الْأَسَدُ الطَّائِرُ

(١) الْأُقْحُوانَةُ الْحَمْراءُ

الْمَواطِنُ الْأَفْرِيقِيَّةُ تَتَكاثَرُ حَوْلَها الْأَساطِيرُ الْمُعْجِبَةُ الرَّائِقَةُ.

لِكُلِّ مَوْطِنٍ أَساطِيرُهُ الَّتِي تَكشِفُ عَنْ خَصائِصِ حَياتِهِ.

فِي بُقْعَةٍ جَمِيلَةٍ مِنْ بِقاعِ الْغاباتِ الْأفْرِيقِيَّةِ نَشَأَتْ فَتاةٌ طَيِّبَةٌ، ذَكِيَّةُ الْقَلْبِ، قَوِيَّةُ الْعَزْمِ، مُرْهَفَةُ الْحِسِّ، اسْمُها «الْأُقْحُوانَةُ».

كانَتِ الْبِيئَةُ الَّتِي تَرَعْرَعَتْ فِيها «الْأُقْحُوانَةُ» بِيئَةً طَبِيعِيَّةً طَلْقَةً، تَرْتَعُ فِيها أَنْواعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْحَيَوانِ، كالْغِزْلانِ، وَأَبْقارِ الْوَحْشِ، وَالْغِرْبانِ، والْبَبَّغاواتِ، والْعَصافِيرِ.

أَلِفَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» عِشْرَةَ الْحَيَوانِ، تَتَوَدَّدُ إِلَيْهِ، وَتُجَهِّزُ لَهُ الطَّعامَ، وَتَتَعَرَّفُ حاجاتِهِ فَتَقْضِيها لَهُ، وَتَمْنَعُ عَنْهُ الْأَذَى والشَّرَّ.

عَرَفَ سُكَّانُ الْبُقْعَةِ جَمِيعًا — مِنْ ناسٍ وحَيَوانٍ — أَنَّ «الْأُقْحُوانَةَ» ذاتُ عَقْلٍ راجِحٍ، وَرَأْيٍ سَدِيدٍ، وَخِبْرَةٍ نادِرَةٍ، وَقَلْبٍ كَبِيرٍ.

figure
«الْأُقْحُوانَةُ» تَدْرُسُ خَصائِصَ الْأَعْشابِ والنَّباتاتِ.

كانَ النَّاسُ كَثِيرًا ما يَسْتَشِيرُونَها فِي كُلِّ مُعْضِلَةٍ يَبْحَثُونَ لَها عَنْ حَلٍّ، وَكَثِيرًا ما كانُوا يَجْعَلُونَها حَكَمًا بَيْنَهُمْ فِي كُلِّ ما يَنْشَأُ مِنْ خِلافٍ.

عَرَفَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» جانِبًا مِنْ خَصائِصِ الْأَعشابِ الَّتِي تُخْرِجُها الْأَرْضُ، وَعَلَّمَتْها التَّجارِبُ فَوائِدَ ما لِكُلِّ نَباتٍ فِي الْغابَةِ؛ فَلَمْ تَكُنْ تَجْهَلُ شَيْئًا مِنَ الْخَصائِصِ والْمَزايا لِسائِرِ الْأَعْشابِ والنَّباتاتِ.

فَهِمَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» لُغاتِ أَصْدِقائِها مِنَ الطَّيْرِ والْحَيَوانِ حِينَ تَتَحاوَرُ، وَيَتَحَدَّثُ بَعْضُها إِلَى بَعْضٍ.

أَدْرَكَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» كَثِيرًا مِنْ أَسْرارِ الطَّبِيعَةِ، فَكانَتْ تَتَنَبَّأُ بِمَواقِيتِ الْمَطَرِ، والْغَيْمِ، والصَّحْوِ، وَكُسُوفِ الشَّمْسِ، وَخُسُوفِ الْقَمَرِ.

figure
الْأَسَدُ الطَّائِرُ يَعِيثُ فِي الْأَرْضِ فَسادًا.

كَذلِكَ عُنِيَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» بِشُئُونِ أَهْلِ الْغابَةِ؛ ناسِها وَحَيَوانِها، تُفَكِّرُ فِيما يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالنَّفْعِ، وَتَعْمَلُ عَلَى دَفْعِ أَسْبابِ الشَّرِّ والْأَذَى عَنْهُمْ، وَتَحْمِلُ هَمَّ الصَّغِيرِ والْكَبِيرِ مِنْهُمْ عَلَى السَّواءِ.

هكَذا أَصْبَحَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» زَعِيمَةَ أَهْلِ الْبُقْعَةِ، يُحِبُّها الْجَمِيعُ أَصْدَقَ الْحُبِّ، وَيَفْزَعُونَ إِلَيْها عِنْدَ الْحاجَةِ، وَيُرَدِّدُونَ اسْمَها فِي كُلِّ مَكانٍ.

عاشَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» مَعَ قَوْمِها فِي ثَباتٍ وَنَباتٍ، يَنْعَمُونَ بِالْحَياةِ فِي طُمَأْنِينَةٍ وَأَمانٍ.

لكِنَّ أَمْرًا واحِدًا شَغَلَ خاطِرَ «الْأُقْحُوانَةِ»، وَحَيَّرَ عَقْلَها، وَعَجَزَتْ عَنْ حَلِّ مُشْكِلَتِهِ.

لَعَلَّكُمُ الْآنَ اشْتَقْتُمْ — أَيُّها الْأَعِزَّاءُ — إِلَى تَعَرُّفِ هذا الْمُهِمِّ الَّذِي أَعْجَزَ «الْأُقْحُوانَةَ الْحَمْراءَ».

إِنِّي مُخْبِرُكُمْ بِأَمْرِهِ، وَقاصٌّ عَلَيْكُمْ نَبَأَهُ: كانَ الْأَسَدُ الطَّائِرُ هُوَ الَّذِي حَيَّرَ «الْأُقْحُوانَةَ الْحَمْراءَ»، وَشَغَلَ خاطِرَها. اسْتَمَرَّ الْأَسَدُ الطَّائِرُ طُولَ الْوَقْتِ يَعِيثُ فِي الْأَرْضِ فَسادًا، وَلا يَسْتَطِيعُ مُقاوَمَتَهُ أَحَدٌ.

بَذَلَ النَّاسُ كُلَّ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قُوَّةٍ وَجُهْدٍ، دُونَ أَنْ يُوَفَّقُوا إِلَى وَسِيلَةٍ تُنْقِذُ الْبِلادَ مِنْهُ، وَتُرِيحُ الْخَلْقَ مِنْ عُدْوانِهِ.

(٢) عَرِينُ الْأَسَدِ الطَّائِرِ

تَسْأَلُونَنِي عَنِ الْأَسَدِ الطَّائِرِ: «ما هُوَ؟»

كانَ الْأَسَدُ الطَّائِرُ وَحْشًا ضارِيًا، لا تَعْرِفُ الرَّحْمَةُ إِلَى قَلْبِهِ سَبِيلًا … كانَ مَنْهُومًا لا يَشْبَعُ … كانَ يَلْتَهِمُ كُلَّ ما يُصادِفُهُ فِي طَرِيقِهِ … كانَ لا يَرْحَمُ عَجُوزًا أَوْ صَبِيَّةً … لا يُفْلِتُ مِنْ يَدِهِ شَيْخٌ أَوْ غُلامٌ!

ذاعَ أَمْرُهُ فِي أَرْجاءِ الْبِلادِ … عَرَفَتْ جُمُوعُ النَّاسِ مِنْ أَنْبائِهِ الْمُفَزِّعَةِ ما مَلَأَ قُلُوبَهُمْ رُعْبًا.

تَناقَلَ الرُّواةُ عَنْه أَنَّهُ شَيَّدَ لِنَفْسِهِ قَصْرًا، لِيَكُونَ عَرِينًا لَهُ، مِنْ عِظامِ الْمَخْلُوقاتِ الَّتِي افْتَرَسَها!

حاوَلَ النَّاسُ الْخَلاصَ مِنْهُ، فَلَمْ يَجِدُوا أَيَّ سَبِيلٍ.

حارُوا جَمِيعًا فِي أَمْرِ هذا الْوَحْشِ الْمُفْتَرِسِ.

امْتَلَأَتْ نَفْسُ «الْأُقْحُوانَةِ الْحَمْراءِ» حُزْنًا وَهَمًّا، لِما يُكابِدُهُ أَهْلُها مِنْ بَغْي الْأَسَدِ الْجَرِيءِ.

سَأَلَتْ أَباها — ذاتَ يَوْمٍ — وَهِيَ مَحْزُونَةُ الْقَلْبِ، لِما يُعانِيهِ قَوْمُها مِنْ إِيذاءٍ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ: «أَنْتَ تَعْلَمُ — يا أَبِي — إِلَى أَيِّ مَدًى ضَجِرَ النَّاسُ بِأَمْرِ هذا الْوَحْشِ، وامْتَلَأَتْ قُلُوبُهُمْ رُعْبًا وَهَلَعًا. إِنَّهُمْ فَزِعُونَ جِدًّا، لا يَأْمَنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. يا رُبَّ امْرَأَةٍ خَرَجَتْ فِي الصَّباحِ مِنْ بَيْتِها، لِتَغْسِلَ ثِيابَها وَثِيابَ زَوْجِها، فَلَمْ تَرْجِعْ إِلَى الْبَيْتِ، وَرَاحَتْ فَرِيسَةً لِذلِكَ الْجَبَّارِ الْقاسِي! يا رُبَّ صَبِيٍّ مَضَى يَتَنَزَّهُ، بَعِيدًا عَنْ بَيْتِهِ، فَما شَعَرَ إِلَّا بِالْأَسَدِ يَهْجُمُ عَلَيْهِ، وَيَفْجَعُ فِيهِ أَبَوَيْهِ وَأَهْلَهُ!»

أَجابَها أَبُوها الشَّيْخُ، وَهُوَ مَحْزُونٌ: «ماذا نَصْنَعُ مَعَ الْأَسَدِ الظَّالِمِ الْغَشُومِ، وَهُوَ مُفْتَرِسٌ غَلَّابٌ، لا قُدْرَةَ لَنا عَلَيْهِ؟ لَيْسَ لَنا — يا بُنَيَّتِي — مِنْ حِيلَةٍ فِي دَفْعِ شَرِّهِ وَأَذاهُ، إِلَّا أَنْ نُسْلِمَ أَمْرَنا للهِ، وَنَسْأَلَهُ رُحْماهُ!»

قالَتِ الْفَتاةُ: «إِنَّ اللهَ — سُبْحانَهُ — وَهَبَنا آذانًا تَسْمَعُ، وَأَعْيُنًا تُبْصِرُ، وَعُقُولًا تُفَكِّرُ، وَأَيْدِيًا تَبْطِشُ، وَأَرْجُلًا تَسْعَى، فَكَيْفَ نُعَطِّلُ هذِهِ النِّعَمَ الْجَلِيلَةَ؛ نُهْمِلُها، وَلا نُعْمِلُها؟ يَجِبُ أَنْ نَسْتَخْدِمَ قُوَانا فِي مَصْلَحَتِنا، وَإِلَّا كُنَّا عابِثِينَ.»

قالَ الشَّيْخُ فِي لَهْجَةِ الْمُشْفِقِ الْحانِي الْعَطُوفِ: «حَذارِ يا ابْنَتِي، أَنْ تُطَوِّحِي بِنَفْسِكِ فِي مَهاوِي الْهَلاكِ. خَيْرٌ لَكِ أَنْ تَسْلَمِي بِنَفْسِكِ، وَلا تُخاطِرِي بِحَياتِكِ. لا تَكُونِي مَغْرُورَةً يا بِنْتاهُ! ما أَظُنُّ أَنَّ فَتاةً مِثْلَكِ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَأْتِيَ بِما عَجَزَ عَنْهُ الرِّجالُ!»

كانَ الشَّيْخُ يَعْرِفُ أَنَّ ابْنَتَهُ لا تُعْوِزُها الشَّجاعَةُ والْإِقْدامُ، لكِنَّهُ كانَ يَخْشَى عَلَيْها اقْتِحامَ الْعَقَباتِ والتَّعَرُّضَ لِلنَّكَباتِ.

إِنَّهُ أَبٌ عَطُوفٌ، يَرْجُو لِابْنَتِهِ السَّلامَةَ، فَكَيْفَ تَرْضَى نَفْسُهُ أَنْ تَتَصَدَّى فَتاتُهُ، فَلْذَةُ كَبِدِهِ، لِلْقَضاءِ عَلَى الْوَحْشِ الْجَرِيءِ؟!

لَمْ يَكُنْ يَدُورُ بِخَلَدِهِ أَنَّ ابْنَتَهُ قادِرَةٌ عَلَى مُغالَبَةِ ذلِكَ الْوَحْشِ الْجَرِيءِ، بِما أُوتِيَتْهُ مِنْ ذَكاءٍ وَمَقْدِرَةٍ.

قالَ لِفَتاتِهِ: «أَحْسَبُ يا بُنَيَّتِي، أَنَّ ثَناءَ أَهْلِكِ عَلَيْكِ، واعْتِدادَهُمْ بِكِ، قَدْ أَيْقَظَ فِيكِ غُرُورًا غَيْرَ مَحْمُودٍ، وَأَوْهَمَكِ أَنَّكِ قادِرَةٌ عَلَى شَيْءٍ لا طاقَةَ لَكِ بِهِ!»

قالَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» لِأَبِيها، وَعَلاماتُ الْجِدِّ تَرْتَسِمُ عَلَى جَبِينِها: «مَهْلًا يا أَبَتاهُ، فَما بِي مِنْ غُرُورٍ وَلا وَهْمٍ. لكِنِّي أَغْضَبُ لِقَوْمِي أَنْ يُذْعِنُوا لِلظَّالِمِ الْمُسْتَبِدِّ، مَهْما يَكُنْ مِنْ قُوَّتِهِ وَسَطْوَتِهِ وَبَطْشِهِ وَجَبَرُوتِهِ. يَجِبُ أَلَّا نُظْهِرَ لَهُ الاسْتِكانَةَ والذِّلَّةَ والْخُضُوعَ، فَذلِكَ يُشَجِّعُهُ عَلَى أَنْ يُتابِعَ إِيذاءَهُ لَنا، وَفَتْكَهُ بِنا. إِذا عَوَّلَ كُلٌّ مِنَّا عَلَى غَيْرِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا، لَمْ نَخْلُصْ جَمِيعًا مِنْ أَنْ يُصِيبَنا الشَّرُّ والْأَذَى.»

قالَ الشَّيْخُ لِابْنَتِهِ: «وَماذا أَنْتِ صانِعَةٌ، وَهُوَ الْقَوِيُّ، وَأَنْتِ ضَعِيفَةٌ، لا حَوْلَ لَكِ وَلا قُوَّةَ؟»

عَقَّبَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» عَلَى قَوْلِ أَبِيها الشَّيْخِ بِقَوْلِها: «مَهْما يَكُنْ مِنْ قُوَّةِ الْأَسَدِ فَفِيهِ مَكْمَنُ ضَعْفٍ. وَمَهْما يَكُنْ مِنْ ضَعْفِنا نَحْنُ فَفِينا مَوْطِنُ قُوَّةٍ. عَلَيْنا أَنْ نَشْحَذَ هِمَّتَنا، وَأَنْ نُعْمِلَ فِكْرَنا، ما وَسِعَنا، لِنَنْفُذَ إِلَى مَكْمَنِ الضَّعْفِ فِي الْأَسَدِ الْغاشِمِ. عَلَيْنا أَنْ نَجْمَعَ عَزْمَنا، وَأَنْ نُقَلِّبَ رَأْيَنا، باذِلِينَ جُهْدَنا، فَتَكُونَ لَنا بِذلِكَ قُوَّةٌ، نُواجِهُ بِها الْعُدْوانَ والطُّغْيانَ. ذلِكَ — يا أَبِي — هُوَ واجِبُنا، لا نَتَخَلَّى عَنْهُ أَبَدًا.»

(٣) جِنَّيَّةُ الْغابَةِ

فِي صَباحِ الْيَوْمِ التَّالِي بَكَّرَتِ «الْأُقْحُوانَةُ الْحَمْراءُ» بِالْخُرُوجِ إِلَى الْغابَةِ، لِتَجْمَعَ جُذُورَ الْأَعْشابِ.

إِنَّ اهْتِمامَها بِجَمْعِ الْأَعْشابِ لَمْ يُنْسِها اشْتِغالَ فِكْرِها بِالْأَسَدِ الطَّائِرِ. إِنَّهُ ماثِلٌ دائِمًا أَمامَ عَيْنَيْها، يَمْلَأُ حَياتَها هَمًّا، وَيُشْعِلُ قَلْبَها ضِيقًا.

كانَتْ تَقُولُ لِنَفْسِها مُتَأَلِّمَةً: «تَبًّا لِهذا الْوَحْشِ! إِنَّهُ خَيَّمَ عَلَى أَكْواخِنا، كَأَنَّهُ الْغِيامُ. أَصْبَحَ يَتَهَدَّدُنا بِصَواعِقِهِ وَبُرُوقِهِ بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ. لا بُدَّ أَنْ نَتَخَلَّصَ مِنْ كَيْدِهِ، لكِنْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى الْخَلاصِ مِنْ هذِهِ النَّكْبَةِ؟!»

بَيْنَما هِيَ مُسْتَغْرِقَةٌ فِي تَفْكِيرِها، إِذْ أَبْصَرَتْ شَبَحًا مُرْتَفِعَ الْقامَةِ، بِالْقُرْبِ مِنْ شَجَرِ الْقُطْنِ.

اقْتَرَبَتِ الْفَتاةُ مِنَ الشَّبَحِ، وَجَدَتْهُ امْرَأَةً جَمِيلَةَ الْوَجْهِ، حَمْراءَ الشَّعْرِ، ذَهَبِيَّةَ اللَّوْنِ، تَرْتَدِي ثَوْبًا أَبْيَضَ طَوِيلًا فَضْفاضًا.

ما إِنْ أَبْصَرَتْها «الْأُقْحُوانَةُ الْحَمْراءُ»، حَتَّى بادَرَتْها بِالتَّحِيَّةِ.

قالَتْ لَها: «إِنِّي أَراكِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَمَنْ تَكُونِينَ؟»

figure
«الْأُقْحُوانَةُ الْحَمْراءُ» تَتَعَرَّفُ إِلَى «لاحِظَةَ».

واجَهَتْها الْمَرْأَةُ فِي مُؤَانَسَةٍ وبَشاشَةٍ وَتَوَدُّدٍ، قائِلَةً: «أَنا أَعِيشُ فِي هذا الْمَكانِ. أَنا أَعْرِفُكِ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ. أَنا أَراكِ دائِمًا تَتَرَدَّدِينَ هُنا، مِنْ حَيْثُ لا تَرَيْنَنِي. طالَما هَمَسْتُ فِي أُذُنِكِ بِالنَّصِيحَةِ إِثْرَ النَّصِيحَةِ، لِأُبَصِّرَكِ بِخَصائِصِ الْأَعْشابِ، وَأُلْهِمَكِ الصَّوابَ فِي كُلِّ ما تَنْطِقِينَ بِهِ. لَوْلايَ لَما عَرَفْتِ شَيْئًا مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي تَعْرِفِينَ، وَلَما أَدْرَكْتِ مِنْ أَسْرارِ الْحَيَوانِ والنَّباتِ ما أَصْبَحْتِ تُدْرِكِينَ. لَقَدْ رَأَيْتُ واجِبًا عَلَيَّ أَنْ أَرْعاكِ، لِأُسَدِّدَ خُطاكِ.»

أَطْرَقَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» مُفَكِّرَةً فِيما سَمِعَتْهُ مِنْ هذِهِ الْأَخْبارِ.

قالَتِ السَّيِّدَةُ: «لا تَعْجَبِي مِمَّا أَقُولُ يا فَتاتِي. كُنْتُ أُوحِي إِلَيْكِ ما تُرِيدِينَ أَنْ تَتَفَهَّمِيهِ.»

سَأَلَتِ «الْأُقْحُوانَةُ»: «ما اسْمُكِ يا خالَتِي؟ وَأَيْنَ تَعِيشِينَ؟»

أَجابَتْها بِقَوْلِها: «إِذا شِئْتِ أَنْ تَعْرِفِي اسْمِي، فَهُوَ: «لاحِظَةُ»، وَأَنا أَعِيشُ قُرْبَ شَجَرِ الْقُطْنِ. والْآنَ هَلْ تُحِبِّينَ أَنْ تُشَرِّفِي مَنْزِلِي بِزِيارَتِكِ؟»

أَجابَتِ الْفَتاةُ: «لَيْسَ أَحَبَّ إِلَى نَفْسِي مِنْ ذلِكِ!»

(٤) حَدِيثُ «لاحِظَةَ»

مَشَتْ «لاحِظَةُ» والْفَتاةُ مِنْ وَرائِها، حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى بَيْتٍ صَغِيرٍ، لَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ عَيْنُها مِنْ قَبْلُ.

طَلَبَتْ «لاحِظَةُ» مِنَ «الْأُقْحُوانَةِ» أَنْ تَدْخُلَ الْبَيْتَ.

دَخَلَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» الْبَيْتَ، تَتْبَعُ خُطُواتِ «لاحِظَةَ»، وَهِيَ دَهِشَةٌ مِمَّا تَرَى.

جَلَسَتا مَعًا عَلَى بِساطٍ مِنَ الْأَعْشابِ الْخُضْرِ.

figure
«لاحِظَةُ» تَسْتَقْبِلُ «الْأُقْحُوانَةَ» فِي بَيْتِها.

كانَ الْبَيْتُ مُزْدانًا بِمُخْتَلِفِ الْأَزهارِ والرَّياحِينِ النَّاضِرَةِ، عَلَى جَوانِبِهِ أَطْيارٌ يَشِعُّ النُّورُ مِنْ أَجْسادِها، فَيُضِيءُ الْمَكانَ.

اسْتَقَرَّ بِهِما الْجُلُوسُ، و«الْأُقْحُوانَةُ» مَبْهُورَةٌ بِما تُشاهِدُهُ.

قالَتْ «لاحِظَةُ»: «أَنْتِ عَرَفْتِ أَنَّنِي صَدِيقَتُكِ مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ. أَدْرَكْتِ أَنِّي أَرْعاكِ، وَإِنْ كُنْتِ لَمْ تَرَيْنِي قَبْلَ الْيَوْمِ. اقْتَنَعْتِ أَنَّنِي أَفْضَيْتُ إِلَيْكِ بِالْكَثِيرِ مِنْ أَسْرارِي. أَنا لَنْ أَتَرَدَّدَ فِي تَحْقِيقِ كُلِّ أُمْنِيَّةٍ تَتَمَنَّيْنَ. أَفْضِي إِلَيَّ الْآنَ بِما تُرِيدِينَ، وَبِأَيِّ أُمْنِيَّةٍ تَحْلُمِينَ؟»

قالَتِ الْفَتاةُ، وَهِيَ لا تَكادُ تُصَدِّقُ ما تَسْمَعُهُ: «خَبِّرِينِي يا سَيِّدَتِي الْكَرِيمَةَ: أَتَسْتَطِيعِينَ حَقًّا أَنْ تَهْدِينِي إِلَى وَسِيلَةٍ تُمَكِّنُنِي مِنْ أَنْ أَتَخَلَّصَ مِنَ الْأَسَدِ الطَّائِرِ، وَأَكُفَّ أَذِيَّتَهُ عَنِ النَّاسِ؟»

صَمَتَتْ «لاحِظَةُ» قَلِيلًا، ثُمَّ قالَتْ لِلْفَتاةِ: «أُصارِحُكِ الْقَوْلَ: لَعَلَّ هذا أَدَقُّ سُؤَالٍ تُوَجِّهِينَهُ إِلَيَّ. لَنْ أَسْتَطِيعَ — بِحالٍ — أَنْ أُجِيبَ الْآنَ عَنْ هذا السُّؤالِ. رُبَّما حَقَّقْتُ رَجاءَكِ، إِذا لازَمْتِنِي ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ كامِلَةً. هَلْ تَقْبَلِينَ أَنْ تَمْكُثِي مَعِي خِلالَ هذِهِ الْأَشْهُرِ؟»

قالَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» فِي اسْتِغْرابٍ: «ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ كامِلَةً! لا صَبْرَ لِي عَلَى الانْتِظارِ هذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ.»

قالَتْ «لاحِظَةُ»: «لا مَناصَ لَكِ مِنْ ذلِكِ يا عَزِيزَتِي؛ إِنَّ مَطْلَبَكِ صَعْبٌ عَزِيزُ الْمَنالِ، بِالصَّبْرِ تُدْرِكِينَ الْآمالَ. لا بُدَّ لَكِ أَوَّلًا مِنْ قَضاءِ شَهْرٍ بِالتَّمامِ والْكَمالِ، تَنْسُجِينَ فِيهِ ثَوْبَ الاسْتِخْفاءِ؛ لِكَيْ تَتَمَكَّنِي بِهِ مِنَ الدُّنُوِّ مِنَ الْأَسَدِ الطَّائِرِ، دُونَ أَنْ يَراكِ.»

قالَتِ الفَتاةُ: «كَلَّا يا سَيِّدَتِي، لا أُحِبُّ أَنْ أَخْتَفِيَ، فَإِنَّ الاخْتِفاءَ جُبْنٌ، وَأَنا شُجاعَةٌ أُرِيدُ أَنْ أُواجِهَ الْأَسَدَ.»

أَجابَتْ «لاحِظَةُ»: «لَيْسَتِ الشَّجاعَةُ أَنْ تَرْمِي بِنَفْسِكِ فِي الْمَهالِكِ، وَلكِنَّ الشَّجاعَةَ أَنْ تَتَّخِذِي لِكُلِّ أَمْرٍ عُدَّتَهُ، وَتَعْرِفِي الْوَسِيلَةَ الَّتِي تُمَكِّنُكِ مِنْ بُلُوغِ الْغَرَضِ، دُونَ أَنْ يَنالَكِ مَكْرُوهٌ، أَوْ أَنْ يُصِيبَكِ أَقَلُّ أَذًى. إِذا لَمْ تُعالَجِ الْأُمُورُ بِالْحِكْمَةِ كانَ مَصِيرُها الْخِذْلانَ. لَوْ أَنَّكِ واجَهْتِ الْأَسَدَ، وَلَمْ تَلْبَسِي ثَوْبَ الاسْتِخْفاءِ، لَوَقَعْتِ فَرِيسَةً لَهُ، وانْتَهَتْ حَياتُكِ بِالْقَتْلِ.»

تَساءَلَتِ الْفَتاةُ: «ماذا بَعْدَ أَنْ أَنْسُجَ ثَوْبَ الاسْتِخْفاءِ؟»

قالَتْ «لاحِظَةُ» وَهِيَ تُرَبِّتُ كَتِفَ الْفَتاةِ: «أَرْعِينِي سَمْعَكِ، لِكَيْ تَتَفَهَّمِي فَحْوَى قَوْلِي، يا بُنَيَّتِي: يَجِبُ أَنْ تَقْضِي مَعِي بَعْدَ ذلِكَ شَهْرَيْنِ كامِلَيْنِ، أُعَلِّمُكِ — فِي خِلالِهِما — لُغَةَ الْغِرْبانِ والضَّفادِعِ. سَتَرَيْنَ أَنَّ هاتَيْنِ اللُّغَتَيْنِ هُما أَصْعَبُ لُغاتِ الدَّوابِّ كُلِّها.»

صَمَتَتِ «الْأُقْحُوانَةُ الْحَمْراءُ» … فَكَّرَتْ فِي الْأَمْرِ مَلِيًّا.

اسْتَفْسَرَتْ مِنْ «لاحِظَةَ» قائِلَةً: «سَأُنَفِّذُ ما تَأْمُرِينَ بِهِ. هَلْ تَأْذَنِينَ لِي — يا سَيِّدَتِي — أَنْ أَعُودَ إِلَى بَيْتِي، فَأَقِفَ أَبِي عَلَى جَلِيَّةِ الْأَمْرِ؛ حَتَّى لا يَقْلَقَ بالُهُ عَلَيَّ، وَلا يَرْتاعَ لِغَيْبَتِي الطَّوِيلَةِ عَنْهُ؟»

هَزَّتْ «لاحِظَةُ» رَأْسَها، وَقالَتْ: «كَلَّا. لا سَبِيلَ إِلَى ذلِكَ. لا بُدَّ أَنْ يَبْقَى هذا الْأَمْرُ سِرًّا مَكْتُومًا، لا يَعْلَمُهُ كائِنٌ كانَ، مِنْ إِنْسٍ أَوْ جانٍّ. لا بُدَّ أَنْ يُحْجَبَ، حَتَّى لا يَعْرِفَ الْأَسَدُ الطَّائِرُ شَيْئًا مِنْ خُطَّتِنا.»

قالَتِ «الْأُقْحُوانَةُ الْحَمْراءُ»: «وَلكِنْ ماذا يَقُولُ أَبِي، وَماذا يَقُولُ أَهْلِي، إِذْ أَغِيبُ عَنْهُمْ هذِهِ الْأَشْهُرَ الثَّلاثَةَ؟! وَكَيْفَ أَحْتَمِلُ مَرارَةَ الْبُعْدِ عَنْهُمْ، وَأَنا لَمْ أُفارِقْهُمْ يَوْمًا فِيما مَضَى مِنْ أَيَّامِ حَياتِي؟ ما أَشَقَّ ذلِكِ عَلَى نَفْسِي!»

أَجابَتْها «لاحِظَةُ»: «سَيَتَوَقَّعُ أَبُوكِ أَنَّ الْأَسَدَ افْتَرَسَكِ. سَيُلْهِمُهُ اللهُ الصَّبْرَ والسَّلْوَى عَلَى الْفَجِيعَةِ فِيكِ. رُبَّما انْكَشَفَ لَهُ — بِنُورِ بَصِيرَتِهِ — أَنَّكِ فِي قَيْدِ الْحَياةِ، وَأَنَّكِ راجِعَةٌ إِلَيْهِ عَمَّا قَلِيلٍ! أَمَّا أَهْلُكِ فَسَيَذْكُرُونَكِ بِالْخَيْرِ، وَيَعُدُّونَكِ مَثَلًا لِلشَّجاعَةِ والْإِقْدامِ والْفِداءِ، إِذْ يَحْسَبُونَ أَنَّكِ اقْتَحَمْتِ عَلَى الْأَسَدِ عَرِينَهُ، سَتَكُونِينَ بَيْنَهُمْ بِرُوحِكِ هذِهِ الْأَشْهُرَ الثَّلاثَةَ … ثُمَّ تَكُونُ الْمُفاجَأَةُ السَّارَّةُ حِينَ يَلْقَوْنَكِ بَعْدَ الْغِيابِ! سَيَزْدادُ فَرَحُهُمْ بِكِ، وتَقْدِيرُهُمْ لَكِ، حِينَ يَجِدُونَ أَنَّكِ أَنْتِ الَّتِي أَنْجَيْتِهِمْ مِنْ شَرِّ الْأَسَدِ.»

قالَتِ «الْأُقْحُوانَةُ الْحَمْراءُ»: «لَكِ ما تُرِيدِينَ يا سَيِّدَتِي. فِي سَبِيلِ بُلُوغِ الْأَهْدافِ النَّبِيلَةِ، وتَحْقِيقِ الْغاياتِ الْبَعِيدَةِ، يَجِبُ أَنْ نَقْسُوَ عَلَى أَنْفُسِنا، وَأَنْ نَعْتَصِمَ بِالصَّبْرِ، حَتَّى نُحَقِّقَ ما نَسْعَى إِلَيْهِ. سَأُرَوِّضُ نَفْسِي عَلَى احْتِمالِ الْبُعْدِ عَنْ أَبِي، والْغِيابِ عَنْ أَهْلِي. سَأَعْمَلُ عَلَى تَوْجِيهِ عاطِفَتِي وَعَقْلِي إِلَى التَّغَلُبِ عَلَى الْأَسَدِ الْباغِي، والْخَلاصِ مِنْ شَرِّهِ.

سَأَظَلُّ رَهِينَةَ أَمْرِكِ — يا سَيِّدَتِي «لاحِظَةَ» — باقِيَةً مَعَكِ، كَلَّفَنِي ما كَلَّفَنِي مِنْ مَشَقَّةٍ وَعَناءٍ، ما دامَتْ عاقِبَةُ ذلِكِ أَنْ يَسْعَدَ أَهْلِي، وَأَنْ يَعِيشُوا فِي أَمانٍ، مِنَ الشَّرِّ والْعُدْوانِ.»

(٥) الْبَحْثُ عَنِ «الْأُقْحُوانَةِ»

جَنَّ اللَّيْلُ، وَلَمْ تَعُدِ «الْأُقْحُوانَةُ الْحَمْراءُ» إِلَى بَيْتِها.

figure
أَهْلُ «الْأُقْحُوانَةِ» يَبْحَثُونَ عَنْها فِي كُلِّ مَكانٍ.

قَضَى أَبُوها الشَّيْخُ لَيْلَتَهُ أَرِقًا، لَمْ تَغْمُضْ لَهُ عَيْنٌ، وَلَمْ يَهْدَأْ لَهُ بالٌ. خَشِيَ أَنْ تَكُونَ فَتاتُهُ الْعَزِيزَةُ قَدْ وَقَعَتْ فِي قَبْضَةِ أَسَدِ الْغابَةِ الطَّائِرِ.

ما كادَ الصَّباحُ يَبْرُقُ، حَتَّى أَمَرَ ثُلَّةً مِنْ رِجالِهِ الْأَشِدَّاءِ أَنْ يَبْحَثُوا عَنِ الْفَتاةِ فِي أَرْجاءِ الْغابَةِ. خَرَجُوا يُفَتِّشُونَ عَنْها فِي كُلِّ مَكانٍ … ظَلُّوا يُواصِلُونَ الْبَحْثَ أَيَّامًا عِدَّةً، فَلَمْ يَعُودُوا بِطائِلٍ، وَلَمْ يَظْفَرُوا مِنْ بَحْثِهِمْ بِشَيْءٍ.

أَيْقَنَ الْجَمِيعُ أَنَّ «الْأُقْحُوانَةَ» ذَهَبَتْ فَرِيسَةَ الْأَسَدِ الطَّائِرِ … يَئِسُوا مِنْ عَوْدَتِها … اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحُزْنُ والْأَسَى.

لَمْ يَنْسَوْا لَها مَآثِرَها عَلَيْهِمْ، وَبِرَّها بِهِمْ.

أَمَّا «الْأُقْحُوانَةُ الْحَمْراءُ»، فَقَدْ أَقامَتْ فِي بَيْتِ «لاحِظَةَ»، دائِبَةً عَلَى نَسْجِ ثَوْبِ الاسْتِخْفاءِ، حَتَّى أَتَمَّتْهُ فِي شَهْرٍ كامِلٍ.

قَضَتِ الشَّهْرَيْنِ الْباقِيَيْنِ فِي دَرْسِ لُغَتَيِ الْغِرْبانِ والضَّفادِعِ.

أَتْقَنَتِ اللُّغَتَيْنِ كُلَّ الْإِتْقانِ، وَبَرَعَتْ فِيهِما بَراعَةً نادِرَةً.

(٦) حَدِيثُ الْغِرْبانِ

بَعْدَ انْقِضاءِ الْأَشْهُرِ الثَّلاثَةِ عَمِلَتِ «الْأُقْحُوانَةُ الْحَمْراءُ» بِالنَّصِيحَةِ الَّتِي أَسْدَتْها الْجِنِّيَّةُ «لاحِظَةُ» إِلَيْها.

اعْتَزَمَتْ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى مَوْطِنِ غِرْبانِ الْغابَةِ، لِتُصْغِيَ إِلَى حِوارِها؛ لَعَلَّها تَتَعَرَّفُ — مِنَ الْحِوارِ — الْوَسِيلَةَ الَّتِي تَسْلُكُها لِلْقَضاءِ عَلَى الْأَسَدِ الطَّائِرِ.

ارْتَدَتِ الْفَتاةُ ثَوْبَ الاسْتِخْفاءِ … خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ «لاحِظَةَ» … اقْتَرَبَتْ مِنَ الْغِرْبانِ … رَأَتْ أَمامَها ثَلاثَةَ غِرْبانٍ مُجْتَمِعَةً … سَمِعَتْها تَتَجاذَبُ فِيما بَيْنَها أَطْرافَ الْحَدِيثِ.

أَنْصَتَتِ الْفَتاةُ إِلَى الْحِوارِ الَّذِي يَدُورُ بَيْنَ الْغِرْبانِ، دُونَ أَنْ يَفْطُنَ مِنْها أَحَدٌ إِلَيْها.

كانَ ثَوْبُ الْفَتاةِ قَدْ أَخْفاها عَنِ الْأَبْصارِ جَمِيعًا. سَمِعَتِ الْفَتاةُ الْغُرابَ الْأَوْسَطَ يَقُولُ لِرَفِيقَيْهِ: «إِنَّ لِقُوَّةِ الْأَسَدِ سِرًّا، لا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ! لَيْسَ يَعْرِفُ هذا السِّرَّ إِلَّا الْغِرْبانُ الْبِيضُ، لكِنَّها لا تَجْرُؤُ عَلَى إِذاعَتِهِ، والْبَوْحِ بِهِ.

مِنْ عادَةِ الْأَسَدِ الطَّائِرِ أَنْ يَتْرُكَ غُرابَيْنِ أَبْيَضَيْنِ، يَتْرُكُهُما — فِي كُلِّ يَوْمٍ — لِحِراسَةِ عَرِينِهِ، والْإِشْرافِ عَلَيْهِ؛ ذلِكَ لِيَطْمَئِنَّ أَثْناءَ تَجْوالِهِ فِي الْغابَةِ لافْتِراسِ صَيْدِهِ.

أَقامَ الْأَسَدُ الطَّائِرُ عَرِينَهُ مِنَ الْعِظامِ الَّتِي جَمَعَها، هذِهِ الْعِظامُ أَصْبَحَتْ أَكْداسًا وَأَكْوامًا، كَأَنَّها قَصْرٌ عالٍ!

إِنَّهُ يَحْرِصُ عَلَى هذِهِ الْعِظامِ أَشَدَّ الْحِرْصِ.

إِنَّهُ يَخْشَى عَلَيْها أَنْ يَنْتَقِلَ عَظْمٌ واحِدٌ مِنْها.»

figure
الْغِرْبانُ السُّودُ الثَّلاثَةُ تَتَبادَلُ الْحَدِيثَ.

قالَ أَصْغَرُ الْغِرْبانِ، فِي لَهْجَةِ الْمُفْتَخِرِ الْمَزْهُوِّ: «أَنا رَأَيْتُ هذِهِ الْعِظامَ بِعَيْنَيْ رَأْسِي هاتَيْنِ!»

قالَ أَكْبَرُ الْغِرْبانِ فِي لَهْجَةِ الْمُتَذَمِّرِ: «أَيَّةُ عِظامٍ تِلْكَ الَّتِي رَأَيْتَها، كَأَنَّها الْقَصْرُ الْعالِي؟»

كانَ الْغُرابُ الْكَبِيرُ السِّنِّ عاجِزًا عَنِ الطَّيَرانِ، كَما تَطِيرُ الْغِربانُ الصَّغِيرَةُ، كانَ شَدِيدَ الشَّوْقِ إِلَى رُؤْيَةِ الْعِظامِ الَّتِي يَتَحَدَّثُ عَنْها رَفِيقاهُ.

قالَ الْغُرابُ الصَّغِيرُ، وَقَدِ اشْتَدَّ زَهْوُهُ: «إِنَّها عِظامُ الصَّيْدِ الَّذِي يَفْتَرِسُهُ الْأَسَدُ الطَّائِرُ!»

(٧) حَديثُ الْغُرابَيْنِ الْأَبْيَضَيْنِ

قالَتِ الْفَتاةُ لِنَفْسِها: «إِنَّ قُوَّةَ الْأَسَدِ الطَّائِرِ لَها سِرٌّ، وَلا يَعْرِفُ ذلِكَ السِّرَّ إِلَّا الْغُرابانِ الْأَبْيَضانِ. لا بُدَّ لِي مِنَ الذَّهابِ إِلَى الْغُرابَيْنِ الْأَبْيَضَيْنِ، لِأُصْغِيَ إِلَى حِوارِهِما؛ لَعَلَّهُما يَبُوحانِ بِسِرِّ الْأَسَدِ الطَّائِرِ — فِي فَلَتاتِ كَلامِهِما — مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرانِ. مَتَى عَرَفْتُ سِرَّ قُوَّةِ الْأَسَدِ، أَمْكَنَ لِيَ التَّغَلُّبُ عَلَيْهِ.»

سارَتِ «الْأُقْحُوانَةُ الْحَمْراءُ» فِي طَرِيقِها فِي الْغابَةِ. اعْتَرَضَتْها الْأَشْجارُ الْمُشْتَبِكَةُ، الَّتِي كانَتْ تَسُدُّ عَلَيْها الطَّرِيقَ، اضْطُرَّتْ إِلَى أَنْ تَتَسَلَّقَ الْأَشْجارَ الْعالِيَةَ الضَّخْمَةَ تارَةً، وَتارَةً أُخْرَى تَعْمِدُ إِلَى الزَّحْفِ تَحْتَ الْأَدْغالِ الْكَثِيفَةِ.

رَأَتْ فِي مَسِيرَتِها كَثِيرًا مِنَ الْغِرْبانِ والْقِرَدَةِ والْأَفاعِي، وَلكِنَّها نَجَتْ مِنْ شَرِّها: ثَوْبُها أَخْفاها عَنْ عُيُونِ هذِهِ الْمَخْلُوقاتِ الْفَتَّاكَةِ، فَلَمْ تَمَسَّها بِسُوءٍ.

كانَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» تُدْهِشُ تِلْكَ الْحَيَواناتِ الْمُخْتَلِفَةَ، لِأَنَّها تَأْتِي، مِنْ ضُرُوبِ الْحِيَلِ، بِكُلِّ عَجِيبٍ وغَرِيبٍ!

كانَتْ تَخْلَعُ ثَوْبَ الاسْتِخْفاءِ، لِتَتَحَدَّثَ إِلَيْها، ثُمَّ تَرْتَدِيهِ مَرَّةً أُخْرَى، لِتَأْمَنَ شَرَّها وَأَذاها.

figure
الْأَفْعَى والْقِرْدُ يَتَناقلانِ الْحَدِيثَ فِي شَأْنِ الْفَتاةِ.

عَجِبَتِ الدَّوابُّ لِذلِكَ، قالَتْ إِحْدَى الْأَفاعِي لِبَعْضِ الْقِرَدَةِ: «ما أَعْجَبَ أَمْرَ هذِهِ الْفَتاةِ! أَمِنَ الْجِنِّ أَمْ مِنَ الْإِنْسِ؟!»

أَجابَها الْقِرْدُ: «إِنَّها مِنَ الْإِنْسِ، لا شَكَّ فِي ذلِكِ، وَلكِنَّها تَأْتِي مِنَ الْعَجائِبِ ما لا يَسْتَطِيعُهُ إِلَّا الْجِنُّ!»

سَأَلَتِ الْأَفْعَى: «أَتَسْتَطِيعُ تَقْلِيدَها فِي حَرَكاتِها وَحِيَلِها؟»

أَجابَ: «اسْتَطَعْتُ مُحاكاةَ الْإِنْسانِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَفْعَلُ، وَلكِنِّي أَعْجِزُ عَنْ تَقْلِيدِ تَصَرُّفاتِ هذِهِ الْفَتاةِ!»

انْتَهَى بِالْفَتاةِ السَّيْرُ إِلَى عَرِينِ الْأَسَدِ الطَّائِرِ، فَرَأَتِ الْغُرابَيْنِ الْأَبْيَضَيْنِ يَحُومانِ حَوْلَ الْعَرِينِ، لِيَحْرُساهُ مِنْ غائِلَةِ الْعادِينَ.

figure
الْغُرابانِ الْأَبْيَضانِ يَحُومانِ حَوْلَ الْعرِينِ.

تَأَمَّلَتْ فِي عَرِينِ الْأَسَدِ، هالَها ما تَرَى عَيْنُها فِيهِ: أَبْصَرَتْ أَكْداسًا مِنَ الْعِظامِ تَرْتَفِعُ إِلَى أَضْعافِ قامَتِها.

صَبَرَتِ الْفَتاةُ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الْغُرابانِ الْأَبْيَضانِ عَلَى شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ.

أَنْصَتَتْ، فَسَمِعَتْ أَحَدَهُما يَقُولُ: «سُحْقًا لِلْأَسَدِ الطَّائِرِ! لَقَدْ سَلَبَنا حُرِّيَّتَنا، واتَّخَذَنا عَبْدَيْنِ لَهُ، نَحْرُسُ عَرِينَهُ!»

قالَ الْغُرابُ الْآخَرُ: «وَماذا نَحْرُسُ فِي الْعَرِينِ الْمُوحِشِ؟!»

صاحَ الْغُرابُ الْأَوَّلُ: «نَحْرُسُ أَكْداسًا وَأَلْوانًا مِنَ الْعِظامِ، لا تُشْبِعُ وَلا تُغْنِي أَحَدًا مِنْ جُوعٍ!»

سَأَلَ الْغُرابُ الْآخَرُ: «ما بالُهُ يَخْشَى عَلَى هذِهِ الْعِظامِ؟! لِماذا يَجْزَعُ أَنْ يَمَسَّ أَحَدٌ عَظْمًا مِنْها بِسُوءٍ؟ أَلَا تَعْرِفُ ما هُوَ السِّرُّ الْخَفِيُّ يا صاحِبِي؟»

أَجابَهُ الْغُرابُ الْأَوَّلُ: «هذا لُغْزٌ أَجْهَلُ حَلَّهُ! عِلْمُ ذلِكَ لَيْسَ لَهُ عِنْدِي مِنْ بَيانٍ يا صاحِبِي، عِلْمُهُ عِنْدَ الضِّفْدِعِ الْكَبِيرَةِ، الَّتِي تَعِيشُ فِي بِرْكَةِ الْماءِ.»

قالَ الْغُرابُ الْآخَرُ: «لَعَلَّكَ تَعْنِي «الْعُلْجُومَ». أَلَيْسَ كذلِكَ؟»

قالَ لَهُ الْغُرابُ الْأوَّلُ: «نَعَمْ يا عَزِيزِي، هذا اسْمُهُ.»

قالَ الْغُرابُ الْآخَرُ: «لِماذا لا يُخْبِرُنا بِسِرِّ هذِهِ الْعِظامِ؟»

قالَ الْغُرابُ الْأَوَّلُ: «إِنَّهُ لا يَبُوحُ بِهِ لِأَحَدٍ مِنَ الْكائِناتِ. لَقَدْ أَقْسَمَ: إِنَّهُ لَنْ يُخْبِرَ بِهِ أَحَدًا إِلَّا فَتاةً، فِي مِعْصَمِها سِوارٌ مِنَ الذَّهَبِ، وَفِي شَعْرِها أَزْهارٌ حُمْرٌ. لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْهُ ذلِكَ، مُنْذُ نَشَأْتُ وَوَعَيْتُ.»

(٨) حَدِيثُ «الْعُلْجُومِ»

كانَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» تَلْبَسُ فِي مِعْصَمِها سِوارًا ذَهَبِيًّا، وَتَضَعُ فِي شَعْرِها أَزْهارًا حُمْرًا، أَيْقَنَتِ الْفَتاةُ أَنَّ الْغُرابَ إِنَّما يَعْنِيها بِقَوْلِهِ، ابْتَهَجَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» بِما سَمِعَتْ.

أَدْرَكَتْ أَنَّ الْأَقْدارَ السَّماوِيَّةَ اخْتارَتْها لِمُهِمَّةٍ جَلِيلَةٍ، مُهِمَّةِ إِنْقاذِ أَهْلِها مِنْ بَلاءِ الْأَسَدِ الطَّائِرِ.

هذا ما فَهِمَتْهُ، مِمَّا سَمِعَتْهُ مِنْ قَوْلِ ذلِكَ الْغُرابِ. إِنَّ إِلْهامَ الْقُلُوبِ يُبَشِّرُها بِأَنَّ سَعْيَها مُوَفَّقٌ، وَأَنَّها سَتُدْرِكُ الْغَرَضَ الْمَنْشُودَ، بِالانْتِصارِ عَلَى الْأَسَدِ الْغَشُومِ.

تِلْكَ الْبُشْرَى السَّارَّةُ تَمْلَأُ نَفْسَها عَزْمًا وَثِقَةً وَطُمَأْنِينَةً، وَتَدْفَعُها إِلَى أَنْ تَمْضِيَ فِي مُهِمَّتِها، حَتَّى تَظْفَرَ بِالنَّجاحِ، سَتَشْعُرُ — بَعْدَ انْتِصارِها عَلَى عَدُوِّها — بِراحَةٍ شامِلَةٍ، سَتَنْسَى كُلَّ ما تَلْقَى، الْيَوْمَ، مِنْ كَدٍّ وَعَناءٍ.

لَمْ تُضِعْ وَقْتَها … أَسْرَعَتْ حَتَّى بَلَغَتْ بِرْكَةَ الْماءِ.

رَأَتِ «الْعُلْجُومَ» جاثِمًا عَلَى حافَتِها؛ إِنَّهُ أَخْضَرُ الْجِسْمِ، أَبْيَضُ الصَّدْرِ، طُولُهُ ثَلاثَةُ أَقْدامٍ، وَعَرْضُهُ قَدَمٌ كامِلَةٌ.

كانَ «الْعُلْجُومُ» جالِسًا فِي أَشِعَّةِ الشَّمْسِ السَّاطِعَةِ، يَسْتَمْتِعُ بِما تُشِيعُهُ فِي جَسَدِهِ مِنْ دِفْءٍ.

اقْتَرَبَتْ مِنْهُ الْفَتاةُ، لَمْ يَرَ «الْعُلْجُومُ» لَها شَبَحًا، كانَتْ مُرْتَدِيَةً ثَوْبَ الاسْتِخْفاءِ الَّذِي يَحْجُبُها عَنِ الْعُيُونِ.

خامَرَها شَيْءٌ مِنَ الْخَوْفِ، لَمَ تَلْبَثْ أَنْ عاوَدَتْها شَجاعَتُها، سارَتِ الْفَتاةُ حَتَّى وَقَفَتْ أَمامَ الضِّفْدِعِ الْكَبِيرةِ، تَفَرَّسَتْ فِيهَا حَتَّى تَثَبَّتَتْ مِنْ أَنَّها «الْعُلْجُومُ» الْمَقْصُودُ.

ما لَبِثَتْ أَنْ خَلَعَتْ عَنْها ثَوْبَ الاسْتِخْفاءِ.

قالَتِ «الْأُقْحُوانَةُ»: «طابَ يَوْمُكَ أَيُّها «الْعُلْجُومُ» الْعَظِيمُ.»

figure
«الْأُقْحُوانَةُ» تَتَحَدَّثُ إِلَى «الْعُلْجُومِ».

رَفَعَ إِلَيْها رَأْسَهُ، يَرُدُّ تَحِيَّتَها، قالَ لَها: «طِبْتِ نَفْسًا، وسُعِدْتِ رُوحًا، أَيَّتُها الْفَتاةُ اللَّطِيفَةُ.»

قالَتْ: «أَنْتَ تَعْرِفُ ما يُصِيبُنا مِنْ شَرِّ الْأَسَدِ وَطُغْيانِهِ! هَلْ لَكَ أَنْ تُعِينَنا عَلَى دَفْعِ أَذاهُ، وَكَفِّ بَلْواهُ؟»

أَجابَها «الْعُلْجُومُ»: «إِنَّ الْأَسَدَ مَصْدَرُ كُلِّ أَذِيَّةٍ وَشَرٍّ، إِنَّهُ بِقُوَّتِهِ وَجَبَرُوتِهِ مَغْرُورٌ أَيَّما اغْتِرارٍ، مُعْتَزٌّ أَيَّما اعْتِزازٍ!»

سَأَلَتْهُ: «حَتَّى أَنْتَ — فِي الْبِرْكَةِ — لَكَ نَصِيبٌ مِمَّا نَلْقاهُ؟»

أَجابَ: «طالَما عَكَّرَ عَلَيَّ الْماءَ، وَداسَ قَوْمِي مِنَ الضَّفادِعِ. لكِنِّي أَقْسَمْتُ أَلَّا أُعِينَ عَلَى الْأَسَدِ إِلَّا فَتاةً، فِي مِعْصَمِها سِوارٌ مِنَ الذَّهَبِ، وَفِي شَعْرِها أَزْهارٌ حُمْرٌ.»

مَدَّتِ الْفَتاةُ لَهُ يَدَها، وَأَمالَتْ لَهُ رَأْسَها، قائِلَةً: «ذلِكَ هُوَ السِّوارُ الذَّهَبُ — يا عَمَّاهُ — فِي يَدِي، وَتِلْكَ هِيَ الْأَزْهارُ الْحُمْرُ، أُزَيِّنُ بِها شَعْرِي!»

حَدَّقَ «الْعُلْجُومُ» بِعَيْنَيْهِ إِلَى السِّوارِ، وَإِلَى الْأَزْهارِ. قالَ وَهُوَ يَنِقُّ: «لَقَدْ حَلَّ الْوَقْتُ الَّذِي نُعالِجُ فِيهِ مُشْكِلَتَنا: نَقْضِي عَلَى الْأَسَدِ الْباغِي، حَتَّى نَضَعَ حَدًّا لِآثامِهِ وَشُرُورِهِ.»

سَأَلَتْهُ: «هَلِ التَّغَلُّبُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي جُهْدًا كَبِيرًا، يا عَمَّاهُ؟»

أَجابَها «الْعُلْجُومُ»: «التَّغَلُّبُ عَلَيْهِ غايَةٌ فِي الْيُسْرِ. فِي قُدْرَةِ أَيِّ كائِنٍ كانَ أَنْ يَقِفَهُ عِنْدَ حَدِّهِ. مَتَى عَرَفَ سِرَّ قُوَّتِهِ وَبَطْشِهِ وَجَبَرُوتِهِ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ.»

قالَتِ الْفَتاةُ: «أَمُخْبِرِي أَنْتَ — يا عَمَّاهُ — بِهذا السِّرِّ؟»

قالَ «الْعُلْجُومُ»: «نَنْزِعُ أَحَدَ الْعِظامِ الَّتِي فِي عَرِينِ الْأَسَدِ، إِذا تَيَسَّرَ نَزْعُ أَحَدِ الْعِظامِ تَقَوَّضَ الْعَرِينُ مِنْ أَساسِهِ. إِذا عادَ الْأَسَدُ، وَرَأَى ذلِكَ بِعَيْنَيْهِ، بَطَلَتْ عَزائِمُهُ؛ انْهارَتْ أَعْصابُهُ، وخارَتْ قُوَاهُ، وَرَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْهَلاكِ.»

قالَتْ لَهُ الْفَتاةُ مُتَعَجِّبَةً: «أَهذا هُوَ كُلُّ سِرِّهِ؟»

قالَ «الْعُلْجُومُ»: «السِّرُّ الَّذِي عِنْدِي أَفْضَيْتُ بِهِ إِلَيْكِ. ثِقِي بِأَنَّهُ لَيْسَ وَرائِي شَيْءٌ فَوْقَ ما ذَكَرْتُ لَكِ: أَأَنْتِ مُنْتَزِعَةٌ أَحَدَ الْعِظامِ، لِيَنْهَدِمَ الْعَرِينُ رأْسًا عَلَى عَقِبٍ؟»

قالَتْ لَهُ الْفَتاةُ: «لَيْسَ فِي هذا أَقَلُّ شَكٍّ. إِنِّي لَشاكِرَةٌ لَكَ نَصِيحَتَكَ الْغالِيَةَ أَجْزَلَ الشُّكْرِ.»

حَيَّاهَا مُتَأَهِّبًا لِلسَّيْرِ، قائِلًا: «سَأُرافِقُكِ لِأَرَى ما تَفْعَلِينَ!»

أَسْرَعَ فِي قَفْزِهِ وَوَثْبِهِ أَمامَها، حَتَّى بَلَغا مَعًا عَرِينَ الْأَسَدِ.

جَذَبَتِ «الْأُقْحُوانَةُ» عَظْمًا مِنْ تِلْكَ الْعِظامِ الْمَرْصُوصَةِ.

سُرْعانَ ما تَهَدَّمَ الْعَرِينُ كُلُّهُ، وانْتَقَضَ بِناؤُهُ!

قالَ «الْعُلْجُومُ» لِلْغُرابَيْنِ الْأَبْيَضَيْنِ: «لَقَدِ انْهَدَمَ الْعَرِينُ. تَقَوَّضَ الْقَصْرُ الَّذِي أَقامَهُ الْأَسَدُ مِنْ عِظامِ الْمُسْتَضْعَفِينَ. سَيَعُودُ الْأَسَدُ، وَيُغْضِبُهُ أَنْ يَرَى عَرِينَهُ مُتَهَدِّمًا. عَلَيْهِ أَنْ يَحْضُرَ إِلَى بِرْكَتِي، لِأَلْقاهُ عَلَى الرُّحْبِ والسَّعَةِ!»

(٩) مَصِيرُ الْأَسَدِ

بَعْدَ قَلِيلٍ عادَ الْأَسَدُ إِلَى عَرِينِهِ، فَلَمْ يَرَ إِلَّا أَنْقاضَهُ. اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْغَيْظُ والْحَنَقُ، فَعَلا زَئِيرُهُ، واشْتَدَّ هِياجُهُ. حَطَّمَ كُلَّ ما صادَفَهُ — فِي طَرِيقِهِ — مِنْ ضُرُوبِ الشَّجَرِ … سَحَقَ بِقَدَمَيْهِ كُلَّ ما اعْتَرَضَ خُطَاهُ مِنْ صُنُوفِ الْحَيَوانِ … جَعَلَ يَزْأَرُ — فِي غَضَبِهِ — زَئِيرًا يَمْلَأُ طَبَقاتِ الْجَوِّ.

الْتَفَتَ إِلَى الْغُرابَيْنِ الْأَبْيَضَيْنِ، وَعَيْناهُ تَقْدَحانِ شَرَرًا. قالَ لَهُما ثائِرًا: «خَبِّرانِي، يا غُرابَيَّ، أَيُّ خَطْبٍ أَلَمَّ بِي؟ مَنِ الَّذِي عَرَفَ سِرِّي؟ مَنِ الَّذِي هَدَمَ عَرِينِي؟»

أَجابَهُ الْغُرابانِ: «كانَتْ هُنا فَتاةٌ مِنْ بَناتِ الْإِنْسِ. نَزَعَتْ عَظْمًا مِنْ عِظامِ الْعَرِينِ، فَما أَسْرَعَ ما انْهَدَمَ!»

صاحَ الْأَسَدُ وَهُوَ يَتَلَفَّتُ: «أَيْنَ هذِهِ الْفَتاةُ؟»

لَمْ يَرَ الْأَسَدُ أَحَدًا؛ لَبِسَتِ الْفَتاةُ ثَوْبَ الاسْتِخْفاءِ. أَصْبَحَتْ مَحْجُوبَةً عَنِ النَّظَرِ، فَلَمْ يَظْهَرْ لَها مِنْ أَثرٍ.

وَقَفَتْ — غَيْرَ بَعِيدٍ — تَنْظُرُ إِلَى الْأَسَدِ فِي هَيْجَتِهِ وَثَوْرَتِهِ … قالَتْ فِي نَفْسِها: «هذِهِ عاقِبَةُ الْعُدْوانِ، وآخِرَةُ الطُّغْيانِ!»

زَمْجَرَ الْأَسَدُ قائِلًا: «هَلْ كانَتِ الْفَتاةُ وَحْدَها؟!»

أَجابَهُ الْغُرابانِ: «جاءَ مَعَها «الْعُلْجُومُ» إِلَى عَرِينِكَ. إِنَّهُ يَنْتَظِرُ ذَهابَكَ إِلَيْهِ فِي بِرْكَةِ الْماءِ، إِذا شِئْتَ!»

عَرَفَ الْأَسَدُ أَنَّ «الْعُلْجُومَ» هُوَ الَّذِي كَشَفَ السِّرَّ. أَدْرَكَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَلَّ الْفَتاةَ عَلَى هذِهِ الْحِيلَةِ.

اعْتَزَمَ الذَّهابَ إِلَى بِرْكَةِ الْماءِ، لِلانْتِقامِ مِنَ «الْعُلْجُومِ». حاوَلَ أَنْ يَطِيرَ بِجَناحَيْهِ، فَلَمْ يَجِدْ لَهُ عَزْمًا. ظَلَّ يَزْحَفُ — فِي ضَعْفٍ — وَهُوَ يَتَحامَلُ عَلَى نَفْسِهِ. وَصَلَ إِلَى مَكانِ «الْعُلْجُومِ». رَآهُ عَلَى حافَةِ الْبِرْكَةِ.

«الْعُلْجُومُ» كانَ يَتَوَقَّعُ مَقْدِمَ الْأَسَدِ الْهائِجِ الْغَضُوبِ، دَبَّرَ فِي نَفْسِهِ ما سَوْفَ يَقُومُ بِهِ حِينَ يَجِيءُ الْأَسَدُ، رَأَى الْأَسَدَ يَقْتَرِبُ مِنْهُ فَسَبَحَ إِلَى الْبَرِّ الْآخَرِ!

أَسْرَعَ الْأَسَدُ إِلَى الْماءِ … ظَلَّ يَسْبَحُ فِيهِ حَتَّى بَلَغَ الْبَرَّ الْآخَرَ.

figure
الْأَسَدُ يَزْحَفُ فِي ضَعْفِهِ يَتَعَقَّبُ «الْعُلْجُومَ».

«الْعُلْجُومُ» كانَ أَسْرَعَ مِنْهُ فِي الْعَوْدَةِ إِلَى الْبَرِّ الْأَوَّلِ.

تَكَرَّرَ هذا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ: «الْعُلْجُومُ» يَسْبِقُ إِلَى الْبَرِّ، الْأَسَدُ يَعْجزُ عَنِ اللُّحُوقِ بِهِ، مِنْ حافَةٍ إِلَى حافَةٍ!

بَلَغَ التَّعَبُ بِالْأَسَدِ مَبْلَغًا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ عَهْدٌ.

لكِنَّ ذلِكَ لَمْ يُطْفِئْ فِي نَفْسِهِ جَذْوَةَ الْغَضَبِ.

انْدَفَعَ — بِلا وَعْيٍ مِنْهُ — يُكَرِّرُ مُحاوَلاتِهِ، بِغايَةِ الاهْتِمامِ. عَظُمَ عَلَيْهِ أَنْ يُدَوِّخَهُ هذا «الْعُلْجُومُ» الْهَزِيلُ.

أَيُتاحُ لَهُ ذلِكَ، وَهُوَ ضِفْدِعٌ لا حَوْلَ لَه وَلا قُوَّةَ؟!

كَيْفَ يَتَسَنَّى تَهْدِيدُهُ والْعَبَثُ بِهِ، وَهُوَ سُلْطانُ الْوُحُوشِ؟!

إِنَّها سُبَّةٌ فِي تارِيخِ الْأُسُودِ؛ أَنْ يَقْهَرَهُ «عُلْجُومٌ» مُسْتَضْعَفٌ!

ماضِي الْأَسَدِ حافِلٌ بِأَمْجادِ الانْتِصاراتِ عَلَى الْمَصاعِبِ والْأَهْوالِ.

ما مِنْ مَعْرَكَةٍ خاضَها إِلَّا تَجَلَّتْ عَنْهُ، وَهُوَ فائِزٌ غَلَّابٌ.

قَصْرُهُ الَّذِي شَيَّدَهُ عالِيًا، شاهِدٌ لَهُ بِالْقُوَّةِ والْجَبَرُوتِ.

أَمِنَ الْمَفْهُومِ أَنْ تَكُونَ نِهايَتُهُ فِي أَوْحالِ بِرْكَةِ «عُلْجُومٍ»؟!

كُلُّ ذلِكَ جَعَلَ الاغْتِمامَ يُفْعِمُ نَفْسَ الْأَسَدِ، وَيَمْلَؤُها غَضَبًا. خارَتْ قُوَاهُ، فَإِذا هُوَ يَهْوِي غَرِيقًا فِي أَعْماقِ الْبِرْكَةِ.

ابْتَهَجَتِ «الْأُقْحُوانَةُ الْحَمْراءُ» بِما صَنَعَهُ «الْعُلْجُومُ».

شَكَرَتْ لَهُ فَضْلَهُ الَّذِي أَسْداهُ إِلَيْها، وَأَعانَها بِهِ.

دَعَتْهُ أَنْ يَصْحَبَها، فِي عَوْدَتِها، إِلَى مَقَرِّ أَبِيها الشَّيْخِ.

figure
«الْأُقْحُوانَةُ» تَتَناقَلُ مَعَ «الْعُلْجُومِ» حَدِيثَ الِانْتِصارِ.

(١٠) عَوْدَةُ «الْأُقْحُوانَةِ»

عادَتِ الْفَتاةُ إِلَى دِيارِ أَهْلِها، وَفِي صُحْبَتِها «الْعُلْجُومُ».

قَصَّتْ عَلَى أَبِيها كُلَّ ما وَقَعَ لَها مِنَ الْأَحْداثِ.

فَرِحَ بِنَجاتِها مِنَ الشَّرِّ، وانْتِصارِها عَلَى الْأَسَدِ الطَّائِرِ.

شَكَرَ الشَّيْخُ لِـ«الْعُلْجُومِ» جَمِيلَهُ الَّذِي أَسْداهُ إِلَى ابْنَتِهِ.

عَرَضَ عَلَيْهِ أَلَّا يَبْرَحَ دارَهُ، وَأَنْ يُقِيمَ مَعَهُ بَيْنَ أَهْلِهِ.

أَفْرَدَ لَهُ، فِي جانِبِ الْبُقْعَةِ، بِرْكَةَ ماءٍ جَمِيلَةً.

اسْتَقْدَمَ لَهُ أَهْلَهُ مِنَ الضَّفادِعِ، لِتَسْتَقِرَّ مَعَهُ فِي عافِيَةٍ وَهَناءَةٍ.

سَتُتاحُ لِأُسْرَتِهِ الرَّاحَةُ والسَّكِينَةُ، فَلا يُنَغِّصُ عَيْشَها كَدَرٌ.

ابْتَهَجَ الْأَهْلُونَ فِي الْبُقْعَةِ جَمِيعًا بِتَوْفِيقِ «الْأُقْحُوانَةِ الْحَمْراءِ».

حَمِدُوا لَها أَنَّها لَمْ تُبالِ بِالْمُخاطَرَةِ مِنْ أَجْلِهِم بِنَفْسِها.

قَدَرَتْ عَلَى أَنْ تَكُفَّ عَنْهُمُ الْعُدْوانَ، وَتُظِلَّهُمْ بِرايَةِ الْأَمانِ.

لَقَدْ يَسَّرَتْ لِقَوْمِها الْخَلاصَ مِنْ بَأْسِ الْأَسَدِ الطَّائِرِ.

أُقِيمَتِ الزِّيناتُ، وَمُدَّتِ الْوَلائِمُ، ابْتِهاجًا بذلِكَ الانْتِصارِ الْعَظِيمِ.

مَرَّتِ الْأَيَّامُ، وَكَرَّتِ الْأَعْوامُ، والْبِلادُ فِي بُحْبُوحَةِ السَّلامِ.

ظَلَّتْ ذِكْرَياتُ تِلْكَ الْأَحْداثِ مَضْرِبَ الْأَمْثالِ، عِنْدَ الْأَجْيالِ.

يُجاب مِمَّا في هذِهِ الحَكاية عن الأسئلة الآتية:

(س١) بِماذا امْتازت «الأُقحوانةُ الحَمْراءُ» حتَّى أَحبَّها النَّاسُ؟
(س٢) ماذا حيَّر «الأُقحوانةَ الحَمْراءَ» وأعْجَزها عن دفْعِهِ؟
(س٣) ماذا كان يخْشَى النَّاسُ مِنَ الأسَدِ الطَّائِرِ؟
(س٤) ماذا دارَ بيْن الْأَبِ وابْنتِهِ فِي مُواجَهَةِ الأسَدِ؟
(س٥) كيْف تعرَّفت الفَتاةُ إِلى خَصائِصِ الأعْشابِ؟
(س٦) ما اسمُ السَّيِّدَةِ الَّتِي أَوْحَتْ إِلَى الْفَتاةِ بِما أَوْحَتْ؟
(س٧) ماذا يجِبُ على الفتاةِ أن تَتَعلَّمَ خِلالَ الأشْهُرِ الثَّلاثَةِ؟
(س٨) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تخوَّفت الفَتاةُ؟ وبِماذا طمْأنَتْها «لاحِظَةُ»؟
(س٩) ماذا صنَعَ الأَبُ حين قَلِقَ لِغِيابِ ابْنَتِهِ؟
(س١٠) ماذا سمِعَت الفتاةُ مِن حديثِ الغِرْبانِ الثَّلاثةِ؟
(س١١) ماذا لاقَتِ الفَتاةُ من عَقَباتٍ؟ وكيْفَ انْتَهَتْ رِحْلَتُها؟
(س١٢) فِيمَ تحدَّثَ الغُرابانِ الأبْيَضانِ؟ ومَنْ يَعْرِفُ سِرَّ الأسَدِ؟
(س١٣) بِماذا أَخْبَرَ «العُلْجُومُ» الْفَتاةَ فِي شَأْنِ سِرِّ الأسَدِ؟
(س١٤) ماذا اتَّخَذَتِ «الأُقْحُوانَةُ» من خُطُواتٍ لِهَدْمِ الْعَرِينِ؟
(س١٥) ماذا فعَل الأسَدُ لَدَى عَوْدَتِه؟ ومَنْ ظنَّهُ أَفْشَى سِرَّهُ؟
(س١٦) ما مَوْقِفُ «الْعُلْجُومِ» مِنَ الأسَدِ؟ وماذا دارَ بَيْنَهما؟
(س١٧) بِماذا كافَأَ الأَبُ «الْعُلْجُومَ»؟ وبِماذا فَرِحَ الْأَهْلُونَ؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤