العلوم الطبيعية

(١) الطب

الطب من جملة العلوم التي اشتهر بها الكلدان كهنة بابل، ويقال: إنهم أول من بحث في علاج الأمراض … فكانوا يضعون مرضاهم في الأزقة ومعابر الطرق حتى إذا مر بهم أحد أصيب بذلك الداء أخبرهم بسبب شفائه، فيكتبون ذلك على ألواح يعلقونها في الهياكل، ولذلك كان التطبيب عندهم من جملة أعمال الكهان. وعن الكلدان أخذت سائر الأمم القديمة، وفي جملتها العرب، وهو متشابه عند الأمم؛ في مصر وفينيقية وأشور. وكان لمصر شأن خاص فيه، ثم تناوله اليونان فأتقنوه ورتبوا أبوابه، وعنهم أخذ الرومان والفرس، ونظرًا لمعاصرة العرب لهذه الدول فقد اقتبسوا شيئًا من طبها أضافوه إلى ما جاءهم به الكلدان، وإلى ما استنبطوه من عند أنفسهم بالاختبار، فتألف من ذلك ما عبرنا عنه بالطب في الجاهلية، ولا يزال كثير منه إلى اليوم في قبائل البادية، وكان للتطبيب عندهم طريقتان: الأولى طريقة الكهان والعرافين، والثانية طريقة العلاج الحقيقية، فالكهان كانوا يعالجون بالرقى والسحر أو بذبح الذبائح في الكعبة والدعاء فيها أو بالتعزيم أو نحو ذلك.

وكان التطبيب بالرقى شائعًا في الأمم القديمة كلها، وقد وجدوا في الآثار المصرية كثيرًا من العزائم التي كانوا يصفونها لمعالجة المرضى، وجاء في أخبارهم أن كاهنهم كان إذا سار لمعالجة مريض صحبه خادمان أحدهما يحمل كتاب العزائم، والثاني يحمل صندوق العقاقير الطبية وهم يعالجون بالاثنين معًا، وكانوا يوجهون كلامهم في العزيمة أو الرقية إلى أحد آلهتهم وخصوصًا إيزيس وأوزيريس ورع، ولهم عبارات يقولونها عند وضع الأدوية وعند مناولتها للمريض، فمن أمثلة العزائم التي كانوا يتلونها عند تناول الدواء: «هذا هو كتاب الشفاء لكل مريض، فهل لإيزيس أن تشفيني كما شفت حوريس من كل ألم أصابه من ست حينما قتل أباه أوزيريس؟ فيا إيزيس أنت الساحرة الكبيرة اشفيني وخلصيني من كل شيء مكدر رديء شيطاني ومن أمراض اللبسة والأمراض القاتلة والخبيثة بأنواعها التي تعتريني كما خلصت ابنك حوريس …»،١ وكان عندهم عزائم لإخراج الأرواح الشريرة التي تسبب الأمراض في زعمهم.

فعلى هذه الكيفية كان العرب يتلون العزائم لأصنامهم ويرقون لإخراج الجان أو الشياطين. وكان اعتقادهم من هذا القبيل أنهم إذا خافوا وباء نهقوا نهيق الحمير، يزعمون أن ذلك يمنعهم من الوباء وأن شرب دماء الملوك يشفي من الخبل.

وأما معالجتهم بالعقاقير فشبيهة بما كان عند المصريين وغيرهم من الأمم القديمة؛ فقد كانوا يعالجون بالعقاقير البسيطة أو الأشربة وخصوصًا العسل … فإنه كان قاعدة العلاج في أمراض البطن، على أن اعتمادهم في معالجة الأمراض كان معظمه عائدًا إلى الجراحة كالحجامة والكي، ومن أقوالهم: «كل داء يحسم بالكي آخر الأمر … وآخر الطب الكي»، وكثيرًا ما كانوا يعالجون بالقطع أو البتر، والغالب أن يكون ذلك بالنار … فإن النار عندهم كانت تقوم مقام مضادات الفساد عندنا، فإذا أرادوا فصل عضو حموا شفرة بالنار وقطعوه بها كما فعلوا بصخر بن عمرو أخي الخنساء لما نتأت قطعة من جوفه مثل الكبد على أثر طعنة، فأحموا له شفرة وقطعوها.٢
وكانوا يعالجون الحَوَل في البصر بإدامة النظر إلى حجر الرحى في دورانه، ويزعمون أن العين تستقيم به، ومن معالجتهم التي نعدها اليوم خرافة أن المجروح إذا شرب الماء مات٣ وإذا خافت المرأة حتى برد قلبها سقوها ماءً حارًّا.٤

(٢) الأطباء

وأما الأطباء فقد كانوا في أول الأمر من الكهنة، ثم تعاطى الطب جماعة العرب ممن خالطوا الروم والفرس، وأخذوا الطب عنهم، فاشتهروا بهذه الصناعة وأكثرهم من أهل النهضة الأخيرة قبل الإسلام حوالي القرن السادس للميلاد … على أن بعضهم أقدم من ذلك كثيرًا، وأقدم أطبائهم لقمان وهو حكيمهم وفيلسوفهم، وفي أصله وزمن وجوده اختلاف، يليه رجل من تيم الرباب يقال له ابن حزيم ويضربون به المثل بالحذق في الطب، فيقولون لمن أرادوا وصفه بذلك: «أَطَبُّ من ابن حزيم» وفيه يقول أوس بن حجر:

فهل لكم فيها إلي فإنني
بصير بما أَعْيَا النطاسيَّ حزيمًا

ومن أحدث أطباء الجاهلية الحارث بن كلدة، توفي سنة ١٣ للهجرة … وهو من بني ثقيف من أهل الطائف، رحل إلى أرض فارس وأخذ الطب من جنديسابور وتعاطى صناعة الطب هناك واكتسب مالًا ثم عاد إلى بلاده وأقام في الطائف، ونال شهرة واسعة وقد أدرك الإسلام، وكان الرسول يأمر من كان به علة أن يأتيه فيستوصفه، ومنهم ابن أبي رومية التميمي والنضر بن الحارث بن كلدة.

وأكثر هؤلاء الأطباء ثقفوا الطب من بلاد الفرس أو الروم، وبعضهم أخذه عن الكهان أو الأحبار من الأديار ونحوها، وربما أخذوا عنهم شيئًا من الفلسفة القديمة كما فعل النضر المذكور، والظاهر أن بعضهم كان يخصص نفسه للأعمال الجراحية فيغلب عليه لقب الجراح، وأشهر جراحي الجاهلية ابن أبي رومية التميمي المتقدم ذكره؛ فقد كان جراحًا مزاولًا لأعمال اليد.

ويؤخذ مما حوته اللغة العربية قبل الإسلام من أسماء العلل والأمراض والعقاقير، أن العرب عرفوا كثيرًا من الأمراض ومعالجتها، وناهيك بما عرفوه وتوسعوا فيه من أحوال الأعضاء وأوصافها وهو من قبيل علم التشريح، وهم يعبرون عنه بخلق الإنسان. وقد ألف أدباء المسلمين كتبًا كثيرة في هذا الموضوع نقلًا عن العرب، سيأتي ذكرها بين مؤلفات أهل اللغة، والمتأمل فيما حوته من أسماء الأعضاء وأوصافها يتبين له أن أولئك الجاهليين كانوا على معرفة بتشريح الأعضاء؛ لأن عندهم لكل عضو اسمًا ووصفًا من الرأس وما يتركب منه وما له من الصفات، إلى الشعر وأقسامه وألوانه … فالأذن وما تركبت منه وأقسامها … فالوجه وما تركب منه … فالحاجب وأنواعه وما يحمد منه وما يذم … والعين وأصنافها وطبقاتها ومجاري دمعها، وغير ذلك مما اشتملت عليه، والأنف وما تركب منه وبيان أقسامه، والفم وما تركب منه، والأسنان وعددها وأسماء أصنافها وأجزائها ومنابتها، واللسان وما اشتمل عليه من الأجزاء والعظام التي في أسفله، والحلق وبيان ما فيه من اللغاديد والحنجرة والغلصمة والبلعوم والحلقوم، واللحيين، وبيان محلهما وأسماء ما تركبا منه، واللحية وأسماء أجزائها وأقسامها وألوانها وسائر أوصافها، والعنق وما تركب منه، والمنكب والكتف وما اشتملا عليه، واليد وما تركبت منه من العظام والأعصاب والعضلات والعروق، وما وضع لذلك من الأسماء، والأصابع وأسماؤها وأجزاؤها، والظفر وأقسامه وأسماؤه، والصدر وما تركب منه، والجنبان وعدد أضلاعهما، وأسمائها، وما يلحق ذلك، والبطن وما حوى، وكذلك سائر الأعضاء، وقد توسعوا في بعضها حتى وضعوا لكل عضو عدة أسماء، وتجد نتفًا من الطب الجاهلي في العقد الفريد والأغاني والكشكول وحياة الحيوان وسواها من كتب الأدب وغيرها، ويُستخرج شيء كثير من أشعارهم.

(٣) البيطرة والخيل وعلوم طبيعية أخرى

وكان للعرب معرفة حسنة في شئون الخيل وأحوالها لم يسبقهم إليها سواهم؛ لعنايتهم بأفراسهم ويعبرون عنها بالبيطرة، ونبغ فيهم غير واحد من أطباء الحيوان، منهم العاص بن وائل. وظلت هذه المعرفة تتناقل في أفراد منهم إلى اليوم، وهم يجولون في البادية يعالجون الخيل معالجة الحاذقين، وروى عنهم الرواة في صدر الدولة العباسية، ووضعوا الكتب فيما جمعوه من هذا العلم. وخصص الألوسي صاحب بلوغ الأرب فصلًا في هذا الموضوع بالجزء الثالث من كتابه، ذكر فيه كثيرًا من عيوب الخيل وما يُستحب منها نقلًا عن كتاب الخيل لأبي عبد الله الإسكافي.

وقد ألف الأدباء كثيرًا من الكتب في الخيل، وهي ترمي إلى نحو هذا الغرض وتعد من كتب اللغة سيأتي ذكرها.

ومن المعارف الطبيعية التي توصلوا إليها:
  • أولًا: استنباط الماء ويسمونه الريافة، فإنهم كانوا يعرفون وجود الماء في مكان بشم التراب أو برائحة بعض النباتات أو نحو ذلك.
  • ثانيًا: الاهتداء في البراري بأمارات يعرفونها بالأتربة أو بالنجوم.
  • ثالثًا: نزول الغيث وهو من قبيل الظواهر الجوية.
  • رابعًا: الملاحة وقد اضطروا إلى معرفتها لأسفارهم إلى الهند والحبشة للاتجار من عهد دول اليمن، ونجد أمثلة من معارفهم هذه في الجزء الثالث من كتاب بلوغ الأرب في أحوال العرب للألوسي، وهو المطبوع في بغداد سنة ١٣١٤.

(٤) الأنواء ومهاب الرياح

ويراد بالأنواء عندهم ما يقابل علم الظواهر الجوية عندنا مما يتعلق بالمطر والرياح، ولكنهم كانوا ينسبون الظواهر المذكورة إلى طلوع الكواكب أو غروبها، ولذلك كان علم الأنواء فرعًا من علم النجوم، وكانوا يسمون طلوع المنزلة نوءها أي نهوضها وسموا تأثير الطلوع بارحًا وتأثير السقوط نوءًا. ومن طلوع كل واحدة منها إلى طلوع التي تليها ثلاثة عشر يومًا سوى الجبهة، فإن بين طلوعها وطلوع التي تليها ١٤ يومًا، ومن أقوالهم في ذلك:

والدهر فاعلم كله أرباع
لكل ربع واحد أسباع
وكل سبع لطلوع كوكبِ
ونَوءٍ نجم ساقطٍ في المغربِ
ومن طلوع كل نجمٍ يطلع
إلى طلوع ما يليه أربعُ
من الليالي ثم تسعٌ تتبع
ثم اختلفوا فيها، فزعم بعضهم أن كل تأثير يكون بعد طلوع منزلة إلى طلوع التي تليها فهو منسوب إليها، وزعم آخرون أن لطلوع كل واحدة وسقوطها مقدارًا من الزمن يُنسب إليها ما يكون فيه، فإذا انقضت تلك المدة لم يُنسب إليها ما يكون بعدها، وكانوا إذا تحقق التأثير فلم يظهر منه شيء في تلك الأزمنة قالوا: خوي النجم أو خوت المنزلة يعنون بذلك أنه مضت مدة نوء ولم يكن فيه مطر أو حر أو برد أو ريح٥ ومن أمثالهم: «أخطأ نوؤك» يُضرب لمن طلب حاجة فلم يقدر عليها.٦

وكانوا إذا أمطرت السماء نسبوا المطر إلى تأثير النجم المتسلط في ذلك الوقت، فيقولون مثلًا: مطرنا بنوء المجرة أو هذا نوء الخريف ومطرنا بالشعرى، وقالوا: إن النوء سقوط نجم ينزل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه في الشرق من أنجم المنازل، ولذلك كانت الأنواء ٢٨ نوءًا أو نجمًا، كانوا يعتقدون أنها هي علة الأمطار والرياح والحر والبرد، وفي أشعارهم أمثلة كثيرة تدل على علاقة أحوال الجو أو فصول السنة باقترانات الكواكب أو طلوعها، وقد نظموها شعرًا ليسهل حفظها على الناس؛ لقلة الكتابة عندهم، ومن ذلك قولهم:

إذا ما قارن القمر الثريا
لثالثةٍ فقد ذهب الشتاء

وقول الآخر:

إذا ما البدر تَمَّ مع الثريا
أتاك البرد أولُه الشتاء

وقول الآخر:

إذا ما قارن الدبران يومًا
لأربع عشرةً قمرَ التَّمامِ
فقد حَفَّ الشتاء بكل أرض
فوارسُ مؤذناتٌ باحتدامِ
وحَلَّق في السماء البدر حتى
يقلِّص ظل أعمدة الخيامِ
وذلك في انتصاف الليل شطرًا
ويصفو الجو من كدر الغمامِ

وقول الآخر:

إذا ما هلال الشهر أول ليلة
بدا لعيون الناس بين النعائم٧
أتتك رياح القرِّ من كل وجهةً
وطاب قبيل الصبح كَوْر العمائم

وقول الآخر:

وقد برد الليل التمام بأهله
وأصبحت العوَّاءُ للشمس منزلا٨
وكان عندهم لمطلع كل كوكب أو منزل وصف يدل على تأثير ذلك في الطقس على اعتقادهم، ومن هذا القبيل اعتقادهم تأثير النجوم في أعمال البشر على ما كان عند الكلدان،٩ على أنهم كثيرًا ما كانوا يستدلون على المطر أيضًا بألوان الغيوم وأشكالها فأقل الغيوم مطرًا عندهم البيضاء ثم الحمراء ثم السوداء، ومن أقوالهم: «السحابة البيضاء جفل والحمراء عارض والسواد هطلة».١٠
وكان العرب في حاجة إلى معرفة مهاب الرياح للاهتداء في أسفارهم، ولذلك فقد وضعوا لها الأسماء … ولكنهم اختلفوا في عدد جهاتها فحسبها بعضهم ستة والبعض الآخر أربعة، فهي عند أصحاب القول الثاني:
  • (١)

    مهب الصبا من الشمال.

  • (٢)

    مهب الشمال من الغرب.

  • (٣)

    مهب الدبور من الجنوب.

  • (٤)

    مهب الجنوب من المشرق.

ويزيد عليها أصحاب القول الأول النكباء بجانب الشمال والمحوة بجانب الجنوب، وإليك قول ذي الرمة في ذلك:

أهاضيب أنواءٍ وهيفان جرَّتا
على الدار أعرافَ الحِبال الأعافرِ
وثالثة تهوي من الشام حَرْجَفٌ
لها سنَنٌ فوق الحصى بالأعاصر
ورابعة من مطلع الشمس أجفلتْ
عليها بدَقْعاء المِعا فقُراقر
فحنَّت بها النُّكْبُ السوافي فأكثرت
حنينَ اللقاحِ القاربات العواشر١١

وتجد أمثلة من هذا الموضوع فيما يأتي ذكره من الكتب التي تبحث في الفلك.

هوامش

(١) بغية الطالبين ٢٥٨.
(٢) الأغاني ١٣٧ ج١٣.
(٣) الأغاني ١٣١ ج١٤.
(٤) الأغاني ٣٢ ج١٠.
(٥) الآثار الباقية للبيروني ٣٣٩.
(٦) مجمع الأمثال للميداني ٢٠٢ ج١.
(٧) النعائم: من منازل القمر.
(٨) البيروني ٣٣٧، والعواء: من منازل الشمس والقمر.
(٩) Rawlinsons Ancient Monarchies 111. 425.
(١٠) الميداني ١٠٩ ج٧.
(١١) البيروني: ٣٤٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤