الشيخ أبو محمد القارئ

٤١٧–٥٠٠ﻫ/١٠٢٦–١١٠٦م

هو جعفر بن أحمد بن الحسين السرَّاج، كُنيته أبو محمد، ولقبُه القارئ. وُلد في بغداد وتُوفي فيها في ٢١ صفر. وكان علَّامة زمانه، له التصانيف العجيبة، منها كتاب «مصارع العشاق». حدَّث عن كثيرين وأخذ عنه كثيرون، وله شعرٌ حسَن.

هذا كلُّ ما استطعنا الوصول إليه من ترجمته، وإنه في صورته المختصرة لكافٍ لأن يُعرِّفنا أن مترجَمنا كان من المحدِّثين الذين أخذ عنهم كثيرون، وكان كذلك شاعِرًا، وقد أثبت لنفسه في «مصارع العشاق» مقطوعات كثيرة غزلية، نَحا فيها منحى الأقدمين في أغراضهم ومعانيهم وذكر منازل العرب.

وإن ما توخَّاه من إسناد كل رواية رواها إلى عدَّة مُحدِّثين ومُخبرين لَيدلَّنا على سعة اطِّلاعه وعنايته في أن يجعل قارئه على ثقة من صحة ما يرويه له.

وقد جمع من الروايات كلَّ ما يتعلَّق بالعشاق الذين صرعهم الحب على أنواعهم، وربما وجدنا نحن اليوم فيها ما لا يُمكن العقل أن يَقبله؛ كرواية الزاغ الذي كان «من وسطه إلى أعلاه رجلًا، ومن وسطه إلى أسفل صورة الزاغ ذنبًا ورجلًا.» وما أنشده هذا الغراب الصغير «بلسانٍ فصيح طلْق» من شعر وصف به نفسه فقال: «أنا الزاغ أبو عجوة … إلخ.» وكروايات مصارع عشاق الجن، وهاتف الجبل الذي دلَّ ببيتَين أنشدهما على المكان الذي مات فيه العاشقان اللذان فُقدا واختفى أثرهما، وغيرهما من حوادث الموت السريع على أثر شهقة شهقها العاشق أو شهقتها العاشقة.

ورواياته خليط من جاهليٍّ وإسلامي وأُموي وعباسي، وكلها نزيه يسودُه العفاف وخوفُ الله وعذاب الآخرة. حتى إن الذي يَحتوي شيئًا من رُوح التراخي الأخلاقي ينتهي بالتوبة إلى الله واستغفاره جلَّ جلاله وطلب مراحمه.

والرُّوح الدينية والنزعة الصوفية مُسيطرتان على كثير من القصص، كشأنهما في مصارع عُشاق الله عز وجل، وذكر كراماتهم ومصارع عُشاق الجنان وغيرها. والشعر المَرويُّ نزيهٌ كله لا نستثني إلا أربعة أبيات في أحدها وصف يُشبه وصف النابغة للمتجرِّدة.

وهذا الكتاب في أصله منسوخ في اثنين وعشرين جزءًا، قدَّم مؤلفها لكل جزء منها بمقطوعة شعرية غزلية من نظمه، فرأينا أن نجمع الأبيات التي قدَّم بها لأجزائه بعد هذه المقدمة لئلا يَضيع شيء مما هو في الأصل.

وربما وجد القارئ بعض قصص مكرَّرة أشرنا في الشرح إلى تكرُّرها، وجعلنا لكل رواية وحكاية ومقطوعة منفردة عنوانًا مأخوذًا من موضوعها أو منها، وفصَّلنا الإسناد عن القصة لاعتقادنا أن كثيرين من القراء يَرغبون عن قراءته، ويُهمهم أن يتناولوا القصة رأسًا دون أن يمرُّوا به.

وقصارى القول إن كتاب مصارع العشاق من الكتب التي تستهوي القُراء بما فيها من قصص ملؤها المتعة واللذة والسلوى.

كرم البستاني

وها هي الأشعار التي صُدِّر بها كلُّ جزء من أجزاء هذا الكتاب، وعددها إحدى وعشرون مقطوعة؛ إذ إن الأبيات التي وضعها المؤلف في الجزء التاسع عشر هي نفسها التي وُضِعت في الجزء العشرين:

هذا كتابُ مصارع العُشاقِ
صرعَتْهمُ يومًا نُوًى وفِراقِ
تصنيفُ مَن لدَغ الفراقُ فؤاده
وتطلَّب الرَّاقي فعزَّ الرَّاقي
فإذا تصفَّحَه اللبيبُ رثى لهُم
أسرى الهوى أَيِسوا من الإطلاقِ

•••

مصارع العاشقين صرَّعهُم
هوى الظِّباء الفواتِرِ الحَدَقِ
تصنيفُ مَن صدَّه تَصوُّنه
عن كشفِ ما في الفؤاد مِن حُرَقِ
فهو يُسِرُّ الهوى ويَكتمه
والقلبُ قد تاه منه في طُرُقِ

•••

مصارعُ العُشاق مجموعةٌ
فيها لمن يَقرؤها عِبْره
جمْعَ عفيفِ الحب يَطوي الهوى
لو لم تكن تَنشُره العَبره
غرامُه ثاوٍ مقيمٌ، وإن
أعدَمه يوم النَّوى صَبرَه

•••

كتابُ مصارعِ أهلِ الهوى
ومَن فتَكت فيه أيدي النَّوى
تكلَّف تصنيفَه عاشِقٌ
عفيفُ الضمائرِ جمُّ الجوى
أضلَّ برمل اللِّوى قلبَه
فهل ناشدٌ قلبه باللِّوى

•••

مصارعُ قتلى مِن العاشقيـ
ـن ما لدمائهم طالِبُ
تكلَّف جمعَ أحاديثهم
عفيفُ هوًى وجدُه غالبُ
سقاهُ الهَوى صرفَ صهبائه
فأصبح سكرانًا الشاربُ

•••

كتابُ صرعى الهوى وقتلاه
ومَن صَحا منهم وسكراه
تصنيفُ مَن كاد أن يُشاركهم
لكن وقاهُ بفضله الله
فضَمَّ مما مُنوا به طرفًا
يُعجب قاريه حين يَقراه

•••

مصارعُ مَن جارت يدُ البَيْن والنوى
عليهم فأضحَوا في ديارهمُ صَرعى
دماؤهمُ مطلولة قد أبحاها
لأحبابهم شرعُ الهوى حبَّذا شرعا
تدرَّعتُ من نُبل الهوى الصبرَ جُنةً
فجاءت سِهامٌ منه أنفَذت الدِّرعا

•••

كتابُ مصارعِ قومٍ سُقوا
كئوسَ الهوى مُترعاتٍ دِهاقا
شكَوا صِرفَها طالبين المِزا
ج فشِيبَتْ على الرغم منهم فِراقا
جمعنا أحاديثَ صَرعاهمُ
وسَكراهمُ فيه، لا مَن أفاقا

•••

مصارعُ أبناء الهوى جمعُ عاشِقٍ
تجرَّع مِن راح الهوى ما تجرَّعا
فلمَّا رأى الفَودَينِ قد حلَّ فيهما الـ
ـمشيبُ منيحًا والمُفارقَ أقلَعا
وأضحى مُصيخًا للنذير الذي علا
مَفارقه يَنعَى الشبابَ المُودِّعا

•••

كتابُ مَن دارت كئوس الهوى
عليه صِرفًا ليس فيها مِزاج
فصرَّعتْهُم إذ حسَوها، فهُم
مرضى يُنادون: ألا مِن علاج؟!
تصنيفُ مَن شاركَهم في الهوى
فليتَه مما لقُوا اليومَ ناج

•••

مصارعُ اللابسين قُمُصَ هوًى
ضفَت عليهم كلٌّ يُجرِّرُها
تصنيفُ مَن ذاق من سُلافته
الصفوَ وما فاته مُكَدَّرُها
يَطوي أحاديث وجدِه ودمو
عُ العين في فيضهنَّ تَنشُرُها

•••

كتابٌ تضمَّن أخبارَ مَن
أطاع الهوى وعَصى العُذَّلا
فلما تمكَّن مِن قلبه
أعاد حلاوتَه حنظلا
تكلَّف تصنيفَه عاشِقٌ
سلا العاشقون وما إن سلا

•••

مصارعُ أقوامٍ توالت علَيهمُ
كئوسُ هوًى ممزوجة بفِراقِ
فمالوا سكارى ما لهم من إفاقةٍ
إلى حين شملٍ جامعٍ وتلاقي
رثى لهمُ مما لقوا عاشقٌ أبَت
تجفُّ له بعد الفراق مآقي

•••

كتابُ مصارعِ من جَهَّزَتْ
بظُلمٍ عليه النَّوى جُندَها
جمعناه لمَّا سُقانا الهوى
أفاويقَ لم نَستطِع ردَّها
وسُقنا أحاديثَ مَن جاوَزَت
به فجعات النَّوى حدها

•••

كتابُ مصارعِ العُشا
ق من عُربٍ ومن عَجَمِ
ليَعتبر الحليُّ بما
لقُوا شكرًا على النِّعَمِ
مصنِّفُه عفيفُ هوًى
مَصُونٌ غير مُتَّهَم

•••

مصارعُ أبناء الهوى كلُّ عاشِقٍ
رماه الهوى عن قوسه فأصابا
رثى لهمُ مَن خاف يَلقى الذي لقوا
فألَّف في ما قد لقوه كِتابًا
وجمَّع من أخبارهم في هواهمُ
أحاديث مثل الرَّوض جِيدَ سحابا

•••

كتابٌ جمعتُ به كلَّ ما
تفرَّق من قِصَص العاشقينا
وكنتُ ألومُهم دائبًا
فصرتُ لهم أحَدَ العاذِرينا
فكم عاشقٍ ذاق يومَ النَّوى
وقد غرَّد الحاديان المَنونا

•••

كتابٌ جمَعنا به عابثِين
مَصارع مَن قَتَلَ الحُبُّ صبرًا
إذا ما تصفَّحه سالمٌ
من الحبِّ أخلَص لله شُكرًا
جمعناه صاحِين حتى إذا
خبرناه مِلنا من الحبِّ سُكرًا

•••

كتابٌ تضمَّن أبوابه
مصارعَ قتلى من العاشقينا
سقاهُمْ سُلافتَه مازِجًا
هواه فمالوا له خاضِعينا
غرامٌ تلوم العيونُ القلو
بَ فيه وتلحى القلوبُ العُيونا

•••

مصارعُ قَتلى للهوى صرعَتْهُم
سُلافته يُسقَون صافيَها صِرفًا
فمنهم عفيفٌ ظلَّ يَكتُم وجْدَه
فنمَّ عليه ماءُ أجفانه وكفا
جمعتُ كتابًا في مصارعهم إذا
تصفَّحه ذو اللُّب رقَّ لهم تلفا١

•••

قد صنَّف الناسُ في أهل الهوى كُتُبًا
في مَن صحَا بعد سُكرٍ منه أو عطَبا
وأكثروا غير أني قد جمعتُ لهم
وما اختصرتُ كتابًا رائِقًا عجبًا
ذكرتُ فيه بإسنادٍ مصارعهم
عُجمًا وجدتُهم في الناس أو عربًا
١  قوله: تلفا، هكذا في الأصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤