دفاعًا عن الإسلام؛ فذلك أمرٌ بعيد الاحتمال، وجهدٌ لا طائل من ورائه في حدود ما يرمي إليه هذا الكتاب الذي يَقتصر على وصفِ صور استعمال مصطلح «الإسلام» في الغرب! وكذلك — ولو أنني أنفق وقتًا أقلَّ في هذا الصدد — في كثيرٍ من المجتمعات الإسلامية. وهكذا فإن انتقاد صور إساءة استعمال المصطلح في الغرب لا يعني على الإطلاق السماحَ بها أو الموافقةَ عليها داخل المجتمعات الإسلامية. فالواقع يقول إننا نجد في الكثير، بل في عددٍ أكبر مما ينبغي من المجتمعات الإسلامية، أن النظام الحاكم يلجأ إلى القمع، أو إلى سلب الحريات الشخصية، أو الاستناد في الحكم إلى أقليةٍ لا تُمثل الشعب وأنه قد يزعم زورًا وبهتانًا أن ذلك مشروعٌ باسم الإسلام، أو يلجأ إلى السفسطة في إقامة مبرراته على أسسٍ إسلامية، والعقيدة الإسلامية بريئةٌ من ذلك كلِّه، شأنها في ذلك شأن الأديان العالمية العُظمى. والواقع أن إساءة استعمال مصطلح الإسلام تتزامن في كثيرٍ من الحالات مع الزيادة الفاحشة في القوة والسلطة التي تكتسبها الحكومة المركزية.

لكننا حتى لو لم ننسب كلَّ العلل في العالم الإسلامي إلى الغرب، فلا بد أن نُدرك العلاقة التي تربط ما يقوله الغرب عن الإسلام بما فعلَته شتى المجتمعات الإسلامية ردًّا على ذلك، فالعلاقة الجَدلية قائمةٌ بين الطرفين؛ لأن الغرب شريك مهم في الحوار الدائر مع الكثير من المجتمعات الإسلامية، سواءٌ باعتباره القوةَ الاستعمارية السابقة أو باعتباره الشريكَ التجاري الحالي، وقد أثمرَت هذه العلاقة الجدلية ضربًا مما أطلق عليه توماس فرانك وإدوارد ویزباند تعبير «سياسة الكلمات»،5 ومن أغراض هذا الكتاب تحليلُ هذه السياسة وشرحها. فنحن نلاحظ التراشقَ بين الغرب والإسلام، ونلاحظ التحدِّيَ والإجابة، وفتح مجالاتٍ تعبيرية معيَّنة وإغلاقَ غيرها، وكل ذلك هو ما يُشكِّل «سياسة الكلمات» التي يحاول عن طريقها كلُّ طرف إنشاءَ مواقف معينة، وتبرير أفعال معينة، وفرض بدائل معينة على الطرف الآخر. وهكذا فعندما احتلَّ الإيرانيون السفارة الأمريكية في طهران كانوا لا يردُّون بذلك فحسبُ على دخول الشاه السابق إلى الولايات المتحدة، بل أيضًا على ما يعتبرونه تاريخًا طويلًا من الإذلال الذي لاقَوه على أيدي القوة الأمريكية الفائقة؛ أي إن الأفعال الأمريكية الماضية «تحدثت» إليهم عن التدخل الدائم في حياتهم؛ ومِن ثَم أحسُّوا أنهم مسلمون قد سُجنوا داخل وطنهم نفسِه، فقاموا بحبس بعض الأمريكيِّين واحتجَزوهم رهائنَ على أرض أمريكية؛ أي في السفارة الأمريكية في طهران. وإذا كانت الأفعال نفسُها قد أقامت الحُجَّة، فلقد مهَّدَت لها الكلمات، وتحركاتُ القوة رسمَت الكلماتُ ظلالَها، بل وإلى حدٍّ كبير يمكن القول بأنه لولا الكلماتُ ما كانت الأفعال.
وأعتقد أن هذا النسق ذو أهمية كبرى؛ لأنه يؤكِّد الرابطة الوثيقة بين اللغة والواقع السياسي، على الأقل فيما يتعلق بالمناقشات الخاصة بالإسلام. وما أشقَّ أن تجعل معظم الخبراء الأكاديميين في الإسلام يعترفون بأن ما يقولونه ويفعلونه باعتبارهم علماء باحثين يقع في سياقٍ ذي صِبغة سياسية عميقة، وأحيانًا ما تكون معادية! فكلُّ ما يختص بدراسة الإسلام في الغرب المعاصر اليوم مشبعٌ بالأهمية السياسية، ومع ذلك فما أندرَ أن نجد كاتبًا عن الإسلام، سواءٌ كان خبيرًا أو ممَّن يكتبون بصفةٍ عامة، يعترف بهذه الحقيقة فيما يقوله. فنحن نفترض التزام الموضوعية في حديث العلماء عن المجتمعات الأخرى، على الرغم من التاريخ الطويل الذي عرَفَت فيه جميعُ المجتمعات ضروبَ القلق السياسي والخُلقي والديني، سواءٌ كانت غربية أو إسلامية، بشأن كل أجنبي وغريبٍ ومختلف. ففي أوروبا على سبيل المثال، كان المستشرق يرتبط بصورة مباشرة، وعلى مَرِّ الزمن، بالجهود الاستعمارية، ولقد بدأنا فحسبُ نُدرك مدى التعاون الوثيق بين الدراسة العلمية والغزو العسكري الاستعماري المباشر، وهو ما تَعلَّمنا منه درسًا مفيدًا وإن كان محزنًا (على نحوِ ما حدث في حالة المستشرق الهولندي المبجَّل سي. سنوك هنجرونيي، الذي استغلَّ الثقة التي أوْلاه المسلمون إيَّاها، في تخطيطِ وتنفيذ الحرب الهولندية الوحشية ضد أبناء شعب أتشه المقيمين في سومطرة).6 ومع ذلك فلا تزال الكتب والمقالات تتدفق علينا وتَفيض بالثناء على الطابَع غير السياسي للدراسة العلمية الغربية، وثمار العلم الذي أتى به المستشرقون، وقيمة الخبرة «الموضوعية». وفي الوقت نفسه يَندُر أن نرى خبيرًا من خبراء «الإسلام» لم يكن مستشارًا للحكومة أو حتى موظفًا فيها، أو في مختلف الشركات أو أجهزة الإعلام. وما أرمي إليه هو أنه لا بد من الاعتراف بذلك التعاون ومِن أخذِه في الاعتبار، لا لأسبابٍ أخلاقية فحسب، بل أيضًا لأسباب فكرية.

فلنقُلْ إذن إن الكلام عن الإسلام يتعرض للتلوُّن دون شكٍّ بألوان الأحوال السياسية والاقتصادية والفكرية التي ينشأ فيها، إن لم يُصبه الفسادُ المطلَق من جرَّاء ذلك، ويصْدُق ذلك على الشرق مثلما يَصدُق على الغرب، وليس من المبالغة أن نقول، ولأسبابٍ كثيرة واضحة، إن كل كلامٍ عن الإسلام يسعى لتحقيق درجةٍ ما من السلطة أو القوة. ولكنني، من ناحية أخرى، لا أقصدُ أن أقول إن جميع الدراسات أو الكتابات عن الإسلام لا نفع لها؛ فالعكس هو الصحيح، وهي أقربُ قطعًا إلى الدفع بما تُميط عنه اللِّثامَ باعتبارها دليلًا يشير إلى «المصلحة» التي تسعى لتحقيقها. ولا أستطيع أن أقول بالتأكيد إذا ما كنا سنُصادف في مجال الشئون المتعلقة بالمجتمع البشري ما يُسمى بالحقيقة المطلقة أو المعرفة الصادقة الكاملة، وربما وجدنا أمثالَ هذه أو تلك في عالم المجردات — وهو قولٌ لا أجد صعوبةً في قَبوله — ولكنني أرى في إطار الواقع القائم أن الحقيقة في سياق الحديث عن أمورٍ معينة مثل «الإسلام» مرتبطةٌ بالمصدر الذي تأتي منه، وأرجو أن يُلاحظ القارئ أن هذا الموقفَ لا يستبعد وجودَ درجاتٍ من المعرفة (الصحيحة أو الفاسدة أو التي لا لون لها)، ولا يستبعد إمكانَ تحرِّي الدقَّة في القول، ولكنه يطلب فحسبُ من أي إنسان يتكلم عن «الإسلام» أن يتذكر ما يعرفه كلُّ دارس مبتدئٍ للأدب، وهو أن كتابة نصوصٍ عن الواقع الإنساني، أو قراءة هذه النصوص، نشاطٌ يُشارك فيه من العوامل ما يَزيد كثيرًا عمَّا يمكن تفسيره (أو حمايته) بعناوين مثل «الموضوعية».

وهذا هو السبب الذي يدفعني إلى بذل الجهد في تحديد السياق الذي تنشأ فيه كلُّ مقولة، وسبب اهتمامي بذكر مختلِفِ الفئات الاجتماعية المهتمة «بالإسلام». وأما بالنسبة للغرب بصفةٍ عامة، وللولايات المتحدة بصفة خاصة، فإن تلاقيَ القُوى ذاتِ العلاقة «بالإسلام» واضحٌ جليٌّ، سواءٌ فيما يتعلق بالجماعات التي تُشكل هذه القُوى (الحياة الأكاديمية، والشركات، وأجهزة الإعلام، والحكومة) أو الغياب النسبي للمنشقِّين عن الطريق الذي جعلته هذه القُوى «الطريق الصحيح» أو المعتمَد. وكانت النتيجة هي التبسيطَ الشديد والمُخِلَّ «للإسلام» الذي يُتيح التلاعبَ به لتحقيق عدة أهدافٍ معًا؛ من إثارة حرب باردة جديدة، إلى إثارة الكراهية العنصرية، إلى تعبئة الرأي العامِّ لإمكان القيام بغزوة جديدة، إلى استمرار تحقير المسلمين والعرب.7 وأعتقد أنه لا يكاد يكون في هذا كلِّه أيُّ نِشْدان للحقيقة؛ بل إن القائمين بذلك دائمًا ما يُنكرون، بكل تأكيد، أنهم يقصدون التلاعب تحقيقًا لأهدافهم، ولكننا نجد أن أقوالهم تَصدُر، وأهدافهم تتحقَّق وقد تستَّرَت برِداء البحث الأكاديمي بل الخِبرة العِلمية التي تُخفيها. ومن العواقب الطريفة أنه حين تتبرَّع البلدان الإسلامية بالمال للجامعات الأمريكية لإنفاقه على الدراسات العربية أو الإسلامية تعلو أصواتُ الغضب الليبرالية احتجاجًا على التدخُّل الأجنبي في الجامعات الأمريكية، وحين تتبرع اليابان أو ألمانيا بالمال فلا يسمع أحدٌ صوتًا لشاكٍ. وأما عن تأثير ضغوط الشركات على الجامعات، فذلك أيضًا يعتبر بصفةٍ عامة أمرًا مقبولًا ولا غبار عليه.8

وحتى لا ينطبق عليَّ، فيما يبدو، التعريفُ الذي وضعه أوسكار وايلد للمتهكِّم الساخر بدقة — وهو في رأيه مَن يعرف لكل شيء سعرًا ولا يعرف لأيِّ شيء قيمة — أجد لِزامًا عليَّ أن أقول في الختام إنني أدركُ الحاجة إلى آراء الخُبراء المطَّلِعين على بواطن الأمور، وإنه من المحتمل أن تتخذ الولاياتُ المتحدة باعتبارها دولةً عُظمى مواقفَ إزاء العالم الخارجي لا تتخذها الدولُ الصغرى، وأن تضَع لنفسها سياساتٍ خاصةً بها بناءً على تلك المواقف؛ كما أنني لا يزال يَحْدوني أملٌ كبير في أن تتحسَّنَ الأحوال السيئة السائدة الآن، ومع ذلك فأنا لا أشارك الكثيرين من الخبراء وواضعي السياسات والمثقفين بصفة عامة إيمانَهم القويَّ والراسخ بمفهوم «الإسلام» لديهم، بل إنني، على العكس من ذلك، كثيرًا ما أرى فيه عقَبة، بدلًا من أن يكون عونًا على تفهُّم الدوافع التي تُحرك الناسَ والمجتمعات. أما ما أومن به حقًّا فهو وجود حاسة نقدية، ووجود المواطنين القادرين والمستعدِّين لاستخدامها في تخطِّي وتجاوز المصالح الخاصة للخبراء وأفكارهم التقليدية. ويستطيع كلُّ قارئ أن يعتمد على المهارات التي يتمتَّع بها صاحبُ النظرة النقدية الصائبة في التمييز بين الخطأ والصواب، وبين الغثِّ والسمين، وأن يطرح الأسئلة المناسبة ويتوقَّع الإجابات المناسبة، ومِن ثم يتمكَّن من معرفةِ ما يريد إما عن الدين الإسلامي أو عن عالم الإسلام، وعن الرجال والنساء والثقافات التي تعيش فيه، وتتكلم لُغاته وتتنفَّس هواءه وتصنع تاريخَ كل بلد فيه وتُنشئ كل مجتمع من مجتمعاته. وعندها تبدأ المعرفة الإنسانية الحقة، ويبدأ الناس في تحمُّل المسئولية الجماعية عن تلك المعرفة، وما كَتبتُ هذا الكتاب إلا في سبيل ذلك الهدف.

ولقد سبق نشرُ بعض أجزاء من الفصلَين الأول والثاني في صحيفتَي «ذانیشن» وكولمبيا جورناليزم ريفيو، وأودُّ أن أُعرب عن امتناني الخاص إلى روبرت مانوف، الذي تولى رئاسة تحرير الصحيفة الأخيرة لفترة قصيرة فجعل منها في إبَّانها مجلةً ناجحة.

وفي غضون جمعي للمادة الخاصة ببعض أقسام هذا الكتاب تلقيتُ العون من مُساعدَين قَديرَين هما دَجْلاس بلدوين وفيليب شحادة، وتولى بول لیباري إعدادَ المخطوط في صورته النهائية بمهارة علمية وكفاءة فائقة. وأُعرب عن امتناني كذلك لألبرت سعيد لما قدَّمه لي من سخيِّ العون.

أما عن النقد الفكري والملاحظات الحَصِيفة فأنا أَدين بها للكثيرين، ومنهم مَن لم يُقدَّر لي أن أُقابله وإن كنتُ قد تلقَّيت الرسائل التي تحمل أفكارًا ودراسات وتعليقات أَفدتُ منها جميعًا، وأخصُّ بالذكر فريد هاليداي، ومیریام روزن، وویلیم جرایدر، وإرفاد أبراهامیان، وويليم دورمان، ومنصور فرهنك، ونیكي کیدي، ومیلودي کیمیل، وتشارلز کیمبول، وستيوارت شار.

وأودُّ أن أشير إلى الدَّيْن الخاص الذي أَدين به لرفيقي العزيز إقبال أحمد، صاحب المعرفة الموسوعية الذي لا يضُّن بالإجابة على سؤال سائل، فزوَّدَنا بالغذاء الفِكري في فترات التخبُّط والمِحن. وقام جيمس بيك بقراءة المخطوط في إحدى صوره المبكرة وقدَّم لي اقتراحاتٍ رائعة مفصَّلة لمراجعته، وإن كان لا يُعتبر، بطبيعة الحال، مسئولًا عما بقي به من مَثالب، ويسرُّني أن أشكره وأُقدِّر له مساعدته التي لا غِنى عنها. وتولَّت جین مورتون، من دار نشر بانثيون بوکس تحرير المخطوط بلباقةٍ ويقظة، فأنا لها مُمتن. ولا يفوتني أن أتقدم بالشكر كذلك إلى أندريه شيفرین لما أبداه من حِكمة وحَصافة فكرية، إذ يتحلى بالشجاعة صديقًا ومحررًا وناشرًا.

وأما مريم سعيد، التي أُهدي إليها هذا الكتاب، فأكاد أقول إنه لولاها لما بقي المؤلف في قيد الحياة في أثناء كتابة الكتاب. ومِن ثم أُعرب لها عن شكري العميق على حبِّها ومُرافقتها إياي ووجودِها المُلهِم.

إ. و. س.
نيويورك
أكتوبر، ۱۹۸۰م

استدراك

في ۲۰ يناير ۱۹۸۱م غادر إيران، آخِرَ الأمر، الأمريكيون الاثنان والخمسون، بعد أن ظلُّوا محتجَزين في سفارة الولايات المتحدة لمدة ٤٤٤ يومًا. وبعد عدة أيام وصَلوا إلى الولايات المتحدة، فقوبلوا بتَرحاب شديدٍ وبفرحة البلد الصادقة لعودتهم. وغدَت «عودة المحتجزين»، كما أصبحَت تُسمَّى، بمثابة احتفال إعلامي دام أسبوعًا كاملًا، فخصَّص التلفزيون ساعات طويلة حلَّت محلَّ برامجه العادية، أفعمَها المعلقون بالأشجان، للتغطية المباشرة لمراحل نقل «العائدين» إلى الجزائر، ثم إلى ألمانيا، ثم إلى قاعدة «وست بوينت» الأمريكية ثم إلى واشنطن، وأخيرًا إلى بلدانهم الأصلية. وأصدرَت معظم الصحف والمجلات الأسبوعية مَلاحقَ خاصة بالعودة، تتراوح بين التحليلات العلمية لكيفية التوصل إلى الاتفاق النهائي بين إيران والولايات المتحدة وما استتبعه ذلك، وبين الاحتفالات بالبطولة الأمريكية والهمجية الإيرانية. وقد تخلَّلتْ ذلك كلَّه قصصٌ شخصية عن محنة الرهائن، مزركشةً بأقلام الصحفيين المبرزين، وبما بدا بمثابة العدد الكبير (المثير للفزع) من الأطباء النفسيين الحريصين على شرح حقيقة ما كابَده المحتجزون. أما إذا تجاوزَت المناقشةُ الجادة للماضي وللمستقبل «الشرائط الصفراء» التي كانت ترمز للأَسْر في إيران، فإن الإدارة الأمريكية الجديدة حدَّدَت «نغمة» ما يقال ورسمَت حدوده. فكان تحليل الماضي يتركَّز فيما إذا كان للولايات المتحدة أن تَعقد ذلك الاتفاقَ مع إيران (وإذا ما كان عليها الالتزامُ به) وفي يوم ٣١ يناير ۱۹۸۱م نشرَت صحيفة نيو ريببلك هجومَها المتوقَّع على «الفدية»، وانتقدَت إدارة الرئيس كارتر بسبب استسلامها للإرهابيين، ثم أدانت «الفكرة المشكوك في صحتها القانونية برُمتها»؛ أي مجرد التعامل مع مطالب الإيرانيين، واستخدام وساطة الجزائر، قائلةً إنها بلد «طالت ممارسةُ أهله لاستضافة الإرهابيين وغسيل أموال كلِّ فدية يحصلون عليها»، وأما مناقشة المستقبل فقد وضَع حدودها ما أعلنته إدارة الرئيس ريجان من حربٍ على الإرهاب؛ قالت الصحيفة إن الأولوية الجديدة لسياسات الولايات المتحدة لا يجب أن تكون حقوق الإنسان بل محاربة الإرهاب، ولو اقتضى الأمرُ مساندةَ بعض «نُظم الحكم المعتدلة في قمعها للشعب» إذا كانت من حلفائنا.
وبِناءً على ذلك كتب الصحفي بيتر س. ستيوارت في کریستیان سیانس مونیتور يوم ۲۹ يناير ۱۹۸۱م يقول إنه من المحتمل أن يعقد الكونجرس جلساتٍ لمناقشة «الشروط الواردة في الاتفاق الخاص بإطلاق سراح الرهائن … ومعاملة الرهائن … وإجراءات أمن السفارة … [وباعتبار ذلك ذيلًا عارضًا] مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران». وكان مما يتفق تمامًا مع النطاق الضيق والمُركَّز للمشكلات التي بحثَتها أجهزة الإعلام أثناء الأزمة (وباستثناءاتٍ قليلة) أن أحدًا لم يتعمَّق في فحصِ ما تعنيه مِحنة الرهائن، وما تُوحى به حول المستقبل، وما يُمكن أن نتعلمه منها. وذكرَت صحيفة صنداي تايمز اللندنية يوم ٢٦ يناير أن الرئيس كارتر أشار على وزارة الخارجية الأمريكية، قبل أن يترك منصبه، فيما زعمَت «بالتركيز في عملها الجماهيري كله على إثارة موجة سخطٍ واستياء من الإيرانيين». وسواءٌ كان هذا قد حدث في الواقع أم لا، فإنه يقبل التصديق، على الأقل، خصوصًا لأننا لم نجد مَن يُبدي اهتمامًا بإعادة تقييم التاريخ الطويل لتدخُّلِ أمريكا في إيران وغيرها من بلدان العالم الإسلامي بين المسئولين الحكوميين، وإن تعرضَت لذلك قِلةٌ لا تكاد تُذكر من كُتَّاب الصحف والصحفيين. وكثر الحديث عن مُرابطة بعض القوات بصفة دائمة في الشرق الأوسط، وعلى نقيض ذلك، وجدنا أنه عندما عُقد مؤتمر القمة الإسلامي في الطائف في الأسبوع الأخير من يناير، كان نصيبه التجاهل شِبه التام في أجهزة الإعلام الأمريكية.
وكانت الآراء تَطرح قضية القِصاص وتعلو فيها نبراتُ تأكيد قوة الولايات المتحدة مصحوبةً بعزف سيمفونية محنة الرهائن وعودتهم المُظفَّرة بتفصيلات شجيَّة. وتَحوَّل الضحايا مباشرةً إلى أبطال (الأمر الذي أغضب شتى هيئات قدامى المحاربين وأسري الحرب السابقين — وهو أمر مفهوم) كما تحوَّلوا إلى رموزٍ للحرية، وتحوَّل مُحتجِزوهم إلى وحوشٍ دون المستوى الآدمي. وتحقيقًا لهذه الغاية قالت صحيفة نيويورك تايمز في مقالها الافتتاحي يوم ۲۲ يناير: «فلْنُعرب عن مشاعر الغضب والسخط في هذه الساعات الأولى من إطلاق سراحهم.» وبعد أيام تأمَّل فيها المحرِّرون الموقفَ جاءت الصحيفة يوم ۲۸ يناير بالأسئلة التالية: «ما الذي كان ينبغي أن نفعله؟ إنَّ بَثَّ الألغام في المرافئ أو إنزالَ قوات مُشاة البحرية، أو إلقاء بعض القنابل، قد يبثُّ الخوف في قلوب الأعداء العُقلاء، ولكن هل كانت إيران، وهل إيران الآن، عاقلة؟» لا شك، كما قال فريد هاليداي في صحيفة لوس أنجيليس تايمز يوم ۲٥ يناير، إن إيران كانت تزخر بما يمكن توجيهُ الانتقاد إليه، بعد فشل الحماس الدينيِّ والغليان الثوري المتواصل في إيجاد دولةٍ حديثة قادرة على اتخاذ القرارات اليومية الكفيلة بأن تعود بالفائدة على الشعب كلِّه، كما كانت إيران تُعاني من العزلة الدولية والتعرُّض للأخطار، كما كان من الواضح، دون شك، أن الطلاب الذين احتلُّوا السفارة لم يتَلطَّفوا في معاملة أسراهم. ولكنَّ أحدًا لم يقل، حتى المحتجزون الاثنان والخمسون، إنهم قد تعرَّضوا للتعذيب أو المعاملة الوحشية المنتظمة، وهو ما تجلَّى في نصِّ الأقوال التي أدْلَوا بها في المؤتمر الصحفي الذي عُقد في قاعدة وست بوينت (انظر صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ ۲۸ يناير) حيث تقول إليزابيث سويفت بصراحةٍ تامة إن مجلة نيوزويك كذَبَت فيما روَته عنها، واخترعَت قصةً عن التعذيب (ضخَّمَتها أجهزة الإعلام إلى حدٍّ بعيد) دون أن يكون لها أساسٌ تستند إليه في الواقع.
وهكذا أدَّت عودةُ المحتجزين إلى «الترخيص» بالانتقال المفاجئ من تجرِبةٍ محددة — مُضنية ومحزنة وطويلة الأمد بصورةٍ مريرة — إلى التعميمات الشاسعة عن إيران وعن الإسلام في أجهزة الإعلام، وفي الثقافة بصفةٍ عامة. وهكذا، وبتعبيرٍ آخر، محا الإعلاميُّون ببساطةٍ مَعالم القُوى السياسية المُحرِّكة في باطنِ هذه التجرِبة التاريخية المُعقَّدة والمتشابكة؛ تحقيقًا لحالة غريبة من فقدان الذاكرة، فإذا بنا نعود إلى المبادئ الأساسية القديمة؛ إذ قال بوب إنجل في صحيفة أتلانتا كونستیتیوشن يوم ۲۳ يناير إن الإيرانيين لا يزيدون عن كونهم «مخبولين أصوليِّين»، وقالت كلير ستيرلنغ في واشنطن بوست يوم ۲۳ يناير إن قصة إيران من معالم «عقد الخوف الأول»، أي شن الإرهابيين الحرب على الحضارة. وقال بيل جرين في الصفحة نفسِها من واشنطن بوست إن «البشاعة الإيرانية» قد تؤدِّي إلى أن تتحولَ «حرية الصحافة» في تغطيةِ أنباء إيران «إلى سلاح موجَّهٍ مباشرة إلى قلب القومية الأمريكية وكرامة أمريكا»، وقد عاد جرين بعد قليل إلى التلطيف من حدَّة هذا الجمع الغريب بين التعبير عن الثقة والقلق حين تساءل إذا ما كانت الصحافة قد «ساعدتنا» في تفهُّم «ثورة الإيرانيين»، وهو السؤال الذي أجاب عنه بسهولة مارتن کوندريك في وول ستريت جورنال بتاريخ ۲۰ يناير، إذ كتب يقول «إن التلفزيون الأمريكي [باستثناءات قليلة] عالجَ الأزمة الإيرانية معالجتَه لعرضٍ للشَّوَاذ الذين يضمُّون مَن يضربون أنفسهم ويُلوِّحون بقبضاتهم في الهواء، أو معالجته للمسلسلات الدرامية التلفزيونية.»
ومع ذلك فقد تميَّز عددٌ من الصحفيين بتأملاتهم الصادقة؛ مثل ﻫ. د. س. جرینواي الذي أقرَّ في صحيفة بوسطن جلوب يوم ۲۱ يناير بأن «مصالح الولايات المتحدة قد تضرَّرَت من جراء تسلُّط أزمة الرهائن على العقل الأمريكي، دون غيرها من القضايا المُلِحَّة»، لكنه استطاع أن يصلَ إلى نتيجةٍ واضحة وهي أن «حقائق التعدُّدية في عالم اليوم لن تتغيَّر، وأن الإدارة الجديدة سوف تلتزم بالحدود العمَلية للقوة في أواخر القرن العشرين». وفي العدد نفسِه من هذه الصحيفة كتب ستيفن إرلانجر مقالًا يمتدح فيه الرئيس كارتر لأنه نجَح في نزع فتيل الأزمة؛ ومِن ثَم في أن جعل المناظرة أقدرَ على «إيجاد المزيد من التعقُّل وتقليل الشِّحنة الانفعالية». أما صحيفة نيو ريببلك فقد أنْحَت باللائمة من ناحيتها (٣١ يناير) على صحيفة «الجلوب المتصالحة دومًا مع الواقع» أو قُل إنها قالت، بعبارةٍ أخرى: إن أفضلَ سُبل التعامل مع إيران هو اعتبارُها انحرافًا في مسيرة بناء القوة الأمريكية ومحاربة الشيوعية. بل إن هذا الاتجاه الهجوميَّ في جوهره قد وجَد من يرقى به إلى مصافِّ الأيديولوجية شِبه الرسمية لأمريكا. إذ كتب روبرت و. تاكر مقالًا بعُنوان «أغراض القوة الأمريكية» في مجلة فورين أفيرز (شتاء ۱۹۸۰–۱۹۸۱م) يقول فيه إنه يسيرُ في خطٍّ جديدٍ، يقع ما بين دُعاة «النهضة الأمريكية» ودعاة «الانعزالية». أما فيما يتصل بالخليج العربي وأمريكا الوسطى فيقترح اعتمادَ سياسة التدخُّل الصريح؛ لأن الولايات المتحدة لا تستطيع أن «تسمح» بأيِّ تغييرٍ في النظام الداخلي لكلٍّ من هاتين المنطقتين، أو بانتشار النفوذ السوفييتي. وفي أي حالٍ من هذَين، لا بد أن تتولى الولاياتُ المتحدة بنفسها البتَّ فيما كان التغييرُ مما يُسمح أو لا يُسمح به. كما اقترح أحدُ الزملاء الذين يُشاركونه نفس التفكير، وهو الأستاذ ريتشارد بایبس من جامعة هارفارد، أن تُقسَّم الولايات المتحدة العالم إلى معسكرَين بسيطين: الأمم الموالية للشيوعية، والأمم المعادية للشيوعية.

وإذا كانت العودةُ إلى الحرب الباردة تتضمَّن على أحد مستوياتها، فيما يبدو، الإلحاحَ الجديد على القوة الذاتية، فلقد أدَّت أيضًا إلى تشجيع ما برَز من خداع النفس. وأما الأعداء فيضمُّون أي شخص يسأل الغربَ النظر في ماضيه، لا بغرض الإحساس بالذنب بل من أجل الوعي بذاته، وأمثال هؤلاء لا بد من تجاهلهم وحسب. وقد وقعَت حادثةٌ رمزية بالغةُ الدلالة على ذلك أثناء المؤتمر الصحفي الذي عُقد في قاعدة «وست بوينت»، إذ قال أحد الحاضرين: «إن حكومة الولايات المتحدة بلَغَت ذروةَ النفاق عندما تحدثَت عن التعذيب» بعد أن سمَحَت وتغاضَت عن تشويه أجسام الإيرانيِّين في ظلِّ حكم الشاه السابق. وهنا قال بروس لينجن، القائمُ بالأعمال في السفارة الأمريكية في طهران، ويعتبر أعلى الدبلوماسيين الأمريكيين منصبًا في إيران: إنه لم يسمع السؤال، بل زعم ذلك مرتين، ثم انتقل بسرعةٍ إلى الحديث عن الموضوع الأنسبِ والأقرب إلى قلبه، وهو الوحشية الإيرانية والبراءة الأمريكية.

ولم يتساءل أحد، لا من الخبراء أو الإعلاميين أو من المسئولين الحكوميِّين، عمَّا كان عساه أن يحدث لو خَصَّصوا ولو جانبًا ضئيلًا من الوقت الذي أنفَقوه في عزلِ وتضخيم وتغطية حادث الاستيلاء غير المشروع على السفارة وعودة المحتجزين، في فضحِ ما شهده عهدُ الشاه السابق من ظلمٍ ومن وحشية. ألم يضَع أحدٌ حدودًا لاستخدام جهاز جمع المعلومات الشاسع في إعلام الجمهور الذي أصابه القلق، وله ما يُبرره فعلًا، بما كان يجري في الحقيقة داخل إيران؟ وهل انحصرَت البدائلُ حتمًا في إثارة المشاعر الوطنية أو زيادة إشعال ذلك اللون من الغضب الجماعي من جنون إيران؟

ليست هذه أسئلةً فارغةَ المضمون، بعد أن انتهت أحداثُ هذه الواقعة التي بالَغوا في تضخيمِها مع الأسف. وسوف يكون من المفيد، ومن المطلوب من الناحية العملية للولايات المتحدة بخاصةٍ وللغرب بصفةٍ عامة، أن نتفهَّمَ التغيير في تجمُّعات القُوى في السياسة العالمية: هل يظل «الإسلام» محصور ومقصورًا على دور المورِّد الإرهابيِّ للنفط؟ هل تُركز الصحفُ والتحقيقات على «مَن أضاع علينا إيران» أم تُناقش وتنفق وقتًا ما في تأمُّلٍ أجدى وأنفع لموضوعاتٍ أخرى أكثر ملاءمةً للمجتمع الدولي والتنمية السلمية؟

ولقد وجدنا ما يدلُّنا على قدرة أجهزة الإعلام، مثلًا، على تحمُّل مسئوليتها وبذلِ طاقتها الهائلة في الإعلام الجماهيري؛ حين شهدنا البَرنامجَ الخاص الذي بثَّته شبكة إيه. بي. سي. واستمر ثلاثَ ساعات عن «المفاوضات السرية» يومَي ۲۲ و۲۸ يناير ۱۹۸۱م. ففي إطار الكشف عن شتَّى الأساليب التي استُخدمَت لتحرير الرهائن؛ أماط البرنامجُ اللِّثام عن قدرٍ هائل من المعلومات التي لم نكن نُحيط بها، وكان أشدَّها دلالة تلك اللحظاتُ التي أسقط البرنامجُ الضوء فيها، فجأة، على بعض المواقف العميقة الراسخة في اللاوعي.

ومن بينِ هذه اللحظات، اللحظةُ التي وصف فيها کریستیان بورجيه مقابلتَه في أواخر مارس ۱۹۸۰م للرئيس جیمي كارتر، واجتماعه به في البيت الأبيض. وكان بورجيه محاميًا فرَنسيًّا يرتبط ببعض الروابط مع الإيرانيين، وقد عمل مِن ثَمَّ وسيطًا بين الولايات المتحدة وإيران.

وكان قد جاء إلى واشنطن لأن الشاه المخلوع رحل فجأة إلى مصر، رغم اتخاذ الترتيبات اللازمة مع الحكومة البانامية للقبض عليه، وهكذا عاد الجميعُ إلى نقطة الصفر. يقول بورجيه:

«مرَّت لحظةٌ تحدَّث فيها [كارتر] عن الرهائن قائلًا: هؤلاء أمريكيُّون كما تعرف. وهم أبرياء. وقلتُ له: سيدي الرئيس، أفهم ما تقوله عن براءتهم، لكني أرى أنَّ عليك أن تفهم أنهم ليسوا أبرياء في نظر الإيرانيين. وحتى لو لم يكن أحدٌ منهم قد ارتكب بنفسه فعلًا ما، فليسوا أبرياءَ لأنهم دبلوماسيون، يُمثلون بلدًا فعل أشياءَ كثيرة في إيران.

يجب أن تفهم أن الاحتجاز ليس مُوجَّهًا إليهم بصفتهم الشخصية. تستطيع أن تُدرك ذلك بطبيعة الحال. ولم يمسَسْهم أحدٌ بأي أذًى، ولم يعتَدْ عليهم أحد. ولم يحاول أحدٌ قتلهم. يجب أن تفهم أن الاحتجاز رمز، يجب أن نضع هذا الأمر على مستوى الرموز في تفكيرنا.»

[نص الحديث المُذاع قدَّمَته مع الشكر فيرونيكا بولارد من شبكة إيه. بي. سي نيويورك]

والواقع، فيما يبدو، أن كارتر كان ينظر إلى الاستيلاء على السفارة نظرتَه إلى العمل الرمزي، ولكنه كان يختلف عن المحامي الفرنسيِّ في الإطار الفكري الذي يضعُه فيه. إذ كان يرى أن جميع الأمريكيِّين — تعريفًا — أبرياءُ وأنهم يعيشون، من زاويةٍ ما، خارج التاريخ. وقد قال في مناسبةٍ أخرى إن شكاوى إيران من الولايات المتحدة تعتبر تاريخًا عَفا عليه الزمن، ولا يهم الآن سوى أن الإيرانيِّين إرهابيُّون، وربما كانوا على مرِّ الدهر أمةً إرهابية بالنِّيَّة والمقصد إن لم يكن بالفعل، وأضاف قائلًا إن كل مَن يكره أمريكا ويحتجزُ رعاياها رجلٌ خطر مربض، تجاوزَ العقلانية، وتجاوز الإنسانية، وتجاوز دَماثة الخُلق البسيطة.

لم يكن كارتر يستطيع أن يربط بين ما يقوله بعضُ الأجانب عن مساندة الولايات المتحدة التي طال أمَدُها للحكَّام المستبدِّين في بعض البلدان، وبين ما يحدث للأمريكيِّين المحتجزين دون وجهِ حق في طهران، وعجزُه عن هذا الربط من الأعراض البارزة لما نتحدَّث عنه. فمهما يبلغ من معارضتنا الشاملة لاحتجاز الرهائن، وفرحتِنا بإطلاق سراحهم وعودتهم، فلا نستطيع تجاهُلَ الدروس المفزِعة المستفادة مما يبدو أنه اتجاه رسميٌّ وقومي لتناسي بعض حقائق الواقع، فنحن نعلم أن جميع العلاقات فيما بين الناس والأمم تضمُّ طرفين، وأنه لا يوجد على الإطلاق ما يوجب «علينا» أن نحبَّ أو أن نوافق «عليهم»، ولكن يجب علينا على الأقلِّ أن نتبيَّن (أ) «أنهم» موجودون، و(ب) أن رؤيتهم لنا تجمعُ بين ما «نحن» عليه (من وجهة نظرهم) وبين سائرِ ما أضافته إلى صورتنا خِبرتُهم في التعامل معنا، وما عرَفوه عنا. وليست القضيةُ إذن قضيةَ براءةٍ أو ذنب، ولا هي مسألة وطنية وخيانة، فلا يسيطر أحدُ الطرَفَين على الواقع سيطرةً كاملة تسمح له بتجاهل الطرَف الآخر. هذا إلا إذا اعتقدنا، بطبيعة الحال، وباعتبارنا أمريكيِّين، أنه إذا كان الطرَفُ الآخر مذنبًا بجوهرِ وجوده، فلا بد أن نكون أبرياء.

ولننظر الآن في هذه الوثيقة المفيدة التي قدَّمَتها أجهزة الإعلام، وهي البرقية السرِّية التي أرسلها بروس لينجن من طهران إلى سيروس فانس وزير الخارجية يوم ١٣ أغسطس ۱۹۷۹م، فهي وثيقةٌ تتماشى تمامًا مع الموقف الذي اتخذَه كارتر في أحاديثه مع بورجيه، ونشرتها صحيفة نيويورك تايمز في صفحتين متقابلتين يوم ۲۷ يناير ۱۹۸۱م؛ ربَّما للمساعدة في تركيز انتباهِ الأمة على طبيعة الإيرانيِّين الحقة، وربما باعتبارها هامشًا أو حاشيةً ساخرة على الأزمة التي انفرَجَت قبل قليل. ولكن رسالة لينجن ليست وصفًا عِلميًّا «للنفسية الفارسية» التي يُناقشها، رغم تظاهر المؤلف بالموضوعية الهادئة ومعرفته الفيَّاضة بالثقافة «الفارسية»، بل يُعتبر نصُّ البرقية بيانًا أيديولوجيًّا يهدف، في رأيي، إلى تحويل بلاد «فارس» إلى جوهرٍ لا زمني مثير للقلق الحاد، ويُعلي من ثَمَّ من الشرعة الأخلاقية الفائقة والصحة النفسية القومية للطرَف الأمريكي في المفاوضات. وهكذا فكلُّ مقولة عن بلاد «فارس» تضيف أدلةَ إدانة إلى الصورة وتُقدم الدرع اللازم لحماية أمريكا من أي فحص أو تحليلٍ لموقفها.

ويتحقق هذا التعامي لُغويًّا بأسلوبَين جديرين بأن نُنعِم النظر في كلٍّ منهما. الأول هو حذف التاريخ أو استبعادُه من جانبٍ واحد [أي من جانب أمريكا]، فإذا بالكاتب وقد أقلع عن الحديث عن «الآثار الناجمة عن الثورة الإيرانية» وأخذ يتحدث بدلًا من ذلك عن «الخصائص النفسية والثقافية .. الثابتة نسبيًّا» والتي تتَّسم بها «النفسية الفارسية». وهكذا تحوَّلت إيران الحديثة إلى بلاد فارس غير المحدَّدة بزمن. فإذا اتَّبَعنا هذا المنهجَ غير العلمي أصبح الإيطاليُّ يشار إليه بتعبير «داجو» (أي أسمر اللون) واليهودي بتعبير «یدیش» (أي يهودي ألماني) والأسود بتعبير «زنجي» وهكذا. (وهي ألفاظُ التحقير التي يستخدمها صِبيان الشوارع في مشاجَراتهم، فهل تراهم أشدَّ صراحةً من الدبلوماسي؟) والأسلوب الثاني هو أن لينجن لا يُصور الشخصية القومية «الفارسية» إلا في حدودِ ما يزعجه من توهُّم الإيرانيين للواقع (أي نتيجةً للخُيَلاء المرَضي [وهو جنون العظَمة أو الاضطهاد])؛ فهو لا يسلِّم بأن الإيرانيين قد شعروا في الواقع بالخيانة والمعاناة، بل يُنكر عليهم ذلك، كما ينكر عليهم الحقَّ في تكوين رأي خاص عن الولايات المتحدة؛ استنادًا إلى ما يرون أن الولايات المتحدة قد قامت به فعلًا في إيران، وليس معنى هذا في رأيه أن الولايات المتحدة لم تفعل شيئًا على الإطلاق في إيران، لكنه يعني فحسبُ أن مِن حقِّها أن تفعل ما تشاء، دون شكاوى أو ردود أفعالٍ لا صلة لها بالقضية من جانب الإيرانيين، فإن لينجن لا يرى ما يُعتدُّ به في إيران إلا «النفسية الفارسية» التي تُلغي جميع الحقائق الأخرى.

ويتفق معظمُ قراء رسالة لينجن، وهو نفسُه بالتأكيد لا يُنكر أننا يجب ألَّا نختزلَ غيرنا من الناس أو من المجتمعات ونحصرهم في مِثل ذلك الجوهر البسيط النمطي الذي أتى به، ونحن لا نسمح اليوم للناس في الحياة العامة بمعاملة السُّود أو اليهود بهذا الأسلوب مثلما قد نسخر بل ونضحك حقًّا من التصوير الإيراني لأمريكا في صورة الشيطان الأكبر، فهذا كُله أشدُّ إغراقًا مما ينبغي في التبسيط والأيديولوجية والعنصرية، ولكن الاختزال يُحقق الغاية المنشودة فيما يتعلق بهذا العدوِّ تحديدًا، أي إيران التي يشير إليها باسم بلاد الفُرْس، تمامًا مثلما فعل الكاتب مارتن بيريتز في صحيفة نيو ريببلك إذ نشر صفحةً كاملة من النثر الذي ينضَح بالعنصرية الصريحة (٧ فبراير ۱۹۸۱م) كتبها كاتبٌ إنجليزي في القرن السابع عشر عن «الأتراك» وقال مارتن بيريتز إنها قطعةٌ «كلاسيكية» تفيد دارسي ثقافة الشرق الأوسط، ثم أردف قائلًا إنها تدلُّنا على طرائق سلوك المسلمين. ونحن نتساءل ماذا يكون ردُّ فعل بيريتز لو نشر أحدهم صفحةً من نثر القرن السابع عشر عن «اليهود» وقال إنها مرشدٌ يدلنا على طرائق السلوك «اليهودي». والسؤال هو ما الهدف من نشر أمثالِ هذه الوثائق (رسالة لينجن أو «صفحة» بيريتز) ما دامت لا تُعيننا، كما سوف أشرح، على أن نحيط بأي شيءٍ عن الإسلام أو إيران، ولا تساعدنا — في سياق التوتر الناشئ بين الولايات المتحدة وإيران بعد الثورة — في تحديدِ ما يمكن للغرب أن يفعله هناك.

أما حُجة لينجن فتقول إنه مهما يحدث «فالفُرْس ميَّالون» إلى مقاومة «المفهوم العقلاني نفسِه [من وجهة النظر الغربية] لعملية التفاوض»؛ أي إننا نستطيع أن نكون عقلانيين لكن الفُرْس لا يستطيعون، لماذا؟ لأنهم في رأيه يُغلِّبون أنانيتَهم على كل شيء، والواقع في نظرهم شر، وعقلية «السوق الشرقية» (البازار) تُفضل تحقيق المزية الحاضرة على الكَسْب في الأجَل الطويل، والله القدير (سبحانه) عند المسلمين يجعل من المحال عليهم أن يفهموا قانونَ العلة والمعلول، واللغة لديهم غيرُ مرتبطة بالواقع. وباختصار — وبِناءً على هذه الدروس الخمسة التي يستخلصها من تحليله — ينتهي لينجن إلى القول بأن «الفارسيَّ» مفاوض لا يعتمد عليه؛ لأنه لا يشعر بوجود «الطرَف الآخر»، ولا يتمتَّع بالقدرة على الوثوق به أو حُسن الظن به، لا بل ولا بقوة الشخصية اللازمة للوفاء بما وعَد به بلسانه.

وترجع رشاقةُ هذه الفكرة المتواضعة وجاذبيتُها إلى أن كل ما جاء بها منسوبًا إلى «الفارسي» أو المسلم، دون أية أدلةٍ على الإطلاق، يمكن تطبيقه بحذافيره على «الأمريكي»، ذلك المؤلف شبه الخيالي وغير المسمَّى والمستتر خلف الرسالة. ومَن غيرُ الأمريكي يُنكِر التاريخ والواقع عندما يزعم، من طرفٍ واحد، أن هذين لا يَعنيان أي شيء «للفارسي»؟ ولتلعب الآن إذا أردتَ هذه اللعبة المنزلية: اذكر خصيصةً رئيسية ثقافية واجتماعية في «اليهودية – المسيحية» مرادفةً لإحدى الخصائص التي ينسبها لينجن إلى «الفارسي». الأنانية الغلَّابة؟ جان جاك روسو. تصوير الواقع في صورة الشرير؟ كافكا. الله القادر على كل شيء؟ العهد القديم والعهد الجديد. عدم سرَيان منطق العلة والمعلول؟ بيكيت. عقلية البازار؟ بورصة نيويورك. الخلط بين الألفاظ والواقع؟ الفيلسوفان أوستن وسیرل. ولكن يندر أن يقوم أحدٌ بتكوين الصورة التي تُمثل جوهر الغرب اقتصارًا على اقتباسِ ما قاله کریستوفر لاش عن النرجسية، أو كلمات واعظ مستمسك بحَرفية العقيدة، أو محاورة کراتیلوس لأفلاطون، أو إعلان مسجوع منغَّم أو إعلانين، أو (إذا أراد تبيان عجز الغرب عن الإيمان بوجود واقع ثابتٍ خيِّر) كتاب مسخ الكائنات للشاعر أوفيد مع زركَشتِه بآيات مختارة من سِفْر اللاويِّين في الكتاب المقدس.
إن رسالة لينجن تقوم بوظيفةٍ معادلة لمِثل هذه الصورة التي رسمناها، وكان من المحتمل ألا تَزيد الرسالةُ لو وردَت في سياقٍ آخر عن صورةٍ كاريكاتورية في أفضل الحالات، وأما في أسوئها فكان يمكن اعتبارُها هجومًا فظًّا محدودَ الضرر، بل وليست ذاتَ تأثير يُذكر باعتبارها جزءًا من الحرب النفسية؛ لأنها تكشف من نقاطِ ضعف الكاتب أكثرَ مما تكشف عنه من نقاط ضعف خَصمه، إذ تُبيِّن، على سبيل المثال، أن المؤلف يُساوره قلقٌ شديد إزاء نُظرائه، وأنه لا يستطيع أن يرى الآخَرين إلا مرايا تعكس له صورةَ ذاته. تُرى أين ذهبَت قدرته على تفهُّم وجهة النظر الإيرانية، أو حتى الثورة الإسلامية نفسها وهي التي نفترض أنها ما اندلعَت إلا نتيجةً مباشرة للاستبداد الفارسي الذي لا يُطاق ولضرورة الإطاحة به؟
وأما عن حُسن الظن والثقة في عقلانيَّة عملية التفاوض، فحتى لو تناسَينا أو أغفلنا ذِكر أحداث عام ١٩٥٣م، فلنا أن نقول الكثيرَ عن محاولة الانقلاب التي قام بها الجيشُ لإجهاض الثورة، والتي لقِيَت التشجيعَ المباشر من الجنرال الأمريكي هايزر في أواخر يناير ۱۹۷۹م، وكذلك عما فعلتْه مصارفُ أمريكية كثيرة (وهي التي عادةً ما كانت تطيع الحكومة فتتحايل على القواعد لإرضاء الشاه) فإذا بها تُبدي استعدادها في عام ۱۹۷۹م لإلغاء عقود القروض الإيرانية المبرَمة عام ۱۹۷۷م محتجةً بأن إيران لم تدفع الفوائدَ في مواعيدها، وإن كان محرر صحيفة لوموند الفرنسية إريك رولو قد ذكر في ۲٥–۲٦ نوفمبر ۱۹۷۹م أنه شاهد بعينه الدليلَ على أن إيران قد دفعَت الفوائد قبل حلول مواعيدها. ولا غرو إذن أن ينظر «الفارسي» إلى نظيره باعتباره غريمًا، فهو ولا شكَّ غريم، وغريم غير مطمئن لذاته، فذلك ما يقوله لينجن صراحة.

ولكن فلنقُل إن القضية ليست قضيةَ إنصاف بل قضية دقة؛ إن ممثل الولايات المتحدة في المنطقة يُسْدي المشورةَ إلى واشنطن، فما الذي تُراه يستندُ إليه؟ حَفْنة من القوالب اللفظية المأثورة عن المستشرقين والتي كان يمكن أن تكون تَكرارًا حرفيًّا لما قاله السير ألفريد ليال في وصف العقل الشرقي، أو من حديث اللورد کرومر عن تعامله مع أبناء البلد في مصر. وإذا كان إبراهيم يازدي وزيرُ خارجية إيران آنذاك، يرفض في رأي لينجن، الإقرارَ بأن «تكون للسلوك الإيراني عواقبُه على صورة إيران في الولايات المتحدة»؛ فمن ذا الذي تراه على استعداد، من بينِ صانعي القرار الأمريكيين، للإقرار مُقدمًا بأن للسلوك الأمريكي عواقبَه على صورة الولايات المتحدة في إيران؟ ولماذا إذن سمَحْنا للشاه بدخول أمريكا؟ أم تُرانا نشارك أبناء «بلاد فارس» «ذلك النفور من تحمُّل الإنسان مسئوليته عما يفعل»؟

إن رسالة لينجن ثمرةٌ من ثمار القوة الجاهلة الغبية، وهي بالتأكيد لا تكاد تُساهم بشيء يُذكر في تفهُّمنا للمجتمعات الأخرى. فإذا كانت الرسالة نموذجًا لأسلوب مواجهتنا للعالم، فإنها لا توحي بأية ثقة، وأما إذا كانت صورةً يرسمها الأمريكي لأمريكا فهي تُسيء إلينا إساءةً صريحة. ما فائدتها إذن؟ إنها تُبيِّن لنا كيف يقوم ممثلو الولايات المتحدة، ومعهم جانبٌ كبير من المؤسسة الاستشراقية، بخلقِ واقع وهميٍّ لا يتفق مع عالمنا، ولا مع عالم إيران. أما إذا عجزَت الرسالة عن إيضاح حِكمة التخلص إلى الأبد من هذه الصور الشائهة للغير، فلسوف يُواجه الأمريكيون المزيدَ من المتاعب الدولية، ويُعرضون براءتهم، مع الأسف، لتحمُّل إساءةٍ جديدة دون نفع یُرجی.

ولنُسلِّم إذن بأن إيران والولايات المتحدة قد تعرَّضتا لمعاناةٍ مريرة، ولنُسلِّم أيضًا بأن الاستيلاء على السفارة حادثٌ يدل على وقوع الإيرانيين برُمَّتهم في هُوَّة الفوضى العقيم والرجعية. ولكننا مع ذلك لا نحتاج إلى استخلاص حكمةٍ ناقصة من استقراء التاريخ القريب، فالواقع يقول: إن التغيير يجري على قدمٍ وساق في عالم «الإسلام» مثلما يجري في الغرب، فإذا اختلفَت الأساليب وسرعةُ التغيير، فإن التشابه قائمٌ بين بعض الأخطار وبعض مصادر القلق هنا وهناك. وصيحات النداء التي تلتفُّ حولها الجماهيرُ المؤمنة بها، مثل «الإسلام» هناك و«الغرب» هنا (أو «أمريكا») مصدرُ حفزٍ للهمم أكثر مما تُعتبر دعوةً للتبصُّر والتعمُّق، وقد ينشأ عن تشويهِ صورة الحقائق الواقعة ردُّ فعل مُساوٍ له في المقدار ومضادٌّ له في الاتجاه، فإذا بمصطلحَي «الإسلام» و«الغرب» وقد أحالا التحليلَ إلى مسألة خِلافية، وأحالا الخبرةَ العملية إلى شطحاتِ خيال. مطلبي هو الاحترام الواجب للتفاصيل الملموسة للخبرة البشرية، والتفهم النابع من النظر إلى «الآخر» نظرة ودٍّ وتراحم؛ والمعرفة التي تُكتسب وتُنشر بأمانة أخلاقية وفكرية؛ فهذه بالتأكيد أهدافٌ أفضلُ وإن لم تكن أيسرَ تحقيقًا في الوقت الحاضر من المواجهة والعداء الذي يختزل الخصومَ ويُحقِّرهم. وحبَّذا لو استطعنا في سبيل ذلك أن تتخلصَ نهائيًّا من رواسب الكراهية القديمة والعناوين العامة التي تؤذي بعموميتها الإحساسَ مثل «المسلم» أو «الفارسي» أو «التركي» أو «العربي» أو «الغربي».

إ. و. س.
٩ فبراير، ١٩٨١م
نيويورك

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤