الفصل الثالث

المعرفة والسلطة

أولًا: المبادئ السياسية لتفسير الإسلام

المعرفة الصحيحة والمعرفة المضادة
في ظلِّ الظروف الراهنة، حيث لا يعيش «الإسلام» في سلام مع «الغرب» ولا يعيش «الغرب» في سلام معه، بل ولا يعيش كلٌّ منهما في سلام مع ذاته؛ قد يبدو من العبَث المبالَغ فيه أن نتساءل عمَّا إذا كان أبناء ثقافةٍ معينة يستطيعون أن يُحيطوا حقًّا بمعرفة الثقافات الأخرى. إن علينا أن نطلب العلم ولو في الصين، كما يقضي بذلك أحدُ الأقوال المأثورة الذائعة في الإسلام، كما اعتاد الناسُ في الغرب، على الأقل منذ العهود اليونانية القديمة، أن يقولوا بوجوب طلب المعرفة، ما دامت تلك المعرفة تتعلق بما هو إنسانيٌّ وطبيعي. ولكنه كان من المعتقَد في العادة، في حدودِ ما انتهى إليه المفكرون الغربيون، أن نتيجةَ هذا الطلب أو البحث كانت في الواقع ناقصةً مَعيبة. بل إن فرانسيس بيكون نفسه، مؤلف كتاب تقدم المعرفة الذي يُعدُّ البادرةَ التي انطلق منها الفكرُ الغربي الحديث بأكثر طرائقه حماسًا وحفزًا ذاتيًّا، يُعبر في الواقع عن شتى الشكوك في إمكان إزالة العوائق المختلفة (تحطيم الأصنام) التي تَحُول دون المعرفة. وأما فيكو، تلميذ بيكون الذي كان يُبجِّل أستاذه، فيقول صراحةً إن المعرفة البشرية لا تَزيد عما أتى به البشر، ومن ثَم فالواقع الخارجي لا يَزيد عن كونه «صورًا معدَّلة للعقل البشري»1 ويزداد تضاؤلُ احتمالات المعرفة الموضوعية بما هو بعيدٌ وأجنبيٌّ تضاؤلًا أشدَّ بعد نيتشه.
وفي مقابل تيار الشكِّ والتشاؤم المذكور، نجد أن دارسي الإسلام في الغرب (ودارسي الغرب داخل العالم الإسلامي، ولو أنني لن أعرضَ في مناقشتي لهم)؛ يميلون إلى التفاؤل وإبداء الثقة التي تُثير القلق. كان أوائل المستشرقين المحْدَثين في أوروبا لا يُخامرهم فيما يبدو شكٌّ يُذكَر في أن دراسة الشرق، والعالمُ الإسلامي جزءٌ منه، هي السبيلُ الأعظم للمعرفة العالمية. وقد كتَب أحدهم، وهو البارون دکشتاین، في العشرينيَّات من القرن التاسع عشر يقول إنه:
مثلما اكتشف كوفيه وهومبولت أسرارَ تنظيم [الطبيعة] في أحشاء الأرض، سوف يقوم إيبل رموسات، وسانت مارتن، وسلفستر دي ساسي، وجريم، وبوب، وأ. ف. شليجل بمتابعةِ واكتشاف التنظيم الداخلي للفكر البشري وأسُسِه البدائية في إحدى اللغات.2
وبعد سنوات معدودة كتب إرنست رينان تصديرًا لمناقشته لموضوع «محمد وأصول الإسلام الأولى» بملاحظات عن الآفاق التي تتفتَّحُ أمام ما أسماه «علم النقد» وقال رينان إن علماء الجيولوجيا والتاريخ واللغة يستطيعون التوصلَ إلى معرفة الأشياء الطبيعية «البدائية» — ويَعني بها الأساسيةَ والأصلية — عن طريق فحص آثارها بدقةٍ وصبر، وإن الإسلام ظاهرةٌ ذات قيمة كبيرة لأن مولده كان قريبَ العهد نسبيًّا ولا أصالة له. وانتهى رينان من ذلك إلى القول بأن دراسة الإسلام دراسةٌ لموضوعٍ يستطيع المرءُ أن يصل المرء فيه إلى معرفةٍ يقينيَّة وعلمية.3

وربما يكون هذا الموقف «المناسب» هو ما جعل تاريخَ الاستشراق الإسلامي يخلو نسبيًّا من تياراتِ الشك، ويكاد يخلو تمامًا من مُساءلة الباحثِ لنفسه عن منهجه. ولم يُخامر معظمَ دارسي الإسلام في الغرب أيُّ شكٍّ في إمكان الإحاطة بالمعرفة الموضوعية الحقة عن الإسلام، أو عن جانبٍ من جوانب الحياة الإسلامية، على الرغم من القيود التي تفرضها حدودُ الزمان والمكان. ولكننا لن نجدَ عددًا كبيرًا من الباحثين المحدَثين الذين يُشاركون رینان غطرسَتَه الصريحة في آرائهم عن ماهيَّة الإسلام، فلن نجدَ باحثًا محترفًا مثلًا يقول مثلَ رينان إننا نستطيع أن نعرف الإسلام لأنه يُمثل نموذجًا أساسيًّا من نماذج توقفِ النمو والتطور الإنساني، لكنني لم أستطع العثورَ على أي مثالٍ مُعاصر للباحث الإسلامي الذي يرى في البحث نفسه مصدرًا للشك. وأظن أن السبب يرجع أيضًا، إلى حدٍّ ما، إلى تقاليد العاملين بالدراسات الإسلامية، وهي التي يتَوارثونها جيلًا بعد جيل منذ قرنَين تقريبًا، فهي تحمي الباحثين الأفرادَ وتؤكد لهم صحةَ ما ينتهون إليه، بغضِّ النظر عن الأخطار المنهجية والتجديدات المنهجية التي تتحدَّى الباحثين في معظم مجالات العلوم الإنسانية الأخرى.

ومن النماذج التي تُمثل ما أعنيه مقالٌ نُشر منذ عهدٍ قريب بعُنوان «الوضع الحالي لدراسات الشرق الأوسط» في عدد صيف ۱۹۷۹م من مجلة الباحث الأمريكي، وكاتبه باحثٌ بريطاني شهير في الدراسات الإسلامية، وهو يُقيم حاليًّا ويعمل في الولايات المتحدة. والمقالُ بصفة عامة ينمُّ عن الكسل الذهني إذ لا يتعرض إلا لما اعتَدْناه وبأسلوبٍ لا طرافة فيه، ولكن به ما يستوقف غير المتخصِّص، إلى جانب لامبالاةِ الكاتب بصورةٍ تدعو للدهشة بالقضايا الفكرية، ألا وهو ما يَرويه عما يفترض أنه جذور شجرة النسَب الثقافي للاستشراق، وهو جديرٌ بأن نستشهد بجانبٍ مطوَّل منه:
أتى عصرُ النهضة الأوروبية بمرحلةٍ جديدة كلِّ الجِدَّة في تطور الدراسات الإسلامية ودراسات الشرق الأوسط في العالم الغربي. وربما كان أهمُّ عامل هو حبَّ الاستطلاع الفكري الذي لا يزال فريدًا في تاريخ البشرية. فحتى ذلك العصر لم يُخامر أحدًا إحساسٌ مماثلٌ، ولم يبذل أحدٌ جهدًا مماثلًا لدراسةِ وتفهم الحضارات الأجنبية بل تلك التي هي أقلُّ عَداءً لنا. فلقد حاولَت مجتمعاتٌ كثيرة دراسةَ أسلافِها؛ أي من تُحسُّ بأنها تَدين لهم بدَينٍ ما، أو من ترى أنها مستقاةٌ منهم. كما أن المجتمعات الخاضعة لسيطرةِ ثقافةٍ أجنبية أقوى من ثقافتها قد اضطُرَّت، سواءٌ كان ذلك قسرًا أو طَواعيةً، إلى دراسةِ لغةِ مَن يسيطرون عليها ومحاولةِ فهمهم. أي إن المجتمعات، باختصار، قد درَسَت ساداتها، بكِلا المعنيَين لهذه الكلمة … ولكن نوع الجهد الذي بذلته أوروبا، (وبنات أوروبا فيما وراء البحار في وقتٍ لاحق) لدراسة الثقافات النائية والأجنبية، ابتداءً من عصر النهضة الأوروبية؛ يُمثل شيئًا جديدًا ومختلفًا كلَّ الاختلاف. ومما له دلالته أن شعوب الشرق الأوسط لا تُبدي اليوم اهتمامًا يُذكَر ببعضها البعض، بل هي أقلُّ اهتمامًا بالثقافات غير الإسلامية في آسيا وأفريقيا. وأما المحاولات الجادة لدراسة لغات وحضارات الهند والصين في الشرق الأوسط فتقتصر على جامعاتِ تركيا وإسرائيل — وهما البلدان الوحيدان في المنطقة اللذان اختارا عن عمدٍ أسلوبَ الحياة الغربية.
ولا تزال الحضاراتُ غير الأوروبية تُواجه أكبرَ صعوبةٍ في تفهُّم حبِّ الاستطلاع الفكري من هذا النوع. وعندما بدأ أوائلُ علماء الآثار المصرية الأوروبيون حفريَّاتِهم في الشرق الأوسط، وجد الكثيرُ من أبناء البلد أنه من المحال عليهم تصديقُ استعداد الأجانب لبذلِ مثل هذا القدر الكبير من الجهد والوقت والمال والتعرُّض لمِثل هذه الأخطار والمشاقِّ الكثيرة في التنقيب، والكشف عمَّا خَلَّفه أسلافهم القدماء المنسيُّون، وفكِّ رموز آثارهم. ومن ثم سعَوا إلى تفسيراتٍ أخرى أقربَ إلى العقل، فكان القرويُّون البسطاء يرَون أن علماء الآثار يبحثون عن الكنوز الدفينة، وأما المتعلمون من سكان المدن فقالوا إنهم إما جواسيسُ أو عملاء يخدمون حكوماتهم بسبلٍ أخرى. ولم يكن نجاحُ بعض علماء الآثار فعليًّا في إسداء مثلِ هذه الخدمات إلى حكوماتهم يعني أن مثل هذا التفسير لعِلمهم أقلُّ خطأً، بل هو يكشف عن عجزٍ مُحزن عن تفهُّمِ عملٍ أضاف فصولًا جديدة إلى تاريخ البشرية وأبعادًا جديدةً إلى وعي أمم الشرق الأوسط بذواتها. وصعوبةُ الإدراك المذكورة لا تزال قائمةً حتى اليوم، بل إنها قد أصابت بعضَ الأكاديميين الذين يُصرُّون على أن المستشرقين إما باحثون عن الكنوز أو عملاءُ للإمبريالية.
وكان إرضاءُ حبِّ الاستطلاع الفكري الجديد الذي أشرنا إليه قد استفاد كثيرًا من الرحلات الاستكشافية التي قام بها الأوروبيُّون إلى الأراضي الجديدة الغريبة فيما وراء المحيط. إذ إن هذه قد ساعدَت على تحطيم بعض القوالب الفكرية وكانت بمثابة حافزٍ وفرصة لإجراء المزيد من الدراسة.4
إن هذه الكتابة تتوسَّل بما لا يكاد يتجاوز بعضَ المزاعم التي لا تدعمها الأدلة، والتي تتناقض تناقضًا مباشرًا مع كلِّ ما كُتب حتى الآن، سواءٌ كان ذلك ما كتبه عددٌ كبير من المستشرقين أنفسهم أو مؤرِّخو أوروبا من عصر النهضة إلى الوقت الحاضر، أو دارسو تاريخ التفسير من القدِّيس أوغسطينوس حتى الآن. وحتى لو نَحَّينا جانبًا ما يقوله عن حبِّ الاستطلاع الفكري الذي يصفه بأنه «جديد ومختلف كلَّ الاختلاف» ومن ثَم «نفترض» أنه حبُّ استطلاع فكري خالص — وهو ما لم يُسعد الحظُّ أيَّ إنسان آخر حاولَ قراءة نصٍّ وتفسيرَه؛ بامتلاكه — فلسوف نجدُ في كلامه الكثيرَ مما لا يُقبَل إلا بافتراضِ حُسنِ النية. فإن قراءة ما كتبه بعضُ مؤرِّخي الثقافة والاستعمار، مثل دونالد لاك أو ج. ﻫ. باري تجعلنا ننتهي إلى أن الاهتمام الأوروبيَّ بالثقافات الأجنبية كان يستند إلى التلاقي الفعلي مع تلك الثقافات، وعادةً ما كان ذلك نتيجةً للتجارة، أو للغزو أو للمصادفة.5 «فالاهتمام» ينبع من الحاجة، والحاجة تستندُ إلى عواملَ تستثيرها دوافعُ عمليةٌ تعمل وتعيش مع بعضها البعض — مثل الخوف، والشهية، وحب الاستطلاع، وما إلى ذلك بسبيل — وهي التي دائمًا ما كانت تُمارس تأثيرها حيثما وأينما يعيش البشر.
وإلى جانب هذا، كيف يتأتَّى للإنسان تفسيرُ ثقافة أخرى إلا إذا نشأتْ وتوافرت الظروفُ التي تُتيح إمكانَ هذا التفسير أصلًا؟ أما فيما يتعلق بالاهتمام الأوروبيِّ بالثقافات الأجنبية، فلقد كانت هذه الظروفُ دائمًا تِجاريةً أو استعمارية أو ناجمةً عن التوسع الحربي، والغزو، وبناء الإمبراطوريات. وحتى حين قام الباحثون المستشرقون في الجامعات الألمانية، في القرن التاسع عشر، بدراسة اللغة السنسكريتية، وتقنين الحديث النبوي، أو إيضاح نظام الخلافة الإسلامية، فإنهم كانوا يعتمدون على الجامعات نفسِها؛ أي على المكتبات وغيرهم من الباحثين والفوائد الاجتماعية التي أتاحت لهم احترافَ هذا العمل، أكثرَ من اعتمادهم على الوهم المسمَّى حبَّ الاستطلاع الخالص. وأما القول بأن الدافع على بناء وامتلاك إمبراطوريات أوروبية هائلة، واكتساب المعارف المرتبطة بها، كان بصفةٍ أساسيَّة إشباع حبِّ الاستطلاع الفكري؛ فلا يمكن أن يَصدُر إلا عن شخصيةٍ من الشخصيات الروائية الخيالية، مثل الدكتور بانجلوس في رواية کانديد للكاتب الفرنسي فولتير، أو مثل أعضاء «أكاديمية المفكرين» في مدينة لاجادو الخيالية في رواية رحلات جاليفر التي أبدعها جوناثان سويفت. ولا غرو إذن إذا كان أبناءُ البلاد غير الأوروبية «الجهَّال» قد نظروا بمثلِ هذه الرِّيبة إلى «حب الاستطلاع الفكري» لدى الباحثين؛ إذ متى أقام باحثٌ غربي في بلدٍ غير غربي إلا بفضلِ السيطرة الغربية على ذلك البلد، مهما تكن رمزيةً وغير مباشرة؟6 ومن الأدلة على ما يتَّسم به هذا المستشرقُ من جهلٍ غريب وغرورٍ أنه، فيما يبدو، لا يدري شيئًا عن المناظرة المحتدِمة حاليًّا في مجال علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) حول التواطؤ بين الإمبريالية وعلم وصف الشعوب (الأثنوغرافيا)، بل إن لیفي شتراوس نفسه، ذلك الرائد الفكري المرموق، قد أعرَب عن مخاوفه من أن تكون الإمبريالية من الجوانب الأساسية للعمل الميداني في علم الأجناس البشرية (الإثنولوجيا) وإن لم يعرب عن أسفه لذلك.
فإذا استبعدنا دون ترددٍ ما قاله الكاتب عن حبِّ الاستطلاع الخالص، فلا بد أن ننتهيَ أيضًا في اعتقادي إلى أن الحُجة التي يَسُوقها برُمَّتها، بشأن دراسات الشرق الأوسط، ليست في الواقع إلا دفاعًا عن قدرتها التي يَعيبها شيءٌ في جوهرها — تاريخيًّا وثقافيًّا — على أن تصدق فيما تقوله لنا بشأن المجتمعات النائية الأجنبية. وهو يُفصِّل القولَ فيما بعد، وفي المقالة نفسِها، عن هذه المسألة حين يُشير إلى الأخطار الكامنة في «إضفاء الطابع السياسي» على هذا المجال، وهو ما يزعم أنه لم يستطع تجنُّبَه إلا عددٌ محدود من الباحثين والأقسام العلمية. ويبدو لي أن السياسة هنا مرتبطةٌ بالتحيز والتعصب الضيق، كأنما كان الباحث الحقيقيَّ فوق المشاجرات حول التوافِه، لا تَشغلُه إلا الأفكار، والقيم الخالدة والمبادئ العُليا؛ ومما له دلالته أنه لا يأتينا بشواهدَ على ذلك. والطريف في هذه المقالة كلِّها هو أنها، مع ذلك، لا تدعو إلى العلم والإجراءات العِلمية إلا بالاسم فقط، وأما حين يعرض الكاتب لحقيقة دراسات الشرق الأوسط غير السياسية أو ما ينبغي أن تكون عليه، فهو لا يقول شيئًا. أو بعبارةٍ أخرى، يقول إن ما يُعتدُّ به حقًّا هو ما يتَّخذه الباحثون من مواقف، أو ما يتصنَّعونه منها، وما يقولونه من ألفاظٍ رنَّانة، أو باختصار ما لديهم من أيديولوجيات. أما المضمون فالكاتب لا يُصرح به، بل إننا نكتشف ما هو أسوأ، ألَا وهو أنه يحاول عامدًا إخفاءَ الروابط القائمة بين البحث العلمي وبين ما يُمكننا أن نُسمِّيَه الإقبالَ على الدنيا والولعَ بها، وذلك حتى يُواصل إيهامنا بما يأتي به البحثُ من حقيقة بريئة من الهوى، ومن التعصب ومن السياسة.
ونحن نكتشف في هذا حقائقَ عن المؤلف أكثر مما نكتشفه عن المجال الذي يُفترض أنه يكتب عنه، وهي مفارقةٌ تتَّسم بها كلُّ المحاولات الأوروبية أو الغربية الحديثة للكتابة عن المجتمعات غيرِ الغربية. ولم يكن جميعُ الباحثين الآخرين واعين بهذه الصعوبة. ففي عام ۱۹۷۳م قامت رابطةُ دراسات الشرق الأوسط، بالتعاون مع مؤسسة فورد، بتكليف فريق من الخبراء بإجراء مسحٍ للمجال كلِّه، بهدف تقييم حالته الراهنة، واحتياجاته وآفاقه ومشكلاته.7 وكانت النتيجة مجلدًا ضخمًا حافلًا زاخرًا، عُنوانه: دراسة الشرق الأوسط: البحث والتخصص في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وكان محرره هو لینارد بایندر، ونُشِر في عام ۱۹۷٦م. ولما كان الكتابُ عملًا جماعيًّا فقد اتسم بالتفاوُت المحتوم في مستواه، ولكن القارئ يستوقفُه ذلك الإيحاء العامُّ في شتى مباحثه بالأزمة والعجَلة، وهو ما لا نجده على الإطلاق في المقالة المنشورة في مجلة الباحث الأمريكي المذكورة. إذ إن هذه المجموعةَ من الباحثين الأمريكيين الذين لا يقلُّون امتيازًا عن نظيرهم البريطاني، ترى أن «دراسات الشرق الأوسط» مجال محاصر يمرُّ بضائقة؛ إذ لا يحظى بالاهتمام الكافي، ولا بما يكفي من المال ولا من الباحثين. (ومن المفارقات أن أحد أعضاء لجنة البحث والتدريب في الرابطة المشار إليها، وهي التي وضعت التصورَ الأول للدراسة، كان قد كتب دراسةً عن مجال دراسات الشرق الأوسط بتكليفٍ من الحكومة الأمريكية، قبل ذلك بسنواتٍ معدودة، ينتقص فيها من الحاجة إلى الدراسات المتخصصة للإسلام أو للعرب، قائلًا إن هذا المجال لا يُمثل إلا أهميةً ثانوية، من الزاويتين الثقافية والسياسية للولايات المتحدة).8 ولننظر إلى المشكلة التي تكمُن خلف جميع المشكلات التي يُشير إليها الباحثون المشارُ إليهم، وهي التي يعالجها المحرر لينارد بايندر بصراحةٍ في مقدمته للكتاب.
وأول جملة في المقدمة المذكورة هي «كان الدافع الأساسي، ولا يزال، وراء تنمية وتطويرِ دراسات مناطق العالم المختلفة في الولايات المتحدة، دافعًا سياسيًّا.»9 وينطلق بايندر بعد ذلك إلى استعراض جميع القضايا التنظيمية والفلسفية التي تواجهُ المتخصِّص الحديثَ في الشرق الأوسط، دون أن يغفل ولو للحظةٍ عن الحقيقة — وهي حقيقةٌ واقعة — التي تقول إن دراسات الشرق الأوسط تعتبر جزءًا من المجتمع الذي تُجْرى فيه، إن صحَّ هذا التعبير. وفي نهاية المسح الذي يُجريه، وبعد أن يقول بصراحةٍ إن جميع المسائل الأساسية المطروحةِ بشأن هذا المجال، حتى أولاها وأبسطها، لا تخلو من أحكام القيمة — مثل التساؤل عمَّا إذا كان علينا أن نبدأ بدراسة الهياكل الاجتماعية أو بدراسة الدين، أو مثل المفاضلة في الأهمية للباحث بين الهياكل السياسية وبين معدلات دخل الفرد — وبعد أن يقول أيضًا إنه، حتى إذا «كانت التوجُّهات المبنيَّة على القيمة في دراسات الشرق الأوسط أدقَّ على الفهم في معظم الأحيان من منظورات المعلومات الحكومية» يقول «إن المشكلة لا يمكن تجنُّبها.»10 ويحاول بایندر في آخر المقدمة تلخيصَ تأثير السياسة في مدى صدقِ ما ينتهي إليه الدارسون الغربيون للثقافات الأجنبية.
إنه لا يتردَّد في التسليم بأن لكل باحثٍ «توجُّهات تحكمها القيمة» وبأنها تؤثر في نتائج بحوثه، ولكنه يستدركُ قائلًا «إن التوجهات المعياريَّة للمباحث العِلمية» تُقلل من آثار الانحراف الذي تأتي به «الأحكام الخاصة» الشخصية. ولا يشرح لنا بایندر أساليبَ أداء «المباحث العلمية»،11 بل ولا يحدد لنا ما تتَّسم به تلك «المباحث» من طاقاتٍ قادرة على تحويلِ الأحكام البشرية إلى تحليلاتٍ رائعة مَهيبة. وكأنما كان يريد معالجةَ هذه المسائل بصورةٍ ما فأضاف عبارةً في آخر حُجتِه تتَّسم بغموضٍ لا ضرورة له، ولا تُمثل أيَّ استمرار لما جاء قبلها، إذ يقول إن المباحث العِلمية «تُقدم لنا أيضًا المناهج اللازمة لاستكشاف القضايا الأخلاقية التي تنشأ في سِياق مجال البحث». أية قضايا أخلاقية؟ أي مناهج؟ أي سياق لأي مجالات؟ لا نجد لديه الشرح. ولكن النتيجة التي يتوصَّل إليها تكتسي مظهرَ الجِدِّية المُحيرة المُربكة، إلى الحدِّ الذي يبثُّ في نفسك الثقةَ في هذه «المباحث العلمية»، وهو ما يدفعك إلى الاطمئنان دون أن يشرحَ لك على الإطلاق ما تدور حوله هذه «المباحث العلمية».

بل إنه حتى حين يعترف كاتبٌ من الكتَّاب بما للضغوط السياسية الفظة من تأثيرٍ في دراسات الشرق الأوسط، فإنه يميل إلى إخفاء هذه الضغوط، فكأنما تبخَّرَت في الهواء، ومن ثم إلى إعادة السُّلطة «المعتمدة» لما يُسمَّى «الخطاب الاستشراقي». ولا بأس من تَكرار ما قلناه من أن السلطة تنبُع من القوة الكامنة في الثقافة الغربية، والتي تسمح لدارسي الشرق أو الإسلام بأن يقولوا أقوالًا عن الإسلام وعن الشرق ظلَّت سنواتٍ عديدةً لا تقبل الطعن فيها تقريبًا. فمَن سوى المستشرقين قد تَحدَّث ولا يزال يتحدَّث باسم الشرق؟ ولم يكن يُخالج المستشرقَ في القرن التاسع عشر، أو باحثَ القرن العشرين، مثل لينار بایندر، أيُّ شكٍّ في قدرة «مجال الدراسة» — ولاحِظ أنه لا يقول الشرق نفسه أو شُعوبه — على تزويد الثقافة الغربية بكل ما تحتاج إلى معرفته عن الشرق، وهكذا، فإن كل مَن يستطيع استعمال لغةِ ذلك المبحث العلمي، ونَشْر مفاهيمه، وإجادة تطبيق أساليبه، وحيازة ما يُؤهِّله له، يستطيع أن يتجاوز التعصُّبَ والظروف الحاضرة لِيُصدر أحكامًا عِلمية. وهذا الإحساس بالاكتفاء الذاتي، والقدرة على التصحيح الذاتي، وطاقة التزكية الذاتية، هو الذي منَح ولا يزال يمنح الاستشراقَ لغته الطنَّانة التي يستعملها دون حرج وباطمئنانٍ بالغ. وبایندر يقول إن المباحث العلمية، لا شعوب الشرق، هي التي تُحدد القضايا المعيارية بصفة عامة؛ إذ إن هذه المباحث، على حدِّ قوله، لا رغبات أهل المنطقة، ولا أخلاقيات الحياة اليومية، هي التي «تقدم لنا المناهجَ اللازمة لاستكشاف تلك القضايا الأخلاقية التي تنشأ في سياق هذا المجال».

وهكذا نرى، من ناحية، أن «المباحث العلمية» تعتبر هنا مؤسسات أكثرَ مما تُعتبر أنشطة، وأنها من ناحية أخرى تحدد تنظيمَ ووضع المعايير لما تدرسه (وهو ما أنشأته هي أيضًا من زاويةٍ معينة) بأيسرَ مما تُحلل ذاتها أو تتأمَّل ما تفعل. والمحصلة التي نخرج بها من هذا، إذا سمحنا لأنفسنا بترَف الإطناب، يمكن أن يقال إنها المعرفة الكاملة بثقافةٍ مختلفة. صحيحٌ أن الغرب له مُنجزات هامة في دراسة الإسلام، فقد تولى تحقيقَ بعض النصوص، وأضفى الدقةَ البالغة على بعض التوصيفات الوضعية للإسلام الكلاسيكي، وأما فيما يتعلق بالأبعاد الإنسانية للإسلام المعاصر، أو بمحنة التعرُّض لجهود التفسير المتباينة، فإن «المباحث العلمية» في مجال دراسات الشرق الأوسط المعاصرة لم تُقدم إيضاحاتٍ كبيرةً لهذه أو تلك ولم تُساعد أيًّا منهما.

لا يمكننا أن نقول إن دراسة الإسلام اليوم «حُرة» أو «بريئة» في أيِّ جانب من جوانبها تقريبًا، أو إن الضغوط المعاصرة المُلحَّة والعاجلة لا تُحدد مسارَها. وما أبعدَ هذا عن الموضوعية غيرِ السياسية التي يصف بها الكثيرون من الباحثين في مجال الاستشراق عمَلَهم، وهو يبتعد البُعدَ نفسه تقريبًا عن الحتمية الآلية التي يحاول بها الماديون السوقيون تفسيرَ جميع الأنشطة الفكرية والثقافية، قائلين إن القُوى الاقتصادية هي التي تُحدد مسارها وتتحكم فيها مسبقًا، وهو يبتعد البعدَ نفسه تقريبًا عن الثقة «المناسبة» للمتخصصين الذين يُولُون إيمانهم الكاملَ للكفاءة الفنية «للمباحث العلمية»، وفي موقع ما بين هذه الأطراف المتباعدة تُحقق «مصالح» المفسِّر ذاتَها، وتنعكس آثارُها على الثقافة كلِّها بصفة عامة.

ولكننا نجد هنا درجةً أقلَّ من التنوع والحرية عمَّا نُحب أن نتصوره. إذ ماذا عساه أن يُضفِيَ الأهميةَ والطرافة على موضوع يمكن اعتبارُه أكاديميًّا أو حتى أثريًّا إن لم يكن السلطة والإرادة؟ ونحن نرى أن المجتمع الغربي يقوم (مثل كل المجتمعات الأخرى ولو بدرجاتٍ مختلفة) بتنظيم هذين العاملين، ويتيح لهما أن يتحقَّقا بصورٍ متفاوتة، وأن يمارسا قدرًا هائلًا من النفوذ الخاصِّ بهما، والذي يتجاوز الضرورات الحاضرة المباشرة الضيقة. ولسوف أضرب مثالًا بسيطًا حتى تتضح المسألةُ بسرعة، وبعدها ننطلق إلى دراسة بعض التفصيلات.

ينظر الجمهور في أمريكا وأوروبا اليوم إلى الإسلام باعتباره «أنباءً» من نوعٍ لا يسرُّ على الإطلاق. ويسوق التناغمُ بين أجهزة الإعلام وبين الحكومة وبين خبراء الجغرافيا السياسية — إلى جانب الأكاديميين من ذَوي الخبرة في الإسلام، رغم كونهم يَشغلون مكانًا على هامش الثقافة بوجهٍ عام — في اعتبار أن الإسلام يُمثل تهديدًا للحضارة الغربية. ولكن هذا لا يعني أننا لن نجدَ في الغرب إلا التصويرَ الذي ينتقص من قدر الإسلام أو يكتسي بطابع العنصرية، فأنا لا أقول بهذا ولا أتفق مع من يقوله، لكنني أقول إن الصور السلبية للإسلام سائدةٌ إلى درجةٍ أكبرَ ممَّا عداها، وإن هذه الصور لا تتفق مع «حقيقة» الإسلام (ما دُمنا سلَّمنا بأن ما يُشار إليه باسم «الإسلام» ليس حقيقةً طبيعية، بل هو بِناء مركَّب أنشأه إلى حدٍّ ما المسلمون والغربُ بالأساليب التي حاولتُ وصفها فيما سبق)، ولكنها تتفق حول ما ترى القطاعاتُ البارزة أنه «الإسلام». وتتمتع هذه القطاعاتُ بالسلطة وبالإرادة اللازمتين لنشر تلك الصورة المُحدَّدة للإسلام، ومن ثَم فإن هذه الصورةَ تزداد انتشارًا وحضورًا بحيث تسود ما عداها. وكما قلت في الفصل الأول، يجري ذلك وفقًا لعوامل اتفاق الآراء، وهو الاتفاق الذي يضع الحدودَ ويُمارس الضغوط.

ومن المفيد أن ننظر في الحلقات الدراسية الأربع التي عُقدت في الفترة من ۱۹۷۱م إلى ۱۹۷۸م، بتمويلٍ من مؤسسة فورد، في جامعة برنستون، وهي مكان ذو جاذبية واضحة لعقدِ الحلقات الدراسية الأكاديمية؛ لأسباب اجتماعية وسياسية كثيرة. فإلى جانب شهرتها العامة، يوجد في الجامعة برنامج لدراسات الشرق الأدنى ذاعت شهرته، ويتمتع باحترام كبير، وكان يسمى حتى عهدٍ قريب قسم الدراسات الشرقية، وكان الذي أنشأه هو فيليب حِتِّي منذ نصفِ قرنٍ تقريبًا. ويُسيطر على التوجُّه الحاليِّ للبرنامج — مثل توجُّهِ الكثير من برامج الشرق الأدنى الأخرى — علماءُ الاجتماع والسياسة. إذ يَقِلُّ مثلًا عددُ المناهج الدراسية الخاصة بالآداب الكلاسيكية الإسلامية من عربيةٍ وفارسية، وعدد المتخصصين فيها من الأساتذة، عن نظائرِ هذا وذاك في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ الخاصة بالشرق الأدنى. والتعاون بين هذا البرنامج وبين مؤسسة فورد، مؤسسة العلوم الاجتماعية الأولى في البلد، يدلُّ (وأضيف أنه قد قُصد به أن يدلَّ) على التمتُّع بسلطةٍ علمية وثقةٍ مرجعية من الطراز الأول في الولايات المتحدة. ومن ثَم فإن أي موضوعٍ يحظى بالتركيز عليه تحت رعايتها يجرى إبرازه إبرازًا لا شكَّ فيه، فما تقترحه برنستون وما تموله فورد يوحي (ويقصد به أن يوحي) بقضايا جديرةٍ بالتأكيد والأولوية، وتتمتع بأهميةٍ بالغة. وإن شئنا الإيجاز قلنا إن الحلقات الدراسية المذكورة، على الرغم أن واضعيها ومُديريها من الأكاديميين، قد عُقِدَت ونُصْبَ عينَيها المصلحةُ القومية. أي إن البحث العلمي كان يعتبر في خدمة تلك المصلحة، وعلى نحوِ ما سوف نرى، كان اختيار الموضوعات يشير إلى أن كلَّ ما يتمتع بأفضلية سياسية لدى الحكومة؛ كان يؤدِّي في الواقع إلى فرض مجالاتٍ بحثية معينة. ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن مؤسسة فورد وجامعة برنستون لم يكن من المحتمل، بل ومن غيرِ المحتمل الآن، أن يُبدِيَا الاهتمامَ بعقد حلقات دراسية «فاخرة» حول نظرياتِ النحو العربي في العصور الوسطى، على الرغم من إمكانِ إقامة الحُجَّة على زيادة أهمية عقدِ حلقة دراسية حول هذا الموضوع، من الناحية الفكرية الصرفة، عن أهمية أيٍّ من الحلقات التي عُقِدَت.

مهما يكن من أمر، فعلينا أن نسأل: ماذا تناولَت الحلقاتُ الدراسية؟ ومَن الذي حضرها؟ كانت إحداها تتناول موضوع «الرِّق والمؤسسات المرتبطة به في مناطق الإسلام في أفريقيا». وكان الاقتراح الخاص بعقدِ هذه الحلقة يركز تركيزًا شديدًا على خوف أفريقيا واستيائها من المسلمين العرب، كما يذكر أيضًا أن «بعض العلماء الإسرائيليين» قد حاوَلوا تحذير البلدان الأفريقية من الاعتماد أكثرَ مما ينبغي على الدول العربية التي قامت «في الماضي بإفراغ أراضيهم من سكَّانها.»12 وهكذا فإن «رُعاة» هذه الحلقة الذين اختاروا هذا الموضوع يؤكِّدون قضيةً من المؤكد أن تؤدِّيَ إلى تعكير صفوِ العلاقات بين المسلمين الأفريقيِّين والعرب، وقد دفعَتهم محاولةُ تحقيق هذا الهدف إلى عدم دعوة أيِّ علماء من العالم الإسلامي العربي.
وعُقِدَت حلقةٌ دراسية أخرى حول نظام «الذمِّيين»، وكان محورها الرئيسي هو «وضع الأقليات، وخصوصًا الأقليات الدينية، داخل الدولة الإسلامية في الشرق الأوسط»13 أما «الذميُّون» فتعبيرٌ يُشار به إلى جماعات الأقليَّات المستقلة نسبيًّا داخل الدولة العثمانية. وبعد تَفكُّك هذه الدولة، وانتهاء شتى النُّظم الاستعمارية الفرنسية والبريطانية، نشأ عددٌ من الدول الجديدة في الشرق الأدنى في زمن الحرب العالمية الثانية تقريبًا. وكانت كلٌّ منها، أو حاولَت أن تكون «دولة أمة»، فكانت إحداها (إسرائيل) دولةَ أقليةٍ دينية في إطار الدول الإسلامية المحيطة بها، وقُدِّرَ لدولةٍ أخرى (لبنان) أن تقوم بتمزيقها، إلى حدٍّ كبير، أقليةٌ مناوئةٌ من غير المسلمين، تتلقَّى الأسلحة من إسرائيل وتحظى بمناصرة الولايات المتحدة.

كان ذلك المحور أبعدَ ما يكون عن الموضوع الأكاديمي المحايد، «فنظام الذميين» تعبير، حتى في وضعه بهذه الصيغة، عن الحلِّ السياسي المفضل للمشاكل المعقَّدة لمسألة الجنسية والقضايا العِرقية في العالم الإسلامي المعاصر، ومهما تكن الأسباب الأكاديمية من وراء دراسته، فإن نظام أهل الذمة يُمثل ارتدادًا ونكوصًا إلى عهدٍ سالف بائد، كانت القُوى الاستعمارية (عثمانيةً أو غربية) تُطبق فيه سياسةَ «فَرِّقْ تَسُدْ»؛ حتى تتحكمَ في أعدادٍ هائلة من السكان الذين قد يقومون بمُناوَأتِها. وأما الأغلبية السُّنية من سكان هذه المنطقة، وبعض الأقليات أيضًا، فلقد كان التاريخُ القريب للعالم الإسلامي الحديث يُمثل لها نضالًا في سبيل تَخَطِّي التقسيمات العِرقية والدينية؛ وصولًا إلى نوعٍ ما من الديموقراطية العلمانية (ربما كانت وَحدَوية). ولم تنجح أيُّ دولة من دول المنطقة في تحقيق ذلك إلا في دنيا السياسات المعلنة (وغير المطبَّقة في العادة)، ولكن إسرائيل والطائفة المارونية التي تنتمي إلى أقصى اليمين في لبنان قامتا بحملةٍ مُستعِرةٍ في سبيل العودة إلى هيكلٍ للدولة يقوم أساسًا على تمتعِ الأقلية العِرقية بالحكم الذاتي وترتبط بروابطَ ثنائيةٍ مع قوة «راعية» أجنبية أو دولة عُظمى. ولم يكن من قَبيل المصادفة أن واضعي خُطة الحلقة الدراسية قد اقترَحوا تطبيق هذا الحل على الفلسطينيين أيضًا؛ إذ إن الشخص الذي أحضَروه إلى برنسون للحديث عن «الأقلية» العربية الفلسطينية (ويا للسخرية المريرة في وصفِهم بالأقلية!) كان أستاذًا إسرائيليًّا. ولا يمكننا أن نعزوَ عقْدَ هذه الحلقة الدراسية حول هذا الموضوع البالغ الحساسية في الولايات المتحدة في مثلِ ذلك الوقت (۱۹۷۸م) ومشاركة عددٍ كبير من أفراد الأقليات الدينية والعرقية المعادية للحكم الإسلامي المزعوم (وهم مَن يمكن أن يعودوا بالفائدة على راسِمي السياسات الأمريكية) إلى أيِّ اهتمام عِلمي أكاديمي محض. ولم يكن من المصادفات أيضًا أن الداعيَ الرئيسي إلى عقدِ هذه الحلقة الدراسية كان الباحثَ نفسه الذي أشرتُ إليه آنفًا، نفس الشخص الذي امتدح حب الاستطلاع الفكري في الغرب، وسخر من جميع الأكاديميين وجميع غير الأوروبيين الذين كانوا يَشْتمُّون مؤامرةً سياسية في كل شيء.

كانت الحلقة الدراسية الأولى قد ناقشَت تطبيق أساليبِ التحليل النفسي وطرائق التحليل المتبَعة في العلوم السلوكية في تفهُّم المجتمعات الحديثة بالشرق الأوسط. وصدَر فيما بعدُ مجلد يتضمَّن أعمالَ تلك الحلقة الدراسية.14 وقد حقَّقَت الحلقة الدراسية ما كُنا نتوقَّعه، بصفةٍ أساسية، إذ انْصبَّ تركيزُها الرئيسي على دراسات الشخصية القومية (ولو أن المجلد يتضمَّن نقدًا كتَبه علي بنوزازي لما يزعمون أنه دراسات الشخصية الإيرانية، وهو نقدٌ يقوم على أسسٍ عِلمية صارمة ويتَّسم بالوضوح، وقد أصاب كبدَ الحقيقة حين ربط بين هذه الدراسات المزعومة وبين أهدافِ التلاعب للدول الإمبريالية ذات المطامع في إيران).15 كانت نتائج الحلقة الدراسية متوقَّعةً إلى الحد الذي يدعو إلى الانقباض؛ إذ لا يملُّ الكتاب من تَكرار الإشارة إلى أن المسلمين يعيشون في عالمٍ وهمي، وأن الأسرة تُمارس القمع والكبت، وأن معظم القادة مُصابون بأمراضٍ نفسية، وأن المجتمعات لم تصل إلى مرحلة النضج بعد، وهلمَّ جرًّا، ولا يُقدم هذا الكتابُ إلينا ذلك كلَّه من وجهة نظر علماء يسعَون إلى تغييرِ هذه المجتمعات بحيث تصل إلى «النضج»، بل من منظور علماء مُحايدين، موضوعيِّين، لا يتقيَّدون بأحكام قيمة، ولكن الكتاب لا يحسب حسابًا للمواقع التي يَشغَلُها هؤلاء العلماءُ (مهما يبلغ حِيادُهم وتحررهم من أحكام القيمة) في علاقاتهم بالشركات الكبرى والسلطات الحكومية، ولا يأخذ في اعتباره الدورَ المنوط بأبحاثهم في تنفيذ السياسات الحكومية تجاه العالم الإسلامي، أو ما يترتب على تطبيق المناهج النفسية عندما يقوم مجتمعٌ قويٌّ بدراسة مجتمع أقلَّ قوةً منه.

ولم تتناول الحلقة الدراسية الرابعة بحثَ أيٍّ من هذه الأمور، وكان عنوانها «الأرض، والسكان، والمجتمع في الشرق الأدنى: دراسات في التاريخ الاقتصادي من فجر الإسلام إلى القرن التاسع عشر». وقد صُوِّرَت هذه الحلقةُ نفسُها، مثلُ غيرها من الحلقات، باعتبارها عِلميةً وغير منحازة، وإن استطعنا أن نستشفَّ تحت السطح اهتمامًا مُلحًّا إلى حدٍّ بعيد ويتعلق بالسياسات، وكان في هذه الحالة اهتمامًا بالعلاقات ما بين حيازة الأراضي، والأنساق السكانية، وسلطة الدولة، باعتبار هذه العلاقة مؤشرًا على الاستقرار (أو عدم الاستقرار) في المجتمعات الإسلامية الحديثة. ولكن ينبغي ألا نستخلصَ من هذا أن كل مساهمة في الحلقة الدراسية كانت تفتقر إلى القيمة الموضوعية، أو أن كل مشاركٍ في الحلقة كان طرَفًا في مؤامرةٍ شنيعة؛ فلقد أبدى القائمون على تنظيم الحلقة حِكمةً بالغة في أنْ كفَلوا تحقيق «التوازن» بين الآراء، وكفلوا للحلقة الدراسية أن تتَّسم، إجمالًا، بسِمات المسئولية والجِدِّية. ومن ناحية أخرى علينا ألا نقعَ في شَرَك اعتبار الحلقة مساويةً للمجموع الحسابي لأجزائها الكثيرة المنفصلة. فلقد عَمِلَت الحلقات الدراسية الأربع معًا، في اختيار الموضوعات والاتجاهات العامة، على تشكيل الوعي بالإسلام بأسلوبٍ يضمن إما إقامة مسافةٍ تفصِلُنا عنه باعتباره ظاهرةً مُعادية، وإما تأكيدَ بعض جوانبه التي نستطيع «التصدِّيَ» لها في سياساتنا.

وفي هذا الصدد كانت الحلقاتُ الدراسية التي عُقدت في جامعة برنستون حول الإسلام تتَّفق مع تاريخ برامج الدراسات لبعض مناطق العالم الثالث الأخرى، في الولايات المتحدة — مثل الفترة التاليةِ مباشرةً للحرب في الدراسة الأكاديمية للصين.16 أما الفرق فهو أن البرامج الإسلامية لا تزال في حاجةٍ إلى «مراجعة» وتنقيح؛ إذ لا تزال تُسيطر عليها مفاهيمُ بالية، وغامضةٌ إلى حدٍّ غير معقول (مثل مفهوم «الإسلام» نفسه)، إلى جانب مصطلح فكري انقطعَت صِلاته بالتطورات العامة في العلوم الإنسانية وفي المجتمع كله؛ فلا يزال من الممكن أن يُقال عن الإسلام ما لا يمكن قَبوله ببساطة إن قيل عن اليهودية، أو عن أبناء آسيا الآخرين، أو عن السُّود، ولا يزال من الممكن أن تُكتب عن التاريخ الإسلامي، وعن المجتمع الإسلامي، دراساتٌ يُسعدها أن تتجاهلَ كلَّ ألوان التقدم الكبرى في نظرية التفسير منذ نيتشه وماركس وفرويد.
والنتيجة هي أننا لن نجدَ في الدراسات الجارية للإسلام إلا أقلَّ القليل مما يمكن أن يعود بفائدةٍ ما على العلماء المهتمِّين بالمشكلات المنهجية لعلم كتابة التاريخ بصفةٍ عامة، مثلًا، أو بتحليل النصوص. ولكن الذي يحدث، إذا اعتبرنا الحلقات الدراسية المعقودةَ في جامعة برنستون خيرَ نموذج لما نقول، هو أن يظهر عملٌ عِلمي عن الإسلام (مثلما ظهَر المجلد الذي يتناول علمَ النفس في دراسات الشرق الأوسط) ثم تقوم بعرضه أو «مراجعته» دورية أو دوريتان من المجلات البالغة التخصص، ثم يختفي. إن هذا العامل وحده دون غيره، وأقصد به الموقع الهامشي الذي تَشغله الدراسات الإسلامية، وما يريدونه لها من أن تظلَّ مقطوعةَ الصلة بالثقافة العامة، هو الذي يُتيح للباحثين مواصلةَ فِعل ما يفعلون، ولأجهزة الإعلام أن تتولى مهمةَ نشر الصور العنصرية الساخرة للشعوب الإسلامية. وبهذا الأسلوب تُواصل قاعدةُ البحوث الأكاديمية تدعيمَ بقائها، ويستمرُّ الزبائن الذين يشترون أخبار الإسلام في تلقِّي جرعاتٍ هائلة من التهريج حول الحدود (العقوبات) الإسلاميةِ والحريم، وهو القُوت الذي تُقدمه أجهزة الإعلام لهم على مدى عقودٍ مَديدة. وعندما تقع عيونُ الجمهور على الخبراء، فهم يظهرون باعتبارهم خبراءَ دعَت إلى ظهورهم أزمةٌ طارئة فاجأت «الغرب» دون استعدادٍ لها. وهم لا يُخففون من وقْع أقوالهم، ولا يتحرَّون الرهافةَ في التعبير، بدافع أيِّ تعاطف ثقافي قديم مع الإسلام، على نحوِ ما يحدث في بريطانيا أو فرنسا، إذ لا يُعتبرون إلا فنيِّين يحملون «عُدَّة عمل جاهزة من أدوات الصنعة» (وهذه هي عبارة دوايت ماكدونالد)17 لتقديمها إلى الجمهور الذي يُساوره القلق. والجمهور يتقبَّلهم بطِيب خاطر، فهُم يُلبُّون المطلب الذي يصفه کریستوفر لاش بأنه:
الطلب الكبير بصورة غير مسبوقة على الخبراء، والفنيين والمديرين [الذي أوجَده ما يُسميه لاش «نظام ما بعد العصر الصناعي»] إذ يزداد اعتماد الشركات والحكومة، في ظلِّ ضغوط الثورة التكنولوجية، والزيادة السكانية المستمرة، وحالة الطوارئ الممتدة بلا أجل مسمًّى بسبب الحرب الباردة، على جهاز شاسع من أنظمة البيانات التي لا يفهمها إلا المختصُّون المدرَّبون؛ ومن ثَم أصبحت الجامعات نفسها مصانعَ الإنتاج الخبراء بالجملة.18
ولقد بلغَت درجة الجاذبية التي يتمتَّع بها سوقُ الخبراء، وما يُدِرُّه من أرباح، حَدًّا جعل معظمَ الدراسات الخاصة بالشرق الأوسط تتوجَّه إلى هذا السوق. وهذا السبب وحده يُفسر لنا عدمَ التفاتِ أي مجلة راسخةِ القدم (وكذلك الكتب التي كتبها العلماءُ الراسخون في الآونة الأخيرة) إلى بعض الأسئلة الأساسية؛ مثل: لماذا نقوم بدراسات الشرق الأوسط؟ ومن الذين نتوجَّه إليهم بصفقاتها؟ الواقع أن طمس الوعي المنهجي يشترك في حدوده اشتراكًا كاملًا مع وجود السوق (الحكومات والشركات والمؤسسات)؛ فالإنسان لا يَسألُ ببساطةٍ عن سببِ ما يفعله إذا وجَد الزبائن الذين يُقدِّرون إنتاجه، أو الذين يمكن أن يتقبَّلوه على الأقل. بل إننا نرى ما هو أسوأ؛ فالباحث يتوقف عن التفكير في الإقليم والبشر المقيمين فيه، وهم الذين تُجرَى الدراسات عنهم، فإذا كان «الإسلام» هو موضوعَ الدراسة لم ينظر إليه باعتباره مشاركًا له في الحوار بل باعتباره، بأحد المعاني، سلعة. والنتيجة العامة هي نوع من سوء النية الراسخ في المؤسَّسة «العلمية». فإذا وجَّه أحدٌ من خارجِها انتقادًا لها كان الردُّ هو رفع راية أمانة البحث العلمي، وشرف المجال الذي ينتمي إليه، ورأيتَ الاستعداد لإبداء الغطرسة بالألفاظ الرنَّانة في نفي الانحياز السياسي، ووجدتَ الباحثين يُهنِّئون أنفسهم بصورةٍ تدعم ما يجري حاليًّا إلى ما لا نهاية.

لقد تحدَّثتُ حتى الآن عن عملٍ يتَّسم بالعُزلة أساسًا، ومعنى هذا في هذه الحالة أن الباحث يُمارس عملَه في إطار ردِّ الفعل إزاءَ ما تطلبه منه شتى المصالح؛ فهو يسترشد بما يراه أفرادُ طائفته من الباحثين صحيحًا، أكثرَ مما يسترشد بضرورات التفسير الأصيل، وقبل ذلك كله فإن الثقافة العامة تفرض العزلةَ على عمله، وتضعه في موقعٍ هامشي إلا في أوقات الأزمات. أي إنه يفتقر إلى كِلا الشرطين اللازمين لمعرفةِ ثقافة أخرى؛ وهما الاتصال الذي لا إكراهَ فيه بثقافة أجنبية من خلال التبادل الحقيقي، والتزام الحذر في التفسير كذلك، وهذا الافتقار يفرض العزلة، والنظرة المحلية الضيقة، والدوران في حلقاتٍ مُفرَغة في تغطية الإسلام. وما له مَغزاه أن هذه الأمور تُوضِّح أيضًا أن تغطية الإسلام ليست تفسيرًا بمعناه الأصيل، بل تأكيدٌ للسلطة. وأجهزة الإعلام تقول ما تشاء عن الإسلام لأنها تستطيع ذلك. والنتيجة أن نرى «الحدود» الإسلامية (العقوبات) وصورةَ «المسلمين» الصالحين (في أفغانستان على سبيل المثال) تَسودان المشهد الحاليَّ بلا تمييز، ولا تكاد التغطيةُ تشمل شيئًا آخر؛ لأن كل ما يقع خارج نطاق التعريف المتفَق عليه لما هو مهم لا يعتبر مرتبطًا بمصالح الولايات المتحدة، ومفهوم أجهزة الإعلام للموضوع الصحفي الناجح. ومن ناحية أخرى نجد أن الدوائر الأكاديمية تستجيب لما تفهم أنه يُلبِّي المطالب الوطنية، ويستجيب لحاجة الشركات، والنتيجة هو أنها تقوم ﺑ «نحت» موضوعات دراسات إسلامية مناسبة من كتلة هائلة من التفاصيل الإسلامية، وهي الموضوعات (الرِّق، ونظام أهل الذمَّة، وهلم جرًّا) التي تحدد صورة الإسلام والدراسة الصحيحة للإسلام، بحيث تستبعد كلَّ ما لا يتفق تمامًا مع هذا أو ذاك. وحتى حين يحدث وتقوم الحكومة أو يقوم أحد أقسام دراسات الشرق الأوسط بإحدى الجامعات، أو تقوم إحدى المؤسسات بتنظيم مؤتمر يتناول مستقبلَ دراسات الشرق الأوسط، (وهي العبارة التي تُستخدم عادةً كنايةً عن السؤال التالي: «تُرى ماذا سنفعل إزاء العالم الإسلامي؟») نجد أن مجموعة المفاهيم والأهداف تُواصل الظهور فيه. لا يكاد يتغير شيء.

ونحن نرى المُراهنة بالكثير على هذا التَّكرار، وليس بأقلِّه أهميةً نظام «الرعاية» الذي يُدار باقتدار لا بأس به. فكبار الخبراء في هذا المجال، سواءٌ من الحكومة، أو عالَمِ الشركات أو الجامعات عادةً ما تربطهم روابطُ معينة ببعضهم البعض وبالجهات المانحة التي تُسايرهم. فالباحث الشابُّ يعتمد على شبكة علاقاته في الحصول على إعانته المالية، ناهيك بالوظيفة وإمكان نشر بحوثه في المجلات العِلمية الراسخة. والمغامرة بكتابةِ بحوث نقدية «غير وُدِّية» عن العلماء المعترَف بهم، أو عن عملهم تعني المخاطرةَ بالكثير في هذا المجال أكثرَ من مجالات التاريخ العامِّ أو الأدب. ولذلك فالمقالات التي «تُراجع» — أي تَعرض الكتبَ — مقالاتٌ لا طعم لها، وعادةً ما تميل إلى امتداح الكتاب، والنقد عادةً ما يُكتب بلغةٍ موحَّدة تكتسي أشدَّ الألفاظ إغراقًا في التحذلُق والتنطع، دون إشارةٍ على الإطلاق إلى المنهجية أو الافتراضات المسبقة. وأغربُ ما يفتقر إليه هذا المجال — وأشدُّ الظواهر شيوعًا — هو تحليل الصِّلة التي تربط البحثَ العلمي بأشكال السلطة المختلفة في المجتمع الذي يُنجز الباحثون بحوثهم من أجله. وما إن يُسْمَع صوتٌ يتحدى مؤامرة الصمت المذكورة حتى يُصبح الموضوع الرئيسي هو الأيديولوجيا والأصول العرقية، فيقال إن الناقد ماركسي، أو فلسطيني (أو إيراني أو مسلم أو سوري)، أو تتردد العبارة المألوفة: نحن نعرف طبيعة هؤلاء النقاد!19
وأما فيما يختصُّ بالمصادر نفسِها، فهم يتعاملون معها دائمًا كأنما كانت خامدةً لا حياةَ لها، وهكذا فالباحث حين يُناقش مجتمعًا أو حركةً أو شخصية إسلامية معاصرة، فإنه يتناول موضوعَ مناقشتِه باعتباره، بصفة أساسية، من الأدلة، ونادرًا ما يعتبره كيانًا يتمتع بالاستقلال وبحقِّ الرد، بمعنًى من المعاني. ومن الطريف أن الخبراء الغربيين في الإسلام لم يبذلوا أيَّ محاولة على الإطلاق للتناول المنهجي للكتابة الإسلامية عن الإسلام: هل هي بحوث علمية؟ هل هي أدلة على شيء ما؟ أليست هذا ولا ذاك؟
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الأحوال القاحلة إلى حدٍّ بعيد، بل وربما بسببها، يكتب بعض الكُتَّاب كتاباتٍ تتضمن معرفةً لها قيمتها عن الإسلام، وتتمكن بعضُ الأذهان المستقلَّة من عبور الصحراء. ولكننا نستطيع القول بأن الطابَع الهامشي العام والتفكُّك الفكري العام (في مقابل اتفاق آراء أبناء المهنة الواحدة)، وإفلاس الشروح والتفسيرات في معظمِ ما يُكتب عن الإسلام — لا في كلِّ ما يُكتب قطعًا — يرجع إلى الزمالة التي تربط بين أطراف الشبكة التي تضمُّ الشركات والحكومة والجامعات، وهي الشبكة التي تُسيطر على العمل برُمته. وهذا في نهاية المطاف هو ما يتحكَّم في كيفية رؤية الولايات المتحدة للعالم الإسلامي. وإلا فما السبب الذي يجعل مثلَ هذا الهيكل البالغِ الغرابة للمعرفة بالإسلام ينمو ويزدهر، وقد تشابكَت فروعه، وترسَّخَت جذوره، غيرَ عابئ بما يُصيبه من فشل مرةً بعد أخرى؟
وأنجعُ منهج لِفَهم طابَعِ هذه الرؤية بدقة، وهي الرؤية التي اكتسبَت قوة الإيمان الذي لا يحتمل التساؤل، هو أن نُقارنها مرة أخرى بالموقف السائد في بريطانيا وفرنسا، وهما اللتان خلَفَتْهما الولايات المتحدة في العالم الإسلامي. ففي كلٍّ منهما كنا نجد دائمًا، بطبيعة الحال، صَفًّا من الخبراء الإسلاميين الذين ينهضون بدورٍ استشاري، ومنذ مدةٍ بعيدة، في وضع السياسات الحكومية والتجارية وحتى في تنفيذها. ولكنا كنا نجد في كلتا الحالتين أن المهمة المباشرة هي إدارة شئون الحكم في المستعمرات، وهو ما استمر قائمًا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان يُنظر إلى العالم الإسلامي باعتباره سلسلةً من المشاكل المنفصلة، وكانت المعرفة بتلك المشكلات، بصفةٍ عامة، معرفةً عِلمية تجريبية ونابعة من التصدِّي المباشر لها. صحيحٌ أن بعض النظريات والتجريدات الخاصة بالعقل الإسلامي، فيما يتعلق ﺑ «الرسالة الحضارية» عند فرنسا، وبالحكم الذاتي للشعوب الخاضعة لبريطانيا، تتدخل هنا وهناك في تطبيق السياسات، ولكن ذلك لم يكن يحدث إلا بعد وضع السياسات والشروعِ في تنفيذها مَيْدانيًّا إنْ صح هذا التعبير، وكان للحديث عن الإسلام دورٌ يكاد ينحصر في تبرير المصلحة القومية، (أو حتى المصالح الاقتصادية الخاصة) في العالم الإسلامي. وهذا هو السبب الذي يُفسِّر لنا وجودَ علماء كِبار في الدراسات الإسلامية في بريطانيا وفرنسا اليوم، واعتبارهم من الشخصيات العامة المرموقة، وأما مُبرر وجودهم، حتى بعد أن تفكَّكَت الإمبراطوريات الاستعمارية الآن، فهو الحفاظ على اهتمام فرنسا وبريطانيا بالعالم الإسلامي. والطابع الغالب لأمثال هؤلاء العلماء، ولأسباب أخرى كثيرة، هو طابعُ البحث الإنساني لا البحث في العلوم الاجتماعية، والتأييد الذي يتمتعون به في الثقافة العامة لا يرجع إلى الطلب على الخبراء الذي يتَّسم به نظامُ ما بعد العصر الصناعي، (وهو الطلب القائم في البلدَين جميعًا) مثلما يرجع إلى التيارات الفكرية والأخلاقية العريضة في المجتمع، فإن رودنسون في فرنسا أستاذٌ مرموق في فقه اللغة وهو أيضًا ماركسي شهير، وحوراني في إنجلترا مؤرِّخ ذائعُ الصيت، ورجلٌ یشي عَملُه بليبراليةٍ واضحة.20 ولكن أمثال هؤلاء لم يعودوا يظهرون في فرنسا وفي إنجلترا، ومن المحتمل أن يحل محلَّهم في المستقبل علماءُ اجتماع بالأسلوب الأمريكي أو علماءُ آثار متخصصون.
وأما العلماء المماثلون في الولايات المتحدة فلا يُعرَفون إلا بصفتهم خبراءَ في الشرق الأوسط أو خبراءَ إسلاميين، فهم ينتمون إلى طبقة الخبراء، وأما مجال عملهم، في حدود ما يربطهم بالمجتمعات الحديثة في العالم الإسلامي، فيمكن اعتباره المرادِفَ الفكريَّ لعلم إدارة الأزمات. وهم يَدِينون بجانبٍ كبير مما يتمتعون به من مكانةٍ إلى القول بأن الولايات المتحدة تَعتبر العالم الإسلامي منطقةً استراتيجية حافلةً بالمشكلات التي يمكن أن تنشأ، (وإن لم تكن دائمًا مشكلاتٍ حقيقية). وعلى امتداد العقود العديدة التي توَلَّت فيها بريطانيا وفرنسا إدارةَ شئون المستعمرات الإسلامية، تكوَّنت لديهما بصورة طبيعية طبقةٌ من الخبراء بالمستعمَرات، ولكن هذه الطبقة لم تُفرز ما يتبعها أو ما نراه مُلحقًا بها في الولايات المتحدة، أي شبكة التحالف بين دراسات الشرق الأوسط والحكومة والشركات. كان أساتذة اللغة العربية، أو الفارسية، أو المؤسسات الإسلامية، يقومون بعملهم في الجامعات البريطانية والفرنسية؛ وكانوا يتلقَّون الدعوة من وزارات المستعمرات أو من الشركات التجارية الخاصة لإسداء المشورة أو حتى للمشاركة فيها، وكانوا أحيانًا يعقدون المؤتمرات؛ لكنهم فيما يبدو لم يُنشِئوا هيكلًا مستقلًّا خاصًّا بهم، يتولى الإنفاقَ عليه بل والمحافظةَ على وجوده القطاعُ التجاريُّ الخاص، أو يتلقى الدعمَ المباشر من المؤسسات والحكومة.
وهكذا تُحدد المعرفةَ بالعالم الإسلامي وتغطيةَ أنبائه في الولايات المتحدة عواملُ الجغرافيا السياسية والمصالح الاقتصادية، وعلى نطاقٍ هائل من المحال تحقيقُه للفرد، ويدعم هذه العواملَ ويساعدها هيكلٌ لإنتاج المعرفة يكاد يُماثله في ضخامته واستحالةِ التحكم فيه. وما عسى أن يفعله دارسُ قبائل الجزيرة العربية أو قبائلِ الإمارات العربية إزاء العقَبة التي يُمثلها وجودُ شركة النفط بينه وبين هذه القبائل، وإزاء الحديث الجادِّ عن قوات الانتشار السريع والعمل على تنفيذها، (انظر موضوع الغلاف مجلة نيوزويك في ١٤ يوليو۱۹۸۰م بعنوان «الدفاع عن حقول النفط: زيادة الحشود العسكرية الأمريكية» في منطقة الخليج، وإزاء الجهاز الكامل من العاملين في مجال الشرق الأوسط بوزارة الخارجية الأمريكية، وبالشركات والمؤسسات، وشتی كبار الأساتذة من المستشرقين؟ تُرى أيُّ لون تكتسبه المعرفة بثقافة أخرى في الواقع حين تكون محاطةً بسِياجٍ من الافتراضات النظرية التي تقول إن «أزمة الهلال» أزمة مُلِحَّة عاجلة، من ناحية، وسياجٍ من الروابط المؤسسية المزدهرة بين الدراسة العِلمية، والشركات التجارية، والحكومة، من ناحية أخرى؟
ولأختتم هذا القسمَ بمحاولة الإجابة عن هذا السؤال بحقائقَ من الواقع، في جزأَين، يتعلق الجزءُ الأول بالأوضاع الفعلية، وبالحقائق والأرقام التي تحكم ما يمكن أن نُسميَه التغطيةَ العملية، والتي تُعتبر «صحيحة» للإسلام. وسوف أُركِّز على الولايات المتحدة وإن كنت أرى أنَّ موقفًا مماثلًا إلى حدٍّ بعيد قد بدأ يَسود في أوروبا، تدريجيًّا، أيضًا. يقول مسحٌ فرنسي مفيدٌ للمراكز الأمريكية لدراسات الشرق الأوسط: إن عددًا يبلغ تقريبًا ۱٦٥۰ متخصصًا في الشرق الأوسط كان يقوم في عام ۱۹۷۰م بتدريس لغات المنطقة لعددٍ من طلاب الدراسات العُليا يبلغ ۲٦٥۹ طالبًا، و٤۱٥۰ من طلاب الدرجة الجامعية الأولى (وهم يُمثلون على الترتيب ۱۲ في المائة و٧,٤ في المائة من مجموع عدد طلاب الدراسات العليا، والدرجة الجامعية الأولى) الذين اختاروا «دراسات المنطقة» مادةً رئيسية.21 وقد اختار الموادَّ الدراسية الخاصةَ بالشرق الأوسط التي تشملها «دراسات المنطقة» عددٌ من طلاب الدراسات العليا يبلغ ٦٤٠٠ طالبًا، وعددٌ من طلاب الدرجة الجامعية الأولى يبلغ ۲۲۳۰۰ طالبًا (وكان يمثِّل نسبة ۱۲٫٦ من المجموع) ولكن رسائل الدكتوراه التي كُتِبَت في مجال دراسات الشرق الأوسط في الأعوام الأخيرة كانت لا تُشكل إلا نسبةً ضئيلة بالمقارنة بغيرها؛ إذ لم يتقدَّم بها إلا أقلُّ من واحدٍ في المائة من طلاب الدكتوراه في البلد.22 وتقول دراسةٌ تتَّسم بالعمق والفِطنة لمراكز الشرق الأوسط في الجامعات الأمريكية كتبها ريتشارد نولت (والطريف أن شركة إسو للشرق الأوسط، وهي فرعٌ من فروع شركة إكس كون للنفط، هي التي كلَّفَته بإعدادها) ونشَرها في عام ۱۹۷۹م، إن وزارة التعليم الأمريكية كانت تُساند «دراسات المنطقة» بهدف «إعداد الخبراء والمتخصصين بسرعةٍ وبأعدادٍ كبيرة؛ لتلبية أغراض الشركات والأغراض الحكومية والتعليمية». ولقد استجابت الجامعاتُ لهذه النظرة، وقد أصاب نولت حين كتَب يقول: «تعتبر مراكز الشرق الأوسط، من وجهة النظر الجامعية، آليةَ تسويق جديدةً تُبشر بالخير لإنتاج الجامعات؛ إذ لن تقتصر على المساعدة في زيادة قابلية هذا الإنتاج للتسويق، من المتخصصين في شتى الفروع العلمية المفيدة من دراسات المنطقة، والمهنيين اللازمين للأسواق الجديدة التي يمكن أن تتَّسع اتساعًا هائلًا، لكنها سوف تُساعد أيضًا في إنشاء هذه الأسواق». ويقول أيضًا فيما يتعلق ببرامج الماجستير: «تتمتع الأسواق الحكومية، وأسواق الشركات والمصارف وغيرُ ذلك من الأسواق المهنية بالرَّوَاج النسبي فيما يتعلق بتعيين الحاصلين على الماجستير، الذين تلَقَّوا التدريب المناسب في دراسات الشرق الأوسط، بفضل العوامل الاقتصادية والسياسية المتماثلة عند الجميع».23
وكما تُساعد الحلقات الدراسية التي عُقدت في جامعة برنستون، والتي أشرتُ إليها آنفًا، في تشكيل الاهتمامات الفكرية للباحثين والدارسين، نجد أن حقائقَ هذه الأسواق تؤثر هي الأخرى في المواد الدراسية وموضوعات البحوث. وتُركِّز دراسات الشرق الأوسط أشدَّ التركيز على مجالات معينة؛ مثل الشريعة الإسلامية والصراع العربي الإسرائيلي، فصِلتُها بالواقع الحي واضحةٌ في الظاهر، ولكن ذلك يترتَّب عليه، وفقًا لما يقوله نولت، تجاهلُ الأدب، وتجاهلُ المجموعات الكبيرة إلى حدٍّ ما من طلاب الشرق الأوسط في الجامعات الأمريكية. كما يقول نولت إن مديري المراكز الذين حادَثَهم:
أشاروا إلى أحداثٍ معيَّنة تعرَّضوا فيها لضغوطٍ سياسية منظمة، كان مصدرها في حالاتٍ كثيرة من خارج الجامعات، ترمي إلى منع أو تشويهِ صورة بعض الأنشطة المرتبطة بالعرب، والتي تراها المراكزُ المعنيَّة مشروعةً ومستحَبة من وجهة النظر الأكاديمية، ومن بينها الاحتفالاتُ الثقافية العربية، وعرض الأفلام العربية، واستضافة المتحدثين العرب، وقَبول المِنَح العربية لتدعيم الميزانية — وغير ذلك كثير. وقد أدَّى الوعيُ بهذا إلى فرض «التعويق النفسي» على الجميع، وهو ما لم يتَخلَّف معظمُ المديرين عن إبداء استيائهم منه، ولم يكن بينهم مَن يملك أن يتجاهله. وقال بعضُهم إن الأحوال تسير في طريق التحسُّنِ، وتشكَّك آخَرون في ذلك.24

وتُعلن هذه وتلك جميعًا — أي السياسة والضغوط والأسواق — عن نفسها بطرائقَ مختلفة. فالحاجة إلى الخبرة بالشرق الأوسط المعاصر تؤدي إلى وضعِ مناهج دراسية كثيرة، والتحاق الكثيرين من الطلاب بها، مع التأكيد الواضح على قَبول «منظورات» المعرفة الأساسية التي تجمع بين الربح المادي وإمكانِ التطبيق الفوري، والحفاظ على هذه «المنظورات». ومن النتائج الأخرى أن الأبحاث المنهجية غائبةٌ عن الساحة غيابًا مطلقًا؛ فالطالب الذي يرغب أن يشقَّ طريقَ حياته العَملية في دراسات الشرق الأوسط يخشى أولَ الأمر السنوات الطويلة المجدبةَ اللازمة للحصول على الدكتوراة (دون ضمان الحصول على وظيفةِ مدرسٍ آخِرَ الأمر)، فيحصل على الماجستير، أو دبلوم الدراسات الدولية في موضوع تتوافر فيه الجاذبيةُ لأكبر أصحاب العمل (الحكومة، وشركات النفط، وبيوت الاستثمار الدولية، وشركات المقاولات) وأخيرًا يقوم بعمله بأسرعِ ما يمكن، وفي شكل «دراسة حالة». ويؤدِّي هذا كلُّه إلى عزلِ دراسة الإسلام أو الشرق الأوسط عن التيارات الفكرية أو الأخلاقية الأخرى في دنيا الباحثين والعلماء. وتبدو أجهزة الإعلام هنا مسرحًا أصْلحَ وأجدى لعرض خبرته من الدوريات العلمية المتخصصة مثلًا، كما أن الظهور في أجهزة الإعلام يعني، على نحوِ ما يعرف من اعتادوا ذلك؛ إما أن تكون مناصرًا لقضيةٍ ما (وهو ما يفرض عليك قيودًا شديدة)، أو تظهر بصورة الخبير الهادئ الذي استُدْعي دون تحيزٍ لِيُصدر الأحكام على المذهب الشيعيِّ ومُعاداة أمريكا. ومن الواضح أن دورَ الخبير يُساعد المرء في حياته العملية، إلا إذا كان قد أصاب النجاح من قبل في التجارة أو في عمل حكومة.

قد يبدو ذلك في صورة «المحاكاة الساخرة» لأسلوب إنتاج المعرفة، لكنه يصف بدقةٍ كافية مدى ضيق التركيز والفقر الفاجع للمادة الدراسية اللذين يَعيبان المعرفة بالإسلام، وهو يُفسِّر لنا، قبل كل شيء، سببَ ابتعاد الخبراء الأكاديميين كلَّ البُعد عن الطعن في الصور النمطية السوقية التي تُروِّجها أجهزةُ الإعلام؛ إذ إنهم يُشكِّلون هيئةً فقدَت استقلالها وأصبح أفرادها يقتصرون على أداء الدور الذي تقضى به وظائفهم، وهو الذي يرمز لمكانتهم باعتبارهم الحُجةَ الموثوق بها في موضوع الإسلام، وكذلك اعتمادهم على النظام الكُليِّ الذي يُحدد هذه الوظائفَ في إطاره ويجعلها مشروعة، وهذا هو النظام الذي نرى تجلِّياته في أجهزة الإعلام التي تعتمد على الصور النمطية القائمة على الخوف والجهل.

وإذا كان ما تحدثتُ عنه حتى الآن يبدو في صورة القيود الفكرية التي تحدُّ من حرية البحث العلمي — وهي الصورة الحقيقية دون شكٍّ — فإن هذه القيود لا تَحول دون إنتاج مادةٍ كلامية هائلةٍ عن الشرق الأوسط وعن الإسلام، بل وعن بعض مناطق العالم الأخرى. وبعبارةٍ أخرى نجد أننا نُواجه الآن ما وصَفه فوکوه، في سياقٍ آخر، بأنه «الحضُّ على الكلام».25 فالقيود التنظيمية للفكر والتفكير بشأن الثقافات الأجنبية النائية تختلف اختلافًا شاسعًا عن عمل الرقيب الذي يتدخَّل بالمنع والحذف؛ إذ إنها تحضُّ بصورةٍ إيجابية و«تأكيدية» على كتابة المزيد من المادة المنتَجة في ظلِّ هذه القيود. وهذا هو سبب استمرارها رغم التغيُّرات التي يشهدها العالم، وسبب مواصلتها تجنيدُ العاملين في خدمتها.

وهكذا فإن التغطية الحاليَّة للإسلام وللمجتمعات غير الغربية، في مُجملها، تُضفي القداسةَ في واقع الأمر، على عددٍ معيَّن من الأفكار والنصوص والثقات. فالفكرة التي تقول إن الإسلام ينتمي للعصور الوسطى ويُشكِّل خطرًا علينا، مثلًا، أصبحَت تَشغَل مكانًا محدَّدًا بدقةٍ في الثقافة العامة وفي السياسة، فما أَيْسرَ الاستشهادَ بالثقات لتأكيدها، والإشارة إليها، وإقامة الحجة على صحةِ زعمٍ ما بشأن جانب ما من جوانب الإسلام استنادًا إليها! ولقد أصبح ذلك ميسورًا وفي متناول أيدي الجميع، لا الخبراء وحدهم ولا الصحفيين. ومثل هذه الفكرة تقوم بدورها بصفتها المعيارَ المُسبق الذي لا بد أن يضعه في حُسبانه كلُّ مَن يبغي مناقشة الإسلام أو قولَ شيء ما عن الإسلام. فبعد أن كان الإسلام حقيقةً خارجية، أو بالأحرى تلك الكيانات المادية المرتبطة به في كلِّ حالة، أصبحَت هذه الصورة للإسلام ذاتَ صحةٍ معتمدة في هذا المجتمع نفسِه، بعد أن دخلَت الثقافة المعتمدة، وأصبحَت تنتمي إليها، وهو ما يجعل من مهمةِ تغييرها عملًا بالغَ الصعوبة حقًّا وصدقًا.

ويكفي هذا فيما يتعلق بالتغطية «المعتمدة» للإسلام، وهي التغطية التي أدَّت روابطُها بالسلطة إلى منحها القوةَ، والثبات، وكذلك وقبل كل شيء، الحضور. ومع ذلك فلقد شاعت نظرةٌ أخرى للإسلام، تنتمي إلى فئةٍ أخرى قد أطلق عليها صفة المعرفة المضادة.26

وأعني بالمعرفة المضادة نوعَ المعرفة الذي يُنتجه الذين يعتبرون أنهم يُعارضون، واعين، الصورةَ السائدة المعتمَدة فيما يكتبون. وهم يفعلون ذلك على نحوِ ما سوف نرى؛ لأسبابٍ متفاوتة وفي مواقفَ متباينة، ولكنهم جميعًا يُدركون جيدًا أن أسلوب وأسباب دراستهم للإسلام مسائلُ تتطلب التأمل والصراحة. ونحن لا نجد في تفسيرات هؤلاء المفسرين المضادِّين ما نعهده من صمتٍ منهجي في كتابات المستشرقين، وهو الصمت الذي عادةً ما يَشيع فيه التفاؤلُ النابع من الثقة في «موضوعيتهم» البريئة من أحكام القيمة، بل نجد بدلًا منه مناقشةً تتميز بالعجَلة والإلحاح للمعاني السياسية للدراسة الأكاديمية.

وتنقسم المعرفة المضادَّة بالإسلام إلى ثلاثة أنماطٍ رئيسية، تُنتجها ثلاثُ قُوًى في المجتمع القادر على تحدِّي تلك الصورة السائدة المعتمدة: تتكون الأولى من مجموعةٍ من الباحثين الشبَّان الذين يتَّسمون بالمزيد من الحَذْق العِلمي والمزيد من الأمانة السياسية عن أقرانهم الكبار العاملين في هذا المجال، وهم يرَون أن دراسة الإسلام ترتبط بصورةٍ ما بالنشاط السياسيِّ للدولة، ومن ثَم فهم لا يتظاهرون بأنهم باحثون «موضوعيون». وهم يرون أن انغماس الولايات المتحدة في السياسة العالمية، وهي التي يرتبط جانبٌ كبير منها بالعالم الإسلامي، حقيقة لا ينبغي الصمتُ إزاءها أو تقبُّلها باعتبارها واقعًا محايدًا. ويتميزون عن المستشرقين الأكبرِ سنًّا بأنهم متخصِّصون ولا يهتمُّون بإصدار الأحكام العامة مثلهم، وبأنهم يُرحِّبون بالأدوات المنهجية التجديدية مثل الأنثروبولوجيا البِنيَوية، والمناهج الكمية، والطرائق الماركسية للتحليل، ويُبدون اهتمامًا حقيقيًّا بها وينجحون في تطبيقها في حالات كثيرة.27 وهم يُبْدون حساسيةً ووعيًا خاصًّا بأشكال الخطاب الاستشراقيِّ المتَّسمة بالتحيُّز العِرقي، ويتميز معظمهم، بسبب حداثة سنِّهم، بالعمل إلى حدٍّ ما خارجَ نطاق نظام «الرعاية» الذي يضمن لشيوخ مهنتهم ما يَنعَمون به من ترَف. وقد برَزَت من صفوفهم «الحلقة الدراسية البديلة لدراسات الشرق الأوسط»، كما ظهر مشروعُ بحوث ومعلومات الشرق الأوسط، وقد أنشئ كِلاهما باعتبارهما منظَّمتَين ترميان بصفةٍ محدَّدة إلى تجنُّب التواطؤ مع الحكومة وشركات النفط. وقد تشكَّلَت مجموعاتٌ مماثلة في أوروبا، وترتبط كلُّ هذه الهيئات بعضها بالبعض. ولا ينتمي جميعُ الباحثين الشبَّان الذين أشير إليهم إلى هذه الهيئات، ولكن معظمهم يبتغون تعديلَ المناهج القائمة وتنقيحَها. وهم يسعَون جميعًا إلى دراسة الإسلام من منظوراتٍ يُهملها أو يجهلها مَن هم أكبرُ سنًّا منهم.
وتتكون المجموعة الثانية من باحثين أكبرَ سنًّا، ولكنهم، لأسباب أكثرَ من أن تُلخَّص تلخيصًا منهجيًّا، يتبعون مناهجَ مُعارضة للدراسات المعتمَدة السائدة في هذا المجال. وعلى سبيل المثال نجد أن حامد الجار، من بیرکلي، ونیكي كیدي من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجیلیس، ينتميان إلى القلةِ القليلة من الباحثين المتخصصين في إيران الذين قاموا، قبل نشوب الثورة الإيرانية بعِدة سنوات، بإيلاء الدور الذي يلعبه علماءُ الدين (رجال الدين الشيعة في إيران) ما يجدر به مِن اهتمام. ويختلف الجار عن کیدي اختلافًا كبيرًا، وإن كان كلٌّ منهما قد أعرب عن تَشكُّكه الكبير في استقرار نظام الحكم البهلوي. وعلى غِرار ذلك قام إرفاند إبراهامیان، من كلية باروخ، بإجراء دراسات للمعارضة العلمانية للشاه، وهي الدراسات التي تضمَّنَت سلسلةً رائعة من النظرات العميقة في الديناميات السياسية للثورة، ومن بعده مايكل ج. فيشر من جامعة هارفارد، وفريد هاليداي في إنجلترا، وهما باحثان دفعَتهما دوافعُ فكرية وأكاديمية إلى الخروج على نظرية الأغلبية إلى إيران، ومن ثَم أجريا دراسات ذاتَ قيمة فذَّة في إيران المعاصرة.28

والطريف أنه من المحال وضعُ تلخيصٍ مُنصف للخصائص المنهجية والأيديولوجية لهؤلاء الذين يكتبون هذه الكتاباتِ عن الإسلام. ومع ذلك فمِن اللافت للنظر أنه ليس من بينهم مَن ينتمي إلى «مؤسسة» دراسات الشرق الأوسط، ولا يعني هذا أنهم شخصياتٌ غير بارزة، أو لا تتمتَّع بالاحترام، فهم في الواقع مُبرَّزون ومحترمون، وإن كان يندر أن نجد بينهم من يعمل فعلًا، أو بحكم الوظيفة مستشارًا للحكومة أو للشركات. وقد يكون ذلك هو ما حرَّرهم من الالتزام بالوضع الراهن ومكَّنهم من رؤيةِ ما أهمله وتجاهله الكُتاب التقليديون عن الإسلام. لكننا لا بد أن نقول إن عملهم، وعمل مجموعة الباحثين الأصغر سنًّا والمشار إليهم آنفًا، لن يُحقق ما هو قادرٌ عليه من تأثير إلا إذا ازداد الدَّور السياسي المنوط بهم في هذا المجتمع. أي إن اعتناقهم لآراء تُميزهم عن الخبراء «المعتمدين» لا يكفي، وعليهم أن يُحاولوا أن يكفلوا الشيوع لآرائهم بين الناس، وهو جهدٌ يتجاوز كثيرًا مجردَ كتابة الدراسات ونشرها، ومن ثَم فهم يُواجهون مستقبلًا حافلًا بالنِّضال السياسيِّ والتنظيمي.

ونرى ثالثًا مجموعةً من الكُتَّاب والدعاة والمفكرين الذين لا يُعتبرون من الخبراء المعتمَدين عن الإسلام، وإن كانت معارضتهم لما هو شائعٌ بصفة عامة هي التي تُحدد دورهم في المجتمع، وهؤلاء هم المناضلون المناهضون للحرب وللإمبريالية، ورجالُ الدين المنشقُّون، والمفكرون والمعلمون الراديكاليون وهلمَّ جرًّا. ونظرتهم إلى الإسلام لا يكاد يربطها شيءٌ بمذهب المستشرقين، وإن كان بعضهم قد تأثَّر بالاستشراق الثقافي الشائع في كل مكان في الغرب. ومع ذلك — إذا أخذنا رجلًا مثل أ. ف. ستون مثالًا — فسوف نجد بعضَ العوامل التي تُخفف من التشكُّك والنفور الثقافي من الإسلام مثل إدراك طبيعة الإمبريالية، وهو الإدراك الذي تنجم عنه مشاعرُ أقوى وأصلب، ومثل إدراك طبيعة المعاناة البشرية سواءٌ كان من يُكابدونها من اليهود أو المسلمين أو المسيحيين. وقد تفرَّد ستون بالتنبُّؤ بعواقبِ استمرار الولايات المتحدة في مُناصرة الشاه بعد الثورة، ولقد كان أمثاله، لا الخبراء الحكوميون أو الأكاديميون في شئون إيران، هم الذين نادَوا باتخاذ سياسات المصالحة مع النظام الثوري.

وأما ما يدعو للإعجاب بهؤلاء الأشخاص فهو أنهم لا يحملون شهادات خبرة رسمية بالإسلام، ولكنَّهم استطاعوا رغم ذلك، فيما يبدو، أن يتَفهَّموا دينامياتٍ معينةً داخل عالم ما بعد الاستعمار؛ ومِن ثَم داخل مناطق أكبر من العالم الإسلامي. وأما التقسيمات الجديرة بالاهتمام في نظرهم فتقوم على أساس الخبرة البشرية لا على أساس «العناوين» التي تحدُّ من القدرة على التفكير مثل «العقل الإسلامي» أو «الشخصية الإسلامية». زِدْ على ذلك أنَّ لديهم اهتمامًا حقيقيًّا بمبدأ التبادُل والمبادلات، واختاروا عامدين أن يتجاوزوا ما رسمته الحكوماتُ من خطوطٍ صارمة للعداوة بين الشعوب. ويخطر على البال هنا أساسًا قيامُ رامزي كلارك بزيارة طهران، والدور الذي يتَّسم بالشجاعة الذي نهض به في أحلك أيام الأزمة الإيرانية أفرادٌ مثل ريتشارد فولك، ووليم سلون كوفين الابن، ودون لوس، وغيرهم ممن لا يُحصيهم العدُّ، إلى جانب بعض المنظَّمات مثل لجنة خدمة الأصدقاء، وممثِّل منظمة «رجال الدين والعلمانيين الذين يَعنيهم الأمر»، وغيرها من المجموعات المماثلة. وعلينا أن نُضيف إلى هذا الحشدِ من المنشقِّين شتى المجلات والمطبوعات و«وكالات الأنباء» البديلة، ومن بينها سبعة أيام والأم جونز، وفي هذا العصر، والجارديان، ووكالة أنباء المحيط الهادي، والمسيحية والأزمة، وهي التي فتحَت صفحاتها وأتاحت مواردَها للآراء المعارضة [للتيار الرسمي] في قضية إيران، وبنسبةٍ أقل، مع الأسف، في قضية الإسلام. وقد تكرَّرَت الظاهرة نفسها في أوروبا.

وأما أهمُّ ما تتسم به هذه المجموعات الثلاث في رأيي فهو أنها تعتبر المعرفة، أساسًا، مطلبًا يسعى المرءُ جاهدًا إلى تحقيقه ومجالًا لاختلاف الآراء، لا مجرد ترديد سلبي للحقائق والآراء المقبولة. والصراعُ بين هذه النظرة، في حدودِ ما يترتب عليها من تأثيرٍ في موقفنا إزاء الثقافات الأخرى، وما يترتب عليها من تأثير في المسائل السياسية الأوسع نِطاقًا، وبين المعرفة المتخصِّصة المؤسَّسية التي تتبنَّاها القُوى المهيمنة في المجتمع الغربي المتقدم؛ صراعٌ بالغ الأهمية. فهو يتخطى ويتجاوز كثيرًا تساؤلَنا عمَّا إذا كان أحدُ الآراء يؤيد الإسلامَ أو يُعارضه، وعما إذا كان المرء يتمتَّع بالوطنية أو يتَّصف بالخيانة. فكلما ازداد ترابطُ عالَمِنا واشتدَّ تشابُك أطرافه، زاد استحسان (وازدادت ضرورة) الرقابةِ على الموارد المحدودة، والمناطق الاستراتيجية والأعداد الكبيرة من السكان. وأما الحرص على تغذية المخاوف من الفوضى والتشتُّت؛ فمن الأرجح أن يؤدِّيَ إلى «قَوْلَبة» الآراء وزيادة التشكُّك في العالم «الخارجي»، ويَصدُق هذا على العالم الإسلامي مثلما يصدق على الغرب. وفي تلك المرحلة، التي بدأت الآن فعلًا، سوف ينهض «إنتاج» المعرفة ونشرها بدورٍ رئيسي حاسم بصورة مطلقة. لكنه حتى يحينَ موعدُ تفهُّمنا للمعرفة في صورها الإنسانية والسياسية باعتبارها شيئًا نكتسبه لفائدة التعايش والترابط، لا من حيث ارتباطُها بأجناسٍ أو أمم أو طبقات أو أديان معينة، فلن يُبشر المستقبلُ بالخير.

ثانيًا: المعرفة والتفسير

تُعتبر جميع المعارف الخاصة بالمجتمع البشري، لا المعارف الخاصة بالعالم الطبيعي، من المعارف التاريخية، ومن ثَم فهي تعتمد على الأحكام والتفسيرات. ولكن هذا لا يعني عدم وجود الحقائق أو البيانات، ولكنه يعني أن الحقائق تكتسب أهميتَها من المعنى الذي تكتسبه في التفسير. فلا يختلف اثنان حول الحقيقة التي تقول إن نابليون قد وُجد وعاش فعلًا وإنه كان إمبراطورًا فرنسيًّا، ولكن الخلافات التفسيرية كثيرةٌ حول ما إذا كان حاكمًا عظيمًا أو حاكمًا جلبَ مَصائبَ من لونٍ ما لفرنسا. وأمثالُ هذه الخلافات هي المادة التي تتشكَّل منها الكتابةُ التاريخية وتُستقَى منها المعرفة التاريخية. فالتفسيرات تعتمد كثيرًا على شخص المفسر، وعلى من يتوجَّه إليه هذا المفسرُ بالخطاب، وعلى الغرض الذي يبغي تحقيقَه من هذا التفسير، وعلى اللحظة التاريخية التي يقوم فيها بالتفسير. وبهذا المعنى يمكن وصفُ جميع التفسيرات بأنها تخضع للسياق أو بأنها سیاقية؛ فهي تقع في سياقِ أوضاعٍ ترتبط بها، ومن ثَم فعلاقةُ هذا السياق بالتفسير علاقة ارتباطية.29 والسياق يرتبط بما يقوله المفسرون الآخرون أيضًا، فقد يؤكِّد صحته، أو يطعن فيها، أو يُمثل استمرارًا لما جاء به المفسِّرون الآخرون. ولا يوجد تفسيرٌ دون سوابقَ أو رابطةٍ ما بغيره من التفسيرات. وهكذا فكلُّ مَن يكتب كتابةً جادة عن الإسلام، أو الصين، أو شيكسبير، أو ماركس، لا بد له أن يأخذ في اعتباره، بصورةٍ ما، ما سبق أن قيل في هذه الموضوعات، ولو اقتصر السبب على رغبة الكاتب في ألا يبدوَ ما كتبه غيرَ ذي صلةٍ بالموضوع أو من باب الحشو الذي لا لزوم له. ولا توجد أي كتابة (بل ولا يمكن أن تكون) جديدة إلى الحد الذي يهَبُها صفةَ الأصالة الكاملة، فالكتابة عن المجتمع البشري ليست حلولًا لمسائلَ في الرياضيات؛ ومِن ثَم فليس للمرء أن يطمح إلى تحقيق الأصالة «الجذرية» الممكِنة في ذلك العلم.
وهكذا فإن المعرفة بالثقافات الأخرى تتعرض بصفةٍ خاصة لعدم الدقة، وهي سِمةٌ «غير عِلمية» كما تخضع لظروف التفسير. ومع ذلك فلنا أن نقول بصفةٍ غير قطعية إن المعرفة بإحدى الثقافات الأخرى ممكنة، ومن المهم أن نُضيف أنها مستحبَّة، إذا ما توافر شرطان اثنان، وهما، بالمناسبة، عين الشرطين اللذَين لا يتوافران اليوم في دراسات الشرق الأوسط أو في الدراسات الإسلامية بصفةٍ عامة. أما الشرط الأول فهو: أنَّ على الدارس أن يشعرَ أنه مسئولٌ أمام الثقافات والأشخاص الذين يدرسهم وأنه على علاقة «غيرِ جَبْرية» معهم. وكما ذكرت آنفًا، كان معظمُ ما عرَفَه الغرب عن العالم غير الغربي قد عرَفَه في إطار الاستعمار، ومن ثم فإن الباحث الأوروبي كان يتناول موضوعَه من موقع السيطرة العام، ويقول ما يقوله عن موضوعه دون الرجوع رجوعًا يُعتدُّ به إلى ما قاله غيرُه من غير الباحثين الأوروبيين. ولقد سبَق لي تعديدُ الأسباب، في هذا الكتاب وفي الاستشراق، التي جعَلَت المعرفة بالإسلام وبالشعوب الإسلامية تنطلق بصفةٍ عامة لا من موقفِ سيطرة ومواجهة فحسب، بل أيضًا من موقفِ نفورٍ ثقافي. فالتعريف السلبي للإسلام اليوم يقول إنه القوة التي يختلف الغرب معها اختلافًا جذريًّا، ومن شأن هذا التوتر أن يُنشئ إطارًا يحدُّ بصورةٍ «جذرية» كلَّ معرفة بالإسلام. وما دام هذا الإطارُ قائمًا استمرَّ الجهل بالإسلام باعتباره خبرةً حيوية يعيشها المسلمون. ويَصدُق هذا، للأسف، وبصفةٍ خاصة في الولايات المتحدة، وكذلك، ولو إلى درجةٍ أقلَّ قليلًا، في أوروبا.

والشرط الثاني يستكمل الشرطَ الأولَ ويفي به. فالمعرفة بدُنيا المجتمع، على النقيض من المعرفة بالطبيعة، هي في أساسها ما دَأَبْتُ على وصفِه بالتفسير: وهي تكتسب مكانة المعرفة بشتى الوسائل؛ بعضُها فكري، والكثير منها اجتماعيٌّ بل وسياسي. والتفسير أولًا وقبل كل شيء شكلٌ من أشكال التكوين والإنشاء؛ أي إنه يعتمد على نشاطٍ عمدي إرادي من جانب العقل البشري، فهو يَصوغ ويُشكل ما يسترعي انتباهَه بحرصٍ ودراسة. ومثل هذا النشاط يجري، بالضرورة، في وقتٍ ومكان محدَّدَين، ويقوم به فردٌ في موقع محدد، له خلفيته المحددة، وفي سياق أوضاعٍ معيَّنة، لتحقيق سلسلةٍ من الغايات الخاصة. ومن ثَم فإن تفسير النصوص، وهو الذي تُبنى عليه أساسًا معرفتُنا بالثقافات الأخرى، لا يجري في مختبَراتٍ يتوافر لها «التأمين» العِلمي الإكلینیكي، ولا يطمح إلى تحقيقِ نتائج موضوعية، بل هو نشاطٌ اجتماعي يرتبط بروابط متشابكةٍ معقَّدة بسياق الأوضاع التي نشأ فيها أولَ ما نشأ، وهذا السياق هو الذي قد يُقرر أنه جديرٌ باكتسابِ مكانة المعرفة وقد يرفضه استنادًا إلى أنه لا يُلائم تلك المكانة. ومن المحال أن يتَجاهل التفسير سياقَ هذه الأوضاع، أو أن يكتمل التفسير دون تفسيرٍ لتلك الأوضاع.

والواضح أن بواعث الإزعاج «غير العلمية» مثل المشاعر والعادات والأعراف والتداعيات والقيم تُعتبر جزءًا لا يتجزَّأ من أي تفسير، فكلُّ مفسر قارئ، ولا يوجد مَن يمكن أن نعتبره قارئًا محايدًا أو خاليًا من القيم، أو بعبارةٍ أخرى، كلُّ قارئ يجمع بين ذاته الخاصة وبين انتمائه إلى مجتمعٍ ما، وتربطه روابطُ من شتى الألوان والأشكال بذلك المجتمع. والمفسر في عمله يخوضُ غِمار مشاعرَ قومية، مثل الوطنية أو النَّعَرة القومية وأحاسيس شخصية أخرى مثل الخوف أو اليأس، ولا بد من ثَم أن يُحاول بأسلوبٍ منضبطٍ استعمالَ العقل والمعلومات التي اكتسبها من التعليم الرسمي، (وهي التي تُمثل في ذاتها جهدًا مديدًا في التفسير)؛ حتى يصلَ إلى مرحلة الفهم. أي إنه لا بد من بذلِ جهد كبير لاختراق الحواجز القائمة بين سياقِ أوضاعٍ معيَّنة، وهو السياق الخاصُّ بالمفسر، وسياق أوضاع أخرى، وهو السياق الذي كان قائمًا عندما وحيثما كُتب ذلك النص. وهذا الجهد الإراديُّ الذي يبذله القارئُ واعيًا — أي جهدُ تخطِّي المسافات والحواجز الثقافية — هو الذي يُمكِّنه من معرفة المجتمعات والثقافات الأخرى، وهو الذي يحدُّ في الوقت نفسِه من تلك المعرفة. ففي تلك اللحظة يفهم المفسرُ نفسَه في سياقه الذاتي، ويفهم النصَّ في السياق الخاص به؛ أي في السياق الإنساني الذي نشأ النصُّ فيه. ولن يتأتَّى هذا إلا من خلال الوعي بالذات الذي يَغْذو الوعي بما هو بعيدٌ وأجنبي وإن كان بشريًّا على كل حال. ولا أظننا في حاجةٍ إلى تبيان أن هذا الجهد كلَّه لا علاقة له بما يُشير إليه المستشرق التقليدي من وجود «معرفة جديدة تختلف اختلافًا كاملًا»، أو بما يذكره الأستاذ بایندر عن «المباحث العِلمية» التي تُصحح نفسها بنفسها.

ولا بد من ذكر عنصرٍ آخر من عناصر هذا الوصف، الذي يتَّسم بقدرٍ ما من التجريد، لجهد التفسير الذي يصل المرءُ في نهايته إلى المعرفة، وهي التي لا تتَّسم بالثبات والاستقرار: من المحال أن يُقْدِم أحدٌ على التفسير الذي يؤدِّي إلى الفهم ثم إلى المعرفة دون اهتمام شخصي. وقد يبدو ذلك من أشد البديهيات ابتذالًا، ولكن هذه الحقيقة الواضحة إلى حدٍّ كبير هي التي عادةً ما تتعرَّض للتجاهل أو الإنكار. فالباحث الأمريكي الذي يقرأ ويفسر قصةً طويلةً معاصرة كُتِبت باللغة العربية أو اليابانية، يبذل في «الاشتباك» مع موضوعٍ أجنبي جهدًا يختلف كلَّ الاختلاف عن جهد الكيميائي في تفسير معادلةٍ كيميائية. فالعناصر الكيميائية لا تُثير المشاعرَ في ذاتها، ولا «تشتبك» مع الأحاسيس البشرية للشخص، ولو أننا قد نجد أن هذه العناصرَ ربما أثارت تداعياتٍ عاطفيةً لدى العالِمِ لأسبابٍ لا تتصل بهذه العناصر ذاتِها من قريبٍ أو بعيد. والعكس هو الصحيح فيما يمكن أن نُطلق عليه صفةَ التفسير الإنساني، وهو يبدأ فعلًا، وَفقًا لما يقوله الكثيرون من «المنظرين»، بإدراك أهواء المفسر، والإحساس بأنه غريبٌ عن النص الذي يُفسره وهلم جرًّا. ولقد كتب هانز-جورج جادامار يقول:
يتأهَّب كلُّ مَن يحاول أن يفهم نصًّا من النصوص لما سوف يُخبره به ذلك النصُّ؛ ولذلك فإن كل ذهن مدرَّب على التفسير لا بد أن يكون واعيًا، منذ البداية، بصفة الجِدَّة في ذلك النص. ولكن ذلك اللون من الوعي لا يعني «الحياد» إزاء المادة المطروحة ولا إلغاءَ ذات القارئ، لكنه يعني أن يتَمثَّل القارئ واعيًا أهواءه ومعانيَه المسبقة [أي المعاني والتفسيرات القائمة سلفًا في الذهن نتيجةَ الخبرات السابقة] وأهمُّ ما في الأمر هو أن يكون القارئ على وعيٍ بانحيازه الخاص، بحيث يُقدِّم النصَّ نفسَه إليه بكل ما فيه من جِدة، ويتمكَّن القارئ بذلك من تأكيد صِدق النص بالرجوع إلى المعاني المسبقة في ذهنه.30

وهكذا فإن أول ما ينبغي أن يتوافر الوعيُ به عند قراءة نصٍّ أنتجَتْه ثقافةٌ أجنبية هو المسافة التي تَفصله عنا، والشرط الرئيسي لوجود هذه المسافة (الزمنية والمكانية) هو، دون مبالغة، وجودُ المفسِّر في زمنه ومكانه، وإن لم يقتصر الشرطُ على ذلك. وكما سبق أن رأينا، يقوم المنهجُ المتبَع في دراسات المستشرقين، أو في «دراسات المنطقة» على معادلة المسافة بالسلطة، أي على إدراج عنصر الطابَع الأجنبي للثقافة النائية في قواعد الكتابة الأكاديمية التي تُوحي بأنها المرجعُ الموثوق به، والتي تتمتَّع بالمكانة الاجتماعية للمعرفة، دون اعترافٍ بما فرَضه ذلك الطابَعُ الأجنبي على المفسر، ودون إقرارٍ بهیكل السلطة الذي مكَّن المفسِّرَ من أداء عمله. والذي أعنيه ببساطة: هو أنه لا يكتب اليوم كاتبٌ في الغرب شيئًا عن «الإسلام»، دون استثناءٍ تقريبًا، وهو يُدرك بوضوحٍ أن ذلك «الإسلام» يعتبر ثقافةً مُعادية، وأن أيَّ شيء يقوله كاتبٌ محترف عن الإسلام يقع في منطقة نفوذ الشركات والحكومة، وأن كُلًّا من هذين يلعب دورًا بالغَ الضخامة في إخراج هذه التفسيرات، ومن بعدها المعرفة بالإسلام، وجعلها «في خدمة المصلحة القومية». وخير مثالٍ على هذا موقفُ لینارد بایندر، في الحجة التي قمتُ بتحليلها آنفًا؛ إذ إنه يشير إلى هذه المسائل ثم يجعلها تختفي في الجملة التي يُعرب فيها عن التبجيل لروح المهنة، و«المباحث العلمية» التي تعتبر وظيفتها الجماعية الأسلوب الفعَّال القادر على رفض كلِّ ما من شأنه المساسُ بقناع الموضوعية العقلانية الذي تضعه على وجهها. وهذا مثالٌ على المعرفة المقبولة اجتماعيًّا التي تمحو الخطوات التي أدَّت إلى إنتاجها.

ولْنزِد الآن من إيضاح معنى «الاهتمام» باعتباره جانبًا من جوانبِ التفسير بأمثلةٍ عمَلية. فالغربيُّ لا يتصادف أن يهتمَّ بالإسلام أو بالثقافة الإسلامية أو المجتمع الإسلامي، والمواطن الذي ينتمي إلى دولةٍ صناعية غربية اليوم لا يلتقي بالإسلام إلا بسببِ أزمةٍ سياسية نفطية، أو بسبب التركيز الإعلامي المكثَّف، أو بسبب التقاليد العريقة للخبراء ﺑ «الإسلام»، أي للمستشرقين، في شرح الإسلام وإيضاحِه في الغرب. وانظر إلى أيِّ باحث شابٍّ في التاريخ يرغب في التخصص في التاريخ الحديث للشرق الأوسط. إنه يبدأ دراسته للموضوع في ظلِّ تأثير العوامل الثلاثة المذكورة، وكلُّها يشترك في تشكيل وصياغة السياق الذي يُدرك الباحثُ فيه «الحقائق»؛ أي ما يفترض أنه البيانات الأوَّلية. وبالإضافة إلى ذلك تتدخلُ عواملُ أخرى، مثل التاريخ الشخصي للفرد، وحساسيته، ومواهبه الذِّهنية، وهي في مجموعها تُشكِّل قدرًا كبيرًا من اهتمامه بالموضوع: ونرى التوازن بين حبِّ الاستطلاع الخالص، وبين الأمل في حصولٍ على وظيفة مستشار بوزارة الخارجية الأمريكية، أو بإحدى شركات النفط، والرغبة في تحقيق الشهرة في البحث العلمي، أو في «إثبات» أن الإسلام نظامٌ ثقافي رائع (أو حتى رهيب) والطموح في أن يكون جسرًا بين هذه الثقافة وتلك، والرغبة في المعرفة. وإلى جانب ذلك نرى أن النصوص والأساتذة والتقاليد البحثية، واللحظة التاريخية المعينة، قد بدأتْ تطبع بطابَعِها ما سوف يدرسه الباحثُ الصغير. ولا بد من النظر إلى أمورٍ أخرى أيضًا في نهاية المطاف. فإذا كان الباحث قد درَس تاريخَ حيازة الأرض في سوريا في القرن التاسع عشر، مثلًا، فالأرجح أن تكون لدراسةِ الموضوع، مهما تبلغ درجةُ جَفافها و«موضوعيتها»، أهميةٌ للسياسة المعاصرة، خصوصًا للمسئول الحكومي الحريصِ على تفهُّم ديناميَّات السلطة التقليدية (وهي التي ترتبط بحيازة الأرض) في سوريا المعاصرة.

لكنه إذا حدَث أولًا أنْ بذل فردٌ بعضَ الجهد للاتصال الطوعي بالثقافة النائية، وحدَث ثانيًا أنْ أدرك هذا «المفسر» كلَّ الإدراك طبيعةَ سياق الأوضاع التي يتولى فيها التفسير (أي إذا فهم أن المعرفة بثقافةٍ أخرى ليست مُطلقةً بل نِسبية؛ أي تعتمد إلى حدٍّ ما على السياق الذي نشأَت فيه)، فالأرجح أن يتبيَّن المفسرُ أن النظرة المعتمَدة إلى الإسلام، وإلى الحضارات «الأجنبية» نظرةٌ محدودة وقاصرة إلى حدٍّ بعيد. وفي مقابل هذا نجد أن المعرفة بالإسلام، من وجهة النظر المضادَّة، تقطع فيما يبدو شوطًا بعيدًا على طريق التغلُّب على أوجُهِ القصور في النظرات المعتمَدة. ورفضُ الباحثين المضادِّين لضرورة إخضاع المعرفة بالإسلام للمصالح السياسية الحكومية؛ هو الذي يجعلهم يؤكِّدون التواطؤَ بين المعرفة والسلطة. وفي غِمار ذلك يسعَون إلى إقامة علاقات بالإسلام تختلف عن العلاقات التي تأمر بها مقتضياتُ السلطة. والبحث عن علاقات بديلةٍ معناه البحثُ عن سياقات تفسيرية أخرى، ومن ثم يتكوَّن لديهم وعيٌ منهجي أقربُ كثيرًا إلى الدقة.

ومع ذلك فلن نستطيع أن نجد أبدًا مخرجًا أو مَهربًا مُيسَّرًا مما وصفه بعضُ النقاد بأنه دائرة التفسير المغلقة. ونقول بإيجازٍ إن المعرفة بِدُنيا المجتمع من المحال أن تتفوق يومًا ما على التفسيرات التي تقوم عليها. فمعرفتنا بأي ظاهرة بالغةِ التعقيد والمراوغة، مثل الإسلام، تأتينا من خلال نصوصٍ وصور وخبرات لا تُجسد الإسلامَ تجسيدًا مباشرًا حاضرًا، (وهو الذي لا نفهمه إلا من خلال الأمثلة عليه)، بل تُعتبر تفسيراتٍ له أو حالاتٍ تُمثله. وبعبارة أخرى، تأتي المعرفة بالثقافات أو المجتمع أو الأديان الأخرى من خلال التمازُج بين الأدلة غير المباشرة وبين الوضع الشخصي للباحث الفرد، وهو الذي يضمُّ الزمن والمكان والمواهب الشخصية والأوضاع التاريخية، إلى جانب الظروف السياسية العامة. وأما ما يجعل تلك المعرفةَ دقيقةً أو غيرَ دقيقة، أو يقطع بأنها فاسدةٌ أو صحيحة أو أدنى مِن سواها فيتعلق أساسًا بمتطلبات المجتمع الذي تنشأ فيه هذه المعرفة. ويوجد، بطبيعة الحال، مستوًى بسيطٌ للصدق الواقعي يستحيل دونه وجودُ أي معرفة، فكيف يتسنَّى للمرء مثلًا أن «يعرف» أحدٌ شيئًا عن الإسلام في المغرب دون أن يعرف اللغة العربية، ولغة البربر، ودون الإحاطة ببعض المعلومات عن البلد والمجتمع الذي يعيش فيه؟ أما إذا تجاوَزْنا هذا المستوى فسوف نرى أن المعرفة بالإسلام في المغرب لا تنحصرُ في مجرَّد اتفاق ما يوجد هناك مع ما نراه هنا، أي التوافق بين شيءٍ لا حياة فيه وبين مَن ينظر إليه، بل هي تفاعلٌ ما بين الاثنين (عادةً) لتحقيق غرضٍ هنا: مثل كتابة مقالٍ متخصص، أو إعداد محاضرة، أو إسداء المشورة لأحدِ واضعي السياسات. فإذا تحقق الغرضُ اتجه الرأيُ إلى أن المعرفة قد توافرَت. وتوجد أوجهُ انتفاع أخرى بالمعرفة (ومن بينها الانتفاعُ بعدم نفعِها ذاته)، ولكن الأوجُه الأساسية هي توظيفها أو التوسُّل بها لتحقيق غايةٍ ما.
وهكذا فإن ما نعتبره معرفةً يتكوَّن في الواقع من عناصرَ شديدة التنوُّع، وتتحكم فيها الحاجةُ الخارجية إليها أكثرَ مما تتحكم فيها الحاجة الداخلية (والتي نادرًا ما تكون داخليةً على أية حال). وهكذا فإن دراسة الصفوة أو النخبة الإيرانية في ظل نظام الحكم البهلوي التي يقوم بإعدادها دارسٌ أكاديمي أمريكي ذو مؤهلات معتمدة؛ قد تكون ذاتَ نفعٍ لواضِعي السياسات الذين يتَصدَّون للتعامل مع ذلك النظام الإمبراطوري، ولكن الخبير بالشئون الإيرانية الذي لا يأخذ بالنظرة «المعتمَدة»؛ سيجد هذه الدراسةَ ذاتَها غاصَّةً بالأخطاء والأحكام الفاسدة.31 ولكن معايير الحكم التي تختلف اختلافاتٍ جذريةً فيما بينها، لا تعني أننا في حاجةٍ إلى معاييرَ أفضل، ومطلقات أشدَّ ثباتًا، بل عليها أن تُذكِّرنا أن مِن طبيعة التفسير أن تعود بنا إلى المشكلات التي يُثيرها التفسيرُ نفسُه، وإلى طرح الأسئلة التالية: لمن، ولأيِّ غرض، ولماذا نجد أن هذا التفسيرَ أشدُّ إقناعًا في هذا السياق مِن سواه؟ إن التفسير والمعرفة، بل، كما قال ماثيو أرنولد، والثقافةَ نفسَها، دائمًا ما تكون ثمرةً للمنازعات، لا هِبةً أنعَمَت بها السماءُ علينا!
وهكذا فإن القضية التي أطرحُها في هذا الكتاب تقول إن التغطية «المعتمدة» للإسلام التي نجدها في الدوائر الأكاديمية، ترتبط بما نجده في الحكومة، وفي أجهزة الإعلام بروابط متداخلة، وإنها أشدُّ انتشارًا وأشدُّ، فيما يبدو، إقناعًا ونفوذًا في الغرب عن أيِّ «تغطيةٍ» أو تفسيرٍ آخَر. ومن الممكن أن يُعْزَى نجاحُ هذه التغطية إلى النفوذ السياسي للأشخاص والمؤسسات التي تتولاها، وليس بالضرورة إلى صِدقها أو دقَّتها. كما أقمتُ الحجة على أن هذه التغطية قد ساعَدَت في تحقيق أغراض لا تتصل بالمعرفة الفعلية للإسلام إلا بأوهنِ الروابط. وكانت النتيجة هي الانتصارات لا لنوعٍ خاص من المعرفة بالإسلام فحسب، بل لتفسيرٍ خاص لم يَسْلم على أي حالٍ من الطعن فيه، ولم تثبت حَصانته ضد اختراق الأسئلة التي وجَّهَتها الأذهانُ المتفتحة الوقائية «غير المعتمدة»!

ومن ثَم فقد يكون من الخير أن أحدًا لم يستطع الانتفاعَ ﺑ «الإسلام» بصفة خاصة في تفسير نشوب الحرب بين إيران والعراق، تمامًا مثلما لم تُجْدِ الأفكارُ الخاصة ﺑ «العقلية الزنجية» في تفسير خبراتِ الأمريكيين من ذَوي البشرة السوداء في القرن العشرين. فإن هذه المفاهيمَ الشمولية، بغضِّ النظر عن الرضى النرجسيِّ الذي يستقيه الخبيرُ منها وكثيرًا ما يعتمد في كسبِ رزقه عليها، لم تنجح في مُسايرة قوةِ الأحداث نفسِها أو القُوى المعقَّدة التي أدَّت إلى وقوع هذه الأحداث. وكانت النتيجة هي اتساعَ الفجوةِ باطِّرادٍ بين ما تؤكده هذه المفاهيمُ التي تفرض أو تفترض التجانسَ وبين ما يتَّسم به التاريخ الفعليُّ من حقائقَ ونقاطِ انقطاعٍ أشدَّ قوة. وأحيانًا ما كنا نرى فردًا يَنفُذ من هذه الفجوة لِيَطرح أسئلةً تتصل اتصالًا مباشرًا بالواقع ويتوقَّع إجاباتٍ معقولة.

لا يستطيع أحدٌ أن يُحيط بكل شيء عن العالم الذي نعيش فيه، وهكذا لا بد أن يستمرَّ تقسيم العمل الفكري قائمًا في المستقبل المنظور. فالعمل الأكاديمي يتطلَّب هذا التقسيم، والمعرفة نفسُها تقتضيه، وتنظيم المجتمع في الغرب يقوم عليه، ولكنني أعتقد أن معظم أشكال المعرفة بالمجتمع البشريِّ متاحةٌ، في نهاية الأمر، لِذَوي الإدراك السليم — وأقصد به الإدراكَ الذي ينشأ من الخبرات الإنسانية المشتركة — وأنه يخضع، بل لا بد أن يخضع حقًّا، لِلَونٍ ما من التقييم النقدي. وهاتان الصفتان؛ أي الإدراك السليم والتقييم النقدي، هما في آخِر المطاف، من الصفات الاجتماعية والفكرية العامة المتاحة للجميع، ويستطيع كلُّ إنسان غرْسَها وتنميتَها في ذاته، وليست من امتيازاتِ طبقةٍ خاصة أو حَكْرًا على حَفْنةٍ من «الخبراء» المعتمدين. ومع ذلك فلا بد من الدراسة الخاصة؛ إن أراد المرء أن يتعلم اللغة العربية أو الصينية، أو إذا أراد المرء أن يفهمَ معنى التيارات الاقتصادية والتاريخية والسكانية. والجامعةُ هي المكان الذي يُتيح مثلَ تلك الدراسة، ولا شك عندي في ذلك على الإطلاق. وأما المتاعب فتنشأ حين تُؤدِّي الدراسةُ إلى تكوين طوائفَ مغلقة، يفقد أعضاؤها الصلةَ بحقائقِ المجتمع الواقعية، والحصافة، والمسئولية الفكرية، فيعملون على تعزيز الطائفة بأيِّ ثمن أو يجعلونها، طائعين ودون طرحِ أسئلة، في خدمة السُّلطة. وفي كِلا الحالَين ينتهي الأمرُ بالمجتمعات أو الثقافات الأجنبية، مثل الإسلام، إلى التغطية بالمعنى الحرفيِّ أكثر مما تنال من الإيضاح أو الفهم. بل إننا نُواجه هنا خطرَ اختراع أكاذيبَ جديدة، وترويج أنواع لم يسمع بها أحدٌ من «المعلومات» الخاطئة.

لم يتوقَّف سيل الأدلة المتاحة للجميع، في أيِّ لحظة تقريبًا على امتداد السنوات القليلة الماضية، على أن العالم غير الغربي بصفةٍ عامة، والإسلام بصفة خاصة، لم يعودا يلتزمان بالأنساق التي وضعَها علماءُ الاجتماع والمستشرقون وخبراء المناطق من أمريكيِّين وأوروبيين في السنوات التي أعقَبَت الحربَ العالمية الثانية مباشرة. ومن الصحيح قطعًا أن العالم الإسلاميَّ بصفة عامة لا يتخذ مواقفَ العداء الكامل لأمريكا والاتحاد السوفييتي، ولا هو موحَّدٌ فيما يفعله بل ولا يمكن التنبؤ بما يفعل. ولم أحاول أن أقدِّم وصفًا كاملًا لهذه التغييرات، ولكنني قلتُ إن معناها هو بروز حقائقَ واقعية جديدة «غير منتظمة» في العالم الإسلامي. ومن الصحيح أيضًا أن مظاهر «عدم انتظام» مشابهة قد برَزَت في المناطق الأخرى التي تحرَّرَت من الاستعمار في عالم اليوم، وهو ما عكَّر صفْوَ الهدوء النظري الذي ساد الحديثُ عنه في السنوات السابقة. ومن الحمق، بطبيعة الحال، إعادةُ تأكيد وتَرْديد القوالبِ القديمة عن «التخلف» و«العقلية الأفروآسيوية»، ولكن ربط هذه القوالب سببيًّا (أي إرجاع أسبابها إلى) ما يُقال عن التدهور المحزن للغرب، والنهاية المؤسفة للاستعمار، والتقلُّص الذي يُؤسَى له للقوة الأمريكية، معناه — ولا بد أن أصوغ ذلك بأشدِّ لهجة ممكنة — حمقٌ فاحش. ولنقل وحَسْبُ إنه من المحال إرغامُ مجتمعات تبعد آلافَ الأميال مكانًا وهُويةً عن عالم الأطلسي أن تلتزم بما نريده منها. ويمكن اعتبار ذلك حقيقةً مُحايدة حتى دون اعتبارها (كما أعتبرها أنا) من الحقائق المفيدة. وعلى أي حال فإن الخطر المتمثل في الجمع بين فقدان إيران وتدهورِ الغرب في أحاديثنا هو أن نغلق في وجوهنا إمكانيةَ معظم سبل العمل — إلا صعود نجم الغرب واسترجاع أماكنَ معينةٍ مثل إيران والخليج. وأما النجاح الذي أصابه في الآونة الأخيرة أولئك الخبراءُ الذين يَنْعُون في غِمار عملهم نهايةَ السيطرة البريطانية، أو الأمريكية أو الفرنسية على العالم الإسلامي فيُعتبر، في رأيي، شهادةً مُخِيفة على ما قد يختفي داخلَ عقول واضعي السياسات، وعلى ما يَغْذوه في الحقيقة هؤلاء «الخبراء»، عن وعيٍ أو دون وعيٍ، من حاجةٍ عميقة الجذور إلى العدوان وإعادة الغزو.32 وأما وجود البعض من أبناء تلك البلاد «المطيعين» الذين يقومون في العزفِ في الفرقة الموسيقية نفسِها فينتمي إلى التاريخ البذيءِ للتعاون مع الغُزاة وليس (كما يزعم البعض) من دلائل النُّضج الجديد في العالم الثالث.

ولو لم تكن أغراض الغزو المذكورةُ كامنةً ما قيل ما يُقال بصفةٍ عامة عن «الإسلام» في الغرب اليوم. وعلينا فورًا تقديمُ البديل: فإذا كان تعبير «الإسلام» لا يحمل لنا من الدلالات إلا ما يقلُّ كثيرًا عما ينبغي أن يحمله، وإذا كانت «التغطية» باستخدام هذا التعبير تُغطِّي، بمعنى تُخفي، أكثرَ مما تُظهر، فأين عَسانا، أو بالأحرى كيف نستطيع أن نجدَ المعلومات التي لا تَحُضُّ على أحلام جديدة بالقوة، أو تُنمِّي المخاوف وضروبَ التحيُّز القديمة؟ لقد ذكرتُ في هذا الكتاب ووصفتُ أحيانًا أنواعَ البحث التي تعود بأجلِّ الفائدة في هذا الصدد، وقلتُ إن نقطة الانطلاق فيها جميعًا هي اعتبار أنَّ كلَّ معرفةٍ تفسيرٌ، وأنَّ على التفسير أن يكون شديدَ الحساسية فيما ينتهجه من مناهج، وما يضعه من أهدافٍ حتى يتحلَّى باليقظة وبالتراحُم الإنساني، وحتى يصلَ أيضًا إلى المعرفة. ولكن كل تفسير للثقافات الأخرى، وخاصةً للإسلام، ينطوي أساسًا على الاختيار الذي يُواجهه الباحث الفردُ أو المفكِّر الفرد: هل يُسَخِّر الفكرَ لخدمة السلطة، أم لخدمة النقد والمجتمع والحسِّ الأخلاقي؟ وهذا الاختيار يجب أن يكون أُولى خُطوات التفسير اليوم، ولا بد أن يؤدِّيَ إلى اتخاذ قرارٍ ما، لا إلى التأجيل وحسب. وإذا كان تاريخ المعرفة بالإسلام في الغرب قد ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالغزو والهيمنة، فلقد آنَ الأوانُ لقطع هذه الروابط قطعًا مُبرمًا. ولا نستطيع مهما قُلنا أن نبالغ في تأكيدِ ضرورة ذلك. هذا، وإلا فسوف نجد أننا لا نواجه التوترَ فقط، بل وربما الحرب أيضًا، بل سوف نُقدم إلى عالم المسلمين، وإلى شتى مجتمعاتهم ودُوَلهم، احتمالَ نشوبِ حروب كثيرة، ومعاناةٍ لا يتصوَّرها العقل، وفورات تأتي بالفواجع، وليس أقلَّها خطرًا مولدُ نوع من «الإسلام» المتأهِّب تمامًا للنهوض بالدور الذي أعَدَّته له قُوى الرجعية، والتزمُّت واليأس. وحتى لو حكَمنا بأشدِّ المعايير إغراقًا في التفاؤل فلن نجد ما يُثلج الصدر في هذا الاحتمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤