المتاحف العربية

ومن قبيل إحياء الآداب العربية إنشاء المتاحف العربية، فرأينا أن نقول كلمة فيها.

المتاحف على الإجمال

المتاحف أو مستودعات التحف لفائدة الجمهور من ثمار هذه المدنية، اتخذتها الأمم الراقية وسيلة لتوسيع معارف الناس وترقية أذواقهم، على أن الملوك والأمراء كانوا قديمًا يخزنون التحف للتفاخر بها. ومن أقدم تلك الخزائن خزائن أحشويرش الآشوري، ومستودع التحف في هياكل أفسس ودلفي وأثينا، ومدارس البطالسة في الإسكندرية، وغيرها من أهل المدنيات القديمة.

العرب والمتاحف

وكان للعرب حظ وافر من هذه الخزائن، وأضافوا إليها آثارًا تاريخية، بدءوا بذلك من الدولة العباسية، فقد كان في خزائن العباسيين تحف تاريخية من مخلفات أسلافهم الأمويين يحفظونها في خزائن الأمتعة، وتجاوز الفاطميون ذلك إلى تخصيص القصور للتحف التاريخية منذ نحو ثمانمائة سنة، وكانوا يسمونها الخزائن، منها خزانة الجوهر، وخزانة الأسلحة، وخزانة الفرش، وليست هي من قبيل مخازن اللوازمات كما يتبادر إلى الذهن، لكنها تشتمل على تحف تاريخية تُنسَب إلى أصحابها من الخلفاء والأمراء، كالكئوس البادزهر التي عليها اسم هارون الرشيد، وبيت هارون الرشيد الخز الأسود الذي مات فيه بطوس، وحصير الذهب الذي يُظن أن بوران بنت الحسن بن سهل جليت عليه للمأمون، وزنه ١٨ رطلًا، ورقعة للشطرنج والنرد أحجارها من الجوهر والفضة، وكان في خزائن الفرش مقطع من الحرير الأزرق التستري القرقوبي غريب الصنعة، منسوج بالذهب وسائر ألوان الحرير، كان المعز لدين الله أمر بعمله سنة ٣٥٣ﻫ، وفيه صور أقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها ومسالكها شبه الخريطة، وفيه صورة مكة والمدينة مبينة للناظر، وعلى كل مدينة وجبل وبلد ونهر وبحر وطريق اسمه بالذهب أو الفضة أو الحرير، وكُتِب في آخره: «مما أمر بعمله المعز لدين الله شوقًا إلى حرم الله، وإشهارًا لمعالم رسول الله، في سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، والنفقة عليه اثنان وعشرون ألف دينار.» وبيت أرمني أحمر منسوج بالذهب عُمِل للمتوكل على الله، لا مثيل له ولا قيمة، صار إلى تاج الملوك، وصار إليه أيضًا بساط خسرواني دفع له فيه ألف دينار، فامتنع عن بيعه.

وكان في خزانة السلاح درع المعز لدين الله، وسيف الحسين بن علي، ودَرَقَة حمزة بن عبد المطلب، وسيف جعفر الصادق، وكان عندهم في خزائن أخرى منديل القائم بأمر الله العباسي، وغير ذلك، وناهيك بالجواهر والحلي الثمينة مما لم يعهد له مثيل عند غيرهم، هذه كلها ذهبت بالفتن في أثناء الدولة الفاطمية، وما بقي ذهب بذهاب الدولة.

على أن المتاحف كانت مقفلة لا يدخلها غير أصحابها، ولا نفع للناس بها، أما المتاحف لخدمة الناس، فمن مستنبطات أصحاب المدنية الحديثة، بدءوا بها من القرن الخامس عشر في إيطاليا أسبق أمم أوربا إلى الاقتباس من العرب، واقتدت بهم سائر تلك الممالك، ثم أخذنا ذلك عنهم بشكله الحاضر كما أخذنا سواه من أسباب هذه المدنية، وإنما يهمنا من هذه المتاحف ما كان خاصًّا بالآثار العربية، أو يتعلق بها.

ومن الآثار العربية مجموعات عامة في متاحف أوربا، أشرنا إلى كثير منها في رحلتنا إلى هناك سنة ١٩١٢، المنشورة في السنة ٢٠ من الهلال، وإنما نحصر الكلام هنا بالمتاحف الخاصة بالتحف العربية أو الإسلامية، وأهمها جميعًا المتحف العربي، أو دار الآثار العربية بمصر.

دار الآثار العربية بمصر

أول مَن فكَّر في إنشاء هذا المتحف إسماعيل باشا الخديوي، فأصدر أمره لإنشائه سنة ١٨٦٩، وهي السنة التي أمر فيها بإنشاء المكتبة الخديوية، كلَّف بذلك فرنس باشا رئيس هندسة الأوقاف، وأمره أن يهيئ مكانًا لها، فلم يستطع لاشتغال المكان المطلوب، فظل المشروع مهمَلًا حتى تجددت الهمة في أوائل زمن توفيق باشا، فأصدر أمره بإنشائه في أواخر سنة ١٨٨١، وعهد بذلك إلى فرنس باشا المذكور، فاستخرج الآثار العربية من الأطلال المتراكمة منذ قرون، وأودعها في الإيوان الشرقي من جامع الحاكم، وقد شاهدناها هناك عند مجيئنا إلى مصر سنة ١٨٨٣، ولما تكاثرت الآثار، وشيدت بناية المكتبة الخديوية بباب الخلق سنة ١٩٠٣، خُصِّصت لها الطبقة السفلى منها، وازدادت العناية في ضبط الآثار وتنميرها.

والعناية بدار الآثار منوطة بلجنة من نخبة الوجهاء والعلماء من العرب والإفرنج، ولها أعضاء شرف في الخارج، وتشمل مهمتها النظر في الآثار العربية التابعة لديوان الأوقاف أو للحكومة أو للأوقاف الأهلية، فضلًا عن المتحف العربي الذي نحن في صدده. ويحتوي هذا المتحف على ما كان مبعثرًا من الآثار العربية في المساجد، وغيرها من المعاهد الدينية، وما ابتاعته نظارة الأوقاف مما وقع لها، غير الهدايا التي أُهدِيت إليه، وآخرها هدية البرنس يوسف كمال باشا، وتشتمل على ١٧٩ قطعة تُقدَّر قيمتها بمبلغ ١٤٧٠٠ جنيه.

figure
داخل دار الآثار العربية.

وقد أنبأنا علي بك بهجت وكيل دار الآثار العربية أن عدد ما فيها من التحف الأثرية نحو ٤٠٠٠ قطعة، بينها آثار عربية إسلامية من بقايا التمدن الإسلامي على اختلاف عصوره، ومصنوعات حجرية وزجاجية وخشبية ونحاسية على الطراز العربي الجميل تستحق العناية والدرس، ولها دليل مطبوع، وأكثرها من عصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين، وفي مصر متاحف أخرى غير عربية لا يهمنا ذكرها هنا.

متحف جينلي بالأستانة

هو متحف إسلامي عثماني يشتمل على كثير من الآثار العربية، واقع تجاه المتحف العثماني بالأستانة، واجهته مغطاة بالفسيفاء الزرقاء، بناه محمد الفاتح سنة ٨٦٠ﻫ، ثم أصلحه السلطان مراد الثالث، وهو مؤلَّف من طبقتين، يحتوي على آثار إسلامية أكثرها عثماني، في جملتها صورة خير الدين باشا (بربروسا) على حجر، وكثير من أجنحة الأبواب الإسلامية والسجاد الثمين والأدوات التاريخية، بينها كرسي كان يجلس عليه السلطان سليم الثالث كثير الشبه بكراسي هذه الأيام الاعتيادية، ظهره مكسوٌّ بالمخمل الأحمر، وكرسي آخَر لمحمد الفاتح أكبر من ذاك مكسوٌّ بالمخمل، وحول قوائمه شراريب القصب، وله ذراعان يستند الجالس عليهما.

ورأينا كثيرًا من الأدوات الفلكية كالإسطرلاب والكرة، وفيها كرة من نحاس عليها رسم الأرض يقال إنها من عهد السلاجقة، وركاب للخيل من الذهب، وصورة للسلطان سليم الثالث بالزيت، وهي في اعتبارنا أول صورة حقيقية لسلاطين آل عثمان؛ لأنهم لم يكونوا يأذنون بتصويرهم من قبلُ، ومصباح من البلور عليه أشعار منقوشة من زمن السلطان محمود الثاني.
figure
داخل طوبقبو سراي.
وبين الذخائر العثمانية في سراي طوبقبو١ بعض الآثار العربية.

متاحف الجزائر وتونس

وقد أنشئت بعض المتاحف الحديثة في تونس والجزائر، أكثرها لآثار تلك البلاد قبل الإسلام، وبعضها إسلامي، منها:
  • (١)
    المتحف الأهلي الجزائري: فيه كثير من الآثار الإسلامية، أنشئ سنة ١٨٩٧.
  • (٢)
    المتحف العلوي في تونس: فيه كثير من الآثار الإسلامية وغيرها، ولعل عند بعض هواة الآثار بالشرق آثارًا عربية هامة.

هوامش

(١) ترى تفصيل ما فيها في الهلال ٧٠ سنة ١٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤