ماهية الحقيقة

  • (١)

    التصور الشائع عن الحقيقة.

  • (٢)

    الإمكانية الباطنة للتطابق.

  • (٣)

    أساس إمكان التوافق.

  • (٤)

    ماهية الحرية.

  • (٥)

    ماهية الحقيقة.

  • (٦)

    اللاحقيقة من حيث هي حجب (إخفاء).

  • (٧)

    اللاحقيقة من حيث هي ضلال.

  • (٨)

    السؤال عن الحقيقة والفلسفة.

  • (٩)

    ملحوظة.

***

حديثنا عن ماهية الحقيقة، والسؤال عن ماهية الحقيقة لا يهتم بأن تكون الحقيقة هي حقيقة التجربة العملية في الحياة أو تدبير الشئون الاقتصادية، أو حقيقة تفكير تقني أو براعة سياسية، ولا يعنيه بوجهٍ خاص أن تكون هي حقيقة البحث العلمي أو الخلق الفني، بل ولا أن تكون هي حقيقة تأمل فكري١ أو عقيدة دينية ذات مناسك وطقوس،٢ إن السؤال عن الماهية يصرف النظر عن هذه الأمور جميعًا ويوجه بصره إلى أمر واحد، وهو ذلك الذي يميز الحقيقة من حيث هي حقيقة.
ولكن ألا يتوه بنا السؤال عن الماهية في فراغ التعميم٣ الذي يكتم على أنفاس الفكر؟ أليس من شأن المجازفة بمثل هذا السؤال أن تبين أن الفلسفة كلها هاوية لا تقوم على أساس؟٤ إن من أول واجبات الفكر الذي تمتدُّ جذوره في الواقع ويتجه إلى الواقع أن يصرف جهده، دون لفٍّ أو دوران، إلى إقامة الحقيقة الواقعية التي تزودنا اليوم بالمعيار الذي نحتكم إليه والسند الذي نعتمد عليه ليحمينا من اختلاط الآراء والظنون، وما جدوى السؤال عن الحقيقة إزاء المحنة الواقعية التي نواجهها اليوم، إذا كان هذا السؤال يغفل كل واقع (يجرده)؟ أليس السؤال عن الماهية هو أقل الأسئلة أهميةً وأبعدها عن الالتزام؟٥
ليس في وسع أحد أن يتملَّص من بداهة اليقين الواضح الذي تنطوي عليه هذه الشكوك والاعتراضات، وليس في وسع أحد أن يستخفَّ بجديتها الملحة، ولكن من ذا الذي يعبر بها عن نفسه؟ إنه الفهم المشترك أو الحس «السليم»، فهو يصرُّ على مقتضيات النفع المباشر الملموس، ويكافح٦ المعرفة بماهية الوجود، وهي المعرفة الأساسية التي تُسَمَّى من قديم الزمان باسم «الفلسفة».
والفهم العام٧ يعمد إلى هذا مدفوعًا بضرورته الخاصة، فهو يؤكد حقه بالسلاح الوحيد الذي يملكه، وهو الإهابة «ببداهة»٨ دعاويه واعتراضاته، بَيْدَ أن الفلسفة لن تقدر أبدًا على دحض الفهم العام؛ لأنه أصم عن لغتها، بل لا ينبغي لها أن تفكِّر في دحضه؛ لأن الفهم العام أعمى عن كل ما ترى أنه يمتُّ للماهية بسبب.٩
وفضلًا عن هذا فإننا نحصر أنفسنا داخل حدود المعقولية التي يتسم بها الفهم العام، ما دمنا نتصور أننا نعيش آمنين وسط هذه «الحقائق» المتنوعة التي تمدُّنا بها تجربة الحياة والفعل والبحث العلمي والخلق الفني والإيمان الديني، إننا نشارك بأنفسنا في تمرد «البديهي»١٠ على كل ما يستحق أن يوضع موضع السؤال.

فإذا لزم مع ذلك أن نسأل عن الحقيقة، فإن الناس تتوقَّع أن يكون الجواب عن هذا السؤال: أين نقف اليوم؟ إنهم يريدون أن يعرفوا الحال التي وصلنا إليها اليوم، إنهم ينشدون معرفة الهدف الذي ينبغي أن يحدد للإنسان خلال تاريخه كما ينبغي أن يحدد لهذا التاريخ نفسه، إنهم يريدون «الحقيقة» الواقعية، أي إنهم يريدون الحقيقة دائمًا.

غير أن المطالبة بالحقيقة «الواقعية» لا بد أن يسبقها العلم بما تدل عليه الحقيقة من حيث هي كذلك، أم أن الذين يُطالِبون بها لا يعرفون ذلك إلا «بصورة عاطفية»١١ و«بشكل عام»؟ ولكن أليست هذه «المعرفة» التقريبية وتلك اللامبالاة أدعى إلى الرثاء من الجهل الخالص بماهية الحقيقة؟

(١) التصور الشائع عن الحقيقة

ما الذي يُفهَم عادةً من كلمة «الحقيقة»؟ إن هذه الكلمة الرفيعة التي أصبحت مع ذلك كلمة بالية، وأوشكت أن تكون صماء عاطلة من كل معنى، تدل على ما يجعل الحقيقي حقيقيًّا، ما هو الحقيقي؟ نحن نقول مثلًا: «إنها لَفرحة حقيقية أن أساهم في نجاح هذه المهمة.» ونقصد بهذا أنها فرحة خالصة واقعية، فالحقيقي إذن هو الواقعي، وبهذا المعنى نتكلم عن الذهب الحقيقي تمييزًا له من الذهب الزائف، فالذهب الزائف ليس في الواقع كما يبدو من مظهره، إنه مجرد «مظهر» ولهذا السبب فهو غير واقعي، وغير الواقعي يؤخذ على أنه عكس الواقعي، ولكن الذهب المزيف١٢ يُعدُّ كذلك واقعيًّا؛ من أجل هذا نعبر تعبيرًا أوضح فنقول: «الذهب الواقعي هو الذهب الأصيل.» غير أن كليهما «واقعي»، لا يقل الذهب الأصيل في هذا ولا يزيد عن الذهب الرائج غير الأصيل، وإذن فإن حقيقة الذهب الأصيل لا يمكن أن تكون مضمونة عن طريق واقعيته، ولكن السؤال يعود مرة أخرى: ما المقصود هنا بالأصيل والحقيقي؟ الذهب الأصيل هو ذلك الشيء الواقعي الذي تنطبق واقعيته على التصور الذي نستحضره دائمًا في أذهاننا عندما نفكر في الذهب، وعلى العكس من ذلك فإننا نقول عندما نشتبه في وجود ذهب مزيف: «هنا شيء غير صحيح»،١٣ أمَّا ذلك الذي يكون «كما ينبغي له أن يكون»، فإننا ندلُّ عليه بقولنا: «صحيح»، أي أن الشيء١٤ متفق أو متطابق مع ما يتوقع منه أو يُراد له.
ولكننا لا نقتصر على وصف الفرحة الواقعية والذهب الأصيل وكل موجود من هذا النوع بأنه حقيقي، وإنما نصف كذلك وقبل كل شيء بالحقيقة أو البطلان١٥ عباراتنا التي نقولها عن الموجود الذي يمكن هو نفسه وحسب ما تقضي به طبيعته أن يكون أصيلًا أو غير أصيل، وأن تكون واقعيتُه على هذا النحو أو ذاك، وتكون العبارة حقيقيةً عندما يتطابق ما تعنيه وما تقوله مع الشيء الذي تعبِّر عنه، هنا أيضًا نقول: هذا صحيح.
غير أن الصحيح في هذه الحالة ليس هو الشيء، بل القضية.١٦

إن الحق، سواء أكان شيئًا حقيقيًّا أم قضية حقيقية، هو الصحيح (أو المتوافق)، والحق والحقيقة يدلَّان هنا على الصحة أو التوافق، وذلك بالمعنى المزدوج لهذه الكلمة: فهو من ناحية توافق الشيء مع ما يفترض عنه (أو يقصد به)، ومن ناحية أخرى تطابق مدلول العبارة مع الشيء.

هذا الطابع المزدوج للتوافق يوضِّح التعريف التقليدي الموروث لماهية الحقيقة: الحقيقة هي تطابق الشيء مع العقل،١٧ وقد يكون معنى هذا أن الحقيقة هي تطابق١٨ الشيء مع المعرفة، ولكن قد يكون معناه أيضًا أن الحقيقة هي تطابق المعرفة مع الشيء،١٩ صحيح أنه قد جرت العادة في أغلب الأحيان على ذكر التعريف السابق في هذه الصيغة وحدها: الحقيقة هي تطابق العقل مع الشيء، غير أن الحقيقة المفهومة على هذا النحو، أي حقيقة القضية، لا تقوم إلا على أساس حقيقة الشيء، أي تطابق الشيء مع العقل،٢٠ وكلا التصورين عن الحقيقة يدلُّ دائمًا على التوافق مع، ويفكر في الحقيقة بوصفها صحةً أو صوابًا أو توافقًا.٢١
ومع ذلك فإن أحد هذين التصورين ليس مجرد صورة معكوسة من الآخر، وإنما يفهم العقل والشيء٢٢ في كلا الحالين فهمًا مختلفًا، ولكي تعرف هذا يتحتم علينا أن نرد الصيغة الشائعة عن التصور المعتاد للحقيقة إلى أصلها المباشر (الوسيط).٢٣
إن الحقيقة بوصفها تطابق الشيء مع العقل٢٤ لا تعبر عن الفكرة الشارطية (الترنسندنتالية) التي جاء بها كانط بعد ذلك ولم تقم إلا على أساس تصور ماهية الإنسان من حيث هو ذاتية، وهي الفكرة التي تذهب إلى أن الأشياء (أو الموضوعات) تتوافق مع معرفتنا،٢٥ بل تعبر عن العقيدة المسيحية والفكرة اللاهوتية التي ترى أن الأشياء، من جهة ماهيتها ووجودها، لا توجد — بوصفها كائنات مخلوقة٢٦ — ألا بقدر ما تتوافق (أو تتطابق) مع الفكرة المتصورة عنها من قبل في العقل الإلهي٢٧ أو الروح الإلهية، بهذا تكون الأشياء منظمة وفقًا للفكرة (أي الصحيحة)، ومِنْ ثَمَّ تكون بهذا المعنى حقيقة، ولكن العقل الإنساني٢٨ أيضًا كائن مخلوق،٢٩ ولما كان هو الملكة التي منحها الله للإنسان، فلا بد أن يكون مكافئًا (مطابقًا) لفكرته،٣٠ بَيْدَ أن العقل لا يكون مكافئًا (أو مطابقًا) لفكرتِه إلا إذا استطاع أن يحقِّق في عباراته٣١ توافق٣٢ (الموضوع).
المتصور مع الشيء الذي يلزم بدوره أن يكون مطابقًا للفكرة، إن إمكانية حقيقة المعرفة البشرية، إذا كانت كل الكائنات «مخلوقة»، تقوم على أساس أن الشيء والعبارة كليهما وبنفس الطريقة مكافئ للفكرة ومترتِّب على وَحْدة خطة الخلق الإلهية، ومِنْ ثَمَّ فكلٌّ منهما متوافق مع الآخر (أو متطابق معه)، إن الحقيقة،٣٣ بوصفها تطابق الشيء (المخلوق) مع العقل (الإلهي)،٣٤ هي التي تتضمن الحقيقة بوصفها تطابق العقل (الإنساني) مع الشيء (المخلوق)،٣٥ فالحقيقة تدل أساسًا في وكل الأحوال على التوافق٣٦ أو على تطابق الموجودات فيما بينها بوصفها مخلوقات من قبل الخالق، أي على تجانس٣٧ دبر بمقتضى نظام الخلق.
ولكن لو جرِّد هذا النظام من فكرة الخلق لَأمكن كذلك تصورُه بطريقةٍ عامة وغير محددة بوصفه نظام العالم، وبدلًا من نظام الخلق المتصور تصوُّرًا لاهوتيًّا تظهر فكرة تدبير جميع الموضوعات عن طريق العقل الكوني الذي يشرع قانونه لنفسه؛ ومِنْ ثَمَّ يسلم لنفسه كذلك بمعقولية أساليبه٣٨ معقولية مباشرة (وهو ما يُعتبَر «منطقيًّا»)، وعندئذٍ لا يكون هناك داعٍ لتبرير أن ماهية حقيقة (صدق) القضية (أو الحكم) تكمن في صحة (مطابقة، صواب) العبارة، وحتى في المواضع التي يحاول فيها المرءُ عبثًا أن يفسِّر كيف يمكن أن تتم هذه الصحة أو المطابقة، فإنه يفترض وجودها سلفًا باعتبارها ماهية الحقيقة، كذلك تدل حقيقة الشيء دائمًا على توافق الشيء المعطى مع التصور «المعقول» عن ماهيته، ويبدو الأمر حينئذٍ وكأن هذا التصورَ٣٩ لماهية الحقيقة مستقل عن التفسير المتعلق بماهية وجود كل موجود، في حين أن هذا التفسير الأخير يتضمَّن بالضرورة تفسيرًا مشابهًا لماهية الإنسان من حيث هو حامل العقل ومحقِّقه.٤٠
وهكذا تكتسب الصيغة المعبرة عن ماهية الحقيقة (الحقيقة هي تطابق العقل والشيء)٤١ صدقها الكلي مباشرةً في نظر كل إنسان وتحت سطوة بداهة٤٢ هذا التصوُّر عن ماهية الحقيقة، وهي البداهة التي لم يكد أحد يلتفت إلى أسسها الجوهرية — نجد أيضًا من يسلم تسليمًا بديهيًّا بأن للحقيقة ضدًّا يقابلها وأن اللاحقيقة لها وجود، فلا حقيقة القضية (أو عدم صحتها أو انطباقها) هي عدم تطابق العبارة مع الشيء، ولا حقيقة الشيء (عدم أصالته) تعني عدم توافق الموجود مع ماهيته، وفي كل مرة تفهم اللاحقيقة بوصفها عدم اتفاق،٤٣ وهذا يسقط خارج٤٤ ماهية الحقيقة؛ من أجل هذا يمكن إهمال اللاحقيقة، بوصفها الضد المقابل للحقيقة، حيثما أردنا إدراك الماهية الخالصة لهذه الأخيرة.
ولكن هل ما زلنا بحاجة للكشف عن ماهية الحقيقة؟ أليسَت الماهية الخالصة للحقيقة متمثلة بصورة كافية في ذلك المفهوم الذي لا تعكره نظرية والذي تحميه بداهته ويتفق الجميع على صحته وصدقه؟ وأخيرًا فإننا حين نأخذ رد حقيقة القضية إلى حقيقة الشيء على معناه القريب المألوف، أي من جهة كونه تفسيرًا لاهوتيًّا، وحين نصرُّ على تنقية التحديد الفلسفي للماهية من كل تدخل من جانب اللاهوت ونقصر تصور (مفهوم) الحقيقة على حقيقة القضية، فإنما نلتقي بذلك مع تراثٍ فكريٍّ قديم، وإن لم يكن هو أقدم تراث، وهو تراث يرى أن الحقيقة هي تطابق (هومويوزيس) عبارة (لوجوس) مع شيء (براجما)،٤٥ فما حاجة العبارة إلى بحث أو سؤال، إذا فرضنا أننا نعرف معنى تطابق العبارة مع الشيء؟ ولكن هل نعرف هذا؟

(٢) الإمكانية الباطنة للتطابق

نحن نتحدث عن التطابق ونقصد به معاني مختلفة، فنقول مثلًا عن قطعتين من العملة النقدية فئة الماركات الخمس موضوعتين على المائدة: إنهما متفقتان في وَحْدة مظهرهما؛ ولهذا تشتركان في هذا المظهر وتكونان من وجهة النظر هذه متشابهتين، ثم إننا نتحدَّث عن التطابق عندما نقول مثلًا عن إحدى هاتين القطعتين من فئة الخمسة ماركات: هذه القطعة النقدية مستديرة، هنا ينطبق القول أو العبارة على الشيء، وفي هذه الحالة لا تقوم العلاقة بين شيء وشيء، بل بين عبارة وشيء، ولكن ما الذي يمكن أن يجعل الشيء والعبارة متطابقين، إذا كان من الواضح أن طرفي العلاقة مختلفان في مظهرهما؟ إن العملة النقدية مصنوعة من المعدن، والعبارة غير مادية على الإطلاق، العملة النقدية مستديرة، والعبارة ليس لها صفة مكانية على الإطلاق، بالعملة النقدية يمكن أن نشتري شيئًا ما، والعبارة التي تُقال عنها لا تصلح أبدًا لأن تكون وسيلة شراء، ولكن على الرغم من كل هذا الاختلاف بينهما فإن العبارة المذكورة تتطابق بوصفها عبارة حقيقية (صادقة) مع القطعة النقدية، وينبغي أن يُفهم هذا التطابق، وفقًا للتصوُّر الشائع عن الحقيقة، على أنه تكافؤ.٤٦ كيف يمكن أن يتكافأ هذا الشيء المختلف تمام الاختلاف، وهو العبارة، مع القطعة النقدية؟ يتحتَّم على العبارة لكي تحقق هذا أن تتحول إلى قطعة نقدية وأن تلغي بذلك نفسها تمامًا، ولكن العبارة لن تُفلح في ذلك أبدًا، وفي اللحظة التي يتحقَّق فيها مثل هذا التحول سيستحيل على العبارة، بما هي عبارة، أن تتطابق مع الشيء، إن العبارة يجب أن تبقى في التكافؤ، بل إنها لا تصبح ما هي عليه إلا إذا بقيت كذلك.٤٧ مم تتكون إذن ماهيتها المختلفة عن ماهية أي شيء آخر؟ كيف يتيسر للعبارة، مع احتفاظها بماهيتها، أن تكون مكافئة لكائن آخر، أي الشيء؟
إن التكافؤ المقصود لا يعني في هذه الحالة أن يحدثَ تشابهٌ واقعيٌّ٤٨ بين شيئين مختلفين في طبيعتهما، والأولى أن يُقال إن ماهية التكافؤ تتحدَّد وفقًا لنوع العلاقة التي تقوم بين العبارة والشيء، وما بقيت هذه «العلاقة» غير محددة وغير مؤسَّسة من جهة ماهيتها، فسوف يدور في الفراغ كل نزاع٤٩ حول إمكان هذا التكافؤ أو عدم إمكانه، وحول نوعه ودرجته.
ولكن العبارة التي تُقال عن القطعة النقدية «تتعلق» بهذا الشيء عندما تتمثله٥٠ (أو تستحضره أمامها) وتتكلم عن حالة هذا الشيء المتمثل (المستحضر) من وجهة النظر السائدة، والعبارة المتمثلة (المستحضرة) تقول ما تقوله عن الشيء المتمثل بحيث تعبِّر عنه بما هو كذلك. هذه الطريقة في التعبير٥١ تنصب على التمثُّل (الاستحضار) وما يتمثله (أو يستحضره)، والمراد هنا بالتمثُّل — مع استبعاد كل الآراء «السيكولوجية» و«المعرفية» المسبقة — هو جعل الشيء يوضَع أمامنا بوصفه موضوعًا،٥٢ والذي يوضع أمامنا، من حيث وضعه بهذه الكيفية، لا بد له أن يقطع (أو يغطي ويتخلل) مجالًا مفتوحًا في مواجهتنا وأن يبقى مع ذلك في ذاتِه شيئًا ويظهر بوصفه كيانًا ثابتًا، هذا الظهور للشيء عن طريق قطعه أو تخلُّله مجالًا يقع في مواجهتنا يتحقَّق داخل منفتح (أو مجال مفتوح) لم يعمل التمثل (الاستحضار) على خلق انفتاحه، وإنما أخذ — من جانب التمثل — مأخذ مجال للعلاقات، والعلاقة بين العبارة المتمثِّلة وبين الشيء هي تحقُّق تلك الإحالة التي تتمُّ في الأصل كما تتمُّ في كل مرةٍ على صورة مسلك،٥٣ والمسلك يتصف دائمًا بأنه — وهو الذي يتم داخل المجال المنفتح — يرتبط باستمرار بما هو متكشف٥٤ من حيث هو كذلك، هذا المتكشف وبهذا المعنى الدقيق وحده قد جربه الفكر الغربي منذ وقت مبكر بوصفه «ذلك الذي يحضر»٥٥ كما سمَّاه منذ وقت طويل ﺑ «الموجود».
إن المسلك منفتح على الموجود، وكل علاقة انفتاح مسلك، وتفتُّح الإنسان (أو انفتاحه) يتفاوت حسب طبيعة الموجود وأسلوب مسلكه نحوه،٥٦ وكل عمل وإنجاز، كل فعل وتدبير، يبقى في انفتاح مجال يستطيع الموجود في داخله أن يوضع الوضع الذي يسمح بالتعبير عنه من حيث ماهويته٥٧ وكيفيته، ولا يتأتَّى هذا إلا إذا أصبح الموجود نفسه متمثلًا (أو مستحضرًا) في التعبير الذي يمثله، بحيث يخضع هذا التعبير لفرض يُلزِمه بأن يعبِّر عن الموجود من حيث هو كذلك، وبقدر ما يلتزم التعبير بهذا الفرض، فإنه يتوافق٥٨ مع الموجود، والتعبير الذي يلتزم بهذا الفرض يكون تعبيرًا صحيحًا أو متوافقًا (حقيقيًّا)،٥٩ وما يعبر عنه بهذه الطريقة هو الصحيح المتوافق (الحقيقي).
يجب على العبارة أن تستمدَّ توافقَها (صحتها) من تفتُّح المسلك (أو انفتاحه)؛ إذ إن هذا التفتح وحده هو الذي يُتيح للمنكشف٦٠ بوجه عامٍّ أن يصبح معيارًا للتمثُّل المكافئ، ولكن المسلك المنفتح نفسه هو الذي يجب عليه أن يهتدي بهذا المعيار، ومعنى هذا أن المسلك يتحتَّم عليه أن يقبل العطية السابقة لهذا المعيار الذي يوجه كل تمثل، وهذا متضمن في تفتُّح المسلك، ولكن إذا كان تفتُّح المسلك هذا هو وحده الذي يجعل توافق العبارة أو صحتها (حقيقتها) ممكنة، فيلزم عن هذا أن يكون ذلك الذي يجعل التوافق (أو الصحة) ممكنًا هو صاحب الحق الأصلي في أن يعتبر ماهية الحقيقة.
بهذا تسقط الإحالة٦١ التقليدية والنهائية للحقيقة إلى العبارة منظورًا إليها بوصفها الموضع الوحيد الذي تحلُّ فيه ماهيتها،٦٢ إن القضية ليست هي الموطن الأصلي للحقيقة، ولكن في نفس الوقت يبرز هذا السؤال عن أساس الإمكانية الباطنة للمسلك المنفتح الذي يعطي نفسه المعيار بصورة مسبقة؛ إذ إن هذه الإمكانية وحدها هي التي تخلع على توافق (أو صحة) القضية٦٣ المظهر الذي يخوِّل له تحقيق ماهية الحقيقة.

(٣) أساس إمكانية التوافق٦٤

من أين يستمد التعبير المتمثِّل الفرض٦٥ الذي يوعز إليه بأن يتجه نحو الموضوع ويتوافق معه حسب «قانون» التطابق؟ لماذا يُسهم هذا التوافق في تحديد ماهية الحقيقة؟ كيف تتم مثل هذه العطية الأولية للمعيار وهذا الإيعاز بالتوافق؟ لا يتم هذا حتى تكون هذه العطية الأولية قد تمكَّنت من تحريرنا بحيث ننفتح على ما يتكشَّف فيها وما يلزم كل تمثُّل،٦٦ إن التحرُّر من أجل معيار ملزم لا يتيسر إلا إذا كان تحرُّرًا إزاء المنكشف الذي يظهر في «مجال» مفتوح،٦٧ مثل هذا التحرُّر يُشير إلى الماهية التي لم تفهم حتى الآن للحرية. إن انفتاح المسلك، وهو الذي يجعل التوافقَ ممكنًا من الناحية الباطنة، يقوم على أساس الحرية، إن الحرية هي ماهية الحقيقة.

ولكن ألا تضع هذه القضية «التي تؤكد» ماهية التوافق أمرًا بدهيًّا مكان أمر بدهي آخر؟ إن الفعل لا يمكن أن يتحقَّق إلا إذا كان الفاعل حُرًّا، كذلك الشأن في فعل التعبير المتمثل وفي قبول إحدى الحقائق أو رفضها، بَيْدَ أن القضية لا تعني مع ذلك أن تكوين عبارة أو توصيلها «للغير» أو استيعابها يحتاج بالضرورة إلى الفعل الخالص من الضغط والإلزام، وإنما تقول: إن الحرية هي ماهية الحقيقة ذاتها، والمقصود ﺑ «الماهية» هنا هو أساس الإمكان الباطن لما يسلم بأنه معروف مباشرةً وبوجه عام، ولكننا إذا ذكرنا تصور الحرية لا نفكِّر في الحقيقة بل ولا نفكر أيضًا في ماهيتها؛ ولهذا فإن القضية التي تزعم أن ماهية الحقيقة (أو توافق العبارة وصحتها) هي الحرية، لا بد أن تُثير الحيرة.

أليس وضع ماهية الحقيقة في الحرية معناه أن نضع الحقيقة تحت رحمة الهوى؟٦٨ وهل هناك شيء أقدر على تقويض الحقيقة من تركها نهبًا لتعسف هذه «القصبة المرتعشة»٦٩ وتحكمها؟ إن الشيء الذي ظل يلحُّ على الحكم السليم٧٠ أثناء هذه المناقشة قد ظهر الآن أكثر وضوحًا: إن الحقيقة هنا ترد٧١ إلى ذاتية الذات الإنسانية، وحتى لو أمكن أن تصلَ هذه الذات إلى الموضوعية، فإن هذه الموضوعية ستظلُّ إنسانيةً شأنها شأن الذاتية، كما ستبقى تحت تصرُّف الإنسان.
ما من شك في أن الإنسان ينسب إليه الزيف والنفاق، والكذب والخداع، والغش والتظاهر، وعلى الجملة كل ألوان اللاحقيقة، ولكن اللاحقيقة تعد كذلك نقيض الحقيقة، ولهذا يرى الناس من حقهم أن يستبعدوها من دائرة السؤال عن الماهية الخالصة للحقيقة، وذلك على أساس أنها الوجه السلبي من الحقيقة،٧٢ هذا الأصل الإنساني للاحقيقة إنما يؤكد، بطريق مضاد، أن ماهية الحقيقة في ذاتها هي التي لها السيادة على الإنسان، هذه الحقيقة في ذاتها تعدُّ في نظر الميتافيزيقا خالدة وأبدية؛ ومِنْ ثَمَّ فلا يمكن أن تنبني على زوال الكائن البشري وهشاشته،٧٣ فكيف إذن يتيسَّر لماهية الحقيقة أن تجد حماها وأساسها في حرية الإنسان؟
إن النفور الذي تلقاه القضية القائلة بأن ماهية الحقيقة هي الحرية يقوم على بعض الأحكام المسبقة،٧٤ ومن أشد هذه الأحكام عنادًا تلك التي تزعم أن الحرية خاصيةٌ من خصائص الإنسان، وأن ماهية الحرية لا تحتاج إلى مزيد من البحث، وأن كل الناس تعرف ما هو الإنسان.

(٤) ماهية الحرية

ومع هذا التنبيه إلى الارتباط الماهوي٧٥ بين الحقيقة بوصفها توافقًا (أو صحةً وصوابًا) وبين الحرية يزعزع هذه الأحكام المسبقة، بشرط أن نكون على استعداد «لإجراء» تحول في التفكير، إن التأمُّل في الارتباط الماهوي القائم بين الحقيقة والحرية يؤدِّي بنا إلى البحث في ماهية الإنسان من منظور٧٦ يضمن لنا تجربة أساس ماهوي خفي للموجود-الإنساني (أو الآنية)،٧٧ بحيث يضعنا «هذا التأمل» قبل ذلك٧٨ في المجال الذي تُفصح فيه الحقيقة عن ماهيتها،٧٩ من هنا يتضح أيضًا أن الحرية ليست هي أساس الإمكانية الباطنة للتوافق (الصحة والصواب) إلا لأنها تتلقَّى ماهيتها الخاصة بها٨٠ من ماهية أخرى أشد منها أصالة، وهي ماهية الحقيقة التي تعد وحدها ماهوية بحق.٨١
لقد حددت الحرية بادئ ذي بدء بأنها حرِّية٨٢ لأجل المنكشف في «نطاق» المفتوح،٨٣ كيف يتعين علينا أن نفكِّر في ماهية الحرية؟ إن المنكشف،٨٤ الذي يَتكافَأ معه التعبير المتمثِّل٨٥ بوصفه متوافقًا معه، هو الموجود المفتوح في مسلك منفتح،٨٦ والحرية لأجل انكشاف المفتوح هي التي تسمح للموجود بأن يكون الموجود على النحو الذي هو عليه،٨٧ وهكذا يتبيَّن أن الحرية هي «ترك-الموجود-يوجد».
إننا نتحدث عادةً عن «التَّرْك»٨٨ عندما ننفض أيدينا مثلًا من مشروع خططنا له، ومعنى قولنا: «نحن نترك شيئًا يوجد» أننا لن نلمسه بعد ذلك ولن نشغلَ أنفسنا به، وفي هذه الحالة يفيد «ترك الشيء يوجد» المعنى السلبي من انصراف عن الشيء وتخلٍّ عنه، ويعبِّر عن عدم الاكتراث به وإسقاطه، والكلمة الضرورية التي نلجأ إليها هنا للتعبير عن «تَرْك-الموجود-يوجد» لا تقصد الإسقاط وعدم الاكتراث، وإنما تقصد العكس من ذلك، إن «ترك-الموجود-يوجد» معناه أن نهب أنفسنا له، ولا ينبغي أن يُفهم هذا مرة أخرى على أنه مجرد تعاملٍ مع الموجود الذي نصادفه أو نبحث عنه، ولا على أنه مجرد صون ورعاية وتنظيم له، إن ترك الموجود يوجد — أي من جهة وجوده على ما هو عليه — معناه أن يَهَب الإنسان نفسه للمنفتح، وانفتاحه الذي يدخل فيه كل موجود ويستقر فيه، كما يأتي به هذا الموجود معه،٨٩ هذا المنفتح هو الذي تصوَّره الفكر الغربي في بدايته ووصفه باللا-محتجب (تاألليثيا).٩٠
ولو ترجمنا الكلمة اليونانية (أليثيا)٩١ باللاتحجُّب بدلًا من ترجمتها «بالحقيقة»، فإن هذه الترجمة لن تكون فحسب أكثر أمانة من الناحية «الحرفية»، بل إنها ستوجِّهنا إلى تغيير تفكيرنا في التصوُّر الشائع للحقيقة بمعنى توافُق العبارة وستجعلنا نرجع إلى المعنى الأصلي — الذي لم يُفهم بعدُ حقَّ الفهم — وهو انكشاف الموجود أو تكشفه،٩٢ إن هبة النفس٩٣ لتكشف الموجود «لا تعني» أن تضيع فيها، بل أن تتهيَّأ٩٤ لنوع من التراجُع أمام الموجود حتى يتجلَّى وينكشف فيما هو عليه وعلى ما هو عليه ويتمكَّن التكافُؤ المتمثِّل من أن يستمدَّ منه المعيار، ومثل هذا الترك للموجود معناه أن نعرض أنفسنا للموجود بما هو كذلك وأن نضع مسلكنا كله في الانفتاح، إن «ترك- الموجود-يوجد»، هو في ذاته تعرُّض وتخارج،٩٥ وماهية الحرية، منظورًا إليها على ضوء ماهية الحقيقة، تتضح الآن بوصفها التعرُّض لتكشُّف الموجود.
وليست الحرية مقصورةً على ما يطيب للفهم العام أن يتصوَّره تحت هذا الاسم: أي معنى الهوى أو النزوة التي تنبثق أحيانًا في أنفسنا وتدفعنا إلى اختيار هذا الجانب أو ذاك، وليست الحرية هي انتفاء الضغط والإلزام بأن نفعل شيئًا (مُعيَّنًا) أو لا نفعله، وليست الحرية كذلك بالتهيُّؤ أو الاستعداد لقضاء مطلب أو ضرورة (ومِنْ ثَمَّ موجود من نوع ما)، إن الحرية قبل هذا كله (أي قبل الحرية السلبية والإيجابية) هي الهبة أو الانصراف إلى انكشاف الموجود بما هو كذلك، والتكشُّف نفسه يُحافَظ عليه ويُصان في الهبة المتخارجة، وبفضل هذه الهبة (أو هذا الانصراف والتوجه) يكون انفتاح المفتوح، أي يكون الهناك (أو الحضور)٩٦ ما يكون عليه.
في الهناك (الدازاين أو الحضور) يُصان للإنسان (ذلك) الأساس الماهوي الذي طال العهد على عدم تأسيسه، والذي يُتيح له أن يتخارَج،٩٧ والوجود هنا لا يُقصَد به وجود الموجود بمعنى وروده أو حضوره أمامنا، ولا ينبغي كذلك أن يُفهم بالمعنى «الوجودي» أي بمعنى الجهد الأخلاقي الذي نقصده من اهتمام الإنسان بنفسه اهتمامًا قائمًا على تكوينِه الجسدي والنفسي، إن الوجود (التخارج) الذي يمدُّ جذوره في الحقيقة بوصفها حرية، هو التعرُّض لتكشف الموجود بما هو موجود، ويبدأ وجود الإنسان التاريخي أو يبدأ تخارجه — وهو بعد لا يزال غير مفهومٍ وغير محتاجٍ إلى تأسيس ماهيته — في تلك اللحظة التي يتجه فيها المفكر الأوَّل إلى لاتحجُّب الموجود لكي يسأل ما هو الموجود،٩٨ في هذا السؤال يجرب اللاتحجب لأول مرة، ويتجلَّى الموجود في مجموعِه بوصفِه «فيزيس»٩٩ أي «طبيعة»، وهي هنا كلمة لا تعني بعدُ مجالًا مُعيَّنًا من مجالات الوجود، وإنما تعني الموجود بما هو كذلك في مجموعه، منظورًا إليه من حيث هو حضور في حالة بزوغ (أو انبثاق)، ولا يبدأ التاريخ إلا حيث يرفع الموجود نفسه ويُحفظ ويُصان بصورة واضحة في لاتحجبه، وحيث يفهم هذا الحفظ والصون على ضوء السؤال عن الموجود بما هو موجود، إن التكشُّف المبدئي للموجود في مجموعِه، والسؤال عن الموجود بما هو موجود، وبداية التاريخ الغربي كلها شيء واحد، وتتم في وقت وزمن واحد، (لكن) هذا الزمن الذي لا سبيل إلى قياسه هو الذي يفتتح به كل مقياس.١٠٠
ولكن إذا كان الموجود المتخارج هناك،١٠١ وبوصفه «ترك-الموجود-يوجد»، هو الذي يحرِّر الإنسان «لحريته»؛ وذلك حين تخوله١٠٢ (حق) اختيار إمكانية (موجود) ما، أو تفرض عليه ضرورة (موجود ما)، فليس التعسُّف البشري١٠٣ هو الذي يملك «التصرف في» الحرية، إن الإنسان لا يملك الحرية كما لو كانت خاصية له، بل إن العكس هو الأصح؛ فالحرية، أي الدازاين (أو الوجود-هناك) المتخارج الكاشف، هي التي تملكه على نحو أصيل يبلغ من أصالته أنها هي وحدها التي تكفل لبشرية١٠٤ ما أن تُنشئ العلاقة بالموجود في مجموعه وبما هو موجود، وهي العلاقة التي يقوم عليها التاريخ ويميز بها، إن الإنسان المتخارج هو وحده الإنسان التاريخي، أمَّا «الطبيعة» فهي بلا تاريخ.
إن الحرية التي تفهم هذا الفهم بحيث تعني «ترك-الموجود-يوجد» (هي حرية) تعمل على تحقيق ماهية الحقيقة بمعنى تكشف الموجود، وليست الحقيقة خاصية مميزة للقضية الصحيحة (المتوافقة) التي تقولها «ذات» بشرية عن موضوع ما ثم تعتبر بعد ذلك قضية «صادقة» دون أن نعرف شيئًا عن المجال الذي ستصدق فيه، وإنما الحقيقة هي تكشُّف الموجود الذي يتم بفضله١٠٥ انفتاح، وفي هذا الانفتاح يتكوَّن كل مسلك بشري وكل موقف يتخذه الإنسان، وذلك بفضل تعرضها له،١٠٦ من أجل هذا يكون (وجود) الإنسان على نحو متخارج،١٠٧ ولما كان كل مسلك إنساني منفتحًا على طريقته، فضلًا عن أنه يتواءم١٠٨ مع ما يتعلق به،١٠٩ فيلزم عن هذا أن يكون مسلك ترك-الوجود،١١٠ أي الحرية، قد أنعم عليه بنعمة الإيعاز الباطن١١١ الذي يطابق١١٢ بين تمثُّله وبين الموجود، (وهكذا) يصبح الآن معنى تخارج الإنسان: إن تاريخ الإمكانيات الأساسية١١٣ لبشرية تاريخية مُدخَّر١١٤ له في الكشف عن الموجود في مجموعه، ومن الأسلوب الذي تحضر١١٥ به الماهية الأصلية للحقيقة تنشأ القرارات الأساسية النادرة عبر التاريخ.
ولكن لما كانت الحقيقة في صميم ماهيتها حرية، فقد يتفق للإنسان التاريخي، وهو بصدد ترك-الموجود-يوجد، ألَّا يتركه يوجد فيما هو عليه أو كما هو عليه، عندئذٍ يُنكر الموجود ويحور،١١٦ وعندئذٍ يؤكد المظهر سلطانه وقوته، وفي هذه القوة تَتبدَّى١١٧ لاماهية الحقيقة، ولكن لما لم تكن الحرية المتخارجة — بوصفها ماهية الحقيقة — خاصية من خصائص الإنسان، بل يتخارج الإنسان ويصبح بذلك قادرًا على التاريخ لأن الحرية هي التي تملكه، فإن لاماهية الحقيقة لا يمكن أيضًا أن تنجم عن مجرد عجز الإنسان وإهماله،١١٨ إن اللاحقيقة — على العكس مما سبق — لا بدَّ أن تأتيَ من ماهية الحقيقة.
وارتباط الحقيقة باللاحقيقة ارتباطًا ماهويًّا يمنعهما من الوقوف من بعضهما موقفًا ينمُّ عن عدم الاكتراث، هو الذي يسمح للقضية الحقيقية (الصادقة) أن تضاد القضية غير الحقيقية (الكاذبة) تضادًّا حادًّا،١١٩ لهذا فإن السؤال عن ماهية الحقيقة لا يصل إلى مجاله الأصلي١٢٠ إلا إذا استطاع من خلال النظر المسبق في الماهية الكاملة للحقيقة أن يضمَّ كذلك التفكير في اللاحقيقة إلى أفقٍ تكشف الماهية،١٢١ إن البحث في لاماهية الحقيقة ليس مجرد ملء ثغرة ثانوية،١٢٢ بل هو الخطوة الحاسمة نحو وضع السؤال عن ماهية الحقيقة وضعًا مناسبًا، ولكن كيف يمكننا أن ندرك اللاماهية في (صميم) ماهية الحقيقة؟ إذا كانت ماهية الحقيقة لا تستنفد في توافق العبارة (أو صحتها وصوابها)، فلا يمكن بالمثل أن تسوَّى اللاحقيقة بعدم توافق (أو عدم صحة) الحكم.

(٥) ماهية الحقيقة

تبيَّن لنا أن ماهية الحقيقة هي الحرية، هذه الحرية هي التَّرْك المتخارج الكاشف للموجود، وكل مسلك منفتح يتحرك١٢٣ في (مجال) ترك الموجود-يوجد، ويقف موقفًا (معينًا) من هذا الموجود أو ذاك، والحرية، من حيث هي انصراف١٢٤ إلى انكشاف الموجود في مجموعه بما هو موجود، قد أثرت على كل سلوك بحيث يتوافق مع الموجود في مجموعه وبكليته،١٢٥ غير أن هذا التأثر١٢٦ لا يُفهم أبدًا على أنه «تجربة» أو «حالة شعورية»؛١٢٧ لأن هذا معناه أن يفقد ماهيته ويفسر بشيء («كالحياة» أو «النفس») لا يمكنه أن يزعم لنفسه شرف الماهية إلا في الظاهر، ولا يتسنَّى له (أن يمضي في هذا الزعم) إلا إذا ظل منطويًا على تزييف لهذا التأثر وإساءة فهمه، إن التأثر — أي التعرض المتخارج للموجود في مجموعه — لا «يجرب» ولا يشعر إلا لأن «الإنسان المجرب»١٢٨ قد «وهب نفسه» أو انصراف إلى حالة تأثُّر كاشفة عن الموجود بكليته، دون أن يكون لديه إحساس سابق بماهية هذا التأثر، إن كل مسلك «يقوم به» الإنسان التاريخي، سواء شعر بذلك صراحةً أو لم يشعر به، وسواء فهمه أو لم يفهمه، إنما هو مسلك متأثِّر١٢٩ كما هو مستقر،١٣٠ عن طريق هذا التأثُّر، في الموجود الكلي في مجموعه، إن تكشُّف الوجودِ بكليته وفي مجموعه ليس مطابقًا١٣١ لمجموع الموجودات المعرفية في الواقع، إنما الأمر على عكس ذلك، فحيثما قلَّت معرفة الإنسان بالموجود ولم يعرفه عن طريق العلم إلا معرفة تقريبية وأولية،١٣٢ أمكن لتكشف الموجود بكليته أن يتأكَّد بصورة أكثر ماهوية١٣٣ مما لو أصبح المعروف وما يسهل معرفته في كل وقت من الضخامة والاتساع بحيث لا يحيط به النظر ولا يقوى على مقاومة جهود المعرفة ومحاولاتها الدائبة عندما تتجاوز القدرة التقنية١٣٤ على السيطرة على الأشياء كلَّ حدٍّ ممكن، بلى إن الهذر والمذر الذي تلغو به معرفة تدعى الإلمام بكل شيء — ولم تعد إلا معرفة وحسب — يصيب تكشف الموجود بالتسطح ويهوي به في ظلام العدم الظاهر لكل ما لم يعد يصل حتى إلى درجة الشيء الذي لا يستحق الاكتراث، ولم يبقَ له من وجود إلا كمثل ما يبقى لشيء منسي.١٣٥
إن ترك الموجود-يوجد، وهو الأصل في التوافق١٣٦ مع الموجود بكليته، ينفذ في كل مسلك منفتح يتحرَّك في مجالِه كما يسبقه أيضًا، ومسلك الإنسان يتغلغل فيه تكشف الموجود بكليته وفي مجموعه، ولكن هذه «الكلية أو المجموع» تبدو في نظر التقدير١٣٧ والانشغال اليومي كأنها أمر يتعذَّر التنبؤ به وإدراكه،١٣٨ ومن المستحيل إدراكها عن طريق الموجود الذي يكشف نفسه، سواء أكان هذا الموجود ينتمي للطبيعة أو التاريخ.
ومع أنها تتغلغل باستمرار في كل شيء وتطبعه على التوافق،١٣٩ فإنها تظل على الرغم من ذلك هي اللامحدد والذي لا يقبل التحديد، كما تختلط لهذا السبب في أغلب الأحيان بأكثر الأمور شيوعًا وأقلها لفتًا للانتباه، ولكن هذا الذي يتغلغل في كل شيء ويطبعه على التأثُّر أو التوافق١٤٠ ليس عدمًا، وإنما هو حجب (إخفاء) الموجود بكليته، فبقدر ما يسمح ترك-الوجود في كل مسلك على حدة بأن يوجد الموجود الذي يتعلق به، وبذلك يكشف عنه، فإنه يحجب الموجود بكليته؛ ولهذا فإن ترك-الموجود (يوجد) هو في نفس الوقت حجب وإخفاء، في الحرية المتخارجة للدازاين (الموجود الإنساني-هناك) يتم حجب (إخفاء) الموجود بكليته، ويكون الاحتجاب أو الاختفاء.

(٦) اللاحقيقة من حيث هي حجب (أو إخفاء)

إن التحجُّب (الاختفاء) يمنع «الأليثيا»١٤١ من التكشُّف (أو اللاتحجُّب)، بل لا يسمح لها بأن تكون ستيريزس١٤٢ (سلبًا)، وإنما يحفظ لها (أي للأليثيا) أخص ما يخصها (لكي يكون) ملكًا لها، وإذًا فالتحجُّب (الاختفاء)، إذا فكرنا فيه من جهة الحقيقة بوصفها لاتحجُّبًا (أو تكشُّفًا)، هو عدم-التكشُّف، وهو يعدُّ بهذه المثابة اللا-حقيقة الأصلية التي تنتمي لماهية الحقيقة انتماءً أصيلًا،١٤٣ وتحجُّب الموجود بكليته لا يتم أبدًا كما لو كان نتيجة لاحقة ومترتبة على المعرفة الجزئية دائمًا بالموجود، إن تحجُّب الموجود بكليته، (أي) اللاحقيقة الأصلية، أقدم من كل انكشاف لهذا الموجود أو ذاك، وهو كذلك أقدم من ترك-الموجود نفسه الذي يُحجب أثناء الكشف١٤٤ ويتخذ موقفًا من الحجب،١٤٥ ما الذي يحافظ عليه ترك-الموجود في علاقته هذه بالحجب؟ إنه (شيء) لا يقلُّ عن حجب الموجود بما هو موجود وبكليته، أي السر، ولا يتعلَّق الأمر بسر مفرد١٤٦ خاص بهذا الشيء أو ذاك، وإنما يتعلَّق بأمر واحد، وهو أن السرَّ (حجب المحتجب) بما هو سر يتغلغل في الوجود الإنساني١٤٧ ويتحكم فيه.
وهكذا يحدث في أثناء ترك-الموجود، الذي يكشف عن الموجود بكليته ويحجبه في نفس الوقت، أن يظهر الحجب (الإخفاء) بمظهر المحتجب في المقام الأول،١٤٨ والدازاين (الموجود-الإنساني)، بقدر ما يتخارج، يتعهد١٤٩ أول وأوسع عدم-تكشف، أي اللاحقيقة الأصلية، إن اللاماهية١٥٠ الأصلية للحقيقة هي السر، وكلمة اللاماهية لا تتضمَّن هنا معنى التدهور في الماهية الذي ننسبه لها عندما تتسع فتصبح مرادفة للكلي العام (كوينون، جينوس)١٥١ ولإمكانه١٥٢ وأساسه، إن اللاماهية تدل هنا على الماهية السابقة في الوجود،١٥٣ ولكن اللاماهية تدل عادةً على تشوُّه تلك الماهية التي سقطت وتدهورت بالفعل، ومع هذا فإن اللاماهية، على طريقتها ووفق الحالة المطابقة، تبقى في جميع هذه الدلالات والمعاني مرتبطةً بالماهية ارتباطًا أساسيًّا ولا تصبح أبدًا غير أساسية بمعنى أن تتحول إلى شيء لا يستحق الاهتمام.
ولكن الكلام بهذه الصورة عن اللاماهية يؤذي الرأي الشائع حتى الآن أذًى شديدًا ويبدو في مظهره أشبه ما يكون بتكديس مجموعة من «المفارقات» المغتصبة المصطنعة، ولما كان من الصعب تلافي هذا المظهر، فإننا نؤثر التخلي عن هذه اللغة التي تبدو في نظر الظن الشائع (الدوكسا)١٥٤ وحده لغة مليئة بالمفارقات، أمَّا الذي يعلم (الأمور على حقيقتها) فإن «اللا»، في اللاماهية الأصلية للحقيقة بوصفها لا حقيقة، تشير عنده إلى مجال حقيقة الوجود الذي لم يعرف بعد (لا مجال للوجود وحده).
إن الحرية، بوصفها ترك-الموجود-يوجد، هي في ذاتها علاقة منفتحة، أي علاقة غير منغلقة على نفسها، في هذه العلاقة يتأسَّس كل مسلك ويتلقى منها التوجه للموجود وتكشفه،١٥٥ بَيْدَ أن هذه العلاقة بالحجب (أو الإخفاء) تحجب نفسها بإعطائها الصدارة لنسيان السر١٥٦ وتختفي في هذا النسيان، ومع أن الإنسان يدخل دائمًا — عن طريق مسلكه — في علاقة بالموجود، إلا أنه يقف عادةً عند هذا الموجود أو ذاك وما يتكشف منه،١٥٧ وهو كذلك يظل على تمسُّكه بالواقع المعتاد والواقع الذي يمكن التحكم فيه والسيطرة عليه، حتى في الأحوال التي تستوجب النظر في المسائل الأولى والأخيرة،١٥٨ وعندما يشرع في التوسع في تكشف الموجود١٥٩ وتعديله وإعادة تحصيله١٦٠ وتأمينه في مختلف مجالات عمله ونشاطه، فإنه في هذه الحالة أيضًا يستمد التعاليم التي توجهه إلى هذه الغاية من دائرة أهدافه المعتادة وحاجاته المألوفة.
ولكن الاستقرار في (إطار) الحياة المعتادة يساوي في ذاته رفض الاعتراف بتحجُّب المتحجِّب، صحيح أن الحياة المعتادة نفسها لا تخلو من الألغاز، والغوامض، والقضايا التي لم تُحسم، والمسائل التي تحتمل الشك، غير أن جميع هذه المشاكل الواثقة بنفسها١٦١ ليست إلا معابر ووسائط لحركة الحياة العادية على طريقها المعتاد؛ ولهذا فليست بالمشاكل الجوهرية، وحيثما تم التجاوز١٦٢ عن تحجُّب الموجود بكليته واعتبر مجرد حد يعلن عن نفسه أحيانًا بصورة عرضية، فإن الحجب (أو الإخفاء) بوصفه حدثًا أساسيًّا، يكون في هذه الحالة قد هوى في (قاع) النسيان.
بَيْدَ أن السر المنسي للدازاين لا يستبعده النسيان، وإنما يُضفي هذا النسيان حضورًا خاصًّا على الاختفاء الظاهري للمنسي، وبينما ينتفي١٦٣ السر في النسيان ومن أجل النسيان، فإنه يفرض على الإنسان التاريخي الاستقرار في حياته العادية والركون إلى أمجاده الزائفة،١٦٤ وهكذا تعمد البشرية١٦٥ التي خُلِّي بينها وبين هذه الحياة إلى استكمال «عالمها» بما يستجد لها من حاجات وأهداف، وتملؤه بخططها ومشاريعها، عندئذٍ يستمدُّ الإنسان، الذي نسي الموجود بكليته، مقاييسه من هذه الخطط والمشروعات، ثم يثبت على هذه المقاييس ويظل يتزوَّد بمقاييس جديدة، دون أن يفكِّر بعد ذلك في الأساس الذي يقوم عليه اتخاذ المقاييس ولا في ماهية ذلك الذي يقدمها ويعطيها، وعلى الرغم من التقدُّم المتصل نحو مقاييس جديدة وأهداف وغايات جديدة، فإن الإنسان يُخطئ في تقدير الماهية الأصيلة للمقاييس التي يتخذها، إنه يزلُّ في القياس، ويستفحل الزلل كلما تصور أنه وحده — بوصفه ذاتًا — هو مقياس كل موجود، وتصرُّ البشرية، في غمرة هذا النسيان الذي فقد المقياس، على تأكيد ذاتها بفضل ما تيسَّر لها من أسباب الحياة المعتادة، ويجد هذا الإصرار سنده الذي يعتمد عليه، ولا سبيل له إلى معرفته، في العلاقة التي لا تسمح له فحسب بأن يتخارج، بل تسمح له في نفس الوقت أيضًا بأن يتداخل، أي بأن يتشدَّد في تمسُّكه بما يقدِّمه له الموجود الذي يبدو أنه يظهر من نفسه وفي نفسه.
إن الدازاين (الموجود-الإنساني) المتخارج متداخل،١٦٦ وحتى الوجود المتداخل يسوده السر،١٦٧ ولكنه يكون عندئذٍ هو ماهية الحقيقة التي نسيت وصارت غير أساسية.١٦٨

(٧) اللاحقيقة من حيث هي ضلال

إن الإنسان، بطبيعته المتداخلة،١٦٩ متجه نحو (الجانب) الشائع المعتاد من الوجود، غير أنه لا «يتداخل» إلا إذا كان قبل ذلك قد «تخارج»، أي إلا إذا أخذ الموجود في نفس الوقت مأخذ المقياس الموجه له، ولكن البشرية، من خلال اتخاذ المقياس الخاص بها، تصرف عن السر، هذا التوجه المتداخل نحو الشائع المعتاد، وهذا الانصراف المتخارج عن السر، مرتبطان برباط وثيق، إنهما شيء واحد ونفس الشيء، وذلك الاتجاه وهذا الانصراف يأتيان في واقع الأمر من الحيرة أو البلبلة التي يتميَّز بها الدازاين،١٧٠ فلهفة١٧١ الإنسان بين الهرب من السر واللجوء إلى (الواقع) المعتاد، واندفاعه من موضوع يومي إلى آخر، وغفلته المستمرة عن السر، كل هذا هو الضلال١٧٢ (أو الزيغ والخطأ).
الإنسان يضل، إنه لا يقع في الضلال في لحظة معينة، وإنما يمضي إليه دائمًا لأنه (بطبعه) يتداخل من حيث يتخارج؛ ومِنْ ثَمَّ فهو موجود بالفعل (أو بصورة مسبقة) في الضلال، والضلال الذي يمضي فيه الإنسان ليس شيئًا يسعى بجانبه ويحاذي طريقه وكأنه حفرة يسقط فيها أحيانًا، وإنما الضلال جزء من تكوين الدازاين الذي خلى بين الإنسان التاريخي وبينه،١٧٣ والضلال هو مجال تلك البلبلة١٧٤ التي يتم فيها دائمًا، ببراعة ومرونة، نسيان التخارج المتداخل نفسه وغفلته عن نفسه،١٧٥ ويتأكد حجب الموجود بكليته — الذي يكون هو نفسه محتجبًا — في انكشاف الموجود المعيَّن، وهذا الانكشاف، بوصفه نسيان الحجب، هو الذي يكون الضلال.
إن الضلال، بالقياس إلى الماهية الأصلية للحقيقة، هو ضد الماهية الأساسي،١٧٦ الضلال ينفتح انفتاحًا لكل ما يناوئ الحقيقة الماهوية (أو الأساسية)،١٧٧ والضلال هو مسرح الخطأ وسببه،١٧٨ وليس الخطأ غلطة فردية أو عرضية، إنما هو مملكة (سيادة أو حكم) ذلك التاريخ الذي تختلط فيه كل أسباب الضلال المتشابكة.
إن لكل مسلك أسلوبه في الخطأ، وذلك طبقًا لانفتاحه وعلاقته بالموجود بكليته، ويمتد الخطأ من الغلط والسهو وسوء التقدير إلى التعثر والشطط في المواقف والقرارات الأساسية الحاسمة،١٧٩ والواقع أن ما نسميه في العادة بل وما تدعوه المذاهب الفلسفية أيضًا باسم الخطأ، أي عدم تطابق الحكم وكذب المعرفة، ليس في حقيقة الأمر سوى أسلوب واحد من أساليب الخطأ، بل هو أكثر هذه الأساليب سطحية، إن الضلال الذي يتحتَّم على البشرية التاريخية أن تمضي فيه لكي يكون سعيها ضالًّا، هو مكون أساسي من مكونات انفتاح الدازاين (الموجود-الإنساني)، إن الضلال يغلب على الإنسان ويسيطر عليه من حيث يسوقه أو يدفعه إلى الضلال، ولكن الضلال باعتباره دفعًا على الضلال، يُسهم في نفس الوقت في إيجاد تلك الإمكانية التي يستطيع الإنسان أن ينتزعها من التخارج، وهي إمكانية ألَّا يقع في الضلال، وأن يتجنَّب إغفال سر (الدازاين).
ولما كان التخارج المتداخل للإنسان يتحرَّك في الضلال، وكان الضلال — من حيث إنه يوقع في الخطأ — يهدِّد الإنسان دائمًا على نحو من الأنحاء ويجعله بسبب هذا التهديد مُثقلًا بالسر وإن يكن هو السر المنسي، فإن الإنسان يكون في تخارج موجوديته أو تواجُده خاضعًا في وقت واحد لغلبة السر عليه وتهديد الضلال له، إن كليهما١٨٠ يحمله على الحياة في محنة القهر،١٨١ والماهية الكاملة للحقيقة، والتي تنطوي على ضد ماهيتها،١٨٢ تبقي الموجود الإنساني في المحنة بواسطة هذا التأرجح الدائم (بين السر وبين تهديد الضلال)،١٨٣ إن الدازاين خاضع للمحنة،١٨٤ ومن موجودية الإنسان ومنها وحدها ينبثق انكشاف الضرورة،١٨٥ وعن طريق هذا الانكشاف يستطيع الوجود الإنساني أن يضع نفسه في المحتوم.١٨٦
إن تكشُّف لا-تحجُّب الموجود بما هو موجود هو في ذاته وفي نفس الوقت تحجُّب الموجود بكليته، وفي هذه المعية١٨٧ التي تجمع بين التكشف والتحجب يثبت الضلال ويتأكد، إن حجب المتحجب والضلال ينتميان معًا للماهية الأصلية للحقيقة، وليست الحرية، مفهومة من خلال التخارج المتداخل للموجود-الإنساني، هي ماهية الحقيقة (بمعنى توافق التمثُّل أو تطابقه) إلا لأن الحرية نفسها تصدر عن الماهية الأصلية للحقيقة، عن سيادة السر في (غمرة) الضلال، إن «ترك-الموجود-يوجد» يتحقق في (مجال) المسلك المنفتح، ومع ذلك فإن ترك-الموجود-يوجد بما هو موجود وبكليته (أمر) لا يتم بصورة أصيلة ووافية بالماهية إلا إذا أخذ في الاعتبار١٨٨ من حين إلى حين من جهة ماهيته الأصلية، عندئذٍ يبدأ الانفتاح١٨٩ على السر في التحقق في (إطار) الضلال من حيث هو ضلال، عندئذٍ يوضع السؤال عن ماهية الحقيقة وضعًا أصيلًا، وعندئذٍ يتَّضح الأساس الذي يقوم عليه تشابك ماهية الحقيقة مع حقيقة الماهية، إن النظر إلى السر انطلاقًا من الضلال (هو الذي) يضع مشكلة السؤال الأوحد: ما هو الموجود بما هو موجود وفي كليته؟ مثل هذا السؤال يتفكَّر في المشكلة الأساسية المميزة التي لم يتم التوصل بعدُ إلى إزالة التباسها، ألا وهي مشكلة وجود الموجود، إن التفكير في الموجود الذي ينشأ عنه هذا التساؤل أصلًا، هو الذي عُرف منذ عهد أفلاطون ﺑ «الفلسفة»١٩٠ ثم أطلق عليه بعد ذلك اسم «الميتافيزيقا».

(٨) السؤال عن الحقيقة والفلسفة

في فكر الوجود يُتاح لتحرُّر الإنسان من أجل التخارُج،١٩١ وهو التحرُّر الذي يؤسس التاريخ، أن ينطق (عن نفسه) بالكلمة،١٩٢ والكلمة ليست في المقام الأوَّل «تعبيرًا» عن رأي، وإنما هي النسق المصون١٩٣ لحقيقة الموجود بكليته، ولا يهم عدد الذين يمكنهم أن يسمعوا إلى هذه الكلمة، فنوعية أولئك الذين يمكنهم الإصغاء إليها هي التي تقرِّر وضع الإنسان في التاريخ،١٩٤ ولكن في نفس تلك اللحظة من تاريخ العالم التي تتحقق فيها بداية الفلسفة، تبدأ كذلك السيطرة الصريحة للفهم العام١٩٥ (أو السفسطائية).
إن هذا الفهم العام يَهيب ببداهة١٩٦ الموجود المنكشف ويفسر كل تساؤل فكري (أو فلسفي) بأنه تهجُّم على الفهم السليم١٩٧ واعتداء على حساسيته المريبة.١٩٨
بَيْدَ أن رأي١٩٩ الفهم السليم — المبرر تبريرًا تامًّا في مجاله الخاص — لا يصدق على ماهية الفلسفة التي لا يمكن أن تتحدَّد إلا من خلال علاقتها بالحقيقة الأصلية للموجود بما هو كذلك وبكليته، ولما كانت الماهية الكاملة للحقيقة تتضمَّن٢٠٠ اللاحقيقة وتتأكَّد٢٠١ قبل كل شيء على صورة الحجب (أو الإخفاء)، فإن الفلسفة، بوصفها التساؤل عن هذه الحقيقة (لا بد أن تكون منقسمةً على ذاتها)، إن فكرها هو الاتزان اللين (المرن) الذي لا يمتنع على تحجب الموجود بكليته، وفكرها كذلك هو التشدُّد المتفتح٢٠٢ الذي لا يدمر التحجب وإنما ينقله — مع الحفاظ على طبيعته — إلى وضوح التعقل وبهذا يلزمه «بأن يتجلَّى» في حقيقته الخاصة به.
والفلسفة في هذا الاتزان المرن وهذه المرونة المتزنة اللذين يُتيحان للموجود أن يوجد بما هو كذلك وبكليته، تنمو وتتحوَّل إلى تساؤل (من طبيعته) أنه إذا لم يستطع أن يقصر (كل) علاقته على الموجود وحده، فإنه لا يحتمل أدنى تسلُّط عليه من الخارج، وقد شعر كانط بهذه المحنة الباطنية (العميقة) للفكر؛ إذ يقول عن الفلسفة: الواقع أننا نجد الفلسفة هنا في موقف عصيب، ولقد كان ينبغي لهذا الموقف أن يكون ثابتًا، ولو أنه لا يجد في الأرض ولا في السماء ما يتعلَّق به أو يستند إليه، إن عليها هنا أن تقيم البرهان على نقائها بأن تجعل من نفسها حارسةً على قوانينها (أو مدبرة لها)، بدلًا من أن تكون الرسول المبشر بقوانين يوصي بها حس فطري أو ما لا أدريه من طبيعة وصية عليها.٢٠٣
إن كانط، الذي تُمهِّد أعماله للمرحلة الأخيرة من مراحل الميتافيزيقا الغربية، إنما يتطلع إلى مجال لم يستطع أن يفهمه تبعًا لموقفه الميتافيزيقي الأساسي القائم على الذاتية — إلا من خلال هذه الذاتية وحدها — ولهذا كان حتمًا عليه أن يفسِّر الفلسفة بأنها هي الحارسة المدبِّرة لقوانينها الخاصة، وهذه النظرة الجوهرية٢٠٤ إلى مصير الفلسفة تبلغ مع ذلك من الاتساع قدرًا يجعلها تستنكر كل استبعاد للفكر،٢٠٥ وإن أشد صور هذا الاستبعاد عجزًا هي تلك التي تتذرَّع بالقول بأن الفلسفة «تعبير» عن الحضارة (كما فعل اشبنجلر) أو بأنها ترف (أو زخرف تزهو به) إنسانية منكبة على العمل والإنتاج، ولكن سواء حققت الفلسفة ماهيتها التي تقرَّرت لها في الأصل بوصفها «مدبرة» قوانينها الخاصة، أو لم تتأيَّد لها صفة تبرير قوانينها ولم تحدد من خلال حقيقة ذلك الذي يجعل قوانينها قوانين،٢٠٦ فإن الذي يحسم الأمر في الحالين هو الأصالة٢٠٧ التي تجعل الماهية الأولية٢٠٨ للحقيقة أساسية بالنسبة للتساؤل الفلسفي.٢٠٩
إن المحاولة التي تقدمها هنا تتجاوز بالسؤال عن ماهية الحقيقة الحدود التقليدية للتصوُّر الشائع عن مفهوم الماهية وتساعد على التأمل في هذه القضية: ألا ينبغي أن يكون السؤال عن ماهية الحقيقة في نفس الوقت وقبل كل شيء هو السؤال عن حقيقة الماهية؟ ولكن الفلسفة تفكر في الوجود (عندما تفكر) في مفهوم الماهية.٢١٠
ولعل رد الإمكانية الباطنة لتوافُق (أو تطابُق) العبارة إلى الحرية المتخارجة (لترك-الموجود-يوجد) على اعتبار أنها هي «الأساس» الذي يقوم عليه، ووضع مبدأ ماهية هذا الأساس في التحجُّب والضلال — لعلهما أن يَشِيا (أو يُوحيا) بشمول (أو عمومية) «مجردة»، وإنما هي على العكس من ذلك الفريد٢١١ المتحجب لتاريخ فريد يكشف عن «معنى» ما نسميه بالوجود وما اعتدنا منذ زمن طويل على التفكير فيه على أنه هو الموجود بكليته.

(٩) ملحوظة

إن السؤال عن ماهية الحقيقة ينبع من السؤال عن حقيقة الماهية، وذلك السؤال يفهم الماهية بمعناها القريب وهو «المائية»٢١٢ أو «الشيئية»،٢١٣ وأمَّا الحقيقة فيفهمها باعتبارها خاصية تميِّز المعرفة، والسؤال عن حقيقة الماهية يفهم الماهية من جهة الفعل ويفكر من خلال هذه الكلمة — مع بقائه في إطار التصور الميتافيزيقي — في الوجود٢١٤ بوصفه الفارق الكائن بين الوجود والموجود، إن الحقيقة تعني الحجب المضيء بوصفه خاصية أساسية للوجود.
والسؤال عن ماهية الحقيقة يجد الجواب عنه في هذه القضية: «ماهية الحقيقة هي حقيقة الماهية»، ويتبين من الشرح السابق أن القضية ليست مجرد قلب لتركيب الألفاظ، وأنها تهدف إلى الظهور بمظهر المفارقة، إن «الموضوع»٢١٥ في هذه القضية — إن جاز استخدام هذه المقولة النحوية المشئومة على الإطلاق — هو حقيقة الماهية، إن الحجب المضيء يكون، أي يترك التوافق (التطابق) بين المعرفة والموجود يتحقق،٢١٦ إن القضية جلية، ليست على الإطلاق من النوع الذي يُفهم من «العبارة»، إن الجواب عن السؤال عن ماهية الحقيقة هو سيرة٢١٧ تحول تم في تاريخ الوجود، ولما كان الحجب المضيء من مكونات الوجود، فإنه٢١٨ يظهر في مبدأ أمره في ضوء الإخفاء المانع والاسم الذي يُطلَق على هذه الإضاءة هو الأليثيا.٢١٩
كان في النية تكملة هذه المحاضرة عن «ماهية الحقيقة» بمحاضرة أخرى عن «حقيقة الماهية»، غير أن هذا المشروع لم يتحقَّق للأسباب التي أشرت إليها في رسالتي عن «النزعة الإنسانية»، وقد ألقيت «ماهية الحقيقة» في شكل محاضرة عامة في خريف وشتاء سنة ١٩٣٠م في بريمن وماربورج وفرايبورج (بالبريسجاو)، كما ألقيت في صيف سنة ١٩٣٢م بمدينة درسدن.٢٢٠

إن السؤال الأساسي (الوجود والزمان، ١٩٢٧م) عن «معنى» الوجود، أي عن أهمية المشروع (الوجود والزمان، ص١٥١)، أي عن الانفتاح، أي عن حقيقة الموجود وحسب، قد أُغفل عمدًا في هذه المحاضرة، إن الفكر فيها يلتزم في ظاهره بالطريق الذي سارت عليه الميتافيزيقا، ولكنه مع ذلك يحقِّق في خطواته الحاسمة، التي تنتقل من الحقيقة بوصفها توافقًا أو تطابقًا إلى الحرية المتخارجة، ومن هذه إلى الحقيقة باعتبارها حجبًا وضلالًا — يحقِّق تحوُّلًا في التساؤل يؤدي إلى تجاوز الميتافيزيقا.

إن الفكر الذي تحاول المحاضرة تقديمه تتوجَّه هذه التجربة الأساسية، إن القرب من حقيقة الوجود لا يتهيَّأ للإنسان التاريخي إلا انطلاقًا من الدازاين أو الموجودية التي يمكن أن يرتبط بها الإنسان،٢٢١ ولم تتخلَّ المحاضرة فحسب عن كل نوع من الأنثروبولوجيا وكل تصور للإنسان باعتباره ذاتية، وهو نفس ما حدث في كتاب الوجود والزمان، ولم يقتصر الأمر أيضًا على تقصي حقيقة الوجود باعتبار أنها الأساس الذي يشهد عليه موقف تاريخي جديد، بل إن مسار العرض في المحاضرة يبذل ما في وسعه للتفكير انطلاقًا من هذا الأساس الجديد (وهو الدازاين)، وإن تسلسل السؤال في مراحله المتلاحقة لَيعبِّر عن الطريق الذي يتابعه فكر لا يريد أن يقدم تمثلات (تصورات) ومفاهيم، وإنما يؤثر أن يجرب نفسه ويمتحنها باعتباره تحولًا في العلاقة بالوجود.
١  في الترجمة الفرنسية (التي سنرمز لها فيما بعد بالحرف: ف) تأمل فلسفي.
٢  ف: حقيقة إيمان ديني.
٣  ف: فراغ الكلي المجرد.
٤  ف: لا تستند إلى أساس من الواقع.
٥  يتلاعب المؤلِّف هنا بكلمة الماهية Wesen التي تعني الماهية والجوهر بما يمكن التعبير عنه بقولنا: «أليس السؤال عن الجوهر هو أقل الأسئلة جوهرية؟» والتصرُّف الذي لجأت إليه لا يبعد عن المعنى.
٦  أي يناوئها ويعاديها ويعاندها.
٧  ف: الحس المشترك، ويُلاحَظ أن كل هذه المترادفات كالعقل السليم والفهم العام والحس السليم أو المشترك إلخ. تدل بوجه عام على تلك العقلية المعادية للتفلسف والسؤال، المتجمدة عند الملموس والمحسوس.
٨  يُلاحِظ المترجمان الفرنسيان أن هيدجر يستخدم كلمة البداهة بمعنى سيئ مختلف عن معناها في التراث الفرنسي منذ عهد ديكارت، فهو يدل بها على «الحقائق» التي يدعي الفهم العام أنها بديهية؛ وذلك لعجزه عن النظر الفلسفي العميق وهروبه من المشكلات الأصيلة، وعناده الدائم للروح الفلسفية، وتمسكه بالواقع المحسوس دون سواه.
٩  حرفيًّا: أعمى عن كل ما تضعه أمام نظر الماهية.
١٠  هكذا في الأصل، ويتصرَّف فيها «ف» فيجعلها الحس المشترك، والمعنى واحد؛ لأن الحس المشترك لا يشعر بالأسئلة والمشكلات، وكل شيء في نظره واضح وبديهي.
١١  ف: بصورة مختلطة أو مضطربة.
١٢  ف: النحاس الأصفر المطلي بالذهب.
١٣  الكلمة الأصلية Stimmt كما لاحظ المترجمان الفرنسيان يصعب ترجمتها؛ ولذلك تصرَّفتُ فيها كما تصرَّفا.
١٤  الكلمات التي تحتها خط مفرقة الحروف في الأصل علامة على التأكيد، ويلاحظ أننا تصرَّفْنا في العبارة الأخيرة بحسب المعنى، أمَّا الأصل فلا يزيد عن قوله: الشيء صحيح.
١٥  أو بالصدق أو الكذب.
١٦  يستخدم هيدجر في الحالتين السابقتين كلمة العبارة Aussage وكلمة القضية Satz على الترتيب، ويُمكن ترجمة الكلمة الأخيرة أيضًا بالعبارة لا بالحكم كما فعلت «ف».
١٧  في الأصل باللاتينية Veritas est adaequatio rei et intellectus أي أن الحقيقة هي تطابق (توافق، تكافؤ) الشيء مع العقل.
١٨  الكلمة الأصلية تعني التماثل أو التكافؤ Angleichung.
١٩  في الأصل باللاتينية Veritas est adaequatio intellectus ad rem.
٢٠  في الأصل باللاتينية adaequatio rei ad intellectum.
٢١  في الأصل Richtigkeit وهي الصواب أو الصحة وقد تصرفت فيها مثل الترجمة الفرنسية فجعلتها توافقًا conformité وهو المعنى الذي سيحافظ عليه المؤلف فيما بعد.
٢٢  في الأصل باللاتينية res-intellectus.
٢٣  أي الذي يرجع إلى العصر الوسيط.
٢٤  في الأصل باللاتينية intellectus-veritas.
٢٥  أو تقدُّ على قدِّ المعرفة كما يعبِّر أستاذنا المرحوم الدكتور عثمان أمين، والتعبير الأصلي يفيد أن الأشياء تتوجه حسب ما تقضي به معرفتنا، أي أن المعرفة البشرية بما لديها من شروطٍ ومبادئ أولانية، هي التي تجعل الأشياء موضوعات للتجربة.
٢٦  في الأصل باللاتينية ens creatum.
٢٧  باللاتينية intellectus divinus.
٢٨  باللاتينية في الأصل intellectus humanus.
٢٩  باللاتينية ens creatum.
٣٠  الفكرة هنا وفي بقية النص هي اﻟ idea الموجودة بصورة أولية مسبقة في العقل الإلهي، ويمكن أيضًا أن تُترجم «بالمثال» لولا خشية الخلط بينها وبين المثل الأفلاطونية.
٣١  أو قضاياه وأحكامه.
٣٢  أو تطابق وتماثل.
٣٣  في الأصل باللاتينية veritas.
٣٤  باللاتينية adaequatio rei (creandae) ad intellectum (divinum).
٣٥  باللاتينية adaequatio intellectius (humani) ad rem (creatam).
٣٦  باللاتينية Convenientia.
٣٧  Einstimmen-Convenientia أو harmonie توافق، تجانس، تلاؤم.
٣٨  أي يزعم أن خطواتِه العمليةَ أو مناهجَه وطرائقَه معقولة.
٣٩  في الأصل تحديد Bestimmung. ولكن الترجمة الفرنسية تتصرَّف تصرُّفًا أقرب للمعنى وتجعلها Conception.
٤٠  في الأصل باللاتينية intellectus.
٤١  في الأصل باللاتينية، وقد تقدم ذكرها.
٤٢  راجع ما قلناه في هامش سابق عن البداهة.
٤٣  يُلاحَظ أن هيدجر يحير قارئه — ومترجمه! — باللعب على كلمات متقاربة ذات ظلال مختلفة وكأني به عازف يلعب على وتر واحد ليستخرج منه عدة ألحان تحتاج إلى عدة أوتار! تُرى هل يدل هذا على الفقر المدقع في الموهبة اللغوية أم على الغنى الفاحش؟ يبدو أن العلم هنا في بطن الفيلسوف! والمهم أن الكلمات التي يلعب عليها لحنُه هي Nicht übereinstimmen (عدم التطابق) Nichtstimmen (عدم التوافق) وNichteinstimmen (عدم الصحة أو الاتفاق).
٤٤  هكذا في «ف»، والمعنى يخرج من ماهيتها.
٤٥  في الأصل باليونانية: πρᾶγμα – λόγος – ὁμοίωσις.
٤٦  الكلمة الأصلية Angleichung يمكن أيضًا أن تترجم بالتماثل والتطابق والتوافق. ولكنني فضلت عليه التكافؤ أو التعادل Adequation لكي أحتفظ بكلمة التطابق للكلمة الأخرى التي يكرِّرها هيدجر وهي: übereinstimmen.
٤٧  أي أن العبارة التي تريد أن تحقِّق التكافؤ (مع الشيء) لا بد أن تبقى عبارة، بل إن هذه العلاقة هي التي تحقِّق وجودها كعبارة.
٤٨  حرفيًّا: تشابه شيئي، وقد جاريت «ف» في هذا التصرف.
٤٩  أو نقاش تختلف فيه الآراء.
٥٠  يستخدم هيدجر — كعادته! — الفعل vor-stellen بمعناه الاشتقاقي في اللغة الألمانية، أي بمعنى استحضار الشيء ووضعه أمام النظر، وهو بهذا يستبعد كل المعاني السيكولوجية والمعرفية التي ارتبطت به، والفعل والاسم المشتق منه يدل على التصور والتمثُّل، وتترجمه «ف» بالاستحضار apprésenter وقد رأيت مع ذلك أن أحافظ على ترجمته بالتمثل الذي يتضمن المعنى الذي يريده المؤلف، ولهذا لزم التنويه.
٥١  حرفيًّا: هذه «البحيث» بما هي كذلك، وقد تصرفت فيها منعًا للارتباك.
٥٢  من حسن الحظ أن اللغة العربية تعبر خير تعبير عن تلاعب الأصل بالوضع والموضوع!
٥٣  معنى المسلك Verhalten هنا مختلف عن معناه عند علماء النفس وفلاسفة الأخلاق، ويريد به هيدجر ذلك المسلك الأصيل الذي يتيح لنا أن ندخل في علاقة مع الأشياء المحيطة بنا.
٥٤  المتكشف Das Offenbare هو ذلك الذي يظهر نفسه بنفسه أو يكشف عن نفسه بنفسه، ويلاحظ أن هيدجر يستخدم نفس الجذر في كلمات عديدة سترد في النص فيما بعد، مثل المنفتح Das Offene والتكشف Die Offenbarkeit والانفتاح Die Offenbeit ويلاحظ أن «ف» تتصرف في الكلمة الأولى «المتكشف» فتترجمها «بما يظهر نفسه».
٥٥  أو ما هو حاضر Das Anwesende أي الموجود الذي يعلن عن وجوده أو حضوره أو ماهيته (لاحظ أن الكلمة الأصلية — في تفسير هيدجر على الأقل! — تحتوي في مقطعها الثاني على الكلمة الدالة على الماهية Wesen).
٥٦  أي مسلك الإنسان نحوه.
٥٧  أي من جهة «ما» هو عليه وكيفيته.
٥٨  حرفيًّا: يتوجه أو يوجه نفسه وفقًا للموجود، وفي «ف» يتوافق معه.
٥٩  نودُّ أن ننبه مرة أخرى إلى أن التعبير الطبيعي عن كلمة Wahr هو صادق ولكننا نُحافظ على ترجمتها بالحقيقي بدلًا من الصادق والصدق وفاءً لروح النص من ناحية، وبعدًا عن كل معنى سيكولوجي يوحي به الصدق؛ إذ إن البحث كله يتم على مستوى ميتافيزيقي خالص.
٦٠  أو لِمَا هو ظاهر كما تقوله «ف»، وقد أبقيت على المنكشف لأهميتها في بقية النص.
٦١  الإحالة هنا بالمعنى اللغوي العادي الذي يُفهم من نسبة الحقيقة للعبارة وحدها.
٦٢  أي ماهية الحقيقة.
٦٣  نترجمها «ف» بالحكم قياسًا على الصيغة التقليدية: الحكم هو موضع الحقيقة، ويلاحظ أن هيدجر لا يستقر على مصطلح واحد، فهو تارة يستخدم كلمة العبارة أو التعبير، وأخرى كلمة القضية وثالثة القول، ولو استقر على استخدام الحكم لكان ذلك أنسب وأعون له على مناقشة مشكلة التطابق التقليدية التي تقوم على العلاقة الطبيعية بين الحكم والشيء.
٦٤  أو الصحة والصواب Richtigkeit وإن كان من الأفضل ترجمتُها بالتوافق على نحو ما فعلت «ف» Conformité ويُلاحَظ أننا قصرنا التطابق والتكافؤ على الكلمتين الأصليتين Angleichung – übereinstimmung.
٦٥  الفرض أو الدليل أو التعليم (جمعها تعليمات) أو الإيعاز بشيء ما Weisung.
٦٦  تصرفت في العبارة الأخيرة تصرُّفًا بسيطًا تابعت فيه «ف».
٦٧  حرفيًّا: حتى يكون الإنسان حُرًّا إزاء منكشف المفتوح.
٦٨  أو التعسف والاختيار العفوي والنزوات البشرية.
٦٩  كناية عن الإنسان، ويرجع هذا الوصف الشهير إلى إحدى عبارات باسكال في خواطره.
٧٠  هكذا في الأصل، وهو مرادف للحس السليم والفهم العام.
٧١  هكذا في «ف» والمعنى أننا سنكون قد طبَّعنا الحقيقة بالطابع البشري وقيدناها به، في حين أن انطباع الإنسان بالحقيقة وتحوله عن طريقها هو الهدف من هذه الرسالة، ولن نفهم هذا بطبيعة الحال حتى نتخلَّى عن المفهوم الشائع للحرية، بحيث لا تعني حرية الفعل وعدم الفعل، بل حرية ترك الوجود يوجد، وهو ما سيوضِّحه المؤلف في الصفحات الآتية.
٧٢  الكلمة الأصلية unwesen قد تعني ما هو غير أساسي ولا جوهري، أو ما لا يستحقُّ النظر بالقياس إلى الماهية.
٧٣  أي ضعفه وقابليته للانكسار.
٧٤  أو الأحكام المغرضة المتحيزة.
٧٥  أو العلاقة الأساسية «ف».
٧٦  أو وجهة نظر.
٧٧  الكلمة الأصلية Dasein لا سبيل إلى ترجمتها، والترجمات الأوروبية تُبقي عليها دون تصرُّف، والمراد بها كما تقدم ذلك الكائن الوحيد المهموم بالسؤال عن الوجود، ألا وهو الإنسان، وقد وضعت الترجمة العربية التي اقترحها أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي بين قوسين.
٧٨  أو بصورة أولية مسبقة.
٧٩  أو تعلن عن ماهيتها، والكلمة الأصلية فعل اشتقه هيدجر من الماهية Wesen (وذلك على رغم أنف اللغة الألمانية!) ولهذا لزم التنويه.
٨٠  أو ماهيتها الذاتية المتعلقة بها وحدها Propre-eigene.
٨١  حافظت على الكلمة الأصلية ولم أتصرف فيها بصفات أخرى كالجوهرية والأساسية مثلما فعلت «ف» وذلك على الرغم من شعوري بالتكرار المزعج في هذه العبارة!
٨٢  أو تحرُّر كما سبق، وإن كان الأصل يورد الكلمة المثبتة.
٨٣  أو لأجل ما يظهر وينكشف من خلال مجال مفتوح، وقد حافظت على الأصل على الرغم من تعقيده.
٨٤  أي ما يظهر نفسه ويكشف عن نفسه.
٨٥  القول أو الحكم «ف».
٨٦  هكذا حرفيًّا: وفي «ف»: … هو الموجود من جهة تكشُّفِه أو ظهورِه لأجل مسلك مفتوح وبواسطته.
٨٧  هكذا حرفيًّا، وفي «ف»: إن الحرية إزاء ما يتكشف في صميم المفتوح هي التي تسمح … إلخ.
٨٨  الترك في الأصل وفي اللغة العربية يُمكن أن يُفهمَ على معنيين: ترك الموجود (الكائن) يوجد (أو يكون)، أو تركه والتخلِّي عنه.
٨٩  أي أن الموجود — بعبارة أبسط — يظهر وينكشف في مجال الانفتاح، كما أن مجرد ظهوره يُظهر هذا الانفتاح نفسه معه.
٩٠  في الأصل باليونانية: τα ἀληθεία ويلاحظ القارئ — كما ذكرنا في التقديم — أنني أتحاشى ذِكرَ الكلمات الأجنبية على اختلافها في سياق النص وذلك بقدر الإمكان.
٩١  ἀληθεία أو اللاتحجُّب أو عدم-التخفِّي والإخفاء.
٩٢  يُلاحظ أن المؤلف يستخدم جذرًا واحدًا لصياغة كلمات عديدة تُفيد التكشُّف أو الظهور والتجلِّي بعد الطيِّ والتحجُّب والخفاء. وهي جميعًا تأتي من الفعل Bergen (يطوي، يؤمن، يصون) فاللاتحجُّب Unverborgenheit واللامتحجِّب هو Das unverborgene، وفعل الكشف أو الانكشاف Entbergung، وحالة التكشُّف هي Entborgenheit وسنرى بعد ذلك كلمتين أُخرَيين هما الحجب أو الإخفاء Verbergung، وحالة الاحتجاب أو التحجُّب Verborgenheit ومن الطبيعي أن تجدَ مشقةً كبيرة في العثور على الكلمات العربية التي تعكس هذه الفروق والظلال الدقيقة؛ لاستحالة إيجاد أصل واحد مشترك بينها.
٩٣  أي انصراف الموجود الإنساني بكليته إلى تكشُّف الموجود من الخفاء وتركه يُوجد على ما هو عليه، وفي هذا الموقف من «حقيقة» الوجود المنكشفة تكمن «حريته».
٩٤  حرفيًّا: بل أن ينبسط أو ينتشر لنوع من التراجع، وقد تصرَّفت فيها منعًا للالتباس.
٩٥  تخارج Ek-sistenz والكلمة بمعناها الشائع هي الوجود. لاحظ أن هيدجر استبدل بحرف x الذي تُكتب الكلمة به عادةً حرف k لكي يكون السابقة اليونانية ek التي تعني بعيدًا عن، وخروجًا من … أي أن الوجود عنده تخارُج نحو الوجود وفي اتجاهه، ولعل من الخير أن نترجمَها كذلك بالتواجد (من الوجود والوجد معًا).
٩٦  الهناك أو الهذا Das Da لاحظ أن هذا التحوير كله يُقصد به الوصول إلى كلمة Da-sein المشهورة التي تعني كما سبق الموجود الإنساني أو الكائن الوحيد المهموم بالسؤال عن الوجود؛ وذلك لبيان أنه يكون كذلك بسبب تخارجه في اتجاه الوجود، أو انفتاحه على حقيقته التي تنكشف له، ويلاحظ أن كلمة الحضور التي وضعتها بين قوسين من تصرُّف «ف».
٩٧  أي «يوجد» بالمعنى السابق الذي يقصده هيدجر من الانصراف إلى حقيقة الموجود التي تتكشف من خلال انفتاحه على حقيقة الوجود، ويلاحظ أنه في السطر التالي يشير إلى كلمة existence ليفرِّق بينها وبين كلمة الوجود existentia في التراث الفلسفي بمعنى الموجودات العينية أو الأشياء التي تكون أمام الإنسان وفي متناول يده.
٩٨  ف: في تلك اللحظة التي يتأثَّر فيها المفكر الأوَّل يتكشف الموجود فيسأل نفسه عن ماهيته.
٩٩  في الأصل باليونانية: physis.
١٠٠  تصرفت قليلًا في هذا الجزء الأخير من العبارة الذي يقول حرفيًّا: وهذا الزمن الذي لا يُقاس هو الذي يفتتح المفتوح (المتفتح) لكل مقياس.
١٠١  أو الموجود الإنساني الحاضر هناك والمتخارج أو المتواجد بالمعنى السابق الذكر.
١٠٢  أي الحرية.
١٠٣  بمعنى الإرادة التي تخضع للأهواء والنزوات l’arbitraire-Das Belieben.
١٠٤  أي للاإنسانية في عصر أو مكان ما.
١٠٥  أي بفضل التكشف.
١٠٦  أي الانفتاح.
١٠٧  حرفيًّا: من أجل هذا يكون الإنسان على أسلوب التخارج.
١٠٨  الفعل الأصلي يفيد التجانس والتلاؤم والتواؤم والتكامل.
١٠٩  أي مع الشيء الذي يدخل معه في علاقة.
١١٠  أي السماح للموجود بأن يوجد. وهو المسلك الإنساني الذي يصفه هيدجر بالحرية.
١١١  المعنى يفيد الهدى والإيحاء الباطن الذي يفرض أمرًا أو يقضي به.
١١٢  حرفيًّا: يُكافئ أو يوافق. ولم أرَ بأسًا من التعبير عنه بالمطابقة.
١١٣  أو الإمكانيات الماهوية.
١١٤  أي محفوظ ومصان.
١١٥  أي من كيفية حضور الماهية أو إفصاحها عن نفسها.
١١٦  أي لا ينكشف على طبيعته الأصلية فيزيف ويشوه.
١١٧  أي تظهر وتنجلي للعيان.
١١٨  أي لا يمكن أن تكون لاماهية الحقيقة أمرًا عرضيًّا لاحقًا ينشأ عن عجز الإنسان وإهماله؛ لأنها كامنة كمونًا أصليًّا في الحقيقة ذاتها ومرتبطة بها.
١١٩  حرفيًّا: وكون الحقيقة واللاحقيقة غير متساويين (أو لا يقفان من بعضهما موقف اللامبالاة وعدم الاكتراث، بل ينتميان من جهة الماهية لبعضهما البعض)، هو وحده الذي يمكن للقضية … إلخ، وقد لزم التصرف.
١٢٠  أو المجال الأصلي للمسئول عنه وهو ماهية الحقيقة.
١٢١  أي بعبارةٍ أبسط إن البحث عن ماهية الحقيقة لا يستغني عن البحث عن اللاحقيقة، والسؤال عن ماهية الأولى يستلزم في نفس الوقت أن نسأل عن ماهية الثانية.
١٢٢  حرفيًّا: ليس مجرد ملء ثانوي (أو لاحق) لثغرة، وقد تصرفت فيها تصرف «ف».
١٢٣  الفعل الأصلي schwingt معناه يهتز أو يرف أو يتأرجح، وقد ترجمته «ك» بالانبساط أو التفتح.
١٢٤  الانصراف هنا له نفس المعنى الذي سبق ذكره من هبة النفس لانكشاف الموجود.
١٢٥  أو حققت ملاءمة السلوك للموجود في مجموعه وبكليته.
١٢٦  يُلاحَظ أن المؤلف يتلاعب هنا بكلمات يصعب ترجمتها، وكلها تأتي من الفعل abstimmen – stimmen ومعناها يوفق أو يلائم أو يطبع، ومنها يشتق الاسم Stimmung, gestimmtheit وهما من أصعب الكلمات ذات التراث الأدبي والعاطفي في لغتها، ويمكن التعبير عنها بالتأثُّر (الانطباع أو التعاطف) والإحساس أو المزاج والاستعداد النفسي، والصعوبة هنا تأتي من استخدام هيدجر لكلمات ذات شحنة عاطفية وشعورية في مجال ميتافيزيقي خالص (راجع المقدمة!) وإن كان لها ما يبرِّرها في فلسفته.
١٢٧  أو عاطفة وحالة نفسية.
١٢٨  أي القادر على التجربة الحية.
١٢٩  التأثر هنا كما سبق ينطوي على معنى التلاؤم أو التوافق مع …
١٣٠  الفعل الأصلي يفيد أنه مؤمن أو مدخر أو مُصان داخل الموجود بكليته.
١٣١  أي لا يتساوى معه.
١٣٢  حرفيًّا: معرفة غليظة «بحالته وهو خام»!
١٣٣  أي بصورة أساسية وأكثر جوهرية.
١٣٤  أو التكنيك.
١٣٥  اضطررت للتصرُّف في هذه العبارة المزدحمة بأسماء الفاعل والمفعول حتى طالَت أكثر مما ينبغي!
١٣٦  أو الأصل في تأثُّر الموجود-الإنساني به.
١٣٧  حرفيًّا: الحساب.
١٣٨  الإدراك هنا بمعنى بلوغ الشيء.
١٣٩  الكلمة الأصلية stimmend تفيد إحداث التوافق أو التأثُّر، ومنها يستخرج المؤلف الكلمتين التاليتين اللتين تُفيدان التحديد أو عدمه das unbestimmte – das unbestimmbare وهذه صعوبة أخرى تواجه من يريد نقل هيدجر إلى لغة أخرى غير لغته.
١٤٠  الجزء الأوَّل من الجملة تعبر عنه في الأصل كلمة واحدة هي اسم الفاعل das Stimmende أي ما يُحدث التوافق أو التأثُّر، وقد اضطررتُ لهذا المط اضطرارًا.
١٤١  في الأصل باليونانية: ἀλήθεια.
١٤٢  في الأصل باليونانية: στέρησις.
١٤٣  أو ترتبط بماهيتها وتتعلَّق بها على نحو أصيل.
١٤٤  أي أن ترك-الموجود-يوجد، وهو ما وصفناه بالحرية، يقوم بحجب الوجود أثناء كشفه للموجود، كما يدخل دائمًا في علاقة مع عملية الحجب.
١٤٥  هكذا في «ف»، وفي الأصل يدخل في علاقة مع الحجب أو يتعلَّق به.
١٤٦  أو جزئي.
١٤٧  أو «الدازاين»، الوجود-هناك الذي سبق الكلام عنه، ولست أرى ما يمنع من الإبقاء على الكلمة الأصلية ما دامت كل اللغات تحافظ عليها.
١٤٨  أي أن الحجب نفسه يبدو أول ما يحتجب.
١٤٩  هكذا في الأصل (يرعى، يحافظ أو يُبقي على) ويجعله يولد أو يسبب «ف».
١٥٠  يحاول هيدجر هنا — كما قدمنا في هامش سابق — أن يثبت للاماهية معنى أصليًّا جديدًا يختلف عما تدل عليه الكلمة من الافتقار للماهية الأساسية أو انحلال الماهية وتدهورها.
١٥١  في الأصل باليونانية: κοινόν عام-مشترك (γένος جنس).
١٥٢  في الأصل باللاتينية possibilitas.
١٥٣  أو الحضور.
١٥٤  يونانية الأصل، وردت في الأصل بالحروف اللاتينية Doxa وهي عند أفلاطون وسط بين العلم والجهل، ويفرق بينها وبين المعرفة والرؤية أو البصيرة.
١٥٥  أن يتلقى منها الإيعاز والهدى الذي يجعله يتجه للموجود.
١٥٦  أي بتقديمها له أو إعطائه الأولوية.
١٥٧  أي يقنع به ويقتصر عليه دون أن يتجاوزَه إلى الأفق الأعم الذي يتكشف فيه، وهو أفق الوجود.
١٥٨  هكذا في الأصل، وفي «ف» المسائل الأساسية.
١٥٩  ف: توسيع خاصية تكشف الموجود.
١٦٠  أو تملكه من جديد.
١٦١  أو التي لا تصدر عن قلق واهتمام أصيلين «ف».
١٦٢  أي التسامح عنه والتساهل فيه.
١٦٣  الكلمة الأصلية تفيد معاني التعثر والإخفاق.
١٦٤  في «ف»: وسلطاته الزائفة، والكلمة الأصلية تفيد كل زائف يصنعه الإنسان ويستريح له.
١٦٥  أي البشرية في فترة تاريخية معينة.
١٦٦  أي أن من طبع الدازاين المتخارج ek-sistent أن يكون كذلك متداخلًا insistent أو بالأحرى أنه متداخل بسبب كونه متخارجًا.
١٦٧  أو يحكمه ويغلب عليه.
١٦٨  أو غير ماهوية، وإن كان التعبير المذكور أبسط وأدل.
١٦٩  من حيث إنه كائن متداخل، بالمعنى الذي سبق ذكره من أنه متداخل من جهة تمسكه بالجانب الشائع الذي يظهر له من الموجود، فينسيه حقيقة الوجود، وهو في نفس الوقت متخارج أو متواجد من جهة انفتاح مسلكه على الموجود وحقيقته وكليته.
١٧٠  أو الإنسان بوصفه الكائن الوحيد المهتم والمهموم بالسؤال عن حقيقة الوجود.
١٧١  أو حيرته القلقة ولهاثه وتذبذبه وبلبلته.
١٧٢  الكلمة الأصلية تعني الخطأ Das Irren وتقترب من معنى الضلال Die Irre الذي يشتقه هيدجر منها، ويُلاحَظ أنه يستخدم كلمتين أخريين من نفس الفعل هما Der Irrtum أي الخطأ أو الغلط وBeirrung الغواية أو الحث على الضلال، وقد فضلت كلمة «الضلال» لقربها من معنى الخطأ (بالمعنى الذي يقصده هيدجر من أن الإنسان يُخطئ السر)، مع الاحتفاظ بكلمة الخطأ (أي الغلط المعرفي والمنطقي) لكلمة Irrtum.
١٧٣  هكذا حرفيًّا وفي «ف»، والمعنى أن الضلال كائنٌ في طبيعة تكوين (الدازاين) التي يحيا فيها الإنسان التاريخي أو ينغمس فيها.
١٧٤  أو اللهفة التي تجعل الإنسان — كما سبق القول — يتأرجح بين السر وبين الواقع المعتاد.
١٧٥  هكذا في «ف» وفي الأصل: انحرافه عن مقياسه.
١٧٦  أي إذا كان الضلال جزءًا لا يتجزَّأ من ماهية الحقيقة، فإن ماهيته هي الماهية الضد لها، ومعنى هذا أن الضلال أصل، وإن يكن الأصل الضد.
١٧٧  حرفيًّا: يتفتح بوصفه المنفتح لكل ضد معاكس للحقيقة الماهوية أو الأساسية.
١٧٨  هكذا في «ف» وحرفيًّا: هو المكان المفتوح للخطأ أو الغلط.
١٧٩  في «ف»: في مواقفنا وقراراتنا الحاسمة.
١٨٠  أي السر والضلال اللذان يُسيطر أحدهما عليه ويهدِّده الآخر.
١٨١  يُلاحَظ أن هيدجر يعزف هنا ألحانًا مختلفة على وتر واحد هو «المحنة» Die Not فهو يشتق منها كلمة القهر Notigung، ثم يعود بكلمة أخرى وهي الضرورة Notwendigkeit — على الرغم من أنف اللغة نفسها! — إلى أصلها الاشتقاقي بحيث يُفهَم منها الاتجاه إلى المحنة أو بالأحرى التخبط فيها، ولعل هذا أن يعطيك فكرة أخرى عن صعوبة ترجمته إلى أية لغة أخرى!
١٨٢  وهو ما يعبر عنه باﻟ unwesen.
١٨٣  ما بين قوسين زيادة مِنَّا لتوضيح النص.
١٨٤  هكذا في «ف»، أمَّا في الأصل فتقول العبارة: إن الدازاين هو التخبط في المحنة.
١٨٥  الضرورة هنا بمعنى التخبُّط في المحنة، راجع الهامش رقم (١).
١٨٦  هكذا ترجمتها «ف» والكلمة الأصلية Das Unwangliche تفيد الضروري المحتوم كما تفيد معنى الفريد غير المعتاد.
١٨٧  أو التزامن والتوافت.
١٨٨  أو اضطلع بمسئوليته.
١٨٩  المصطلح الأساسي Entschlossenheit من مصطلحات هيدجر العويصة الواردة في كتابه الأساسي «الوجود والزمان» وهو يدل من الناحية اللغوية على التصميم، أمَّا عند هيدجر فيجمع بين معنى التصميم والانفتاح، وقد عبَّرتْ عنه «ف» بالتقبُّل المنفتح على السر.
١٩٠  حرفيًّا: هو الذي فهم نفسه أو تصور نفسه على أنه فلسفة.
١٩١  يُلاحَظ أن التخارُج هنا (أي التواجد أو الانفتاح على سر الوجود) هو كما أسلفنا ترجمة كلمة Ek-sistence وهي كما ترى تعبِّر عن فَهْم هيدجر وتفسيرِه لهذه الكلمة المعروفة.
١٩٢  أي أنه لا يثبت نفسه في اللغة إلا عن طريق التفكير في الوجود.
١٩٣  أو البنية المفصلة التي تم الحفاظ عليها.
١٩٤  أي أن عدد الذين يمكنهم الاستماع إلى هذه الكلمة ليس بالأمر المهم، إنما الأهم من ذلك هو «من هم».
١٩٥  أي الحس السليم أو الحس المشترك أو سلطان «العقل السليم» الذي يعد السفسطائيون ملوكه الأُوَل بغير نزاع.
١٩٦  حرفيًّا: بعدم قابليته للتساؤل أو بعده عن كل إشكال.
١٩٧  أي على الفهم العام نفسه (أو الحس المشترك والعقل السليم).
١٩٨  أي على حساسيته المُرضية التي يستفزُّها كل تساؤل فلسفي ويُثير شكوكها!
١٩٩  أو تقدير الفهم السليم للفلسفة وتقييمه لها.
٢٠٠  أو تنطوي عليها.
٢٠١  الفعل الأصلي Walten من الأفعال التي يسهل الإحساس بها وتصعب ترجمتها! فهو يعني أن ماهية الحقيقة تتبوَّأ مكانها أو تفرض غلبتها وسيطرتها أو تدبر أمرها وتؤكد ذاتها على صورة حجب «لحقيقة الوجود» أو إخفائها.
٢٠٢  يلجأ هيدجر هنا إلى الكلمات الشعرية التي تحمل قدرًا كبيرًا من العاطفة في مجالٍ قد لا يصلح لهذا الأسلوب من التعبير، وقد تصرفتُ في التعبيرين كما تصرفتْ «ف»، والأصل فيهما هو اتزان الرقة أو اعتدال الوداعة والحنان، وتفتح (بالمعنى المُشار إليه في هامش سابق من التصميم المقترن بالانفتاح Re-solution/Entschlossenheit) الشدة أو الأحكام.
٢٠٣  كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، في: أعمال كانط، طبعة الأكاديمية البروسية ٤، ٤٢٥ — وانظر كذلك الترجمة العربية لكاتب السطور، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، ١٩٦٥م، ص٦٨ (ظهر في مجموعة المكتبة العربية وله طبعة ثانية في الهيئة المصرية العامة للكتاب).
٢٠٤  أو الماهوية والأساسية.
٢٠٥  أي للفكر الفلسفي نفسه.
٢٠٦  المُراد هو حقيقة الوجود نفسه التي تُضفي صفة «الشرعية» على قوانين الفلسفة.
٢٠٧  أو الأولوية.
٢٠٨  أو الأصلية.
٢٠٩  حرفيًّا: التساؤل الفكري.
٢١٠  في «ف»: ولكن تحت مفهوم الماهية تفكر الفلسفة في الوجود.
٢١١  أو الأوحد، L’unique – Das Einzige.
٢١٢  في الأصل باللاتينية Quidditas والمائية هي المصدر المأخوذ من «ما» انظر التعريفات للجرجاني، ص١٠٤، باب الميم، الدار التونسية للنشر.
٢١٣  في الأصل باللاتينية realitas وهي تأتي من شيء res أو موضوع واقعي.
٢١٤  يكتب هيدجر الكلمة برسمها القديم seyn لا برسمها الشائع اليوم Sein.
٢١٥  أو الفاعل في الجملة Subjekt.
٢١٦  أو يتركه يُعلن عن ماهيته ويكشف عنها.
٢١٧  الكلمة الأصلية تُفيد معنى السيرة الشفافية المأثورة عن شعب أو قبيلة أو بطل أو ولي أو قدِّيس … إلخ يقوم بالخوارق والغرائب والعجائب، وهي قصة أو ملحمة تهدف إلى الإقناع والإمتاع ولا تعتمد على الحقيقة التاريخية، وقد وُجدت في كل العصور وعند كل الشعوب.
٢١٨  أي الوجود (مكتوبة في الأصل برسمها القديم).
٢١٩  في الأصل باليونانية، ومعناها الحرفي كما سبق القول في مكان آخر (راجع المقدمة) هو اللا-تحجب أو الانكشاف من خلال الإخفاء، هذا والفقرة السابقة بأكملها ناقصة في الترجمة الفرنسية.
٢٢٠  هذه العبارة ناقصة في الترجمة الفرنسية.
٢٢١  أو يدخل فيها ويلتزم بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤