الفصل الثاني

أهم النظريات في تفسير الوحي

(١) مذاهب المتكلمين في الوحي

مذاهب المتكلمين من أهل السنة خصوصًا تنزع في تفسير الوحي نزوعًا جسمانيًّا يناسب ما ورد في أكثر السنن، وما تدل عليه ظواهر الآيات في غير موضع من القرآن الكريم.

ويتناول المتكلمون مباحث الوحي غالبًا من ناحيتين:

الأولى: وحي القرآن الكريم إلى محمد بواسطة جبريل.

الناحية الثانية: الوحي الحاصل بسماع كلام الله من غير واسطة.

الناحية الأولى: وحي القرآن إلى محمد

الملائكة عند المتكلمين أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة خلافًا للفلاسفة وأوائل المعتزلة.

والقرآن منزل على النبي — عليه الصلاة والسلام — بواسطة جبريل، وفي كيفية إنزال القرآن ثلاثة أقوال:
  • أولها: أنه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجمًا في ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو عشرين سنة حسب اختلاف المؤرخين.
  • وثانيها: أنه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين ليلة من ليالي القدر، ينزل في كل ليلة منها ما يقدر الله إنزاله في كل السنة، ثم ينزل بعد ذلك هذا القدر منجمًا في جميع السنة.
  • الثالث: أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجمًا في أوقات مختلفة من سائر الأوقات.

وهناك قول رابع غير مشهور، وهو أن القرآن نزل جملة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السَّفَرَة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجَّمته السفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجَّمه جبريل على النبي عشرين سنة.

واختلفوا في معنى الإنزال؛ فمنهم من قال: إن معناه إظهار القراءة، ومنهم من قال: إن الله ألهم كلامه جبريل وعلمه قراءته ثم جبريل أداه في الأرض، ومنهم من قال يتلقفه الملك من الله تلقفًا روحانيًّا، أي يحفظه من اللوح المحفوظ، فينزل به إلى الرسول ويلقيه عليه، ومنهم من جعل اختلاف العلماء في معنى الإنزال مترتبًا على اختلافهم في معنى القرآن؛ فالذين يقولون: إن القرآن معنى قائم بذاته تعالى يقررون أن إنزاله هو إيجاد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى وإثباته في اللوح المحفوظ، والذين يقولون إن القرآن هو اللفظ يقررون أن إنزاله هو مجرد إثباته في اللوح.

وأشهر ما قيل في المنزل على النبي ثلاثة أقوال: أحدها: إنه اللفظ والمعنى، وثانيها: أن جبريل نزل بالمعاني خاصة، وأنه علمها وعبر عنها بلغة العرب وقد تمسك أصحاب هذا المذهب بظاهر قوله — تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ؛ وثالثها: أن جبريل أُلقي عليه المعنى، وأنه عبر عن هذا المعنى بلغة العرب؛ لأن أهل السماء يقرأونه بالعربية، ثم نزل به في هذه الصورة على الرسول.

ومنهم من قال: كلام الله المنزل قسمان: قسم قال الله تعالى بشأنه لجبريل — عليه السلام — قل له كذا وكذا؛ فيجوز تغييره بعبارة نفسه، وقسم قال له بشأنه اقرأ عليه كذا كذا فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفًا. ويرى أصحاب هذا المذهب أن القرآن هو القسم الثاني، وأن القسم الأول هو السنة، لما ورد أن جبريل نزل بالسنة كما نزل بالقرآن، ولهذا لم يجز تغيير نظم القرآن وجاز تغيير لفظ السنة.

ويقول المتكلمون: إن في التنزيل طريقين: إحداهما انخلاع النبي من صورة البشرية إلى صورة الملكية ثم أخذه من الملك، وثانيتهما تمثل الملك بصورة البشرية حتى يأخذ الرسول منه، ويقررون أن الحالة الأولى — وهي الترقي من البشرية إلى الملكية — ميسورة للرسول، ويؤيدون ذلك بما ورد من نزول جبريل في زمن صبا النبي ليطهر قلبه عن المادة التي تمنعه من الترقي، قال أنس: «إن رسول الله أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج منه علقة، وقال هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طشت من ذهب بماء زمزم، ثم لَأَمَه وأعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (يعني ظئره) فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون.»

ويقررون كذلك: أنه لا يشترط في الرسول شرط من الأعراض والأحوال المكتسبة بالرياضات والمجاهدات في الخلوات والانقطاعات، ولا استعداد ذاتي من صفاء الجوهر وذكاء الفطرة، بل الله يختص برحمته من يشاء من عباده. فالنبوة رحمة وموهبة متعلقة بمشيئة الله تعالى فقط، وإلى هذا يشير صاحب «الجوهرة» في قوله:

ولم تكن نبوة مكتسبة
ولو رقى في الخير أعلى عقبة
بل ذاك فضل الله يؤتيه لمن
يشاء جل الله واهب المنن

الناحية الثانية: الوحي الحاصل بسماع كلام الله من غير واسطة

ينقسم القائلون بأن كلام الله هو هذه الحروف المسموعة والأصوات المؤلفة إلى فريقين: أحدهما: الحنابلة الذين قالوا بقدم هذه الحروف، وهؤلاء يرون أن الرسول أو الملك يسمع هذه الحروف والأصوات القديمة من الله بغير واسطة. والفريق الثاني يقول بحدوث هذه الحروف والأصوات، ومن هؤلاء من يقول بأن هذه الحروف والأصوات الحادثة قائمة بذاته الله تعالى فالرسول يسمع الحروف والأصوات الحادثة القائمة بالذات القديمة من غير وساطة، وأولئك هم الكرامية، ومن هذا الفريق الثاني المعتزلة، وهم يقولون: إن هذه الحروف والأصوات ليست قائمة بذاته — تعالى — بل يخلقها في جسم آخر، وفسروا قوله — تعالى: أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ بأن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه؛ لأنه في ذاته غير مرئي، كما يكلم المحتجب بعض خواصه وهو من وراء حجاب؛ فيسمع صوته ولا يرى شخصه، وذلك كما كلم موسى ويكلم الملائكة. ويقول المعتزلة: إن هذه الآية تدل على أنه تعالى لا يُرى؛ لأنه تعالى حصر أقسام وحيه في هذه الثلاثة، ولو صحت رؤية الله تعالى لصح من الله أن يتكلم مع العبد حينما يراه العبد، ويكون ذلك قسمًا رابعًا، ورد عليهم القائلون بأن الله يُرى يوم القيامة بزيادة قيدٍ في الآية — أي في الدنيا — للتوفيق بين الآيات.

وأما الأشعرية الذين زعموا أن كلام الله صفة قديمة تدل عليها هذه العبارات والألفاظ فقد اتفقوا على أن قوله: مِن وَرَاءِ حِجَابٍ هو أن الملك أو الرسول يسمع ذلك الكلام المنزه عن الحروف والصوت من وراء حجاب، قالوا: ولما لم يبعد أن ترى ذات الله — مع أنه ليس بجسم ولا في حيز — فأي بعد في أن يسمع كلام الله، مع أنه لا يكون حرفًا ولا صوتًا؟!

وزعم أبو منصور الماتريدي السمرقندي أن تلك الصفة القائمة بذات الله يمتنع كونها مسموعة؛ وإنما المسموع حروف وأصوات يخلقها الله تعالى في شجرة مثلًا، وهذا القول قريب من قول المعتزلة.

(٢) مذهب الفلسفة الإسلامية في الوحي

يقول ابن سينا في رسالته في النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم: «فمن العادة في الشريعة تسمية القوى اللطيفة غير المحسوسة ملائكة.»

ويقول في حد الملك في رسالته الحدود: «هو جوهر بسيط ذو حياة ونطق عقلي غير مائت، وهو واسطة بين الباري — عز وجل — والأجسام الأرضية.»

وفي رسالة إثبات النبوات: «ثم بينوا أن الأفلاك لا تفنى ولا تتغير أبد الدهر، وقد ذاع في الشرع أن الملائكة أحياء قطعًا لا يموتون كالإنسان الذي يموت؛ فإذا قيل: إن الأفلاك أحياء ناطقة لا تموت، والحي الناطق الغير الميت يسمى ملكًا، فالأفلاك تسمى ملائكة.»

والذي يعنينا فيما نحن بصدده هو الملك بالمعنى الأخير؛ أي النفوس السماوية والعقول التي هي جواهر روحانية غير متميزة ولا قائمة بمتحيز، أما النفوس فمجردة في ذواتها متعلقة بأجرام الأفلاك تعلق تصريف من غير أن تقوم بها، وتسمى ملائكة سماوية، وأما العقول فمجردة ذاتًا وفعلًا وتسمى بالملأ الأعلى.

ولئن اختلفت الفلاسفة في أن الملائكة ماهيات مخالفة بالنوع للأرواح البشرية، فإنهم لم يختلفوا في أن النفوس الإنسانية مجردة في ذاتها عن المادة غير حالة فيها بل هي لامكانية، ولها نسبة في التجرد إلى المجردات العالية، وخاصة إلى النفوس السماوية المنتقشة بصور ما يحدث في هذا العالم؛ لكونها مبادئ لما يحدث في هذا العالم؛ وما الوحي عند الفلاسفة الإسلاميين إلا اتصال النفوس الناطقة البشرية بعقول الأفلاك ونفوسها؛ ذلك بأن النفس الإنسانية لها استعداد لقبول المعقولات بالفعل، وكل ما خرج من القوة إلى الفعل فلا بد له من سبب يخرجه إلى الفعل، وذلك السبب يجب أن يكون موجودًا بالفعل، فلا يجوز أن يكون جسمًا؛ لأن الجسم مركب من مادة وصورة، والمادة أمر بالقوة، فلا بد إذن أن يكون السبب جوهرًا مجردًا عن المادة، وهو العقل الفعال المجرد عن المادة وعن كل قوة، فهو الفعل من كل وجه.

وقد فصل ابن سينا القول في تمكن النفوس الناطقة من الاتصال بعقول الأفلاك ونفوسها في كتاب «الإشارات» على الوجه الآتي:
  • (١)

    إن القوى النفسانية متجاذبة متنازعة، فالنفس حال اشتغالها بتدبير القوة العقلية لا يمكنها الالتفات إلى القوة الشهوانية وبالعكس، والنفس إذا ما استخدمت الحواس الباطنة ضعفت الحواس الظاهرة، فإن الإنسان حالما يكون مستغرقًا في تخيل أو فكر ربما حضر عنده المبصر القوي والمسموع القوي، ثم إنه مع سلامة الحس لا يشعر بشيء من ذلك.

  • (٢)
    الحس المشترك هو القوة التي تحصل فيها صور الأمور التي تحس بالحواس الخمس، وللصور المرتسمة في الحس المشترك أربع درجات:
    • إحداها: أن تصير مشاهدة في ابتداء ارتسامها من المحسوسات الخارجة.
    • ثانيتها: بقاء الإحساس بهذه الصور مع بقاء المحسوسات في الخارج.
    • ثالثتها: بقاء الإحساس بها بعد زوال المحسوس الخارجي.
    • ورابعتها: حصول الإحساس بها وإن لم يوجد المحسوس في الخارج ألبتة.

    والدليل على تحقق هذه الدرجة الرابعة أن المرضى والممرورين يشاهدون صورًا محسوسة لا يراها غيرهم، فتلك الصور إما أن تكون معدومة أو موجودة، ولا جائز أن تكون معدومة؛ لأن العدم نفي محض لا يكون مشاهدًا، فهي إذن موجودة، وليست موجودة في الخارج، وإلا لرآها كل سليم الحس، فهي موجودة في غير الخارج، ولا يمكن أن تكون موجودة في النفس الناطقة التي لا تدرك الجزئيات ولا ترتسم فيها صور المحسوسات، فهي إذن مرتسمة في قوة جسمانية ليست هي البصر؛ لأن هذا الشاهد ربما كان أعمى وربما شاهد ذلك بالليل، ولأن البصر لا يدرك إلا الموجود في الخارج، فثبت أن الحس المشترك قد يشاهد صورًا لا وجود لها في الخارج، فكما ترتسم صور محسوسة بالحواس الظاهرة في الحس المشترك ثم تنتقل إلى خزانة الخيال، كذلك لا بأس أن تنتقل الصور الموجودة في خزانة الخيال أو الصور التي تركبها المتخيلة إلى الحس المشترك؛ لأن الحال فيها قريب من الحال بين المرايا المتقابلة.

  • (٣)
    وإنما يمنع الصور المتخيلة أن تكون جميعها محسوسة في كل الأوقات والأحوال مانعان:
    • أحدهما: حسي خارج عائد إلى القابل، وهو الحس المشترك؛ فإنه إذا كان مشغولًا بالصور الواردة عليه من الحواس الظاهرة صرفه ذلك عن غيره ولواه عن مخزونات الخيال.
    • والثاني: عقلي أو وهمي باطن، وهو عائد إلى الفاعل؛ فإن العقل أو الوهم إذا استخدم القوة المفكرة وصارت مشغولة بخدمة أحدهما لم تتمكن من تركيب الصور وتحليلها وتشبيحها، ومتى لم توجد تلك الصور استحال انجذابها إلى الحس المشترك.

      فإذا وجد المانعان معًا لم يحصل إحساس بالصور المتخيلة، أما إذا زال أحدهما وبقي الآخر فربما استولى المتخيل على الحس المشترك فلاحت فيه الصور محسوسة مشاهدة.

  • (٤)

    وعند النوم يزول هذان المانعان عن القابل والفاعل، أما الفاعل فإن النفس مشغولة بتدبير البدن وإعانة القوة الهاضمة، فلا تفرغ لتدبير القوة المتخيلة، فتكون هذه مشغولة بنفسها متمكنة من التشبيح والتلويح كيف شاءت من غير مانع؛ وأما القابل فلأن الحس المشترك خالٍ عن النقوش الواردة عليه من الحس الظاهر؛ إذ الحس الظاهر يركد بالنوم.

    ومتى حصل الفاعل والقابل بالتمام والكمال حصل الفعل لا محالة، فلا جرم ظهرت هذه الصور في المنام وصارت كالأمور المشاهدة.

  • (٥)

    أما في حالة المرض فإن النفس تنجذب كل الانجذاب إلى جهة المرض فيشغلها أمر التدبير لإصلاح البدن عن تدبير المتخيلة، فضعف أحد الضابطين للمتخيلة، فقويت على التشبيح، فلاحت تلك الأشباح في الحس المشترك.

  • (٦)

    النفس إذا كانت قوية قويت على حفظ عين ما أدركته ولم تنتقل منه إلى ما يحاكيه، وإذا كانت ضعيفة ضعفت عن حال المدركات، فربما انتقلت من الشيء إلى ما يحاكيه ويشاركه من بعض الوجوه، ثم من ذلك المحاكي إلى ما يحاكيه مرة أخرى؛ فلا تزال تنتقل من الشيء إلى ما يحاكيه إلى أن تصل إلى أمر لا يناسب المدرك الأول بوجه، وهذا إنما يكون لاستيلاء القوة المتخيلة وضعف النفس عن إصلاحها، والنفس إذا قويت جدًّا لم يكن اشتغالها بتدبير البدن عائقًا لها عن اتصالها بالعالم العقلي، ولم يكن التفاتها إلى أحد الجانبين شاغلًا لها عن الالتفات إلى الآخر.

  • (٧)

    وكما أن النفس تتصل عند النوم بالعقول التي فيها نقش الموجودات كلها فينطبع في النفس ما في تلك العقول من صور الأشياء لا سيما ما يناسب غرض الرائي كانطباع صورة في مرآة، ثم تركب المتخيلة صورًا مناسبة لها، ثم تنحدر تلك الصور إلى الحس المشترك، كذلك قد تحصل مثل هذه الحالة في اليقظة إذا كانت النفس قوية وافية بالجانبين، فتتصل النفس بالعقول وتدرك من هناك أمورًا، ثم تركب المتخيلة صورًا مناسبة لتلك التعقلات، ثم تنحدر تلك الصور إلى لوح الحس المشترك، فتصير محسوسة، فتحصل حينئذ صور وسماع كلام وإن لم يكن لشيء من ذلك وجود في الخارج.

  • (٨)
    وإذا اتصلت النفس بالعقول المفارقة في يقظة أو نوم كان الأثر الحاصل فيها على أقسام:
    • أحدها: أن يكون ضعيفًا جدًّا فلا يحرك الخيال والذكر ولا يبقى أثر فيهما ألبتة.
    • وثانيها: أن يكون أقوى من ذلك، إلا أن الخيال يمعن في الانتقال من المعنى إلى ما له تعلق به على وجه الشبه أو التضاد.
    • وثالثها: أن يكون قويًّا جدًّا، فترتسم الصورة في الخيال ارتسامًا جليًّا تامًّا.

      فإن كانت الصورة جزئية، ووقعت من النفس في المصورة، وحفظتها الحافظة على وجهها، من غير تصرف المتخيلة، مضبوطة في الذكر في حال اليقظة أو النوم ضبطًا مستقرًّا؛ كان ذلك إلهامًا أو وحيًا صراحًا أو حلمًا لا يحتاج إلى تعبير.

      وما كان قد بطل هو وبقيت محاكياته احتاج الوحي إلى تأويل والحلم إلى تعبير.

فالوحي عند الفلاسفة هو اتصال النفس الإنسانية الناطقة بالنفوس الفلكية اتصالًا معنويًّا يجعلها تشرف على ما فيها من صور الحوادث فترتسم في النفس البشرية من تلك الصور ما يستعد لارتسامه فيها كمرآة يحاذي بها مرآة أخرى فيها نقوش فينعكس منها إلى الأولى ما يقابلها.

وليس عندهم فرق بين الوحي والإلهام إلا أن الأول يكون للنبي ويكون الثاني للعارف أو الولي، وللنبوة استعداد ذاتي، ففي القوى النفسانية لمن له النبوة خصائص ثلاث:
  • (١)

    أن تصفو نفسه صفاءً شديدًا، وتقوى قوة لا تشغلها الحواس عن النظر إلى عالم العقل، فتستعد استعدادًا خاصًّا للاتصال بالعقول المفارقة بأدنى توجه، ويفيض عليها من علم الغيب ما لا يدرك بالفكر والقياس.

  • (٢)

    أن يكون في جوهر نفسه قوة تؤثر في هيولي العالم بإزالة صورة وإيجاد صورة؛ وذلك أن الهيولي منقادة لتأثير النفوس المفارقة، مطيعة لقواها السارية في العالم، وقد تبلغ نفس إنسانية في الشرف حدًّا يناسب تلك النفوس فتفعل فعلها وتقوى على ما قويت عليه.

  • (٣)

    أن يرى الملائكة مصورة بصورة محسوسة ويسمع كلامهم وحيًا من الله، وذلك بقوة نفسه واتصالها بعالم الغيب في اليقظة وقوة المتخيلة ومحاكاتها ما أدركته النفس بصورة جميلة وأصوات منظومة، فتكون الصورة المحاكية للجوهر الشريف صورة عجيبة في غاية الحسن، وهو الملك الذي يراه النبي، وتكون المعارف التي تتصل بالنفس من اتصالها بالجواهر الشريفة تتمثل بالكلام الحسن المنظوم الواقع في الحس المشترك فيكون مسموعًا.

يكون كل ذلك باستعداد ذاتي في نفس النبي ويحصل للولي بالرياضة والمجاهدة.

(٣) رأي التصوف في الوحي

النبوة — كما يقول الغزالي في «المنقذ من الضلال» — عبارة عن طور تحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها الغيب وأمور لا يدركها العقل، كما أن العقل طور من أطوار الآدمي تحصل فيه عين يبصر بها أنواعًا من المعقولات الحواس معزولةٌ عنها، والعلم الذي يحصل لا بطريق الاكتساب والتعلم وحيلة الدليل ينقسم: إلى ما لا يدري العبد أنه: كيف حصل له؟ ومن أين حصل؟ وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب. والأول يسمى إلهامًا ونفثًا في الروع، والثاني يسمى وحيًا وتختص به الأنبياء، والأول تختص به الأولياء والأصفياء.

فلا فرق بين الوحي والإلهام في شيء إلا في مشاهدة الملك المفيد للعلم، فإن العلم إنما يحصل في قلوبنا بواسطة الملائكة.

وميل أهل التصوف متجه إلى هذه العلوم الإلهامية دون التعليمية، وقد قالوا: إن الطريق إلى ذلك تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال على الله بهمة خالصة، وبذلك يصير العبد متعرضًا لنفحات رحمة الله؛ فلا يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطريق.

وبعد هذا قال الغزالي في كتاب «إحياء علوم الدين»: «إن حقائق الأشياء مسطورة في اللوح المحفوظ، بل في قلوب الملائكة المقربين؛ فكما أن المهندس يصور أبنية الدار في بياض ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة، فكذلك فاطر السموات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ ثم أخرجه إلى الوجود على وفق تلك النسخة، ومهما ارتفع الحجاب بين القلب وبين اللوح المحفوظ رأى الأشياء فيه وتفجر إليه العلم منه، فإذن للقلب بابان: باب مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة، وباب مفتوح إلى الحواس الخمس المتمسكة بعالم الملك والشهادة، والفرق بين علوم الأولياء والأنبياء وبين علوم العلماء والحكماء هذا: وهو أن علومهم (يقصد الأولياء والأنبياء) تأتي من داخل القلب المنفتح إلى عالم الملكوت، وعلم الحكمة يأتي من أبواب الحواس المفتوحة إلى عالم الملك، وهناك فرق آخر: هو أن العلماء يعملون في اكتساب نفس العلوم واجتلابها إلى القلب، وأولياء الصوفية يعملون في جلاء القلوب وتطهيرها وتصفيتها وتصقيلها فقط لتترشح للفيض من جانب الملأ الأعلى.»

أما الملأ الأعلى، فيقول الدهلوي في كتاب «حجة الله البالغة»، بيانًا له:

اعلم أنه قد استفاض من الشرع أن لله تعالى عبادًا هم أفاضل الملائكة ومقربو الحضرة، لا يزالون يدعون لمن أصلح نفسه وهذبها وسعى في إصلاح الناس، فيكون دعاؤهم سببًا لنزول البركات عليه، ويلعنون من عصى الله وسعى في الفساد؛ فيكون لعنهم سببًا في وجود حسرة وندامة في نفس العامل وإلهامات من صدور الملأ السافل أن يبغضوه ويسيئوا إليه إما في الدنيا أو بعد الموت، ويكونون سفراء بين الله وبين عباده، وإنهم يلهمون في قلوب بني آدم خيرًا؛ أي يكونون أسبابًا لحدوث خواطر الخير فيهم بوجه من وجوه السببية. وإن لهم اجتماعات كيف شاء الله وحيث شاء الله، ويعبر عنهم باعتبار ذلك بالرفيق الأعلى والنديِّ الأعلى والملأ الأعلى، وإن لأرواح الأفاضل من الآدميين دخولًا فيهم ولحوقًا بهم.

والملائكة على ثلاثة أقسام: قسم علم الحق أن نظام الخير يتوقف عليهم، فخلق أجسامًا نورية فنفخ فيها نفوسًا كريمة.

وقسم اتفق حدوث مزاج في البخارات اللطيفة من العناصر استوجبت فيضان نفوس شاهقة شديدة الرفض للألواث البهيمية.

وقسم هم نفوس إنسانية قريبة المأخذ من الملأ الأعلى ما زالت تعمل أعمالًا منجية تفيد اللحوق بهم، حتى طرحت عنها جلابيب أبدانها فانسلكت في سلكهم وعدت منهم.

وأفاضل الملأ الأعلى — الذين هم القسم الأول — تجتمع أنوارهم وتتداخل فيما بينها عند الروح الذي وصفه النبي بكثرة الوجوه والألسنة، فتصير هنالك كشيء واحد وتسمى حظيرة القدس.

وربما حصل في حظيرة القدس إجماع على إقامة حيلة لنجاة بني آدم بتكميل أزكى خلق الله يومئذ وإمضاء أمره في الناس، فيوجب ذلك تمثل علوم فيها صلاح البشر وهداهم في قلبه وحيًا ورؤيا وهتفًا وأن تتراءى له وتكلمه شفاها.

وهذا أصل من أصول النبوة، ويسمى إجماعهم المستمر بتأييد روح القدس، ويثمر هناك بركات لم تعهد في العادة فتسمى المعجزات.

أما القسم الثاني قسم النفوس التي استوجب فيضانها حدوث مزاج معتدل في بخارات لطيفة فإنهم دون الأولين.

وكمال هذه النفوس أن تكون فارغة لانتظار ما يترشح من فوقها، فإذا ترشح شيء بحسب استعداد القابل وتأثير الفاعل انبعثوا إلى ذلك الشيء، كما تنبعث الطيور والبهائم بالدعاوى الطبيعية، فأثروا في قلوب البشر وغيرهم حتى تنقلب إرادتها وأحاديث نفوسها إلى ما يناسب الأمر المراد، وقد تؤثر في بعض الأشياء الطبيعية بمضاعفة حركاتها وتحولاتها، كما يدحرج حجر فأثر فيه ملك، فمشى في الأرض أكثر مما يتصور في العادة، وربما ألقى الصياد شبكة فجاءت أفواج من الملائكة تلهم في قلب هذه السمكة أن تقتحم وهذه أن تهرب، وربما تقابلت فئتان، فجاءت الملائكة تزين في قلوب هذه الشجاعة والثبات، وتلهم حيل الغلبة، وتؤيد في الرمي وأشباهه، وفي قلوب تلك أضداد هذه الخصال ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

وبين الوحي عند الصوفية والوحي عند الفلاسفة تشابه غير خفي.

فالوحي عند هؤلاء وأولئك إشراف من النفس الإنسانية على حقائق الكون المثبتة في عالم فوق عالمنا، لكن بين المذهبين مع هذا التشابه فروقًا.

فالعالم العالي عند الفلاسفة عقول مجردة ونفوس هي عقول الأفلاك ونفوسها وصور الأشياء منقوشة فيها بحكم أنها مصادر لها وأسباب لوجودها وبحكم أنها مجردة بطبعها دراكة. واتصال النفوس البشرية بهذه النفوس الملكية هو اتصال روحي يطبعها بما أشرفت عليه من المعارف كمرآة تحاذى بها مرآة أخرى.

أما العالم العالي عند الصوفية الذي يفيض منه الوحي والإلهام فهو أمران: لوح محفوظ؛ كتب الله فيه على الوجه الذي أراده ما كان وما يكون، وملائكة هم أجسام من نور ذوو نفوس كريمة لها على باقي اللوح اطلاع، وهي أيضًا ألواح خطت فيها صنوف من العلم الإلهي، وما الوحي إلا أن يتلقى النبي من الملك شرائع إلهية، مع شهود الملك وسماع خطابه؛ إذ لا يجمع بين شهود الملك وسماع خطابه إلا الأنبياء، وأما الولي فإن سمع صوتًا فإنه لا يرى صاحبه، وإن رأى الملك فإنه لا يسمع له كلامًا، كما في كتاب الكبريت الأحمر.

والناظر فيما بين مذهب الفلاسفة والصوفية من تخالف يحس بأن منشأه أن الأولين أخذوا يفسرون النصوص الدينية بما يوافق ما استقر عندهم من نظام الكون وترتيب العوالم سفليها وعلويها، فهم يجعلون الملائكة التي وردت في لسان الشرع عبارة عن العقول المجردة والنفوس الفلكية التي أثبتتها فلسفتهم، ويؤولون النصوص تأويلًا يتفق مع أغراضهم.

والصوفية يعتمدون أولًا على النصوص الدينية، ويحاولون مبلغ جهدهم أن يشرحوا مبهمها، ويوفقوا بين ظواهر التضارب بينها، مضطرين إلى الركون إلى منازع الفلسفة، وإلى ما يسمونه ذوقًا تقصر عنه العبارة ويدركه العارفون، فهم أقل إمعانًا في التأويل وهم أقل وضوحًا.

(٤) مذهب ابن خلدون في الوحي

يقول ابن خلدون في «المقدمة»: إن الذي يذكره في تفسير حقيقة النبوة جارٍ على ما شرحه كثير من المحققين.

ولا شك أن الذي أدلى به في أمر النبوة والوحي متأثر بمذاهب الفلاسفة والصوفية، ولكن فيه من الطرافة وجدة التوجيه ما يجعله مذهبًا جديدًا.

العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة عجيبة من الترتيب وربط الأسباب بالمسببات واتصال الأكوان بالأكوان واستحالة بعض الموجودات إلى بعض. فعالم العناصر متدرج من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلًا بعضها ببعض، وكل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعدًا وهابطًا، ويستحيل بعض الأوقات، والصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضها ببعض.

وعالم التكوين يبتدئ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج. فآخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات، وآخر أفق النبات متصل بأول أفق الحيوان. ومعنى الاتصال في هذه الكائنات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد القريب أن يصير أول الأفق الذي بعده. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهت في التدريج إلى الإنسان صاحب الفكر والروية.

ثم إنا نجد في العوالم — على اختلافها — آثارًا متنوعة تشهد كلها بأن لها مؤثرًا مباينًا للأجسام؛ فهو روحاني ويتصل بالكائنات؛ لوجوب اتصاله بهذه العوالم في وجودها، وذلك هو النفس المدركة المحركة، ولا بد فوقها من وجود آخر يعطيها قوى الإدراك والحركة ويتصل بها أيضًا ويكون بذاته إدراكًا صرفًا وتعقلًا محضًا، وهو عالم الملائكة.

فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتًا من الأوقات في لمحة من اللمحات، وذلك بعد أن تكمل ذاتها الروحانية بالفعل، وهؤلاء هم الأنبياء، فطروا على الانسلاخ من البشرية جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى، ليصيروا في لمحة من اللمحات ملائكة بالفعل، ويحصل لهم شهود الملأ الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحة، فإذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم وتلقوا في ذلك الملأ الأعلى ما يتلقونه عاجوا به على المدارك البشرية منزلًا في قواها لحكمة التبليغ للعباد، فتارة يسمع النبي دويًّا كأنه رمز من الكلام، وتارة يتمثل له الملك رجلًا فيكلمه ويعي ما يقوله، والتلقي من الملك والرجوع إلى المدارك البشرية وفهمه ما ألقى عليه كله كأنه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر؛ لأنه ليس في زمان؛ بل كلها تقع جميعًا، فيظهر كأنها سريعة، ولذلك سميت وحيًّا؛ لأن الوحي في اللغة: الإسراع.

وترتيب العوالم كلها على درجات منتظمة الحلقات، متصلة ذواتها وقواها بعضها ببعض بحيث يكون آخر كل أفق منها مستعدًّا استعدادًا قريبًا لأن يصير أولًا للأفق الذي بعده، هو نظر طريف من أنظار ابن خلدون. وتفسير الوحي بأنه مفارقة البشرية إلى أفق الملائكة والملأ الأعلى، وتلقي الكلام الإلهي النفسي كما تتلقاه الملائكة، ثم الرجوع إلى المدارك البشرية التي تمثل ذلك الطور الروحاني بصور وأصوات، وتعليل الشدة التي يعانيها النبي عند التنزيل وما يحدث له من الغيبة والغطيط بأن مفارقة البشرية والانسلاخ عنها إلى أفق آخر شيءٌ عسيرٌ خصوصًا في بادئ الأمر — كل ذلك منزع من منازع ابن خلدون الجديدة.

ويقول ابن خلدون: إن نزول القرآن في مكة منجمًا على سور وآيات أقصر مما نزل بالمدينة سببه أن الاعتياد شيئًا فشيئًا على ما في الوحي من جهد يورثه بعض السهولة، فبدئ بالقصير حين كانت مشقة الوحي أشد.

ومذهب ابن خلدون يرجع بعد هذا إلى رأي الفلاسفة وشيء من مذهب الصوفية.

(٥) الوحي عند المسلمين في العصور الحديثة

يلاحظ أن الرأي السائد بين المسلمين في أمر الوحي يميل في عصور الركود النظري إلى مذاهب المتكلمين، ويتأثر برأي الفلاسفة في عصور النهوض.

وقد كان رأي المتكلمين في أبعد صوره عن الروحانيات هو الذائع في البلاد الإسلامية في العصور القريبة لا يكادون يتدارسون غيره، حتى جاء الشيخ محمد عبده يقرر أن الوحي عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة. والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت، ويفرق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على شعور منها، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور، ومن النفوس البشرية ما يكون لها من نقاء الجوهر بأصل الفطرة ما تستعد به لأن تتصل بالأفق الأعلى وتنتهي من الإنسانية إلى الذروة العليا وتشهد من أمر الله شهود العيان ما لم يصل غيرها إلى تعقله أو تحسسه بعصا الدليل والبرهان، ووجود بعض الأرواح العالية وظهورها لأهل تلك المرتبة السامية مما لا استحالة فيه عقلًا، وتمثل الصوت وأشباح لتلك الأرواح في حس من اختصه الله بتلك المنزلة ليس بالأمر الغريب.

وهذا هو مذهب الفلاسفة بعينه وإن طرزت حواشيه بصور من مذاهب المتكلمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤