الشعر والشعراء

إن ما قَدَّمْنَاه عن أحوال الدول والأمم في هذا العصر ظهر تأثيره في الشعر أكثر مما في سائر الآداب؛ لأن الشعر مرآة أحوال الأمة كما تبيَّن لك مما بسطناه عن أحواله في العصور التي تقدَّم ذكرها، كان الشعر في الجاهلية ديوان العرب ومعرض آدابهم وأخلاقهم يمثِّلون الشجاعة والفروسية والضيافة والأَنَفَة والوفاء، لا يتكلمون ولا يبالغون، فصاروا في أيام بني أمية وأكثر نظمهم في السياسة، وظهر التشبيب بكثرة الجواري والسراري، وكثر الهجو لاختلاف الأحزاب، مع المحافظة على صبغته البدوية، فلما استبحر عمران العباسيين وأوى الناس إلى القصور، وسرحوا في الحدائق، وشربوا الخمر، واقتنوا الغلمان، ظهر أثر ذلك في أشعارهم، ثم زادوا على ذلك شكوى الزمان في العصر العباسي الثاني لاشتغال الخلفاء والوزراء عن الشعر والشعراء، ونحن الآن في عصر تسابق فيه ولاة الأمر إلى تقديم أهل الأدب، فلا غرو إذا تعدَّد الشعراء، وكثرت مدائحهم، وطالت قصائدهم، وتفرَّعت أساليبهم.

(١) مزايا الشعر في هذا العصر

(١-١) حل القيود القديمة

إن اطلاع أهل الأدب على الكتب الفلسفية والطبيعية والمنطقية بعد ترجمتها عوَّدت عقولهم على النظر الصحيح والتقرب من الحقيقة، فخطوا خطوة أخرى في تبديل مذهب الشعر وطرقه، وإماما هذه الطريقة المتنبي والمعري. وقد رأيت أن شعراء العصر العباسي الأول انتقدوا طرق الجاهليين، لكنهم ظلوا يتحدونهم في كثير منها وهم يرسفون بالقيود التي وضعوها للنظم من حيث اللفظ والمعنى، فتملَّص المتنبي والمعري من تلك القيود وقالا الشعر كما توحيه القريحة، فنَظَمَا في فلسفة الوجود والحكمة في الخلق من عند أنفسهم، ولا سيما المعري، والشعر الحقيقي هو التعبير عن الشعور بتلك الحكمة، أو تصوير الجمال الطبيعي بأعم معانيه، وهو ما يعنيه الإفرنج بالشعر، ولكنَّ لأدباء العرب نظرًا آخر فيه من حيث الديباجة واللفظ والكتابة والمحاز، وسنعود إلى ذلك.

(١-٢) مقتبسات الفلسفة والتاريخ والطب والفقه

على أن العرب في هذا العصر زاد اقتباسهم للأفكار الفلسفية، واطَّلَعُوا على تاريخ اليونان، فصاروا يتمثَّلون بأبطالهم، كقول المتنبِّي:

مَنْ مبلغ الأعراب أني بعدهم
شاهدت رسطاليس والإسكندرا
وسمعت بطليموس دارس كُتْبِه
متملكًا متبدِّيًا متحضِّرًا
ولقيت كل الفاضلين كأنما
رد الإله نفوسهم والأعصرا

وقول الفتح البستي من المعاني الطبية:

وقد يلبس المرء خز الثيا
بِ ومن دونها حالة مضنيهْ
كمن يكتسي خده حمرةً
وعِلَّتُه ورم في الريهْ

وقوله:

إن الجهول تضرني أخلاقه
ضرر السعال بمن به استسقاءُ

وقوله وفيه شيء من علم النجوم:

قد غض من أملي أني أرى عملي
أقوى من المشتري في أول الحملِ
وأنني زاحلٌ عما أحاوله
كأنني أستدرُّ الحظ من زُحَلِ

ودخل الشعرَ العربيَّ كثيرٌ من حكم القدماء وأمثالهم في اليونانية، إما اقتباسًا كما في أشعار المتنبي أو نقلًا وتعريبًا، وأكثر ذلك منقولٌ عن الفرس، وهذه أمثلة مما نقله أبو الفضل السكري:

من مثل الفرس ذوي الأبصارْ
الثوب رهن في يد القصارْ
إن البعير يبغض الخشاشا
لكنه في أنفه ما عاشا
نال الحمار بالسقوط في الوحلْ
ما كان يهوى ونجا من العملْ
نحن على الشرط القديم المشترطْ
لا الزق منشق ولا العير سقطْ

وتكاثرت فيه المعاني الفقهية والصوفية لظهور التصوف وشيوعه، واشتغال كثيرين من أصحابه في الشعر كقول بعضهم:

من سره أن يرى الفردوس عاجلةً
فلينظر اليوم في بنيان إيواني
أو سره أن يرى رضوان عن كثبٍ
بملء عينيه فلينظر إلى الباني

(١-٣) أبواب عديدة

وتولدت فيه أبواب جديدة اقتضاها التبسُّط في الحضارة والتوسُّع في أسباب الرخاء، فبعد أن كان الشعر الجاهلي أكثره في الحماسة والفخر والرثاء والمدح، زاد عليه الأمويون التشبييب والهجو، وزاد العباسيون في العصر الأول الخمريات والتغزل بالغلمان، وزادوا في هذا العصر (الثالث) أبوابًا تلائم أحوال الاجتماع والمدنية، أهمها الإخوانيات، والعتاب، وشكوى الدهر، والزهد، والمداعبات، والسلطانيات، والمجاوبات، والمقارضات. وصار النظم في الزهر بابًا قائمًا بنفسه، وبعض هذه الأبواب كان منه أمثلة في الأعصر الماضية، لكنها أصبحت في هذا العصر أبوابًا مستقلة، وهي تدل على تلطف أخلاق الأمة وتوسع علاقاتها وارتقاء أذواقها.

فيراد بالإخوانيات مثلًا ما يُنْظَم في الإخوان أو الأصدقاء من أسباب التقارب، كقول بعضهم:

وأخٍ إذا ما شط عني رحله
أدنى إليَّ على النوى معروفَهْ
كالكَرْم لم يمنعه بُعد عريشه
من أن يقرِّب للجُنَاة قطوفهْ

والمداعبات كقوله:

أبا جعفر هل فضضت الصدفْ
وهل إذ رميت أصبت الهدفْ
وهل جئت ليلًا بلا حشمةٍ
لهول السرى سدفًا في سدفْ

والدهر أو شكوى الدهر كقوله:

يا دهر ما أقساك يا دهرُ
لم يحظ فيك بطائل حُرُّ
أما اللئام فأنت صاحبهم
ولهم لديك العطف والنصرُ
يبقى اللئيم مدى الحياة فلا
يرتاع منه لحادثٍ صدرُ

وقس على ذلك. وترى أمثلة كثيرة من هذه الأبواب في يتيمة الدهر للثعالبي.

(١-٤) المبالغة

غالى أهل هذا العصر في المبالغة الشعرية إلى ما لم يسبقهم إليه أهل الأعصر الماضية، حتى خرجوا عن الممكنات إلى المستحيلات كقول المتنبي:

وضاقت الأرض حتى صار هاربهم
إذا رأى غير شيء ظنه رجلًا
فبعده وإلى ذا اليوم لو ركضت
بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا

ومثله قوله في وصف الضعف:

كفى بجسمي نحولًا أنني رجلٌ
لولا مخاطبتي إياك لم ترني

وناهيك بالمبالغة في المدح؛ فإنهم تجاوزوا فيه المعقول والمشروع، وإماما المدَّاحين في هذا العصر المتنبيان أبو الطيب وابن هاني. ومن مبالغات أبي الطيب في المدح قصيدته السينية التي مطلعها:

هذي برزت لنا فهجت رسيسا
ثم انثنيت وما شفيت نسيسا

إلى أن يقول:

لو كان ذو القرنين أعمل رأيَهُ
لمَّا أتى الظلمات صرت شُمُوسا
أو كان صادف رأس عازر سيفه
في يوم معركة لأعيا عيسى
أو كان لج البحر مثل يمنه
ما انشق حتى جاز فيه موسى
أو كان للنيران ضوء جبينه
عبدت فصار العالمون مجوسا
لما سمعت به سمعت بواحدٍ
ورأيته فرأيت منه خميسا
ولحظت أنمله فسلن مواهبًا
ولمست منصله فسال نفوسا
يا من نلوذ من الزمان بظله
حقًّا ونطرد باسمه إبليسا

ونحو ذلك قوله:

وأعجب منك كيف قدرت تنشا
وقد أعطيت في المهد الكمالا
وأقسم لو صلحت يمين شيء
لما صلح العباد له شمالا

وقوله:

بمن أضرب الأمثال أم من أقيسه
إليك وأهل الدهر دونك والدهرُ

أما ابن هاني متنبي الغرب فيكتفي مثالًا لمبالغته القصيدة التي مدح بها المعز لدين الله الفاطمي، ومنها قوله:

ما شئت لا ما شاءت الأقدارُ
فاحكم فأنت الواحد القهارُ
وكأنما أنت النبي محمدٌ
وكأنما أنصارك الأنصارُ
أنت الذي كانت تبشِّرنا به
في كُتْبها الأحبار والأخيارُ

(١-٥) طول القصائد

وطالت القصائد في هذا العصر عما كانت عليه قبلًا حتى كثرت فيها ذوات المئات من الأبيات، كقصيدة ابن عبد ربه وقصائد الواساني، ومع ذلك فإن العرب لم يدركوا شأو الأمم الأخرى في الإطالة، كما فعل اليونان بالإلياذة والأوديسة، والفرس في الشاهنامه، وهو الشعر المعروف بالأيبوبة، وتعد أبيات الواحدة بعشرات الألوف. على أنهم ذكروا لأبي الرجا محمد بن أحمد بن الربيع الأسواني المتوفى سنة ٣٣٥ﻫ قصيدة أبياتها تعد بالألوف، ضمنها أخبار العالم وقصص الأنبياء ومختصر المزني. ويعد من هذا القبيل نظم كليلة ودمنة ونحوها مما ضاع، ولكن ذلك منقول ليس فيه تفكير؛ أي لم ينظمه الشاعر من بنات أفكاره، ولا يكون ذلك إلا في نظم القصص الخيالية أو نحوها.

(١-٦) الوصف الشعري

وأجاد أهل هذا العصر في الوصف الشعري وتوسعوا فيه، والوصف قديم في الشعر العربي، لكنه اتَّسع وطال بزيادة العمارة وصار له في هذا العصر باب خاص، وأول من أجاده منهم شعراء الأندلس لمخالطتهم الإفرنج، والشعر الوصفي عند هؤلاء باب من أبواب الشعر الكبرى، فصار شعراء العرب يصفون المناظر الطبيعية والأبنية الجميلة وسائر ظواهر المدنية حتى الأدوات كالأسطرلاب ونحوه.

على أن تاريخ الوصف الشعري يتصل بالجاهلية، فكان العرب في الجاهلية وصدر الإسلام يصفون الخيل والمعارك ونحوها، وأحسن قصائد الوصف عندهم قصيدة بشر بن عوانة التي وصف بها مقتل الأسد ومطلعها:

أفاطم لو شهدت ببطن خبت
وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا

إلى آخرها. وهي بديعة ومنشورة في جملة مقامات بديع الزمان الهمذاني.

وتقدم الشعر الوصفي بعد الإسلام رويدًا رويدًا مع تقدم المدنية واتساع الخيال وتكاثر المعاني بتكاثر فروع العلم، والاختلاط بالأمم الأخرى في العصر العباسي الأول فالثاني حتى بلغ أحسنه في العصر الثالث هذا. وأبرع وصَّافي العصر الثاني البحتري، وأحسن قصائده في الوصف قصيدة يصف بها بركة بناها المتوكل على الله مطلعها:

يا من رأى البركة الحسناءَ رؤيتُها
والآنسات إذا لاحت مغانيها

حتى يقول:

تنصبُّ فيها وفود الماء معجلةً
كالخيل خارجةً من حبل مجريها
كأنما الفضة البيضاء سائلة
من السبائك تجري في مجاريها
إذا علتها الصبا أبدت لها حبكًا
مثل الجواشن مصقولًا حواشيها
فحاجب الشمس أحيانًا يضاحكها
وريق الغيث أحيانًا يباكيها
إذا النجوم تراءت في جوانبها
ليلًا حسبت سماءً رُكِّبَت فيها

وقصيدة وصف بها القصر الكامل للمعتز بالله قال فيها:

وكأن حيطان الزجاج بجوه
لجج يَمُجْن على جنوب سواحلِ
وكأن تفويف الرخام إذا التقى
تأليفه بالمنظر المتقابلِ
حُبُك الغمام رُصِفْنَ بين منمَّرٍ
ومُسَيَّر ومقارب ومشاكلِ

لكن شعراء العصر الثالث زادوا توسعًا في الوصف ودقة في التعبير، وممن أجاد فيه المتنبي وابن هاني والمأموني، ولهذا الأخير قصيدة في وصف قصر بناه الصاحب بن عباد قال فيها:

فهنيئًا منها بدار حوت منـ
ـك جبالًا من الحلوم رجاحا
ذات صدر كرحب صدرك قد زا
د على ظن آمليك انفساحا

ثم أتى على وصف الدار وصفًا يطابق ما يتخيل للداخل إليها، فيتدرج من الفِناء فالبهو فالصحن … إلخ.

دع عنك وصف المتنبي لمواقع الحروب أو ما يحتاج إلى فخامة اللفظ والمعنى، كقصيدته التي يصف بها وقعة حرب لسيف الدولة مع البطريق. ومن أحسن شعره الوصفي قوله يصف مشية الأسد:

يطأ الثرى مترفقًا من تيهه
فكأنه آسٍ يجسُّ عليلا
ويرد غفرته إلى يافوخه
حتى تصير لرأسه إكليلا
وتظنه مما تزمجر نفسه
عنها بشدة غيظه مشغولا
قصرت مخافته الخطى فكأنما
ركب الكمي جواده مشكولا

لكن شعراء العرب قلما اشتغلوا بوصف الحوادث الطويلة أو التواريخ، كما فعل اليونان والفرس قديمًا أو كما يفعل أدباء الإفرنج الآن في تأليف الروايات الوصفية للأخلاق والعادات، وسنفرد فصلًا خاصًّا بهذا الموضوع.

(١-٧) زيادة أبحره وأوزانه

تولدت في الشعر أبحر جديدة لم تكن فيه من قبل أهمها الموشَّحات ينظمونها أسماطًا أسماطًا وأغصانًا أغصانًا يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة، ويسمون المتعدد منها بيتًا واحدًا، ويلتزمون قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتالية فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات، ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب، وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد.

وهي من مخترعات الأندلسيين، وأول من نظمها منهم مقدم بن معافر الفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني في أواخر القرن الثالث للهجرة، وأخذ عنه ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد. ولم تقع هذه البدعة موقعًا حسنًا عند المحافظين على القديم، فكسدت حينًا حتى نبغ عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية (توفي سنة ٤٤٣ﻫ)١ فأجاد، وجاء بعده ابن أرفع رأس شاعر المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة (توفي سنة ٤٦٧ﻫ). وذكر صاحب فوات الوفيات «أن أول من نظم عقود الموشحات وأقام عمادها عبادة بن عبد الله بن ماء السماء الشاعر الأندلسي المتوفى سنة ٤٢٢ﻫ، رأس الشعراء في الدولة العامرية، وكانت صناعة التوشيح قد ظهرت، وأخذ الشعراء ينتهجونها، فقام عبادة وقوَّم ميلها وسنادها، فكأنها لم تسمع بالأندلس إلا منه ولا أخذت إلا عنه، واشتهر بها اشتهارًا غلب على ذاته وذهب بكثير من حسناته، وأول من صنع أوزان هذه الموشحات محمد بن محمود المقبري الضرير، وقيل: إن ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد أول من سبق إلى هذا النوع من الموشحات، ثم نشأ يوسف بن هارون الرمادي، ثم نشأ عبادة هذا، فأحدث التصفير؛ وذلك أنه اعتمد على مواضع الوقف في المراكز».

وفي كل حال، فإن الموشحات نضجت في العصر الثالث الذي نحن في صدده.

وناهيك بما أدخله الجوهري صاحب الصحاح على عروض الشعر في هذا العصر.

وفيه أيضًا نضج نقد الشعر بظهور كتاب العمدة لابن رشيق، ولنقد الشعر تاريخ يستحسن إيراده هنا:

(٢) تاريخ نقد الشعر العربي

يقسم النقد الأدبي أو انتقاد المؤلفات إلى أقسام أهمها ثلاثة: (١) نقد الشعر، (٢) نقد الإنشاء، (٣) نقد التاريخ. والمشهور أن العرب من أقل الأمم نقدًا وتمحيصًا، ويصح ذلك من حيث التاريخ والتراجم أو أعمال الناس وأحوال الاجتماع لأسباب سنبيِّنها في ما يلي من هذا الكتاب، وأما ما خلا ذلك فهم من أكثر الأمم ميلًا إلى النقد أو التمحيص، وإنما يظهر منهم ذلك عند الحاجة إليه أو إذا تيسَّر لهم الخوض فيه، أما من حيث فنون الأدب فبدءوا بنقد الشعر ثم الإنشاء، وأخيرًا التاريخ، وسنفرد لكل منها فصلًا خاصًّا في المكان الملائم، وهذا مكان الكلام عن نقد الشعر، وينقسم النظر في الشعر إلى أقسام من حيث عروضه ووزنه وقوافيه ولغته ومعانيه وأسلوبه، والمقصود النظر فيه من حيث معناه (الخيال الشعري)، وطريقته أو مذهب صاحبه في النظم.

ونقد الشعر من حيث معناه قديم في تاريخ الأدب يتَّصل بصدر الإسلام، فقد رأيت ما كان يجري من المشاحنات والمناظرات في العصر الأموي بشأن من هو أشعر الشعراء، حتى كثيرًا ما كان الجدال يُفضي إلى الخصام، وقد فصَّلنا ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب، وهم طبعًا كانوا ينظرون في قول كل شاعر نَظَرَ الناقد ليبيِّنوا فضله على سواه، ولم يقتصر التصدي للنقد على الأدباء أو الشعراء، بل كان يتناول كل ذي إلمام بالشعر، وحيثما اجتمع الأدباء تذاكروا الشعر وانتقدوه، وكانت مجالس سكينة بنت الحسين في المدينة أشبه شيء بمجالس الانتقاد الأدبي في أرقى الأمم المتمدِّنة اليوم. ثم ظهرت طبقة أخرى من نقاد الشعر لمَّا أخذ الرواة في جمعه في العصر العباسي الأول، فكانت مجالسهم وأنديتهم للمفاكهة أو المذاكرة لا تخلو من النقد.

أما الطريقة أو المذهب — ونعني الخطة التي كانوا يتوخَّوْنها في النظم، مثل تحديهم شعراء الجاهلية، من حيث ذكر الأطلال والبكاء عليها والتغزل بحيوانات البادية وأحوالها كما كان يفعل الجاهليون — فأول من انتقدها شعراء العصر العباسي الأول، وقد أشرنا إلى ذلك في موضع سابق من هذا الكتاب، وإنما هي أبيات قالوها عرضًا.

أما التأليف في نقد الشعر من هذا الوجه وغيره، فأول من أقدم عليه مما وصلنا خبره محمد بن سلام الجمحي، المتوفى سنة ٢٣٢ في كتابه طبقات الشعراء، وقد وصفناه في هذا الجزء، فإنه صدَّر ذلك الكتاب بمقدمة فيها نقد جميل قال في جملته: «إن محمد بن إسحاق أفسد الشعر بما نسبه من الإشعار إلى بعض الصحابة في السيرة النبوية.» وبحث في شيء من هذا القبيل ابن أبي الخطاب القرشي في مقدمة جمهرة أشعار العرب، ونجد شيئًا من ذلك أيضًا في كتاب قواعد الشعر لثعلب المتقدم ذكره. أما أدباء العصر العباسي الثاني كابن قتيبة والجاحظ وابن عبد ربه وأمثالهم فقد توسعوا فيه؛ لأن ما ألَّفوه من كتب الأدب لا يخلو من النقد الشعري.

على أن أكثرهم نقدًا وتمحيصًا ابن قتيبة (المتوفى سنة ٢٧٦ﻫ) في كتابه الشعر والشعراء، وقد صرَّح بذلك في مقدمة الكتاب المذكور بقوله:

ولم أسلك في ما ذكرته من شعر كل شاعر مختارًا له سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل إلى الفريقين، وأعطيت كلًّا حظه ووفَّرت عليه حقه، فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلى أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله، ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ولا خصَّ به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثًا في عصره وكل شرف خارجية (كذا) في أوله، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم يعدون محدثين، وكان أبو عمر بن العلاء يقول: (لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته.) ثم صار هؤلاء قدماء عندنا ببعد العهد منهم، كذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا، كالخزيمي والعتابي والحسن بن هانئ وأشباههم، فكل من أتى بحسن قول أو فعل ذكرناه له وأتينا به عليه، ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله ولا حداثة سنه، كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف لم يرفعه شرف صاحبه ولا تقدمه.

وقد انتقد ابن قتيبة الإنشاء في صدر كتابه أدب الكاتب كما تقدم.

ثم جاء قدامة بن جعفر المتوفى سنة ٣١٠ﻫ، فأفرد لذلك كتابًا خاصًّا سماه: «نقد الشعر» تقدم ذكره، وهو أول من فعل ذلك، فبيَّن حد الشعر وشروط نظمه من حيث اللفظ والمعنى وائتلافهما في أبواب النظم المعروفة في عصره، وشروط المجاز والتشبيه وغيره، لكنه اختصر في ذلك ولم يوف الموضوع حقه شأن كل من يبدأ بعمل جديد، فترك إتمامه لأدباء العصر العباسي الثالث الذي نحن في صدده.

فجاء بعده حسين بن بشر الأمدي المتوفى سنة ٣٧١ﻫ (ترجمته في معجم الأدباء ٥٤ ج٣)، فوضع كتابه في الموازنة بين أبي تمام والبحتري، وقد ذكرناه في ترجمة البحتري، وهو من قبيل النقد الخاص؛ لأنه محصور بين شاعرين معينين، لكنه يشتمل على قواعد عامة.

وكذلك فعل علي بن عبد العزيز الجرجاني الشاعر الكاتب، المتوفى سنة ٣٩٢ﻫ في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه ردًّا على كتاب ألفه الصاحب بن عباد في مساوئ المتنبي، فكتاب الوساطة مع كونه خصوصيًّا بين المتنبي وخصومه، لكنه يتضمن أبحاثًا في الشعر على العموم والشعراء على اختلاف الأعصر إلى أيامه.٢ وفي كتاب مفاتيح العلوم لأبي عبد الله الخوارزمي المتقدم ذكره باب في الشعر والعروض لا يخلو من النقد، ومثله كتاب ذم الخطأ في الشعر لابن فارس اللغوي الآتي ذكره.

ويعد من قبيل النقد الشعري أيضًا كتاب يتيمة الدهر للثعالبي، فإنه ذكر فيه محاسن الشعراء وأمثلة من أقوالهم مع الملاحظة والانتقاد في أربعة مجلدات كبيرة، وسنذكره في ترجمة الثعالبي.

ونشأ في أثناء ذلك علم خاصٌّ يبحث في أحوال الكلمات الشعرية سموه علم قرض الشعر لا من حيث الوزن والقافية، بل من حيث حسن الألفاظ وقبحها للشعر والجواز والامتناع ومعائب التركيب كما عاب الصاحب أبا تمام بقوله:

كريم إذا أمدحه أمدحه والورى
معي وإذا ما لمته لمته وحدي

حيث قابل المدح باللوم والتكرار في لفظ أمدحه ولمته، ويعدُّ من قبل النقد الشعري أيضًا رسالة الغفران لأبي العلاء المعرِّي؛ لأن المتكلم فيها زعم أنه جال في الجنة وقابل الشعراء وانتقدهم، وسيأتي ذكرها في ترجمة أبي العلاء.

(٢-١) كتاب العمدة

على أن ذلك كله من قبيل المقدمات التمهيدية في سبيل نقد الشعر، ولم يختم العصر العباسي الثالث حتى ظهر كتاب العمدة لابن رشيق جمع فيه أحسن ما قاله الذين سبقوه في النقد وغيره؛ ليكون العمدة في محاسن الشعر وآدابه. وقد استخرج النتائج الانتقادية على ما رآه قال: «وعوَّلت في أكثره على قريحة نفسي ونتيجة خاطري خوف التكرار إلا ما تعلق بالخبر وضبط الرواية.» وسنذكره في ترجمة ابن رشيق.

ونظرًا لعظم وقع الكتاب في النفوس تصدَّى معاصروه لنقده ومعارضته، وقد وصلنا من ذلك: «رسائل الانتقاد» لأبي عبد الله محمد بي أبي سعيد بن أحمد شرف الجذامي القيرواني الشاعر الأديب، المتوفى سنة ٤٦٠ﻫ، عارض بها كتاب العمدة، وهو معاصر لابن رشيق وزميله، وقد تأنَّق في رسائله فسجعها وزيَّنها بالتشابيه والكنايات يقلِّد بها المقامات في الخطاب والجواب، وضمَّنها انتقادًا على الشعراء الجاهليين فما بعدهم، وشتان بينه وبين ابن رشيق، وقد نشرت رسائله المشار إليها في مجلة المقتبس (سنة ٦).

وذكر صاحب كشف الظنون كتبًا في نقد الشعر لأبي عبد الله محمد بن يوسف الكفرطابي المتوفى سنة ٥٠٣ﻫ ولغيره لم نقف عليها.

(٣) الشعراء

كان الفرزدق وجرير والأخطل وغيرهم من شعراء بني أمية يعدُّون في ذلك العصر محدثين، فأصبحوا يعدون في العصر العباسي الأول قدماء، وصار أبو نواس والعتَّابي وأشباههم محدَثين ثم صار هؤلاء قدماء أو مولَّدين في العصر الذي نحن في صدده، وصار أهل هذا العصر محدثين، ونحن اليوم نعدُّ هؤلاء جميعًا قدماء.

(٣-١) مميزات هذا العصر

ويمتاز الشعراء في هذا العصر عما في سواه قبله بأمور أهمها:
  • (١)

    أنهم ظهروا وتكاثروا في أطراف المملكة الإسلامية أيضًا بعد أن تفرَّق الأدباء من بغداد كما تقدم، فبعد أن كان أكثرهم في الشام والعراق نبغت طائفة منهم في خراسان وتركستان وطبرستان والأهواز ومصر والمغرب والأندلس وسائر الأنحاء، وإن ظلت الأفضلية لشعراء الشام والعراق لأسباب ذكرناها في غير هذا المكان.

  • (٢)

    ظهرت فيهم طبقة من الوزراء والقضاة والأمراء وسائر وجوه الدولة وأصحاب الثروة والوجاهة.

  • (٣)

    تعاطى الشعرَ كثيرون من الفقهاء والعلماء والمنشئين والفلاسفة والأطباء.

  • (٤)

    زاد عدد الشعراء فيه على عددهم في كل عصر قبله لشيوع العلم واتِّساع دائرة المملكة الإسلامية، ولا يتسع المقام لتراجمهم فنأتي بأشهرهم حسب سني الوفاة:

(٣-٢) أشهر شعراء هذا العصر

أبو الطيب المتنبي (توفي سنة ٣٥٤ﻫ)

هو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي الكندي، وبنو جعفي بطن من سعد العشيرة من القحطانية، فهو عريق بالعروبة. ولد في الكوفة سنة ٣٠٣ في محلة تسمى كندة فنسب إليها وليس هو من كندة القبيلة المعروفة، وكان أبوه من العامة يسقي الناس ويسمُّونه «عبدان السقَّاء»، لكن أبا الطيب نشأ على طلب العلم والأدب، وكان قويَّ الحافظة مطبوعًا على الشعر. فلما ترعرع حمله أبوه إلى الشام يتنقل به من باديتها إلى حاضرتها، وأخذ العلم من أصحابه، فمر أولًا باللغة فحفظ غريبها وحوشيها وأشعار الجاهلية وغيرهم، واشتهر بالفصاحة والبلاغة. وكان مفطورًا على كبر النفس وبُعد الهمة فلم يقنع بما يتمنَّاه سواه من الشهرة بالشعر أو الأدب، فطلب السيادة بالفتح فدعا إلى بيعته قومًا من مريديه من أبناء سنِّه فبايعوه، وحين كاد يتم أمر دعوته وصل خبره إلى والي البلدة فقبض عليه وحبسه، وفي هذا الحبس نظم قصيدة استعطف بها الوالي على إطلاقه مطلعها:

أيا خدَّدَ الله ورد الخدودِ
وقدَّ قدود الحسان القدودْ

إلى أن قال:

دعوتك لما براني البلى
وأوهن رجلي ثقل الحديدْ
وقد كان مشيهما في النعالِ
فقد صار مشيهما في القيودْ
وكنت من الناس في محفلٍ
فها أنا في محفل من قرودْ
تعجل فيَّ وجوب الحدودِ
وحدِّي قبل وجوب السجودْ

أي إنما تجب الحدود على البالغ وأنا صبيُّ لم تجب عليَّ الصلوات بعد فأطلقه.

ولما فرغت يده من الفتح طلب ما هو أبعد منه، فزعم أنه نبي اعتمادًا على بلاغة أسلوبه، فخرج إلى بني كلب أقام فيهم، وادعى أنه علوي، ثم ادعى النبوة. وقال إنه أظهر دعوته هذه أولًا في بادية سماوة ونواحيها، وأخذ يتلو عليهم كلامًا زعم أنه قرآن أنزل عليه، فكانوا يحكون له سورًا كثيرة أورد أبو علي بن حامد جزءًا من سورة قال إنها ضاعت وبقي أولها في حفظه وهو: «والنجم السيار والفلك الدوار والليل والنهار إن الكافر لفي أخطار امض على سننك واقفُ أثر من قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه وضل عن سبيله.» فلما شاع أمره بين الناس خرج عليه لؤلؤ أمير حمص من قبل الإخشيدية، فقاتله وأسر من كان معه من بني كلب وكلاب وغيرهم من قبائل العرب، وحبسه في السجن دهرًا طويلًا حتى كاد يتلف فسئل في أمره فاستتابه وكتب عليه وثيقة، وأشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام وأطلقه، فكان المتنبي كلما ذكر له قرآنه بعد ذلك أنكره وحاول التنصل من تبعته.

فقنع بعد فشله هذا بالشهرة الأدبية، فنال منها ما لم ينله سواه فراجت سوق شعره بما أصابه من رغبة الملوك والأمراء فيه، فنظم القصائد في أغراض مختلفة وفاق معاصريه على الإطلاق، فتسابق الملوك إلى استدنائه بالجوائز ففعل، وبدأ بسيف الدولة ابن حمدان فقدم عليه سنة ٣٣٧ﻫ ومجلسه حافل بفحول الشعراء، فأحرز المتنبي قصب السبق بقصائد سار بذكرها الركبان، وكان في جملة من يحضر مجلس سيف الدولة ابن خالويه النحوي، فوقع بينه وبين المتنبي كلام أدى إلى نفور فوثب ابن خالويه على المتنبي فضربه بمفتاح كان معه فشجه، ولم ير المتنبي من سيف الدولة دفاعًا عنه فغضب وخرج إلى مصر، وأراد الانتقام لنفسه فتقرب من كافور الإخشيدي سنة ٣٤٦ﻫ لما يعلم من عداوته لبني حمدان وامتدحه وامتدح أنوجور بن الإخشيد فأكرماه حتى صار يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان وفي وسطه سيف ومنطقة، ويركب بحاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق، فلما رأى كافور سموه بنفسه وتعاليه بشعره خافه وقال: «يا قوم، من ادعى النبوة بعد محمد ألا يدَّعي الملك مع كافور؟! فحسبكم.» فأغضبه فخرج أبو الطيب من مصر فأتى بغداد، ثم ذهب قاصدًا بلاد فارس وامتدح عضد الدولة بن بويه الديلمي فأجزل عطاءه.

ثم رجع من فارس قاصدًا بغداد ومعه ابنه محمد وغلامه مفلح حتى إذا كان بالقرب من النعمانية في موضع يقال له: الصافية في الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول، بينهما مسافة ميلين، عَرَضَ له فاتك بن أبي الجهل الأسدي في عدة من أصحابه فاقتتلا، فأحسَّ المتنبي بالضعف فعمد إلى الفرار فقال له غلامه مفلح: لا يتحدث الناس عنك بالفرار وأنت القائل:

فالخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم

فكر راجعًا حتى قتل سنة ٣٥٤ﻫ.

أما شعره ففي الدرجة الأولى من المتانة والبلاغة، وهو مشهور بضخامة المعاني ومتانة المباني، ولم يَدَعْ بابًا من أبواب الشعر إلا طرقه وأجاد فيه، وخصوصًا الحكم والحماسة والمديح والفخر والعتاب، وحوى شعره من الفلسفة والحكمة ما جرى على ألسنة الناس مجرى الأمثال، واقتبس كثيرون من المنشئين معانيه وحلوا شعرها إلى نثر أدخلوه في نثرهم كما فعل الصاحب بن عباد٣ أو نظموه لأنفسهم كما فعل أبو بكر الخوارزمي وغيره، ولم نأت بأمثلة من نظمه لكثرته ولاشتهار ديوانه وشيوعه.

مضى على شعره نحو ألف سنة ولا يزال موضوع مناقشات أهل الأدب، وكثيرًا ما اشتغلوا في تفسير أشعاره، وحل مشكلها وعويصها، وألفت الكتب في ذكر جيده ورديئه وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه والإفصاح عن أبكار كلامه، وتفرقوا فرقًا في مدحه والقدح فيه والتعصب له أو عليه، وذلك دليل على وفور فضله وتقدمه على أقرانه، والكامل من عدت سقطاته والسعيد من حُسِبَت هفواته.

وممن درس شعر المتنبي وبيَّن حسنه وقبيحه ونقده أبو منصور الثعالبي في الجزء الأول من يتيمة الدهر، فإنه بيَّن حسناته وسيئاته مفصلًا مع سائر أخباره في نحو مائة صفحة، ولم يبق شاعر أو أديب جاء بعد المتنبي إلا انتقده، ويرى ابن رشيق أن أبا الطيب كان يأتي بالمستغرب ليبيِّن معرفته، وأنه كان في طبعه غلظ وفي عتابه شدة وأنه كثير التحامل ظاهر الكبرياء والأنفة.

وقال أبو العلاء المعري: «أبو تمام والمتنبي حكيمان، وإنما الشاعر البحتري.» وكان شيوخ الشعر في أيام ابن خلدون لا يرون المتنبي والمعري من الشعراء؛ لأنهما لم يجريا على أساليب العرب، وأبو سعيد محمد بن أحمد العبيدي ألَّف كتابًا سماه «الإبانة عن سرقات المتنبي لفظًا ومعنى» ذكر فيه نحو ٢٥٠ بيتًا من أشعار المتنبي، وأورد ما يقابلها من نظم المتقدمين كالبحتري وأبي تمام وابن الرومي وديك الجن وغيرهم من فحول الشعراء، وزعم أن المتنبي سرقها وغيَّر فيها وأعادها لنفسه والكتاب مطبوع بمصر في ٨٨ صفحة، وأبو علي محمد بن حسن الحاتمي بيَّن ما توارد من المعاني بين أبي الطيب وأرسطو ولم يتهم المتنبي بالسرقة، بل قال: «لما رأيت أبا الطيب قد أتى في شعره على أغراض فلسفية ومعان منطقية أردت الموافقة بين ما توارد به في شعره مع أرسطو في حكمه؛ لأنه إن كان ذلك عن فحص ونظر فقد أغرق في درس العلوم، وإن يكن ذلك منه على سبيل الاتفاق فقد زاد على الفلاسفة في ذلك، وهو في الحالين على غاية الفضل.» ثم أورد بعض أقوال أرسطو وما يقابلها من أشعار المتنبي في نحو عشرين صفحة، اطلعنا عليها في كتاب اسمه راشد سوريا مطبوع في بيروت سنة ١٨٦٨، وانتقد المتنبي جماعة من المستشرقين أيضًا أشهرهم رايسكي ودي ساسي وبولين وبروكلمن وهمر ونيكلسن وغيرهم، وفي المقتطف صفحة ٣٦١ سنة ١٧ مقالة في المتنبي للسيد توفيق البكري.

وقد جمع ديوان المتنبي ورتب على الحروف الأبجدية، وشرحه كثيرون، وطبع في الهند ومصر والشام وغيرها، ومن شروحه التي بقيت شرح ابن جني المتوفى سنة ٣٩٢ في ثلاثة مجلدات، ذكره كشف الظنون، ومنه نسخة خطية في مكتبة بطرسبورج وأخرى في الإسكوريال. وعلَّق عليه ابن فورغا سنة ٤٣٧ كتابًا سماه التجني على ابن جني في الإسكوريال. وشرحه إبراهيم الإقليلي المتوفى سنة ٤٤١ﻫ، ومنه نسخة في مكتبة برلين، وشرحه أبو العلاء المعري المتوفى سنة ٤٩٩، ومن شرحه نسخة في مكتبة منشن وأخرى في المتحف البريطاني وفي بطرسبورج، وشرحه الواحدي المتوفى سنة ٤٦٨، وقد طبع في بمباي سنة ١٢٨١، وفي أوروبا سنة ١٨٦١، وشرحه التبريزي سنة (٥٠٢)، ومنه نسخة في مكتبة باريس، وشرحه العكبري (٦١٦) طبع في بولاق سنة ١٨٦٠، وفي مصر سنة ١٢٨٧ وبعدها، وفي مكاتب أوروبا نسخ خطية من هذا الديوان ليس عليها أسماء شُرَّاحها، وأحدث شروحه العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب للشيخ اليازجي، طبع في بيروت غير مرة. وهناك مختارات من ديوان المتنبي يطول بنا ذكرها، منها كتاب الأمثال السائرة في شعر المتنبي، موجود في المكتبة الخديوية، والمنصف للسارق والمسروق، وهو بحث في حقيقة المتنبي بالنظر إلى ذلك منه نسخة خطية في برلين، والصبح المنبي عن حيثية المتنبي ليوسف البديعي المتوفى سنة ١٠٧٣ منه نسخ في أكثر مكاتب أوروبا وفي المكتبة الخديوية وغيرها كثير، وقد عُنِيَ الموسيو غرانجريه بنقل بعض أشعار المتنبي إلى الفرنسية، وطبعت في المجلة الآسيوية (سنة ١٨٢٤)، وكتب عنه أكثر المستشرقين مقالات انتقادية، ولا سيما ديتريشي وهامر وجونبول، وقد عني هذا بترجمة بعض أشعاره إلى اللاتينية، وطبعت سنة ١٨٤٠.

وترجمة المتنبي في ابن خلكان ٣٦ ج١، ويتيمة الدهر ٧٨ ج١، وطبقات الأدباء ٣٦٦.

أبو فراس الحمداني (توفي سنة ٣٥٧ﻫ)

هو أبو فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان الحمداني ابن عم سيف الدولة. فهو شاعر أمير، وكان فارسًا مغوارًا وشاعرًا بليغًا، وشعره سائر بين الحسن والجودة والسهولة والجزالة والعذوبة والفخامة والحلاوة مع رواء الطبع وسمة الظرف وعزة الملك، ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز. وأبو فراس يعد أشعر منه عند أهل الصنعة ونَقَدَة الكلام، وكان الصاحب بن عباد يقول: «بدئ الشعر بملك وانتهى بملك.» يعني امرأ القيس وأبا فراس. وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز، ويتحامى جانبه فلا ينبري لمباراته ولا يجترئ على مجاراته، لكنه لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيبًا له وإجلالًا لا إغفالًا وإخلالًا. وكان سيف الدولة يعجب جدًّا بمحاسن أبي فراس ويميزه بالإكرام على سائر قومه، ويستصحبه في غزواته ويستخلفه في أعماله.

واشتهر أبو فراس في عدة معارك مع سيف الدولة حارب بها الروم، فأسر في إحداها وهو جريح في فخذه، فحمل إلى القسطنطينية وسجن فيها أربع سنين، ونظم وهو في السجن قصائد امتازت بالرقة والحنين إلى الوطن وغير ذلك، وعرفت بالقصائد الروميات، ثم أطلق سراحه وعاد إلى وطنه. ولما مات سيف الدولة طمع هو بحمص فاعترضه أبو المعالي ابن سيف الدولة وجرت بينهما حرب انتهت بقتل أبي فراس سنة ٣٥٧ وهو في مقتبل العمر لم يتجاوز السابعة والثلاثين.

وقد جمع شعره في ديوان طبع في بيروت سنة ١٨٧٣ وسنة ١٩٠٠، وأفرد صاحب يتيمة الدهر فصلًا كبيرًا لترجمة أبي فراس وأشعاره (ج١)، وقد عني الموسيو دوفوراك في ترجمة بعض أشعاره إلى الألمانية طبعت في ليدن سنة ١٨٩٥.

ومن أمثلة شعره قوله في الفخر:

ألم ترنا أعز الناس جارًا
وأمنعهم وأمرعهم جنابا
لنا الجبل المطل على نزارٍ
حللنا المجد منه والهضابا
يفضِّلنا الأنام ولا نحاشى
ونوصف بالجميل ولا نحابى
وقد علمت ربيعة بل مزارٌ
بأنا الرأس والناس الذنابى
ولما أن طغت سفهاء كعبٍ
فتحنا بيننا للحرب بابا
منحناها الحَرَائب غير أنا
إذا جارت منحناها الحِرابا
ولما ثار سيف الدين ثرنا
كما هَيَّجتَ آسادًا غضابا
أَسِنَّتُه إذا لاقا طعانًا
صوارمه إذا لاقا ضرابا
دعانا والأسنة مشروعاتٌ
فكنا عند دعوته الجوابا
صنائعُ فاق صانعها ففاقت
وغرسٌ طاب غارسه فطابا
وكنا كالسهام إذا أصابت
مراميها فراميها أصابا

وقوله في العتاب:

قد كنتَ عُدَّتيَ التي أسطو بها
ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي
فرُميت منك بغير ما أملته
والمرء يشرق بالزلال الباردِ
فصبرت كالولد التقي لبره
أغضى على ألم لضرب الوالدِ

ومن إخوانياته قوله:

لم أؤاخذك بالجفاء لأني
واثق منك بالوداد الصريحِ
فجميل العدو غير جميلٍ
وقبيح الصديق غير قبيحِ

ومن باب الشكوى والعتاب قوله:

أيا قومنا لا تنشبوا الحرب بيننا
أيا قومنا لا تقطعوا اليد باليدِ
فيا ليت داني الرحم منا ومنكمُ
إذا لم يقرِّب بيننا لم يبعدِ
عداوة ذي القربى أشد مضاضةً
على المرء من وقع الحسام المهنَّدِ

وقوله:

إذا كان فضلي لا أسوِّغ نفعه
فأفضل منه أن أُرَى غير فاضلِ
ومن أضيع الأشياء مهجة عاقلٍ
يجوز على حوبائها حكم جاهلِ

ومن النسيب قوله:

تبسَّمَ إذ تَبَسَّم عن أقاحِ
وأسفر حين أسفر عن صباحِ
وأتحفني براحٍ من رضابٍ
وراح من جنى خد وراحِ
فمن لألاء غرته صباحي
ومن صهباء ريقته اصطباحي

ومن التشبيهات قوله:

مددنا علينا الليل والليل راضعٌ
إلى أن تردَّى رأسه بمشيبِ
بحال ترد الحاسدين بغيظهم
وتطرف عنا عين كل رقيبِ
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه
مبادي نصول في عذار خضيبِ

ومن رومياته وقد شقت فخذه من نصل السهم قوله:

فلا تصفنَّ الحرب عندي فإنها
طعاميَ مذ بعت الصبا وشرابي
وقد عرفت وقع المسامير مهجتي
وشقق عن زرق النصول إهابي

وترجمته في ابن خلكان ١٢٧ ج١، ويتيمة الدهر ٢٢ ج١.

كشاجم (المتوفى نحو سنة ٣٦٠ﻫ)

هو أبو الفتح محمود بن الحسين بن شاهق هندي الأصل ويعرف بالسندي. أقام في الرملة فلقب بالرملي، وله ديوان رتب على حروف المعجم طبع في بيروت سنة ١٣١٣، ومن مؤلفاته «كتاب أدب النديم»، وهو صغير يبحث في واجبات النديم وفضائله وأخلاقه وما عليه عند التداعي للمنادمة والسماع والمحادثة، ويتخلَّل ذلك أخبار وأشعار، طبع في مصر سنة ١٢٩٨، وينسب إليه كتاب البيزرة في علم الصيد، منه نسخة خطية في مكتبة غوطا، وأخباره في الفهرست ١٣٩.

السري الرفاء (توفي سنة ٣٦٢ﻫ)

هو أبو الحسن السري بن أحمد بن السري الكندي الرفاء. ولد في الموصل ونشأ فيها، وكان يرفو ويطرز في دكان وهو ينظم الشعر حتى جاد شعره، فقصد سيف الدولة ومدحه وأقام عنده مدة. وانتقل بعد وفاته إلى بغداد ومدح الوزير المهلبي وجماعة من رؤسائها، وكان بينه وبين الخالديين الشاعرين الموصليين معاداة، فادعى عليهما سرقة شعره وشعر غيره، فكان ينسخ ديوان كشاجم المتقدم ذكره، ويدخل فيه أحسن أبيات الخالديين ليقول الناس: إنهما سرقاه منه، وسيأتي ذكرهما.

وكان السري شاعرًا مطبوعًا يمتاز شعره بعذوبة ألفاظه وكثرة الافتتان بالتشبيهات والأوصاف، ولم يكن يحسن من العلوم غير الشعر، وفي يتيمة الدهر طائفة حسنة من أشعاره وما أدخله في شعره من معاني الشعراء كالمتنبي وابن أبي حفصة وأبي تمام وغيرهم، وهو فصل طويل.

ومن تشبيهاته في وصف الثلج قوله:

يا من أنامله كالعارض الساري
وفعله أبدًا عارٍ من العارِ
أما ترى الثلج قد خاطت أنامله
ثوبًا يزرُّ على الدنيا بأزرارِ
نارٌ ولكنها ليست بمبديةٍ
نورًا وماءً ولكن ليس بالجاري
والراح قد أعوزتنا في صبيحتنا
بيعًا ولو وزن دينار بدينارِ
فامنن بما شئت من راح يكون لنا
نارًا فإنا بلا راح ولا نارِ

ومن قوله يذكر صناعته:

وكانت الإبرة فيما مضى
صائنة وجهي وأشعاري
فأصبح الرزق بها ضيقًا
كأنه من ثقبها جاري

ومن محاسن شعره في المديح من جملة قصيدة:

يلقى الندى برقيق وجه مسفرٍ
فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا
رحب المنازل ما أقام فإن سرى
في جحفل ترك الفضاء مضيقا

ومن عذوبة لفظه قوله:

ويا ديرها الشرقي لا زال رائحٌ
يحل عقود المزن فيك ومغتدي
عليلة أنفاس الرياح كأنما
يعل بماء الورد نرجسها الندي
يشق جيوب الورد في شجراتها
نسيم متى ينظر إلى الماء يبردِ

وللسري الرفاء ديوان منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية في نحو ٤٠٠ صفحة نقلت من المدينة المنورة، أكثرها في مدح سيف الدولة والوزير المهلبي وبعض بني حمدان، وفيه أهاجٍ في الخالديين وغيرهما وقصائد وصفية يصف بها صيد السمك وشبكته والنار وكلاب الصيد وبعض الأبنية وغيرها. وفي وصفه رقة وسهولة، ومنه نسخ أيضًا في مكاتب باريس وبرلين.

وله كتاب المحب والمحبوب والمشموم والمشروب، وهو أربعة أقسام في المحبين وأشعارهم والأطياب والأزهار وأسماء الخمر، منه نسخة خطية في فينا وأخرى في ليدن.

وترجمته في يتيمة الدهر ٤٥٠ ج١، وابن خلكان ٢٠١ ج١، والفهرست ١٦٩.

ابن هاني الأندلسي (توفي سنة ٣٦٣ﻫ)

هو أبو القاسم محمد بن هاني الأزدي الأندلسي، ويرجعون بنسبه إلى آل المهلب بن أبي صفرة. كان أبوه هاني شاعرًا في بعض قرى المهدية بأفريقيا فانتقل إلى الأندلس فوُلد له محمد سنة ٣٢٦ﻫ في إشبيلية، ونشأ بها، وكان شاعرًا مطبوعًا. تقرب من صاحب إشبيلية وحظي عنده، وكان معاصرًا لعبد الرحمن الناصر وابنه الحكم والأندلس في إبان زهوها وحضارتها، لكنهم كانوا يطاردون طلاب الفلسفة ويتهمونهم بالكفر، وكان ابن هاني من طلابها، فلما اشتهر أمره بها نقم عليه الناس وساءت المقالة بحق صاحب إشبيلية بسببه واتهم بمذهبه، فأشار عليه بالغيبة عن البلدة ريثما يُنسى أمره، فبرحها وعمره ٢٧ سنة إلى بلاد المغرب والدولة الفاطمية في أثناء رغبتها في فتح مصر، فلقي القائد جوهر ومدحه، حتى انتهى خبره إلى المعز لدين الله الفاطمي فاستقدمه إليه، ثم انتقل المعز إلى مصر بعد فتحها فأخذ ابن هاني يستعد للِّحاق به فتجهز ولحق به فوصل برقة فأضافه شخص من أهلها أقام عنده أيامًا في مجلس أنس. ويقال: إنه خرج من تلك الدار وهو سكران فنام في الطريق فوجد ميتًا وهو في السادسة والثلاثين من عمره؛ فأسف المعز لوفاته وقال: «هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق.»

ويمتاز شعر ابن هاني بالمبالغة الكثيرة في المديح والإفراط إلى حد الكفر. وفي ألفاظه قعقعة وأنين؛ ونظرًا لما تقدم من اشتهاره بالكفر لم ينصفه المؤرخون ولا الشعراء. وكان أبو العلاء المعري إذا سمع شعر ابن هاني قال: «لا أشبهه إلا برحى تطحن قرونًا.» لأجل القعقعة التي في ألفاظه، ويزعم أنه لا طائل تحت تلك الألفاظ، وإنما فعل المعري ذلك تعصبًا للمتنبي.

وفي كل حال فإنه أشعر أهل الأندلس على الإطلاق، وهو عندهم كالمتنبي في المشرق، وكان معاصرًا له، وأكثر شعره في مدح المعز لدين الله الفاطمي قد تقدم مثال منه عند كلامنا عن المبالغة الشعرية، ومن قوله في وصف الخيل من قصيدة مدح بها المعز:

وصواهلٍ لا الهضب يوم مغارها
هضب ولا البيد الحزون حزونُ
عرفت بساعة سبقها لا أنها
علقت بها يوم الرهان عيونُ
وأجلُّ علم البرق فيها أنها
مرَّت بجانحتيه وَهْيَ ظنونُ
في الغيث شبه من نداك كأنما
مسحت على الأنواء منك يمينُ

ولابن هاني ديوان مرتب على الأبجدية، منه نسخ خطية في أكثر مكاتب أوروبا، وطبع في بولاق سنة ١٢٧٤، وفي بيروت سنة ١٨٨٤، وترجمته في ابن خلكان ٤ ج٢.

الوأواء الدمشقي (توفي سنة ٣٩٠ﻫ)

هو أبو الفرج محمد بن أحمد الغسَّاني الدمشقي الملقب بالوأواء. كان في بدء أمره مناديًا في دار البطيخ بدمشق ينادي على الفواكه، وما زال يشعر حتى أجاد واشتهر، وكان شعره حسن التشبيه منسجم اللفظ عذب العبارة حسن الإشارة؛ ولذلك شاع كثير من أشعاره على ألسنة الناس من ذلك قوله:

بالله ربكما عوجا على سكني
وعاتباه لعل العتب يعطفه
وعرضا بي وقولا في حديثكما:
ما بالُ عبدك بالهجران تتلفه؟
فإن تبسَّم قولا عن ملاطفةٍ:
ما ضرَّ لو بوصالٍ منك تسعفه
وإن بدا لكما من سيدي غضبٌ
فغالطاه وقولا: ليس نعرفه

وذكر له الثعالبي بعض القصيدة التي اشتهرت لابن زريق الآتي ذكره ومطلعها:

لا تعذليه فإن العذل يولعه
قد قلتِ حقًّا ولكن ليس يسمعه

وله من التشبيهات الأبيات المشهورة:

قالت وقد فتكت فينا لواحظها:
لِمَ ذا؟ أما لقتيل الحب من قودِ؟
وأسبلت لؤلؤًا من نرجس وسقت
وردًا وعضَّت على العناب بالبَرَدِ
إنسانة لو بدت للشمس ما طلعت
من بعد رؤيتها يومًا على أحدِ
كأنما بين غايات الجفون لها
أسد الحمام على طرق الهوى رصدي

وله ديوان منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية في نحو ٦٥ صفحة نقل من المدينة المنورة، أكثره مقاطيع في الخمر والغزل.

وترجمته في فوات الوفيات ١٤٦ ج٢، ويتيمة الدهر ٢٠٥ ج١.

السلامي (توفي سنة ٣٩٣ﻫ)

هو أبو الحسن محمد بن عبد الله من ولد الوليد بن الوليد بن المغيرة المخزومي أخي خالد بن الوليد، وسمي السلامي نسبة إلى دار السلام، ولد في كرخ بغداد سنة ٣٣٦ﻫ، ورحل منها إلى الموصل وهو صبي ينظم الشعر، فلقي جماعة من مشائخ الشعراء منهم أبو عثمان الخالدي أحد الخالديين وأبو الفرج الببغاء وغيرهما، فأعجبوا ببراعته مع حداثته فاتهموه بأن الشعر ليس له، ثم خبروه بتجربة — وذلك أن الخالدي كان في يده نارنجة ألقاها على برد تساقط في تلك الساعة وطلبوا إليه أن يصف ذلك المنظر فقال مرتجلًا:

لله در الخالدي
الأوحد الندب الخطيرِ
أهدى لماء المزن عنـ
ـد جموده نار السعيرِ
حتى إذا صدر العتا
ب إليه عن حنق الصدورِ
بعثت إليه بعذره
عن خاطري أيدي السرورِ
لا تعذلوه فإنه
أهدى الخدود إلى الثغورِ

فاقتنعوا باقتداره، وهو من أشعر أهل العراق، ومدح آل حمدان. ونزل على الصاحب بن عباد بأصفهان ردحًا من الزمن، ثم قصد عضد الدولة في شيراز، فحمله الصاحب معززًا مكرمًا فأكرمه عضد الدولة وكان يقول: «إذا رأيت السلامي في مجلس ظننت أن عطارد قد نزل من الفلك إليَّ ووقف بين يدي.»

ومن جملة مدحه إياه قوله:

إليك طوى عرض البسيطة جاعلٌ
قصارى المطايا أن يلوح لها القصرُ
فكنت وعزمي في الظلام وصارمي
ثلاثة أشباه كما اجتمع النسرُ
وبشرت آمالي بملك هو الورى
ودار هي الدنيا ويوم هو الدهرُ

ومن بديع شعره في مدح الصاحب:

تبسطنا على الآثام لما
رأينا العفو من ثمر الذنوبِ

وفي يتيمة الدهر الجزء الثاني طائفة من أحسن أشعاره، وتجد أخباره أيضًا في ابن خلكان ٥٢٤ ج١.

البَبَّغاء (توفي سنة ٣٩٨ﻫ)

هو أبو الفرج عبد الواحد بن نصر المخزومي، أصله من نصيبين بالعراق، وهو ممن جمع بين الشعر والإنشاء، ولكن الشعر غلب عليه. وقد ذكر الثعالبي رسائل دارت بينه وبين أبي إسحاق الصابي وأشياء يطول شرحها، ولقب بالببغاء للثغة في لسانه، واتصل في ريعان شبابه بسيف الدولة في حلب، ثم تنقَّل بعد وفاته إلى الموصل وبغداد، ومن شعره ما يتغنى به أكثره في الغزل والخمر وفي الزهر، فضلًا عن قصائد المديح، وفي اليتيمة أمثلة من شعره يضيق عنها هذا المقام، ومن تشبيهه قوله:

وكأنما نقشت حوافر خيله
للناظرين أهلةً في الجلمدِ
وكأن طرف الشمس مطروف وقد
جعل الغبار له مكان الإثمدِ

وأكثر شعره جيد ومقاصده فيه جميلة.

وأخباره في ابن خلكان ٢٩٨ ج١، ويتيمة ١٧٣ ج١.

النامي (توفي سنة ٣٩٩ﻫ)

هو أبو العباس أحمد بن محمد الدارمي المصيصي المعروف بالنامي، من خواص مُدَّاح سيف الدولة، يأتي بالرتبة عنده بعد المتنبي.

وكان أديبًا عارفًا باللغة، وقد اشتغل فيها بحلب، وله وقائع مع المتنبي ومعارضات في الأناشيد، وقد عاش بعده دهرًا حتى أربى على التسعين سنة من العمر، ومن لطيف شعره قوله:

أتاني في قميص اللاذ يسعى
عدو لي يلقَّب بالحبيبِ
وقد عبث الشراب بمقلتيْهِ
فصيَّر خده كسنا اللهيبِ
فقلت له: بما استحسنتَ هذا
لقد أقبلت في زِيٍّ عجيبِ؟
أحمرة وجنتيك كَسَتْكَ هذا
أَمَ انتَ صبغتَه بدم القلوبِ
فقال: الراح أهدت لي قميصًا
كلون الشمس في شفق المغيبِ
فثوبي والمدام ولون خدي
قريب من قريب من قريبِ

وأخباره في ابن خلكان ٣٨ ج١.

ابن نباتة السعدي (توفي سنة ٤٠٥ﻫ)

هو أبو نصر عبد العزيز بن عمر، من سعد من تميم. نشأ في بغداد، وطاف البلاد، ومدح الملوك والرؤساء، من جملتهم سيف الدولة وابن العميد، وجرت بينه وبين هذا مفاوضة سيأتي ذكرها في ترجمة ابن العميد، ومدح عضد الدولة والوزير المهلبي وغيرهما. ويمتاز شعره بحسن السبك وجودة المعنى، ومن قوله في سيف الدولة، وقد أعطاه فرسًا أحمر محجلًا قصيدة قال منها في وصف الفرس:

فكأنما لطم الصباح جبينه
فاقتص منه فخاض في أحشائه
متمهلًا والبرق من أسمائه
متبرقعًا والحسن من أكفائه
ما كانت النيران يكمن حرُّها
لو كان للنيران بعض ذكائه
لا تعلق الألحاظ في أعطافه
إلا إذا كفكفت من غلوائه
لا يكمل الطرف المحاسن كلها
حتى يكون الطرف من أسرائه

وهو غير ابن نباتة المصري المتوفى سنة ٧٦٨ﻫ صاحب الديوان المشهور، وسيأتي ذكره. وغير ابن نباتة الفارقي الخطيب المتوفى سنة ٣٨٤ﻫ صاحب ديوان الخطب، وقد طبعت خطبه بمصر مرارًا، وفي بيروت سنة ١٣١١، ولها شروح عديدة منها نسخ خطية في مكاتب أوروبا، وترجمته في ابن خلكان ٢٨٣ ج١.

وأما ابن نباتة السعدي فترجمته في ابن خلكان ٢٩٥ ج١، ويتيمة الدهر ١٤٣ ج١.

الشريف الرضي (توفي سنة ٤٠٦ﻫ)

هو أبو الحسن محمد بن الطاهر، وينتهي نسبه إلى موسى الكاظم، ومنه إلى الحسين بن علي؛ ولذلك لقب بالشريف الرضي الموسوي. ولد في بغداد سنة ٣٥٩، وبدأ يقول الشعر وعمره بضع عشرة سنة، وكان أبوه نقيب الأشراف الطالبيين، فصارت النقابة إليه سنة ٣٨٨ وأبوه حي، وكان عالمًا بعلوم القرآن واللغة والنحو، وله فيها المؤلفات النافعة، وكان يقيم في سر من رأى (سامرَّا). وقد أجمع الأكثرون على أن الشريف الرضي أشعر قريش؛ لأن شعراء قريش كان فيهم من يجيد القول إلا أن شعره قليل، فإما مجيد مكثر فليس إلا الشريف الرضي. وتوفي في بغداد سنة ٤٠٦ﻫ، ودفن في الكرخ ورثاه الشعراء. وكان رفيع المنزلة لشرف نسبه ومنصبه وعلوِّ كعبه في الشعر والأدب، ومن أجمل نظمه الدال على عظم نفسه وشاعريته قصيدة قالها في الخليفة القادر بالله العباسي في جلسة جلسها، فأوصل إليها الحجيج وغيرهم سنة ٣٨٢ مطلعها:

لمن الحدوج تهزهن الأنيقُ
والركب يطفو في السراب ويغرقُ

وتخلص إلى مدح الخليفة والافتخار بنسبه فقال:

وبرزت في برد النبي وللهدى
نور على أسرار وجهك مشرقُ
وكأن دارك جنة حصباؤها الجا
دي أو أنماطها الاستبرق
في موقف تغضي العيون جلالةً
فيه ويعثر بالكلام المنطقُ
والناس إما شاخص متعجبٌ
مما يرى أو ناظر متشوقُ
مالوا إليك محبة فتجمَّعوا
ورأوا عليك مهابة فتفرَّقوا
عطفًا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرقُ
ما بيننا يوم الفخار تفاوُتٌ
أبدًا كلانا في المعالي معرقُ
إلا الخلافة ميَّزَتْكَ فإنني
أنا عاطل منها وأنت مطوقُ

ويمتاز الشريف الرضي ببراعته في الرثاء، وله عدة مراثٍ، أشهرها رثاؤه لأبي إسحاق الصابي بقصيدة مطلعها:

أرأيت من حملوا على الأعوادِ
أرأيت كيف خبا ضياء النادي

وقد أكبر الناس قوله في هذه القصيدة؛ لأن المرثيَّ كان صابئيًّا.

ومن قوله في الحكم:

كن في الأنام بلا عين ولا أذنٍ
أو لا فعش أبد الأيام مصدورا
والناس أسد تحامي عن فرائسها
إما عقرت وإما كنت معقورا

وللشريف المذكور ديوان كبير رواية أبي حكيم الخيري مرتب على أبواب: (١) المديح، (٢) الافتخار وشكوى الزمان، (٣) المراثي، (٤) النسيب والمشيب ووصف طيف الحبيب، (٥) الفنون المختلفة. وكل باب مرتب على الأبجدية ويليها زيادات. منه نسخ خطية في المكتبة الخديوية ومكاتب برلين ولندن والإسكوريال. وقد طبع في الهند في مجلد واحد كبير مرتب على المعجم سنة ١٣٠٦ﻫ، وله مؤلفات في معاني القرآن لم تصلنا. وله كتاب انشراح الصدر في مختارات من الشعر منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية. وفي مكتبة الإسكوريال مما ينسب إلى الشريف الرضي مجموعة أشعار عنوانها طيف الخيال.

وتجد ترجمته في ابن خلكان ٢ ج٢، ويتيمة الدهر ٨٧ و٢٩٨ جزء ٢.

صريع الدلاء (توفي سنة ٤١٢ﻫ)

هو أبو الحسن علي بن عبد الواحد، ويعرف بصريع الدلاء وقتيل الغواني. اشتهر بقصيدة مجونية مقصورة عارض بها مقصورة ابن دريد منها قوله:

من لم يرد أن تنتقب نعاله
يحملها في كفه إذا مشى
ومن أراد أن يصون رجله
فلبسه خير له من الحفا
من دخلت في عينه مسلةٌ
فاسأله من ساعته عن العمى
من أكل الفحم تسود فمه
وراح صحن خده مثل الدجا
من صفع الناس ولم يدعهم
أن يصفعوه فعليهمُ اعتدى
من ناطح الكبش يفجر رأسه
وسال من مفرقه شبه الدما
من طبخ الديك ولا يذبحه
طار من القدر إلى حيث يشا

وترجمته في فوات الوفيات ٢٣٧ ج٢.

مهيار الديلمي (توفي سنة ٤٢٨ﻫ)

هو أبو الحسن مهيار بن مرزويه الكاتب الفارسي الديلمي، كان مجوسيًّا وأسلم على يد الشريف الرضي، وتخرَّج في الشعر على يده، وقد وازن كثيرًا من قصائده، ويمتاز في شعره بجزالة القول ورقة الحاشية وطول النَّفَس، وقد طرق أكثر أبواب الشعر، فمن قوله في القناعة:

يلحى على البخل الشحيح بماله
أفلا تكون بماء وجهك أبخلا
أكرم يديك عن السؤال فإنما
قدر الحياة أقلُّ من أن تسألا
ولقد أضم إليَّ فضل قناعتي
وأبيت مشتملًا بها متزملا
وأري العدو على الخصاصة شارة
تصف الغنى فيخالني متمولا
وإذا امرؤ أفنى الليالي حسرةً
وأمانيًا أفنيتهنَّ توكُّلا

ومن بديع مدائحه قوله من جملة قصيدة:

وإذا رأوك تفرقت أرواحهم
فكأنما عرفتك قبل الأعينِ
وإذا أردت بأن تفل كتيبةً
لاقيتها فتسمَّ فيها واكتنِ

وله من جملة قصيدة أبيات تتضمن العتب وهي:

إذا صور الإشفاق لي كيف أنتمُ
وكيف إذا ما عَنَّ ذكري صبرتُمُ
تنفست عن عتب فؤادي مفصحٌ
به ولساني للحفاظ يحمحمُ
وفي فيَّ ماء من بقايا ودادكم
كثيرًا به من ماء وجهي أرقتمُ
أرقت فما ضنَّا عليه وبينه
وبين انسكابٍ ريثما أتكلمُ

وقد جمع شعره في ديوان يدخل في أربعة مجلدات، كان مشهورًا في أيام ابن خلكان وذكر أمثلة منه ولم نقف عليه، وترجمته في ابن خلكان ١٤٩ ج٢.

أبو العلاء المعري (توفي سنة ٤٤٩ﻫ)

هو خاتمة شعراء العصر العباسي الثالث كما كان شبيهه أبو الطيب المتنبي فاتحته — ونعم الفاتحة والخاتمة — وهو الشاعر الحكيم الفيلسوف أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد التنوخي. ولد في المعرة سنة ٣٦٣ﻫ، وكان أبوه من أهل الأدب، وتولى جده القضاء فيها، وكانت أمه أيضًا من أسرة وجيهة يُعرَفون بآل سبيكة اشتهر منهم غير واحد بالوجاهة والأدب، وكانت المعرة تحت سيطرة الدولة الحمدانية بحلب وأميرها يومئذ سعد الدولة أبو المعالي.

ولم يتم أبو العلاء الثالثة من عمره حتى أصابه الجدري، فذهب بيسرى عينيه وغشي يمناها بياض، فكف بصره وهو طفل، وكان يقول: «لا أعرف من الألوان إلا الأحمر؛ لأني ألبست في الجدري ثوبًا مصبوغًا بالعصفر.» لقَّنَه أبوه النحو واللغة في حداثته، ثم قرأ على جماعة من أهل بلده. ولما أدرك العشرين من عمره عمد إلى سائر علوم اللغة وآدابها فاكتسبها بالمطالعة والاجتهاد، وكان يقيم أناسًا يقرءون له كتبها وأشعار العرب وأخبارهم، وهو قوي الحافظة إلى ما يفوق التصديق.

وكان مطبوعًا على الشعر؛ نظمه قبل أن يتم الحادية عشرة من عمره، ولم يمنعه العمى من مباراة أرباب القرائح في ما اشتغلوا به حتى في ألعابهم، فقد كان يلعب الشطرنج والنرد ويجيد لعبهما لا يرى في العمى نقصًا، بل هو كان يقول: «أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر.» وكان يرتزق من وقف يحصل له منه ثلاثون دينارًا في العام ينفق نصفها على من يخدمه.

ورحل في طلب العلم على عاداتهم في ذلك العهد؛ فأتى طرابلس واللاذقية وسواهما من بلاد الشام، وأخذ فلسفة اليونان عن الرهبان، ثم رحل إلى بغداد سنة ٣٩٨ وشهرته قد سبقته إليها فاستقبله علماؤها بالحفاوة، واطَّلع في أثناء إقامته هناك على فلسفة الهنود والفرس فضلًا عن سائر العلوم، حتى إذا نضج عقله وأمعن النظر في الوجود رأى الدنيا كما هي؛ فزهد فيها وعزم على الاعتزال ليتسنَّى له التأمل والتفكير، فغادر بغداد سنة ٤٠٠ﻫ، وأتى المعرَّة ولزم بيته وسمى نفسه «رهين المحبسين»، وأخذ بالتأليف والنظم وتدوين أفكاره وآرائه ومحفوظه في الكتب، وانقطع عن أكل اللحم من ذلك الحين، واقتصر على النبات كما يفعل النباتيون اليوم؛ اقتبس ذلك من آراء البراهمة الهنود فذهب مذهبهم فيه رفقًا بالحيوان وتجافيًا عن إيلامه، ولزم الصوم الدائم.

قضى أبو العلاء في هذه العزلة بضعًا وأربعين سنة، وأكله العدس، وحلاوته التين، وهو يؤلف وينظم والناس يتوافدون إليه ليسمعوا أقواله وأخباره، أو يكاتبوه في استفهام واستفتاء ويأخذوا عنه العلم مجانًا حتى توفاه الله سنة ٤٤٩.

وكان معدودًا من أقطاب العلم والأدب والشعر، ويمتاز بأنه لم يتكسَّب بشعره.

مؤلفاته

خلَّف مؤلفات في الشعر وفي الأدب، أما أشعاره فأشهرها:
  • (١)

    اللزوميات: وهو ديوان كبير طبع في بمباي سنة ١٣٠٣ﻫ، ثم في مصر سنة ١٨٩٥ في نحو ٩٠٠ صفحة، في صدرها مقدمة في الشعر وشروطه وقوافيه على أسلوبٍ انتقادي يدل على رسوخ قدمه في اللغة والشعر. وذكر ما التزمه في نظم هذا الديوان من الشروط أهمها التزام حرفين في القافية، وقد نظمه في أثناء عزلته وضمَّنه كثيرًا من آرائه في الوجود والخليقة والنفس والدين، فكان له وقع عند أصحاب الفلسفة، فقالوا: «إن أبا العلاء أتى قبل عصره بأجيال.» وتمتاز أشعاره في عزلته بصبغة سوداوية تشفُّ عن سوء ظنه في الحياة ويأسه من أسباب السعادة — لعل سببها اختلال عمل الهضم بتوالي الصوم والاقتصار على نوع أو نوعين من الأطعمة، على أن أكثر أشعاره في الفلسفة والزهد والحكم والوصف، ويندر فيها المدح أو التشبيب، وقد نقل أمين أفندي ريحاني بعض رباعياته إلى الإنكليزية نشرت في أميركا منذ بضع سنين، وترجم بعض شعره أيضًا جورج سلمون إلى اللغة الفرنساوية ونشرها في باريس سنة ١٩٠٤.

  • (٢)

    سقط الزند: وهو ديوان آخر نظمه قبل العزلة، طبع مرارًا.

  • (٣)

    ضوء السقط: يقتصر على ما نظمه في الدرع، طبع في بيروت سنة ١٨٩٤.

أما الأدب فله فيه مؤلفات عديدة ربما زادت على خمسين كتابًا أكثرها في اللغة والقوافي والنقد والفلسفة والمراسلات، ضاع معظمها، وإليك ما بلغ إلينا خبره منها:
  • (٤)

    رسائل أبي العلاء: هي كثيرة لو جمعت كلها لبلغت ثمانمائة كراس، وقد توخى فيها التسجيع والعبارة العالية والكلام الغريب نحو ما يفعلون في إنشاء المقامات فلا تفهم بلا تفسير، وهي من قبيل الشعر المنثور في وصف الخلائق كالنمل والجراد والنسر والفيل والنحل والضفدع والفرس والضبع والحية ونحوها من الحيوانات، غير وصف الأماكن والمواقف والثياب والمآكل وغيرها مما يحسن تحديه لولا ما فيه من اللفظ الغريب، ولكن معظمها ضاع وقد جمع أكثر ما بقي منها في كتاب طبع في بيروت سنة ١٨٩٤ مضبوطًا بالحركات، وطبع أيضًا في أكسفورد سنة ١٨٩٨ بعناية الأستاذ مرجليوث المستشرق الإنكليزي مع ترجمة إنكليزية وتعاليق وشروح تاريخية وأدبية مفيدة، وقد صدَّرها بمقدمة في ترجمة المؤلف بالإنكليزية، وذيَّلها بما ذكره الذهبي من ترجمته وختمها بفهرس للأعلام.

  • (٥)

    رسالة الغفران: هي من جملة رسائله، ولكننا أفردناها بالكلام لأنها طبعت على حدة، ولها شأن خاص من حيث موضوعها، وهي فلسفية خيالية كتبها في عزلته وضمَّنها انتقاد شعراء الجاهلية والإسلام وأدبائهم والرواة والنحاة على أسلوب روائي خيالي لم يسبقه إليه أحد، فتخيَّل رجلًا صعد إلى السماء ووصف ما شاهده هناك، كما فعل دانتي شاعر الإيطاليان في «الرواية الإلهية» وما فعل ملتن الإنكليزي في «ضياع الفردوس»، لكن أبا العلاء سبقهما ببضعة قرون؛ لأن دانتي توفي نحو سنة ٧٢٠ﻫ وملتن نحو سنة ١٠٨٤ﻫ، وتوفي أبو العلاء سنة ٤٤٩ﻫ، فلا بدع إذا قلنا باقتباس هذا الفكر عنه، وأقدمهما (دانتي) لم يظهر إلا بعد احتكاك الإفرنج بالمسلمين، والإيطاليان أسبق الإفرنج إلى ذلك. وتقسم مواضيع رسالة الغفران إلى قسمين أدبي لغوي ونوادر خيالية عن بعض الزنادقة ومستقلي الأفكار والمتنبِّئين ونحوهم ممن توالى ظهورهم في أثناء التمدن الإسلامي، ويتخلل ذلك محاورات مع الشعراء الجاهليين يسألون فيها عما غفر لهم به، فيذكر كل منهم شعرًا قاله أو عملًا عمله فغفر له به، ومنها تسمية هذه الرسالة برسالة الغفران، كأنه يعرض بما يرجوه من المغفرة لنفسه عما فرط منه أحيانًا من الأبيات التي يعدها الناس كفرية. وقد طبعت هذه الرسالة بمصر سنة ١٩٠٦، ولخَّصناها في السنة ١٥ من الهلال من صفحة ٢٧٩.

  • (٦)

    ملقى السبيل: هي رسالة فلسفية نشرتها مجلة المقتبس سنة ٧ ج١ عن أصل خطي قديم وجد في الإسكوريال بعناية ح. ح. عبد الوهاب التونسي، وهي على نسق رسائله الأخرى، لكن أكثرها منظوم. وقد قابل الناشر بين آراء المعري فيها وآراء شوبنهور الفيلسوف الألماني من حيث الحياة ومصيرها. وطبعها على حدة سنة ١٩١٢.

  • (٧)

    كتاب الأيك والغصون، ويعرف باسم الهمزة والردف: يبحث في الأدب وأخبار العرب، يقارب مائة جزء ضاع منذ بضعة قرون، وإنما ذكرناه لعل أحدًا يعثر على شيء منه؛ إذ يظهر أنه عظيم الأهمية؛ فقد قال فيه الذهبي: «حكى من وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتاب الهمزة والردف فقال: لا أعلم ما كان يعوزه بعد هذا المجلد.»

وعني أبو العلاء بشرح كتب هامة أو اختصارها مرَّ ذكر بعضها، منها شرح الحماسة، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية في ٤٤٢ صفحة، وهو شرح لغوي.

وكان مشاركًا في كثير من علوم الأقدمين كالفلسفة والكيمياء والنجوم والمنطق، ويظهر أثر ذلك في أشعاره وأقواله، ولو أردنا الإتيان بأمثلة منها لضاق بنا المقام، ودواوينه شائعة فميَّزناه بخلو ترجمته من الأمثلة الشعرية كما ميَّزنا المتنبي قبله، وقد تقدم ذكر شيء من شعره في كلامنا عن مزايا الشعر في هذا العصر وغيره، وسنأتي بأمثلة أخرى في أمكنة أخرى.

مناقبه ومنزلته

ويقال بالإجمال: إن الشعر العربي دخل بعد المعري في طور جديد من حيث النظر في الطبيعة والتفكير في الخلق والحكمة الاجتماعية، فانتقل الشعر على يده من الخيال إلى الحقيقة، واختلف الناس في مناقب أبي العلاء وأخلاقه واعتقاده، وله فلسفة خاصة في الدين والطبيعة والخليقة، وهو أقرب من هذا القبيل إلى مذهب اللا أدريين، ويعتقد التقمص وخلود المادة وأن الفضاء لا نهاية له، وكان يقبح الزواج ويعدُّ تخليف الأولاد جناية. وكان يرى المرأة لا ينبغي لها أن تتعلم غير الغزل والنسج وخدمة المنزل، وكان من القائلين بالرفق بالحيوان؛ فقضى النصف الأخير من عمره لم يذق لحمًا، وله أقوال في هذا الموضوع سبق بها أصحاب الرفق بالحيوان اليوم عدة قرون، وعثر له الأستاذ مرجليوث على رسالة في هذا الموضوع جزيلة الفائدة، نشرها في المجلة الآسيوية الإنكليزية ولخَّصْناها في الهلال سنة ١٥ ج٤.

وقد اتَّهَمَه بعضهم بالكفر، وكانوا يتَّهِمون به كل حر الضمير مستقل الفكر في تلك الأيام، مع أن اعترافه بالخالق ووحدانيته ظاهر في كثير من أشعاره، لكنه لم يكن يرى الاعتقاد بالتسليم بل التفكير، وكانت حقيقة الدين عنده أن يعمل الإنسان خيرًا لا أن يكثر من الصلاة والصوم؛ ولذلك كان شديد الوطأة على الفقهاء الذين يتظاهرون بالدين للارتزاق، وقد فصَّلنا ذلك وأيَّدْناه بالأمثلة من أشعاره وأقواله في السنة الخامسة عشرة من الهلال من صفحة ١٩٥.

وتجد ترجمته في السنة المذكورة من الهلال وفي ابن خلكان ٣٣ ج١، وطبقات الأدباء ٤٢٥، ومعجم الأدباء ١٦٢ ج١، وفي ذيل رسائله المطبوعة بأكسفورد.

سائر الشعراء

وهناك طائفة كبيرة من الشعراء يضيق المقام عن ذكرهم لكثرتهم، فمن أحب الاطلاع على تراجمهم وأخبارهم فعليه بكتاب يتيمة الدهر للثعالبي ودمية القصر للباخرزي ومعجم الأدباء لياقوت الحموي وتاريخ ابن خلكان وسائر كتب التراجم، وإنما نشير هنا إلى بضعة شعراء امتاز كل منهم بضرب من الشعر وهم:
  • أبو الرقعمق كان مداحًا: ترجمته في يتيمة الدهر ٢٣٨ ج١، وابن خلكان ٤٠ ج١.

  • الواساني كان هجَّاءً: ترجمته في اليتيمة ٢٦١ ج١.

  • أبو عبد الله الحسن بن حجاج كان مجَّانًا: اليتيمة ٢١١ ج٢.

  • ابن سكرة الهاشمي من ولد علي بن المهدي بن المنصور الخليفة العباسي، جال في ميدان المجون والسخف ما أراد، وكانوا يشبهونه مع ابن الحجاج بجرير والفرزدق، ويربو ديوان ابن سكرة على ٥٠٠٠٠ بيت منها ١٠٠٠٠ بيت في جارية سوداء اسمها خمرة، وكانت عرضة نوادره وملحه كطيلسان ابن حرب ولم نقف على ديوانه، ترجمته في اليتيمة ١٨٨ ج٢، وابن خلكان ٥٢٦ ج١.

  • ابن زريق: ولا يصح الإغضاء عن أبي الحسن علي بن زريق الكاتب البغدادي صاحب القصيدة التي قالها في حال غمه وبأسه، بعد أن قصد صاحب الأندلس ومدحه فلم يعطه إلا عطاءً قليلًا فاعتلَّ غمًّا ومات، وذكروا أن صاحب الأندلس إنما أراد أن يختبره فلما كان بعد أيام سأل عنه، فتفقدوه في الخان الذي كان فيه فوجدوه ميتًا وعند رأسه رقعة فيها القصيدة المشار إليها ومطلعها:

    لا تعذليه فإن العذل يولعه
    قد قلتِ حقًّا ولكن ليس يسمعُهُ

    وهي منشورة في الكشكول وغيره من كتب الأدب، ولها شروح وتخاميس، وقد تقدم أن الثعالبي ذكر بعضها للوأواء الدمشقي، وقد شرحها علي بن عبد الله العلوي، وخمَّسها علي بن ناصر الباعوني، ومن الشرح والتخميس نسخة في برلين.

هوامش

(١) ابن خلدون ٥١٩ ج١.
(٢) تجد ترجمة علي بن عبد العزيز في يتيمة الدهر ٢٣٨ ج٣.
(٣) يتيمة الدهر ٨٧ ج١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤