الإنشاء والترسل

تمكَّنت الحضارة من أسلوب الترسل في هذا العصر — ونعني بالترسل إنشاء المراسلات على الخصوص. «ويريدون به معرفة أحوال الكاتب والمكتوب إليه من حيث الأدب والمصطلحات الخاصة الملائمة لكل طائفة.» وهو الذي يتغيَّر مع الأعصر كما بيَّنَّا ذلك في كلامنا عن الإنشاء في العصر الماضي، ويشتمل على المراسلات والخطب ومقدمات الكتب؛ لأن أساليبها متشابهة، أما إنشاء الكتب، أي عبارة المؤلفات التاريخية والعلمية التي يراد بها تقرير الحقائق بغير إرهاب أو تهديد أو تنبيه أو تحريض فهذه قلَّمَا يعتوِرُها تغيير؛ لأن تقرير الحقائق العلمية أو التاريخية قلَّمَا تؤثِّر فيه الانفعالات النفسية؛ فهو أقل مجاراة للأحوال الاجتماعية؛ ولذلك رأيت عبارة البلغاء من المؤلِّفين متشابهة يندر الاختلاف فيها — إلا في ما يختص بنفس الكاتب وأسلوب تفكيره وموضوع كتابه؛ إذ إن لكل كاتب طريقة يعبرون عنها بالذوق، ولكل فن مصطلحات خاصة تجعل للكتابة فيه نسقًا خاصًّا. فعبارة الفقيه تختلف عن عبارة المؤرخ، وهذه تختلف عن عبارة الحكيم أو الرياضي، وقد يختلف أسلوب المؤلف الواحد باختلاف الموضوع الذي يكتب فيه، ولكنها ترجع كلها إلى أسلوب خاص يختلف عن أسلوب الترسل.

والكاتب في المواضيع العلمية لا يزال على أسلوب المؤلفين المتناسق المرسل، حتى يقتضي الموضوع مخاطبة القارئ فينتقل إلى أسلوب الترسل بالتسجيع أو نحوه حسب العصور، فإذا فرغ من الخطاب عاد إلى الإنشاء المرسل البسيط — إلا طائفة من المؤلفين أرادوا زيادة التأنُّق في مؤلفاتهم، فجعلوا عباراتها كلها مسجعة، وذلك نادر، وسنعود إلى الكلام فيه.

(١) أسلوب الترسل

لما كان المراد بالمراسلات والخطب التعبير عن العواطف والأميال وسائر الأحوال، وهذه تختلف في الناس باختلاف آدابهم الاجتماعية وأحوالهم الأدبية، وهي تتغير بتغيُّر الأحوال. كان الترسل أكثر تعرضًا للتغيير في أسلوبه وعبارته، وهو ما نريد بيانه هنا.

يغلب أن يكون لكل عصر إمام في إنشاء المراسلات يتحدَّاه معاصروه، كذلك كان عبد الحميد وابن المقفع في العصر العباسي الأول، والجاحظ في العصر الثاني، وأما إمام الإنشاء في هذا العصر، فهو ابن العميد لأسباب سنبيِّنها في ترجمة حاله. وقد رأيت ما أصاب هذا الإنشاء في العصر الماضي على يد الجاحظ وأصحابه من تقطيع العبارة، وإدخال الدعاء فيها بصيغة المخاطب بغير اشتراط السجع أو التقفية، وعلمت ما يمتاز به هذا العصر من التوسُّع بأسباب الحضارة والترف، نعني ما صار إليه الأدباء والمنشئون من التبسُّط في العيش عن سعة ورخاء، لا يخافون مزاحمةً أو فقرًا لتعدد مصادر الارتزاق في دور الأمراء والوزراء والخلفاء، فإذا خافوا سبقًا في بلاط نزحوا إلى سواه، والرخاء يدعو إلى التأنُّق، فتطرَّق ذلك إلى إنشائهم، فصاروا يتأنَّقون فيه كما يتأنَّقون بلباسهم وطعامهم وأثاثهم، فأطالوا العبارة وتوسعوا في التنميق، ونبغ جماعة من أصحاب القرائح تساعدوا على ذلك حتى صار للإنشاء في هذا العصر طريقة اتخذها أهل العصور التالية نموذجًا نسجوا على منواله، وهي الطريقة المدرسية في اصطلاح الإفرنج (كلاسيك)، وبعبارة أخرى إن الطريقة المدرسية للترسل العربي نضجت في هذا العصر كما نضج الإنشاء الروماني في عصر شيشرون ثم أخذ في التقهقر، وهكذا أصاب الإنشاء العربي بعد هذا العصر كما ستراه في مكانه. وللطريقة المدرسية في الإنشاء العربي شروط هاك أهمها:

(١-١) شروط الطريقة المدرسية في الإنشاء العربي

  • (١)

    السجع: أصبح التسجيع شرطًا من شروط الترسل، وهو من ثمار التأنُّق لما يقتضيه من العناية في إتقانه، فالرسالة المسجعة يظهر التأنق فيها أكثر من غير المسجَّعة، وتدل من جهة أخرى على تفرُّع صاحبها للتنميق، ولا يكون ذلك إلا في الرخاء. والسجع إذا أُتقنت صياغته أكسب المعنى قوة، وقد أتقنه بلغاء العصر الثالث فرغب الناس فيه وتسابقوا إليه، لكن بعض معاصريهم من أدعياء هذا الفن كلفوا به عن غير مقدرة عليه فجاء باردًا، ومما يروى من هذا القبيل وفيه فكاهة أن الخاقاني الوزير كان يحب السجع حتى استخدمه في التوقيع على كتب العمال، فوقَّع مرة: «الزم — وفقك الله — المنهاج، واحذر عواقب الاعوجاج، واحمل ما أمكن من الدجاج إن شاء الله.» فحمل العامل دجاجًا كثيرًا على سبيل الهدية، فقال: «هذا دجاج وفرته بركة السجع.» وأمر أن يباع ويورد ثمنه في الحساب فأورد منسوبًا إلى ثمن دجاج السجع.

  • (٢)

    الجناس والبديع: وأكثروا من الجناس وهو من قبيل الترصيع للآنية أو الوشي للثوب. لا يزيد الوشي الثوب نفعًا للابسه من حيث الغرض المراد منه كالدفء والستر، ولكنه يزيده جمالًا، والجناس أو البديع لا يزيد العبارة معنًى لكنه يكسبها رونقًا، ولا سيما مع السجع، فقول أبي بكر الخوارزمي في كتابه إلى نائب الوزير ابن عباد: «كتبت إلى الأستاذ معاتبًا مرة، ومستعتبًا كرة، فما وجدت للعتاب أعتابًا، ولا قرأت من الكتاب جوابًا، وليت شعري ما الذي منعه عن صلة لا تضره وتنفعني، وعن تواضع لا يضعه ويرفعني؟» لو جعله مرسلًا بسيطًا لم يكن له ذلك الوقع في النفس.

  • (٣)

    كثر فيه الخيال الشعري حتى أصبح سجعهم كالشعر المنثور، لكنه مقفًّى فلا يعوزه غير الوزن ليصير شعرًا.

  • (٤)
    كثر تضمين مراسلاتهم الأمثال أو النكت الأدبية أو العبارات التاريخية أو العلمية التي تحتاج إلى شرح، كقول ابن العميد في رسالة إلى أبي العلاء السروي:

    وأحمد الله على كل حال، وأساله أن يعرِّفني فضل بركته، ويلقيني الخير في باقي أيامه وخاتمته، وأرغب إليه في أن يقرب على القمر دوره ويقصر سيره، ويخفف حركته، ويعجل نهضته، وينقص مسافة فلكه ودائرته، ويزيل بركة الطول من ساعاته، ويرد عليَّ غرة شوال فهي أسرُّ الغرر عندي وأقرُّها لعيني، ويسمعني النعرة في قفا شهر رمضان، ويعرض عليَّ هلاله أخفى من السر، وأظلم من الكفر، وأنحف من مجنون بني عامر، وأضنى من قيس بن ذريح، وأبلى من أسير الهجر، ويسلط عليه الحور بعد الكور، ويرسل علي رقاقته التي يغشى العيون ضوءُها، ويحط من الأجسام نوءُها كلفًا يغمرها وكسوفًا يسترها … إلخ.

  • (٥)

    أكثروا فيه من الاستشهاد بالأشعار في أثناء مراسلاتهم، وهو ترصيع جميل يزيد المعنى طلاوة ووضوحًا، ويكسبه قوة على إبداء ما في خاطر الكاتب. وقد بالغ بعضهم في ذلك الترصيع حتى أصبح الشعر فيه أكثر من النثر، كقول الصاحب بن عباد يصف فصلًا من كتب ابن العميد قال: «فصل رأيته فصيح الإشارة لطيف العبارة:

    إذا اختصر المعنى فشربة حائمٍ
    وإن رام إسهابًا أتى الفيض بالمد

    فصل قد نظرته فرأيته جسمًا معتدلًا وفهمًا مشتعلًا:

    ونفسًا تفيض كفيض الغمامِ
    وظرفًا يناسب صفو المذامِ

    فصل قد عمهم بنعمه وغمرهم بشيمه:

    وغزاهمُ بسوابغٍ من فضله
    جعلت جماجمهم بطائن نعله.» إلخ.

    وتفنن آخرون بجعل الترصيع شطرًا شطرًا كقول الهمذاني من رسالة إلى الخوارزمي:

    أنا لقرب دار الأستاذ
    كما طرب النشوان مالت به الخمر
    ومن الارتياح للقائه
    كما انتفض العصفور بلله القطرُ
    ومن الامتزاج بولائه
    كما التقت الصهباء والبارد العذبُ
    ومن الابتهاج بمزاره
    كما اهتز البارح الغصن الرطبُ
  • (٦)

    صار للرسائل نمط خاص تراه ممثلًا في رسائل أبي بكر الخوارزمي وأبي منصور الثعالبي وأمثالهما من كُتَّاب ذلك العصر، فالرسالة تبدأ غالبًا بمخاطبة المرسل إليه بلقبه أو نعته بعد الإشارة إلى كتابه، ويتلو ذلك مخاطبته بصيغة الغائب كقولهم: «ورد كتاب الأمير يأمرني فيه بكذا وكذا … إلخ.» وقولهم: «قد حملت إلى حضرة الشيخ أبياتًا عاتبته بها.» وهو يريد الشيخ المخاطب. وقد يأتي اللقب مشفوعًا بالدعاء بصيغة الغائب أيضًا كقول أبي بكر الخوارزمي في كتاب إلى محمد بن إبراهيم صاحب الجيش، وكان محبوسًا وخرج من الحبس: «كتبت أيد الله صاحب الجيش، وقد خرجت من تلك الأهوال خروج المشرفي من الصقال … إلخ.» وقد يجعلون الخطاب بصيغة المخاطب في بعض الأحوال.

  • (٧)

    تفرع الترسل إلى أبواب عملًا بسنة النشوء كما تفرَّع الشعر، فصارت الرسائل تقسم إلى رسائل التهنئة والتعزية والمديح والرثاء وإلى الإخوانيات والسلطانيات ونحو ذلك.

  • (٨)
    تمتاز مقدمات الكتب أو خطبها بتقديم الحمدلة والصلاة على النبي، وتختم بآية يحسن الختام بها كقولهم: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، أو بالحسبلة ونحوها.
  • (٩)

    اختصاص كل طبقة من الوجهاء ورجال الدولة بنعوت خاصة بها، فإن تفاوت رجال الدولة بالمنزلة والنفوذ اقتضى أن تتفاوت أساليب مخاطباتهم، واستقر ذلك على وجه معين في العصر العباسي الثالث، فأصبح عندهم لكل طبقة من رجال الدولة نعوت تفتتح بها مخاطباتهم وعبارات تعنون بها كتبهم وأدعية يدعون بها لهم، كقولهم في مخاطبة أولاد الخليفة في زمن المقتدر بالله: «أطال الله بقاء الأمير.» ولمؤنس المظفر: «أطال الله بقاءك وأعزك وأكرمك وأتمَّ نعمته وإحسانه إليك.» والعنوان «لأبي الحسن أطال الله بقاءه.» ولصاحب اليمن ونحوه: «أكرمك الله ومدَّ في عمرك وأتم نعمته عليك وأدامها لك.» وقس عليه.

  • (١٠)

    صار الإنشاء فنًّا له ألفاظ خاصة سموها الألفاظ الكتابية لا يتجاوزونها إلى سواها، وتولَّدت فيه مصطلحات خاصة لأساليبه وعباراته كالتسجيع والترصيع والتضريس والتبديل والمكافأة والاستعارة والتتميم والتقسيم والإرداف والتمثيل والمعاظلة والتكرير وغيرها، ولكل منها غرض في الإنشاء.

هذه أهم شروط الإنشاء في العصر العباسي الثالث، وقد سميناها الطريقة المدرسية؛ لأنها صارت مثالًا توخَّاه الكتاب في سائر العصور الإسلامية، وقد طرأ عليها تغيير اقتضاه حال الاجتماع سنذكره في مكانه.

ومما لا بد من التنبيه إليه أن ما يجري عليه الكتاب من تحدي القدماء في مذاهبهم وتقليد أساليبهم لاعتقادهم أن ملكة الإنشاء إنما ترسخ بمطالعة كتب القدماء وأشعارهم بعث على تعدد الأساليب في العصر الواحد، فينبغ في العصر الثالث مثلًا كتاب يتحدون أسلوب الجاحظ، وآخرون يقلِّدون أسلوب المقفع أو عبد الحميد أو أسلوب صدر الإسلام، ويصدق ذلك على سائر العصور، ولكن يغلب في أهل العصر الواحد أن يخضعوا لما تقتضيه المجاري الاجتماعية؛ فيكون لإنشائهم صبغة خاصة به.

(٢) المنشئون أو المترسلون

تكاثر المنشئون في هذا العصر مثل تكاثُر الشعراء، واشتهر بعضهم بالصناعتين جميعًا حتى لقد تتولَّاك الحيرة في جعل أحدهم من الكُتَّاب أو من الشعراء، واشتهر من المترسِّلين في العصر طائفة من الوزراء والكبراء ورجال الدولة شرفت بهم الصناعة، وارتفعت قيمتها؛ لأنهم كانوا عمدتها ووجوه كُتَّابها، بل هم أقوى أركان تلك النهضة في النظم والنثر وسائر أسباب العلم والأدب، وإليك أشهرهم حسب سني الوفاة:

(٢-١) ابن العميد (توفي سنة ٣٦٠ﻫ)

هو أبو الفضل محمد بن العميد، والعميد لقب والده على عادة أهل خراسان في إجرائه مجرى التعظيم. وكان ابن العميد وزير ركن الدولة الحسن بن بويه والد عضد الدولة. تولى الوزارة سنة ٣٢٨ﻫ، وكان متوسعًا في الفلسفة والنجوم فضلًا عن الأدب والترسل حتى سموه «الأستاذ»، وكان يلقب لبراعته في الترسل بالجاحظ الثاني. وقيل: بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد. وكان الصاحب بن عباد من بعض أتباعه كما سيجيء. وعاد الصاحب مرة من بغداد فسأله ابن العميد عنها فقال: «بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد.» يشير إلى تفرده في العلم، وهو أسبق المنشئين إلى أسلوب ذلك العصر، وقد أجاد فيه فقلدوه ونسجوا على منواله، وساعد على شيوع طريقته رفعة منزلته وعلو كعبه في العلم. وكثيرًا ما رأينا الوجاهة من جملة أسباب الشهرة العلمية، فهي لا تجعل الجاهل مشهورًا بالعلم لكنها تجعل قليل العلم أن يشتهر بكثرته، وأخذ الصاحب بن عباد عن ابن العميد، وكان الصاحب مركزًا يدور حوله أدباء ذلك العصر فساعد ذلك على نشر تلك الطريقة.

ويدل على مناقب ابن العميد ويمثل منزلة الأدباء في ذلك العصر حادثة جرت له من ابن نباتة السعدي، وقد مدحه بقصيدة فتأخَّرت صلته فشفَّعها بأخرى وأتبعها برقعة فلم يزده ابن العميد على الإهمال مع رقة حاله التي ورد عليها إلى بابه، فتوصل إلى أن دخل عليه يومًا وهو في مجلس حفل بأعيان الدولة ومقدمي أرباب الديوان، فوقف بين يديه وأشار إليه بيده وقال: «أيها الرئيس، إني لزمتك لزوم الظل، وذللت لك ذل النعل، وأكلت النوى المحرق انتظارًا لصلتك، والله ما بي من الحرمان ولكن شماتة الأعداء وهم قوم نصحوني فأغششتهم، وصدقوني فاتهمتهم، فبأي وجه ألقاهم وبأي حجة أقاومهم، ولم أحصل من مديح بعد مديح ومن نثر بعد نظم إلا على ندم مؤلم وبأس مسقم، فإن كان للنجاح علامة فأين هي؟ وما هي إلا أن الذين نحسدهم على ما مدحوا به كانوا من طينتك وأن الذين هجوا كانوا مثلك، فزاحم بمنكبك أعظمهم شأنًا وأنورهم شعاعًا وأمدهم باعًا وأشرفهم بقاعًا.»

فحار رشد ابن العميد ولم يدر ما يقول، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: «هذا وقت يضيق عن الإطالة منك في الاستزادة وعن الإطالة مني في المعذرة، وإذا تواهبنا ما دفعنا إليه استأنفنا ما نتحامد عليه.» فقال ابن نباتة: «أيها الرئيس هذه نفثة مصدور منذ زمان وفضلة لسان قد خرص منذ دهر، والغني إذا مطل لئيم.»

فاستشاط ابن العميد غضبًا وقال: «والله ما استوجب هذا العتب من أحد من خلق الله تعالى، ولست ولي نعمتي فأحتملك ولا صنيعتي فأغضي عليك، وإن بعض ما قررته في مسامعي ينغص مرة الحلم ويبدد شمل الصبر، هذا وما استقدمتك بكتاب ولا استدعيتك برسول ولا سألتك مدحي ولا كلَّفتك تقريضي.» فقال ابن نباتة: «صدقت أيها الرئيس ما استقدمتني بكتاب ولا استدعيتني برسول، ولا سألتني مدحك ولا كلفتني تقريضك، ولكن جلست في صدر ديوانك بأبهتك وقلت: لا يخاطبني أحد إلا بالرئاسة ولا ينازعني خلق في أحكام السياسة، فإني كاتب ركن الدولة وزعيم الأولياء والحضرة والقيِّم بمصالح المملكة، فكأنك دعوتني بلسان الحال ولم تدعني بلسان المقال.»

فثار ابن العميد مغضبًا وأسرع في صحن داره إلى أن دخل حجرته، وتقوض المجلس وماج الناس وسمع ابن نباتة وهو في صحن الدار مارًّا يقول: «والله إن سف التراب والمشي على الجمر أهون من هذا، فلعن الله الأدب إذا كان بائعه مهينًا ومشتريه مماكسًا فيه.»

فلما سكن غيظ ابن العميد وثاب إليه حلمه التمسه من الغد ليعتذر إليه ويزيل آثار ما كان منه، فكأنما غاض في سمع الأرض وبصرها ولم يقف على مكانه، فكانت حسرة في قلب ابن العميد إلى أن مات، ونسب بعضهم هذه الحادثة إلى شاعر آخر غير ابن نباتة.

وكان ابن العميد يقرب أهل الأدب والشعر، فحام حوله طائفة منهم امتدحوه كالمتنبي وابن نباتة والصاحب بن عباد وغيرهم، كانوا يجتمعون في مجلسه فيقترح عليهم النظم والمقارضة؛ وهي أن يقول أحدهم شعرًا أو بيتًا في وصف شيء أو حادثة فيتمه الآخر فالآخر.

وكان ابن العميد شاعرًا رقيقًا من أحسن شعره قصيدة قالها منها:

قد ذبت غير حشاشة ودماءِ
ما بين حر هوى وحر هواءِ

إلى أن قال وفيه مبالغة:

لا تغتنم إغضاءتي فلعلها
كالعين تغضيها على الأقذاءِ
واستبق بعض حشاشتي فلعلني
يومًا أقيك بها من الأسواءِ
فلوَ انَّ ما أبقيت من جسمي قذًى
في العين لم يمنع من الإغفاءِ

ومن قوله في الغزل:

ظلت تظللني من الشمسِ
نفس أعز علي من نفسي
فأقول: وا عجبًا ومن عجبٍ
شمس تظللني من الشمسِ

ترى أمثلة من ترسله ونظمه في يتيمة الدهر الجزء الثالث، ولم يصلنا منه رسائل مجموعة ولا شعر على حدة.

واشتهر ابنه أبو الفتح ذو الكفايتين بعده بمثل شهرته.

وتجد أخبار ابن العميد في ابن خلكان ٥٧ ج٢، ويتيمة الدهر ٢ ج٣.

(٢-٢) أبو بكر الخوارزمي (توفي سنة ٣٨٣ﻫ)

هو أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي الكاتب الشاعر، ويقال له أيضًا: الطبرخزي؛ لأن أباه من خوارزم وأمه من طبرستان، وهو ابن أخت محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ. وكان الخوارزمي إمامًا في اللغة والنسب، أقام بالشام مدة وسكن نواحي حلب، وكان يشار إليه في عصره، وقصد الصاحب بن عباد وهو في أرجان وجالسه وباسطه، واشتهر بكثرة حفظه للأشعار، ويحكى أنه لما جاء إلى الصاحب استأذن عليه بدون أن يذكر اسمه، فدخل عليه الحاجب وأعلمه فقال الصاحب: «قل له: قد ألزمت نفسي أن لا يدخل علي من الأدباء إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب.» فخرج إليه الحاجب وأعلمه بذلك، فقال له أبو بكر: «ارجع وقل له: هذا القدر من شعر الرجال أم من شعر النساء؟» فدخل الحاجب فأعاد عليه، فقال: «هذا يكون أبا بكر الخوارزمي» فأذن له في الدخول.

لم يصل إلينا من آثار أبي بكر الخوارزمي إلا مجموعة رسائل تعرف باسمه، وهي مطبوعة في مصر وفي الآستانة سنة ١٢٩٧، وفي بومباي سنة ١٣٠١ وغيرها، ومنها نسخ خطية في برلين وفينا وليدن وكوبرلي، وفي الجزء الرابع من يتيمة الدهر أمثلة كثيرة من نثره ونظمه، وفيه طائفة حسنة من المدائح والمراثي والأهاجي وطرق مختلفة، وهو غير محمد بن موسى الخوارزمي الفلكي الرياضي المعاصر للمأمون (ترجمته في ابن القفطي ١٨٧، والفهرست ٢٧٤)، وغير أبي عبد الله محمد بن أحمد الخوارزمي صاحب مفاتيح العلوم المتقدم ذكره.

أما أبو بكر هذا فترجمته في ابن خلكان ٥٢٣ ج١، ويتيمة الدهر ١١٤ ج٤.

(٢-٣) أبو إسحاق الصابي (توفي سنة ٣٤٨ﻫ)

هو أبو إسحاق إبراهيم بن هلال بن زهرون بن حبون الحزاني الصابي جد أبي الحسن هلال الصابي صاحب التاريخ، كان أبو إسحاق كاتب الإنشاء في بغداد عن الخليفة، وعن عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه، وتقلَّد ديوان الرسائل سنة ٣٤٩، وكانت تصدر عنه مكاتبات إلى عضد الدولة بن بويه بما يؤلمه فحقد عليه، فلما قتل عز الدولة وملك عضد الدولة بغداد اعتقله سنة ٣٦٧ﻫ، وعزم على إلقائه تحت أيدي الفيلة فشفعوا فيه، ثم أطلقه سنة ٣٧١، وكان قد أمره أن يصنف كتابًا في أخبار الدولة الديلمية، فعمل كتاب «التاجي» فقيل لعضد الدولة: إن صديقًا للصابي دخل عليه فرآه في شغل شاغل من التعليق والتسويد والتبييض فسأله عما يعمل فقال: «أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفِّقها.» فهاج حقده عليه ولم يزل الصابي مبعدًا في أيامه.

وكان أبو إسحاق على مذهب الصابئة، ويدل على ذلك اسمه. وكان عزُّ الدولة يحرضه على الإسلام فلم يفعل، لكنه كان يصوم رمضان مع المسلمين، ويحفظ القرآن، ويقتبس منه. وكانت له صداقة مع الشريف الرضي المتقدم ذكره، فلما توفي أبو إسحاق رثاه بالقصيدة التي ذكرنا مطلعها وخبرها في ترجمة الشريف، وكان الصابي عالمًا بالهندسة، لكن غلبت عليه صناعة الإنشاء، ومما بلغنا من إنشائه:
  • (١)

    منشآت الصابي: في المكاتبة الخديوية نسخة خطية بهذا الاسم تدخل في ٤٥٤ صفحة تشتمل على مراسلات كتبها الصابي على لسان ولاة الأمر في عصره من ملوك آل بويه والخلفاء وغيرهم، وهي كالمخابرات الرسمية في وصف الوقائع الحربية أو غيرها، منها رسالة كتبها إلى ركن الدولة سنة ٣٦٤ﻫ، شرح فيها فتح بغداد وانهزام الأتراك منها ووصف الخلاف، ورسالة على لسان عز الدولة إلى عضد الدولة، جواب كتاب بفتح جبال القفص (بين فارس وكرمان)، وقهر البلوص (جيل من الأكراد)، ورسائل أخرى عن حروب بين البويهيين والحمدانيين وغيرهم، وكلها تشتمل على حقائق تاريخية رسمية تفسر بعض ما التبس من تاريخ ذلك العصر، وفيها صور عهود أو تقليدات رسمية للولاة أو العمال أو القضاة صادرة من الخليفة، كالعهد الذي قلَّده الطائع لله العباسي أبا الحسن علي بن ركن الدولة على الصلاة وأعمال الحرب يدخل في بضع عشرة صفحة، وفيه أمور هامة عن أحوال السياسة والإدارة والاجتماع مما لا يتيسَّر الوقوف عليه في كتب التاريخ، ونسخة عهد إلى قاضي القضاة، وغيرها إلى القواد أو الفقهاء أو أمراء الحج، ومنشورات بعثت إلى الأهلين أو العمال أو القرامطة، فضلًا عن رسائل خصوصية كتبها الصابي إلى أصدقائه. وبالجملة إن هذه المنشآت خزانة أدب وتاريخ وسياسة، وعبارتها بليغة متينة، بل هي من أبلغ ما كتب في ذلك العصر.

  • (٢)

    رسائل الصابي: تقسم إلى أبواب في المراسلات والشفاعات والمعاتبات، وما أنفذ إلى العمال والمنصرفين والنواحي، وهي غير منشآته المتقدم ذكرها وإن كانت تشبهها في أكثر موادها، فإن فيها كثيرًا من الرسائل الودية، فضلًا عن المخابرات السياسية والتقاليد الرسمية والمناشير ونحوها، وفيها فوائد تاريخية واجتماعية هامة، منها نسخة خطية في ليدن وفي المكتبة الخديوية وجزء في باريس، وطبع بعضها في بيروت.

أما التاجي فلم يصلنا منه شيء.

وتجد ترجمته في ابن خلكان ١٢ ج١، ويتيمة الدهر ٢٣ ج٢، ومعجم الأدباء ٣٢٤ ج١، والفهرست ١٣٤.

(٢-٤) الصاحب بن عباد (توفي سنة ٣٨٥ﻫ)

هو أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن العباس الطالقاني. وقد تقدمت الإشارة إلى منزلته من الوجاهة وتأثيره في تلك الحركة الأدبية، وكان أديبًا منشئًا وعالمًا في اللغة وغيرها. أخذ عن أحمد بن فارس اللغوي الآتي ذكره وعن ابن العميد، وهو أول من لقب بالصاحب من الوزراء؛ لأنه كان يصحب ابن العميد، فقيل له: صاحب ابن العميد، ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة وبقي علمًا عليه، وسمي به كل من ولي الوزارة بعده، وقد وزر أولًا لمؤيد الدولة بن ركن الدولة بن بويه بعد ابن العميد، فلما توفي مؤيد الدولة تولى مكانه أخوه فخر الدولة، فأقَرَّ الصاحب على وزارته، وكان مبجلًا عنده نافذ الأمر. وكان مجلسه بؤرة الأدباء والشعراء يمدحونه أو يتناقشون أو يتقارضون بين يديه. وذاعت شهرته في ذلك العصر حتى أصبح موضوع إعجاب القوم يتسابقون إلى إطرائه، ونظمت القصائد في مدحه. وكتب إليه نوح بن منصور الساماني يستقدمه إليه فاعتذر، وقد بلغ من رفعة القدر حتى إنه لما توفي سنة ٣٨٥ﻫ أغلقت له مدينة الري أبوابها، واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون جنازته، وحضر مخدومه فخر الدولة المذكور أولًا وسائر القواد وقد غيروا لباسهم، فلما خرج نعشه من الباب صاح الناس بأجمعهم صيحة واحدة وقبلوا الأرض، ومشى فخر الدولة أمام الجنازة مع الناس وقعد للعزاء أيامًا، ورثاه أبو سعيد الرستمي بقوله:

أبعد ابن عباد يهش إلى السرى
أخو أمل أو يستماح جوادُ
أبى الله إلا أن يموتا بموته
فما لهما حتى المعاد معادُ

وكان شاعرًا مترسلًا مع ولع شديد بالسجع حتى في الكلام فضلًا عن الكتابة. وقيل فيه: «إنه لو رأى سجعة تنحلُّ بموقعها عروة الملك، ويضطرب بها حبل الدولة لما هان عليه التخلي عنها.» وكان يتثنى ويتلوى ويتهادى. وفي يتيمة الدهر أمثلة من نظمه ونثره فضلًا عن معرفته اللغة؛ فإنه ألَّف معجمًا سماه المحيط سيأتي ذكره مع المعاجم، وألَّف له ابن فارس كتاب الصاحبي الآتي ذكره، وساعده منصبه السياسي على الشهرة العلمية، وله في الرسائل كتاب الكافي منه منتخبات خطية في مكتبة باريس، وقصيدتان من شعره في برلين، وله ديوان في مكتبة أيا صوفيا بالآستانة.

وترجمته في ابن خلكان ٧٥ ج١، وطبقات الأدباء ٣٩٧، ويتيمة الدهر ٣١ ج٣، ومعجم الأدباء ٢٧٣ ج٢، والفهرست ١٣٥، ويتيمة الدهر ١٥٧ ج٤.

(٢-٥) بديع الزمان الهمذاني (توفي سنة ٣٩٨ﻫ)

هو أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الهمذاني الحافظ، المعروف ببديع الزمان. كان يقيم في هراة بأفغانستان، وكان شاعرًا وكاتبًا ولغويًّا، واشتهر على الخصوص بقوة الحافظة. كان يسمع القصيدة التي لم يسمعها قط وهي أكثر من خمسين بيتًا فيحفظها كلها ويؤديها من أولها إلى آخرها لا يخرم حرفًا ولا يخل معنى، وينظر في الأربعة والخمسة الأوراق من كتاب لم يعرفه نظرة واحدة خفيفة، ثم يتلوها عن ظهر قلبه.

وكان سريع الخاطر قويَّ البديهة يقترح عليه نظم القصيدة أو إنشاء الرسالة، فيفرغ منها في الوقت والساعة، وربما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخر سطر منه وهلم جرًّا إلى الأول، وله من المؤلفات:
  • (١)

    رسائل مجموعة في كتاب يعرف برسائل بديع الزمان، طبعت في الآستانة سنة ١٢٩٨، وفي بيروت سنة ١٨٩٠.

  • (٢)

    ديوان شعر: منه نسخة خطية في مكتبة باريس، وقد طبع بمصر سنة ١٣٢١ﻫ.

  • (٣)

    مقامات تعرف باسمه، وهي أقدم كتاب وصل إلينا في هذا الفن عن فنون اللغة، وهو أول من وفَّاه حقه وجعله علمًا، وقد اقتبس نسقه من أستاذه ابن فارس اللغوي الآتي ذكره، وعنه أخذ الحريري نسق مقاماته. والمقامات حكايات قصيرة موضوعة على لسان رجل خيالي تنتهي بعبرة أو موعظة أو نكتة، والمراد بها في الأكثر التفنن بالإنشاء وتضمينه الأمثال والحكم، ولم يكن هذا كل المراد منها في زمن الهمذاني. وقد شبَّهها بعضهم بالدرام في اللغات الإفرنجية. ومقامات الهمذاني تُرْوَى على لسان رجل اسمه عيسى بن هشام. طبعت هذه المقامات في الآستانة سنة ١٢٩٨، ثم في بيروت مشروحة شرحًا مختصرًا للشيخ محمد عبده سنة ١٨٨٩، وهو غير عبد الرحمن الهمذاني صاحب الألفاظ الكتابية المتقدم ذكره.

وترجمة بديع الزمان في ابن خلكان ٣٩ ج١، ومعجم الأدباء ٩٤ ج١، ويتيمة الدهر ١٦٧ ج٤.

(٢-٦) أبو منصور الثعالبي (توفي سنة ٤٢٩ﻫ)

هو أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل النيسابوري الثعالبي — قيل له ذلك؛ لأنه كان فرَّاءً بجلد الثعالب، وهو خاتمة مترسلي هذا العصر وأهم أدبائه، ونعم الخاتمة؛ لأنه أكثرهم آثارًا وأوسعهم مادة، وهو الذي ترجمهم وذكر أخبارهم وأقوالهم، وكان في العصر المشار إليه راعي تلعات العلم، وجامع أشتات النثر والنظم، ورأس المؤلفين، وإمام المصنِّفين. وهو مع ذلك شاعر مطبوع، ومن نظمه في وصف الفرس قوله:

يا واهب الطرف الجواد كأنما
قد أنعلوه بالرياح الأربعِ
لا شيء أسرع منه إلا خاطري
في وصف نائلك اللطيف الموقعِ
ولو أنني أنصفت في إكرامه
لجلال مهديه الكريم الألمعي
أقضمته حب الفؤاد لحبه
وجعلت مربطه سواد المدمعِ
وخلعت ثم قطعت غير مضيعٍ
برد الشباب لجله والبرقعِ

وله مؤلفات كثيرة أكثرها من قبيل الأدب، فنؤجل ذكرها إلى ذلك الباب، ونكتفي هنا بذكر كتابه في الإنشاء، نعني كتاب رسائل الثعالبي، طبع في الآستانة سنة ١٣٠١، وهو أربع رسائل منتخبة من كتب التمثُّل والمحاضرة والمبهج وسحر البلاغة والنهاية الآتي ذكرها بين كتبه الأخرى.

(٢-٧) منشئون آخرون

وهناك جماعة من المنشئين وبلغاء المترسِّلين لم يخلِّفوا آثارًا غير ما ذكره الثعالبي في اليتيمة أو غيره ممن ترجموهم، وهذه أسماؤهم وبجانبها مكان وجود الأمثلة من إنشاء كل منهم وترجمة حاله:
  • (٧) أبو الفتح البستي في يتيمة الدهر ٢٠٤ ج٤.

  • (٨) أبو الفضل الميكالي في يتيمة الدهر ٢٤٧ ج٤.

  • (٩) الحاتمي في يتيمة الدهر ٢٧٣ ج٢.

  • (١٠) الشابشتي ابن خلكان ٣٣٨ ج١.

  • (١١) التهامي الشاعر ابن خلكان ٣٥٧ ج١.

  • (١٢) القسطلي في اليتيمة ٤٣٨ ج١.

(٣) الأدب والإنشاء عند الإفرنج

ومما يحسن استطراده في هذا المقام أن علم الأدب الذي يعنيه الإفرنج بقولهم ليتراتور (Littérature) يفضي إلى الإجادة في فني المنثور والمنظوم مثل علم الأدب عند العرب، لكنه يشتمل أيضًا على روح انتقادية هي المراد الأصلي من علم الأدب عندهم لا العبارة أو الأسلوب، وإنما يريدون تلك الروح التي ينتقد بها الكاتب أو الشاعر ما يقع عليه نظره من الحوادث الطبيعية أو ينتبه له من أماكن النقص في الأمة أو رجالها أو ملوكها، فينتقده أو يصفه بأسلوب انتقادي شعري يحرك العواطف ويقع من النفس موقعًا مؤثِّرًا، وكتابهم إنما يتفاضلون في أسلوب ذلك الانتقاد، وهو يشبه ما ورثوه من الروايات التمثيلية (الدرام) عن أسلافهم؛ لأن المراد الأصلي منها تمثيل الفضائل للترغيب فيها وتمثيل الرذائل للتنفير منها، فالكاتب أو الشاعر عندهم يكتب أو ينظم أو يمثل أو يخطب، والغرض الرئيسي عنده الانتقاد بما توحيه إليه قريحته من النظر في الوجود أو المجتمع الإنساني أو أحوال الناس من حيث الأدب أو السياسة أو الأخلاق، بقطع النظر عما يرجوه من الكسب أو الاسترضاء، وهذا نادر في أدباء العرب لانصراف قرائحهم في صدر دولتهم إلى إرضاء الخلفاء أو الأمراء من مدح أو هجاء على ما كانت تقتضيه الأحزاب السياسية، أو يشببون بما يطرب الخليفة أو الأمير؛ لأن على رضاه يتوقف رزقهم.

كان الغرض الأول من الأدب العربي في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية خدمة مصلحة ولاة الأمر في تأييد سيادتهم، ونفوذهم أو تسليتهم وتفريحهم، وكان أكثر الشعراء والأدباء من الموالي طلاب الرزق، فلم تتوجه قرائحهم إلى النقد الاجتماعي أو السياسي أو الفلسفي مما يقتضيه النظر في الخليقة أو نظام الاجتماع أو الدولة؛ لأن ذلك لا يلائم أغراض أصحاب السيادة، ولا سيما بعد أن صار هؤلاء يطاردون الأحرار باسم الزندقة أو الاعتزال أو الفلسفة بعد عصر المأمون، فقامت تلك المطاردة سدًّا في سبيل حرية القول واستقلال الفكر، فأصبح الأدباء لا يفكرون إلا كما يشاء أمراؤهم، وإذا فكروا في غيره فلا يجسرون على قوله، وإذا قالوه بادروا إلى إخفائه فرارًا من الأذى أو سوء الأحدوثة أو الاتهام بالمروق من الدين؛ ولذلك لم يصلنا من أقوال أدباء ذلك العصر الحرة الانتقادية إلا النزر اليسير.

ولعل أول من كسر قيود التقليد في هذا الشأن أبو العلاء المعري الشاعر الفيلسوف، فنشر آراءه في انتقاد الهيأة الاجتماعية والتقاليد الدينية والاعتقادات الشائعة نظمًا ونثرًا، فوجَّه سهامه نحو رجال الدين لاحترافهم التقوى في سبيل الاستجداء أو الاستئثار، ونظم في فلسفة الوجود وفلسفة الاجتماع، فنقم عليه كثيرون واتهموه بالكفر ولم يعدوا قوله شعرًا فسموه الحكيم وأنكروا عليه الشاعرية. والحقيقة أن تلك هي الشاعرية بعينها، فسرت روحه في جسم المجتمع، وأخذ الأدباء من العرب وغيرهم يتحدونه كما فعل عمر الخيام برباعياته.

على أن أكثر أدباء العرب اقتصروا في انتقاداتهم الاجتماعية أو الأخلاقية على نظم القصائد الحكمية، يضمِّنونها الحِكَم والمواعظ ومحاسن الأخلاق، وأكثر الكتب المؤلفة في السياسة ونحوها تتضمَّن النصائح للملوك وما ينبغي أن يكونوا عليه من الكمالات. وقد يؤلفون الكتاب باسم ملك ينصحونه به كما فعل الشيخ عبد الرحمن في كتاب السياسة، الذي قدمه لصلاح الدين الأيوبي.

ولكن ذلك غير ما يريده أدباء الإفرنج في عصرنا من النقد الأدبي أو الأدب الانتقادي، فهم يريدون ما فعله شكسبير ودانتي وهوكو وروسو وفولتير وغيرهم ممن ألف القصص للمطالعة أو التمثيل أو القصائد أو المقالات في تصوير الحقائق وانتقادها، واستخراج العبرة منها بأسلوب شعري يؤثِّر في النفس. وقد يؤلف أحدهم الرواية الكبيرة ينتقد بها عادة شائعة أو نكتة توسمها في نظام الاجتماع أو قوانين الحكومة، والعرب قلما فعلوا ذلك في النظم أو في النثر، إلا نحو ما يؤخذ من كتاب كليلة ودمنة وأمثاله، وهو تلميحي وليس هو عربي الأصل، وقد ألفوا قصة عنتر مثلًا صوروا بها حالة الاجتماع في الجاهلية، وصوَّروا في ألف ليلة وليلة حال الاجتماع في عصر الرخاء والحضارة، لكنهم لم يضعوا ذلك في شكل انتقادي، ولا نبَّهوا إلى مكان العبرة فيه، وإن كان القارئ يتأثَّر من المطالعة فيساق من نفسه إلى استحسان بعض ما صور هناك من المناقب فيتحداها، إلا أنه غير مقصود في التأليف.

وهذا النقص ليس خاصًّا بالعرب، بل هو يشمل أكثر الشرقيين، ولعل السبب فيه شدة احترامهم لرؤسائهم مع تأصُّل الحكم الاستبدادي في نفوسهم بتوالي الأجيال واضطرارهم للارتزاق من الرؤساء، وهم أصحاب قرائح انتقادية فحصروها في المناظرات اللغوية والنحوية كما فعل البصريون والكوفيون، أو في المجادلات الدينية، ويراد بها غالبًا خدمة مصلحة ولاة الأمر فيما يرجع إلى تأييد سيادة بعض الرؤساء دون سواه أو تحقير أعدائهم من دعاة الخلافة أو القائمين على الدولة، أو في المهاجاة لنصرة الأحزاب بين السنة والشيعة أو نحوها، أما انتقاد المبادئ الاجتماعية أو السياسية، فإنه قليل في ثمار قرائحهم.

ولكن ليس من الإنصاف أن نقيس حال أدبائنا في تلك الأعصر بحال أدباء الإفرنج في هذا العصر، فإن هؤلاء لم تظهر فيهم القرائح الحرة إلا بعد حل قيود التقليد وقلب النظام الاجتماعي، وتبديل الحال السياسي حتى صار للعامة شأن، وقد سفكت الدماء في سبيل الحرية الشخصية والحقوق الفردية، فنشأت القرائح على حرية الفكر والقول.

على أن تقاعد العرب عن ذلك النقد ليس من عجز في فطرتهم، فإنهم من أصفى الناس أذهانًا وأدقهم نظرًا وأأباهم للضيم، فلما حدث مثل ذلك الانقلاب فيهم عند ظهور الإسلام أظهروا شجاعة أدبية لا مثيل لها حتى كان الراعي يخاطب الخليفة بلا كلفة وينتقده، بلا خوف، ولا يرى الخليفة غرابة في انتقاده.

حتى في إبَّان التمدن الإسلامي، إذا أتيح للشاعر أن يقول فكره عن جرأة في الرأي مع استغنائه عن أموال ولاة الأمور لم يقصر عن مجاراة أَكْتَب الإفرنج اليوم في روح النقد والعبرة والفلسفة. فقول أبي العلاء المَعَرِّي في انتقاد الحكومة ورجالها:

يكفيك حزنًا ذهاب الصالحين معًا
ونحن بعدهمُ في الأرض قطانُ
إن العراق وإن الشام مذ زمنٍ
صفران ما بهما للملك سلطانُ
ساس الأنام شياطين مسلطةٌ
في كل مَصر من الوالين شيطانُ
من ليس يحفل خمص الناس كلهمُ
أن باب يشرب خمرًا وهو مبطانُ
تشابه النجر فالرومي منطقه
كمنطق العرب والطائي مرطانُ
أما كلاب فأغنى من ثعالبهم
كأن أرماحهم في الحرب أشطانُ
متى يقوم إمام يستقيد لنا
فتعرف العدل أجبالٌ وغيطانُ؟!
لا يقل قوة عما قاله فيكتور هوكو من قصيدة «الملوك»، وهي من أشد قصائده وطأة، قال منها يخاطب الملوك: «أتظنون أننا نحبكم! نحن الذين نشتغل في هذه الأرض ونستخرج ثروتها ونكد ونجد في حر الشمس وبرد الشتاء، ولا ننال من أتعابنا غير الجوع والعطش، وأنتم على سرر مرفوعة من العز والنعيم، وعلى جانب من التبذير والإسراف والفحش، نحن الخدم وأنتم الملوك، نحن الغنم وأنتم الذئاب، نحن الفريسة وأنتم المفترسون، تبنون القصور من أموالنا وأتعابنا وترتعون فيها وتلعبون ونحن نقاسي نزاع الموت على لقمة. لا شغل لكم إلا الأكل والنوم والسكر والفحش والقتل والظلم.»١

وقد تصور أبو العلاء الحكم الدستوري أو الجمهوري منذ تسعمائة سنة، فوصف الأمة الذليلة بقوله:

مل المقام فكم أعاشر أمةً
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
فعدوا مصالحها وهم أُجَرَاؤها

وقد ظهر بعد المعري غير واحد من النقَّادين سيأتي ذكرهم في أماكنهم.

هوامش

(١) تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب ٢٣١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤