مغامرات … ولكن

اكتشف الأصدقاء وجود منزلَين يحملان الأرقام التي كانت في قصاصات الورق، وذلك بعد استبعاد الرقم الأول في سلسلة الأرقام الثلاثة.

كان المنزل الأول رقم «٣٧» في شارع «٣٤»، قريبٌ جدًّا من الكورنيش، وتولَّى «تختخ» المراقبة بعد أن تنكَّر في ثياب متسوِّل، وجلس في مواجهة المنزل يُراقبه، وكم كانت دهشة «تختخ» عندما اكتشف وجود متسوِّل آخر في نفس الشارع! وخُيِّل له أنه يقوم بالمراقبة مثله.

دُهش «تختخ» كثيرًا لوجود هذا المتشرِّد، وبدلًا من أن يُراقب المنزل أخذ يُراقب المتشرِّد، وقد انشغل «تختخ» بهذه المراقبة فلم يذهب لمراقبة المنزل الثاني، وقام بقية المغامرين الخمسة بهذه المهمة، وكانوا يجتمعون كل مساء لمناقشة المعلومات التي حصلوا عليها طول النهار، ولكن هذه المعلومات لم تُؤدِّ إلى أي نتيجة، وهكذا قرَّر «تختخ» مراقبة المتسوِّل الذي كان رجلًا ضخم الجسد إلى حدٍّ ما، فهل من الممكن أن يكون هو اللص؟ وهل يقوم بالمراقبة لانتهاز فرصة غياب السكَّان من المنزل حتى يقوم بسرقته الثالثة؟

وفي اليوم الرابع لاحظ أن وجوده قد لفت نظر المتسوِّل، وبدا كأنهما يقومان بمراقبة أحدهما الآخر.

وقرَّر «تختخ» في النهاية أن يتبع المتشرِّد بعد انصرافه في هذا اليوم، حتى يعرف أين يسكن، وقد كان في نفس «تختخ» شعورٌ خفي أنه يعرف هذا المتسوِّل، وأن حركاته ليست غريبةً عنه.

وهكذا عندما اقترب مساء اليوم الرابع وتحرَّك المتسوِّل تاركًا مكانه، تحرَّك «تختخ» خلفه من بعيد، وأخذ يتبعه من شارعٍ إلى شارع دون أن يُحس المتشرِّد أن هناك من يتبعه.

وعندما انتهت المطاردة أخذ «تختخ» يضحك كأنه أُصيب بشيءٍ من الجنون … نتيجة المراقبة التي كانت مذهلة.

وعندما اجتمع الأصدقاء في منزل «تختخ» في هذه الأمسية الرقيقة من أمسيات الصيف، ضحكوا كثيرًا عندما عرفوا الحقيقة من «تختخ»، حقيقة المتشرِّد الذي كان يرقب المنزل رقم «٣٧» بشارع «٣٤»، فلم يكن إلَّا الشاويش «فرقع»!

قال «تختخ» بعد أن ضحك الأصدقاء طويلًا: لقد كنتُ أشعر من البداية أن هذا المتسوِّل ليس غريبًا عني، بل لقد كنت أُحس طول الوقت أنني أعرفه، ولكني لم أستطِع أن أتذكَّر متى رأيته … ولكن عندما رأيته يقترب من مسكن الشاويش ثم يدخل عن طريق الحديقة، تذكَّرت كل شيء فجأة … لقد ذهب الشاويش للتدريب على وسائل محاربة اللصوص وتعلَّم التنكُّر، ولم يكد يعود إلى «المعادي» حتى بدأ فورًا يُطبِّق ما تعلَّمه، ولا شك أن عنده مجموعةً كبيرةً من أحدث أدوات التنكُّر، وسوف يُفاجئنا بين حينٍ وحين بشخصيةٍ مختلفة.

قدَّم «مُحب» تقرير الأصدقاء عن المنزل الآخر فقال: لم نُلاحظ شيئًا غير عادي أمام المنزل أو بداخله. إنه منزلٌ ككل المنازل، ويسكن فيه أحد الموظفين وزوجته وثلاثة أطفال، وقد رأينا بائع الخبز، وبائع الخضار وساعي البريد وهم يتردَّدون على المنزل، ولكننا لم نرَ أشباحًا، ولا لصوصًا، ولا أي شيء له علاقة بحوادث السرقة.

لوزة: لقد وصلنا إلى طريقٍ مقفل في هذا اللغز؛ فليس عندنا أدلة أخرى من أي نوع نتبعها، ويبدو أنكم كنتم على حقٍّ عندما قلتم إننا لن نستطيع عمل شيء آخر.

تختخ: سوف أقضي هذه الليلة في مراجعة كل المعلومات التي جمعناها حول اللص الشبح؛ فقد تخطر لي فكرة غدًا عن كيف يتحوَّل الإنسان إلى شبح، أو كيف يسرق اللص في وضَح النهار دون أن يراه أحد.

وتفرَّق الأصدقاء … ولكن اليوم الثاني كان يحمل معه أنباءً هامة؛ مجموعةٌ أخرى من المجوهرات سُرقت من منزل أحد المواطنين، وكان الشاويش «فرقع» يكاد يُفرقع فعلًا من فرط الضيق، حتى إنه لم يكد يرى الأصدقاء في مكان الحادث حتى صاح فيهم: ابتعدوا عني … فرقعوا من هنا حالًا وإلَّا قبضت عليكم بأي تهمة … إنكم تُعطِّلون عملي.

ولم يكن الأصدقاء في حاجةٍ إلى مزيدٍ من الصيحات حتى ينصرفوا؛ فلم يكن هناك جديد يمكن أن يبقوا من أجله …

لقد كانت هناك نفس الآثار … آثار الحذاء الضخم ذي النعل الكاوتش، وآثار القفَّاز الضخم على الحائط … وبرغم استجواب بائع الخضار والجرائد والخبز وسمكري الحنفيات وساعي البريد، وكل من تردَّد على المنزل في ذلك الصباح، ولكن أحدًا منهم لم يرَ اللص … كل ما حدث أن صاحب البيت سمع سعال اللص الذي يُشبح نباح الكلب، ثم صعد إليه فلم يجده.

وعندما اجتمع الأصدقاء قال «تختخ» بيأس: ما رأيكم؟ إنني أكاد أفقد عقلي!

نوسة: لقد فكَّرت في فكرةٍ جنونية … هل يمكن أن يكون اللص كلبًا مدرَّبًا، ما دام الضحايا يسمعون في كل مرة سُعالًا أشبه بنباح الكلب؟

مُحب: هذا كلامٌ فارغ! هل هناك كلب يفتح الدواليب والأدراج، ويختار الأشياء الثمينة ويسرقها؟ وهل يلبس الكلب حذاءً ضخمًا مقاس «٤٧» وقفازًا كبيرًا؟!

تختخ: غير معقول طبعًا، إنه إنسان … شخص … رجل … ولكنه ذكي وبارع جدًّا، بحيث يستطيع أن يرتكب هذه السرقات دون أن يراه أحد، ثم يترك آثارًا واضحةً ولكن لا أحد يمكن أن يستدل منها على شيء.

لوزة: لقد فكَّرت في فكرةٍ مضحكة أيضًا، ولكنها على كل حال أفضل من فكرة «نوسة» التي تصوَّرت اللص كلبًا … إن «تختخ» يقول إنه يُقدِّر مقاس حِذاء اللص برقم «٤٧»، وهو رقمٌ نادر وقليل، فأنا مثلًا ألبس حذاءً مقاس «٢٦»، وأخي «عاطف» يلبس حذاءً مقاس «٣٢»، ووالدي يلبس حذاءً مقاس «٤٢»، وليس في «المعادي» أشخاص يلبسون حذاء مقاس «٤٧» إلَّا قلة قليلة من الناس، فلماذا لا نُحاول حصرهم لعلنا نستطيع من هذا الطريق أن نصل إلى اللص؟

تختخ: يا لك من فتاةٍ ذكية! هذه هي الفكرة الممتازة حقًّا، فلو استطعنا أن نعرف الأشخاص الذين يلبسون أحذيةً مقاس «٤٧»، فمن المؤكَّد أن واحدًا منهم هو لص المجوهرات، الشبح ذو القدم الكبيرة …

عاطف: إذن هناك أمل في الحصول على حل اللغز.

تختخ: بالتأكيد.

مُحب: ولكن هذه مهمة صعبة للغاية، فهل سنحمل مقاسًا وندور نبحث عن الناس، ونقيس أحذيتهم لنعرف مقاساتهم، ثم نقبض عليهم؟!

تختخ: إنها مهمةٌ صعبة للغاية، ولكنها فعلًا أحسن طريقة للوصول إلى هذا اللص العجيب، ومهما بذلنا من جهدٍ فيكفي أننا سنحل هذا اللغز الذي تحدَّانا كما لم يتحدَّانا لغزٌ من قبل.

وقضى الأصدقاء بقية اليوم يضعون خطة البحث عن الأحذية مقاس «٤٧»، فاتفقوا على أن يقوم كلٌّ منهم بجولةٍ في المحلَّات التي تبيع الأحذية في «المعادي»، لعلهم يعرفون من الذي يشتري هذا المقاس الشاذ.

وقد اختار «تختخ» المحل الرئيسي في السوق ليذهب إليه في اليوم التالي، ويسأل عن حذاءٍ بهذا المقاس، بدعوى أنه سوف يُهديه إلى عمه، وبهذه الطريقة يمكن أن يصل إلى المعلومات التي يُريدها.

وفي صباح اليوم التالي، قفز «تختخ» على دراجته وتبعه «زنجر»، وانطلق إلى السوق، وكان بقية الأصدقاء قد توجَّه كلٌّ منهم إلى محلٍّ للأحذية ليسأل نفس السؤال.

وصل «تختخ» مبكِّرًا إلى المحل قبل أن يزدحم بالزبائن، فوقف يتفرَّج قليلًا على الأحذية التي في واجهة المحل، خاصةً الأحذية الرجالي، كان يبحث عن حذاءٍ من مقاسٍ كبير ليبدأ الحديث مع صاحب المحل عنه، ولكنه لم يجد حذاءً واحدًا أكبر من مقاس «٤٥» كما قدَّر.

وقد صحَّ تقدير «تختخ»؛ فعندما استقبله صاحب المحل وسأله عن طلبه قال «تختخ»: أُريد حذاءً هديةً لعمي مقاس «٤٧» أو أكبر، قال الرجل في دهشة: إن عمك رجلٌ عملاق حقًّا … فقلةٌ قليلة من الناس من يرتدي هذا المقاس الكبير!

تختخ: وهل أجد عندك هذا المقاس؟

الرجل: آسف … نحن لا نُحضر مثل هذا المقاس إلَّا بالطلب؛ ذلك أننا لا نجد من يشتريه، ونحن عادةً نُحضر أحذيةً من المقاس المتوسِّط؛ أي بين «٣٦» إلى «٤٥»، وأكثر الأحذية في مصر بين «٣٩»، «٤٣» للرجال.

تختخ: ألم يطلب منك أحدٌ تفصيل حذاء من هذا المقاس؟

الرجل: منذ زمنٍ بعيد لم يحدث هذا، فنحن لا نقوم بالتفصيل، وفي «المعادي» كلها لا يوجد إلَّا محل واحد أو محلَّان يقومان بالتفصيل؛ أحدهما قرب الكورنيش، عند الشجرة الكبيرة في بداية «المعادي»، أمَّا الثاني فلا أذكر مكانه بالضبط، وإن كان على كل حال قرب وسط السوق.

وشكر «تختخ» الرجل على هذه المعلومات، وفكَّر في أن يذهب للبحث عن هذين المحلَّين، ولكنه في النهاية قرَّر الاتجاه إلى منزله ليُقابل الأصدقاء، لعلهم يكونون قد عثروا على محلٍّ يبيع أحذيةً من المقاس الكبير.

عاد «تختخ» إلى منزله، ولم يكن أحدٌ من الأصدقاء قد حضر بعد، وهكذا قضى «تختخ» الوقت في إعادة النظر في المعلومات التي جمعها من الحوادث الثلاثة، فهو يؤمن بأن إعادة القراءة مهمة جدًّا، وهو في الامتحانات يقوم بنفس الشيء، يقرأ ورقة الأسئلة عدة مرات قبل أن يُجيب، ثم يقرأ الإجابات أكثر من مرة قبل أن يُسلِّم الورقة، وكثيرًا ما عدَّل الإجابات بعد قراءتها.

وحضر «مُحب» أولًا، وكان مدهشًا أنه حصل على نفس المعلومات أيضًا، ثم حضر بقية الأصدقاء، وكانوا جميعًا يحملون نفس الإجابات، ولكنهم حصلوا أيضًا على عنوان المحلَّين اللذين يقومان بتفصيل الأحذية، فقرَّر «تختخ» أن يتوجَّه إليهما وحده، وانصرف الأصدقاء، على أن يتصل بعضهم ببعض تليفونيًّا بعد عودة «تختخ» من مهمته.

لم يجد «تختخ» صعوبةً في الوصول إلى المحل الأول في وسط «المعادي»، وكان محلًّا صغيرًا، ليس فيه سوى رجل واحد وعاملَين، كان الرجل يلبس نظارةً طبيةً سميكة، وكان نحيلًا، واستقبل «تختخ» بغير اهتمام.

قال «تختخ»: أُريد أن أُفصِّل حذاءً لعمي مقاس «٤٧»، فهل هذا ممكن؟

ردَّ الرجل في ضيق: غير ممكن.

تختخ: لماذا؟! هل ليس عندكم قالب بهذا المقاس؟

الرجل: عندنا القالب، ولكن المسألة ليست مسألة القالب وحده، لا بد أن نأخذ مقاس القدم نفسها، لنعرف عرضها أيضًا؛ فهناك أقدامٌ عريضة وأخرى ضيقة، كما يجب أن نعرف ارتفاع القدم.

تختخ: وهل كل الناس الذين يُفصِّلون أحذيتهم لا بد من أخذ مقاساتها بهذه الطريقة؟

الرجل: طبعًا، هل تظن أنها لعبة، إن تفصيل حذاء عملية فنية.

تختخ: إن الحصول على حذاءٍ لعمي عملية صعبة حقًّا، فماذا أفعل الآن؟

الرجل: ليس هناك حل سوى إحضار عمك شخصيًّا. قال «تختخ» وهو يقترب من الغرض الذي حضر من أجله: أليس عندكم زبون يلبس مقاس «٤٧»، يمكن تفصيل الحذاء على مقاسه؟

ردَّ الرجل بغضب: هذا لا يمكن … وليس عندنا سوى مقاس الشاويش «علي»، وهو برغم حجمه العادي، يستعمل أحذيةً ضخمةً كعادة رجال الشرطة، وهناك مقاس الأستاذ «حمدي» وهو بطل الرياضة، ولكنه ضخم جدًّا.

خفق قلب «تختخ» وهو يسمع هذه المعلومات … فشكر الرجل وانصرف، ولم يكد يصل إلى الطريق حتى أخذ ذهنه يعمل بسرعة: رياضي … وضخم جدًّا … هذا هو الرجل الذي نبحث عنه؛ فالرياضي سهل الحركة، ويمكنه أن يتحرَّك بسرعة، ويمكن أن يكون لصًّا نموذجيًّا.

وبدلًا من أن يكتفي «تختخ» بهذه المعلومات، قرَّر أن يتوجَّه إلى المحل الآخر، فمن الأفضل باستمرارٍ أن يستكمل الإنسان معلوماته عن العمل الذي يقوم به، حتى يمكن اتخاذ قرار صحيح، وهكذا اتجه «تختخ» إلى الكورنيش، فاستمتع فترةً بالنسيم العليل ومنظر الأشجار الخضراء على امتداد الكورنيش.

وصل «تختخ» إلى المحل، واستقبله صاحبه استقبالًا طيبًا، ودار بينهما نقاش قريب جدًّا ممَّا دار بين «تختخ» وصاحب المحل الأول، ثم حصل «تختخ» على اسمٍ جديد يستعمل حذاء مقاس «٤٧» أيضًا، هو اسم اللواء «سيف الدين»، وهو شخصيةٌ عسكرية معروفة، وقد أُحيل إلى المعاش منذ شهور، وكان والد «تختخ» يتحدَّث عنه أحيانًا باحترامٍ شديد.

عاد «تختخ» إلى بيته مسرعًا، فاتصل بالأصدقاء، وبعد دقائقَ كانوا جميعًا يجلسون وأمامهم المعلومات الجديدة، ولم يكن من الصعب عليهم الحصول على عنوان الرياضي «حمدي» واللواء «سيف الدين»، أمَّا الشاويش فكان عنوانه معروفًا لديهم.

قال «تختخ»: نحن لا نستبعد أحدًا، فالمخبر الذكي لا يترك شيئًا دون بحث، ولا يترك شخصيةً دون أن يعرف كل شيء عنها، ونحن في هذه الحالة أمامنا ثلاثة أشخاص، هم: الشاويش «فرقع»، والرياضي «حمدي»، واللواء «سيف الدين»، ونحن نستبعد بالطبع من قائمة المشتبه فيهم الشاويش، لا لأننا نعرفه، أو لأنه من رجال الشرطة، ولكن لأنه لم يكن في «المعادي» يوم وقوع الحادث الأول، وهكذا يبقى عندنا اثنان؛ «حمدي الرياضي» واللواء «سيف الدين» فما هي آراؤكم؟

مُحب: إنني أقترح أن نبدأ من اليوم في جمع المعلومات عنهما، على أن ننقسم إلى فريقَين أيضًا، فهذا يُسهِّل حركتنا.

تختخ: أوافق، وسأقوم أنا بزيارة اللواء «سيف الدين» لأنه صديق والدي، ومعي «لوزة» … وعليكم جمع المعلومات عن «حمدي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤