الأسَدُ والثِّيرانُ الثَّلاثَة

(١) بَيْنَ «أَبِي فِراسٍ» و«ابْنِ آوَى»

فِي أُمْسِيَةِ مِنْ أُمْسِيَّاتِ الصَّيْفِ الْوَدِيعَة، والْجَوُّ نَسِيمُهُ هادِئٌ طَيِّبٌ، وَالْقَمَرُ يَتَرَبَّعُ وَسْطَ السَّماءِ بِنُورِهِ الْبَهِيِّ اللُّؤْلُئِّ، اسْتَقْبَلَتِ الْأُسْرَةُ الْجُحَوِيَّةُ ضَيْفَها الْعَزِيزَ الشَّيْخَ «نُعْمانَ».

وَبَعْدَ أَنِ اطْمَأَنَّ بِهِ الْجُلُوسُ فِي الْبَيْتِ، رَغِبَ الشَّيْخُ إِلَى «جُحا» أَنْ يُمْتِعَهُ — كَما هِيَ عادَتُهُ — بِحَدِيثٍ مِنْ أَحادِيثِهِ الْأَنِيسَةِ، فِي قِصَّةٍ مِنْ أَقاصِيصِهِ النَّفِيسَةِ.

وَسُرْعانُ ما انْضَم الْفَتَى «جَحْوانُ» والْفَتاةُ «جُحَيَّةُ» إِلَى الشَّيْخِ «نُعْمانَ» فِيما رَغِبَ فِيهِ. فَلَمْ يَسَعْ «جُحا» إِلَّا أَنْ يَسْتَجِيبَ للرَّغْبَةِ.. وأَنْشَأَ يَقُولُ بِصَوْتِهِ الْمَأْنُوسِ: «مُنْذُ مِئاتِ السِّنِينَ الْماضِيَةِ، كانَ يَعِيشُ فِي إِحْدَى الْغاباتِ: أَسَدٌ مِنَ الْأُسُودِ باطِشٌ قَوِيٌّ، كُنْيَتُهُ: «أَبُو فِراسٍ».

وَثَعْلَبٌ مِنَ الثَّعالِبِ خادِعٌ ذَكِيٌّ، كُنْيَتُهُ «ابْنُ آوَى».

وَكَذٰلِكَ كانَ يَعِيشُ — فِي تِلْكَ الْغابَةِ — ثَلاثَةُ ثِيرانٍ كِبارٌ؛ أَحَدُها: أَحْمَرُ. وَالثَّانِي: أَسْوَدُ. والثَّالِثُ: أَبْيَضْ.

أَرادَ ذٰلِكَ الْأَسَدُ أَنْ يَفْتَرِسَ هٰذِهِ الثِّيرانَ؛ وَلٰكِنَّهُ كانَ يَعْجِزُ عَنِ افْتِراسِ الثِّيرانِ الثَّلاثَةِ، وَهِيَ مُجْتَمِعَةٌ.

شَكا الْأَسَدُ أَمْرَهُ إِلَى وَزِيرِهِ «ابْنِ آوَى».

كانَ «ابْنُ آوَى» ماكِرًا ذَكِيًّا، لا تُعْيِيهِ الْحِيلَةُ.

كانَ عارِفًا بِطَبائِعِ الْحَيَوانِ الَّتِي جُبِلَتْ عَلَيْها.

قالَ «ابْنُ آوَى» لِلْأَسَدِ، تَعْلِيقًا عَلَى شَكْواهُ. «هَيْهاتَ أَنْ تَبْلُغَ مِنْها ما تُرِيدُ، ما دامَتْ مُتَّحِدَةً مُجْتَمِعَةً، لَنْ تَصِلَ إِلَى غَرَضِكَ مِنْها، إِلَّا إِذا دَبَّ الْخِلافُ بَيْنَها.»

قالَ الْأَسَدُ، وَهُوَ يُفَكِّرُ فِيما قالَهُ «ابْنُ آوَى» لَهُ: «هَيْهاتَ أَنْ يَدِبَّ الْخِلافُ بَيْنَ هٰذِهِ الثِّيرانِ الثَّلاثَةِ، إِنَّها — فِيما عَلِمْتُ — مُتَآلِفَةٌ، مُتَحابَّةٌ مُتَعاطِفَةٌ!»

قالَ «ابْنُ آوَى»: «لا بُدَّ أَنْ نُوقِعَ بَيْنَها الْفُرْقَةَ وَالتَّخاذُلَ، لِيَتَخَلَّى كُلُّ واحِدٍ مِنْها عَنْ نُصْرَةِ صاحِبَيْهِ. بِذٰلِكَ يُمْكِنُ افْتِراسُ كُلِّ ثَوْرٍ مِنْها عَلَى حِدَةٍ، فَلا يَتَعَرَّضُ صاحِباهُ لِحِمايَتِهِ، وَمَنْعِكَ مِنَ الظَّفَرِ بِهِ.»

قالَ الْأَسَدُ: «فَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى ذٰلِكَ؟»

قالَ «ابْنُ آوَى»: «اُتْرُكْ هٰذا الْمُهِمَّ لِي.»

قالَ الْأَسَدُ: «ما أَجْدَرَكَ بِشُكْرِي، إِذا انْتَهَى سَعْيُكَ بِالنَّجاحِ، وَكُلِّلَتْ جُهُودُكَ بِالْفَلاحِ!»

(٢) خُدْعَةُ «ابْنِ آوَى»

تَحَيَّنَ «ابْنُ آوَى» الْفُرْصَةَ لِتَنْفِيذِ خُطَّتِهِ الَّتِي دَبَّرَها.

رَأَى الثَّوْرَ الْأَبْيَضَ بَعِيدًا عَنِ الثَّوْرَيْنِ الْآخَرَيْنِ.

أَسْرَعَ «ابْنُ آوَى» بِالذَّهابِ إِلَى أَخَوَيْهِ، اِبْتَدَرَهُما بِالتَّحِيَّةِ وَالسَّلامِ، وَفِي وَجْهِهِ إِشْراقَةٌ وَعَلَى فَمِهِ ابْتِسامٌ.

ظَلَّ يَقُصُّ عَلَيْهِما حِكاياتٍ طَرِيفَةً عَنْ صاحِبِهِ الْأَسَدِ، وَيُعْلِنُ لَهُما أَنَّهُ يُحِسُّ فِي قَلْبِهِ الشَّوْقَ إِلَيْهِما، والْأُنْسَ بِلِقائِهِما.

قالَ لَهُ الثَّوْرانِ، وَهُما فَرِحانِ بِأَنَّ هٰذا شُعُورُ الْأَسَدِ نَحْوَهُما: «إِنَّنا نُحِسُّ مِنَ الشَّوْقِ إِلَيْهِ أَضْعافَ ما يُحِسُّ بِهِ مِنْ ذٰلِكَ. فَماذا يَمْنَعُهُ مِنَ الْحُضُورِ إِلَيْنا، والتَّسْلِيمِ عَلَيْنا؟»

قالَ «ابْنُ آوَى»: «يَمْنَعُهُ وُجُودُ الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ بَيْنَكُما.»

سَأَلاهُ مُتَعَجِّبَيْنِ: «أَفْصِحْ لَنا أَيُّها الْأَخُ الْعَزِيزُ عَمَّا تَعْنِيهِ لِماذا يُبْغِضُ الْأَسَدُ صاحِبَنا، وَهُوَ لا يَفْتَرِقُ عَنَّا فِي شَيْءٍ؟»

قالَ «ابْنُ آوَى» مُتَظاهِرًا لَهُما بِالْعَجَبِ: «كَيْفَ تَقُولانِ؟ وَبِأَيِّ مَنْطِقٍ تَحْكُمانِ؟ أَلا تَعْلَمانِ أَنَّ بَقاءَ صاحِبِكُما هٰذا — فِي الْغابَةِ — مَصْدَرُ كُلِّ نَكْبَةٍ عَلَيْنا وَشَرٍّ، وَمَبْعَثُ كُلِّ أَذِيَّةٍ وَضُرٍّ؟»

تَعَجَّبَ الثَّوْرانِ مِمَّا سَمِعا مِنْ هٰذا الْقَوْلِ.

سَأَلاهُ أَنْ يُفَسِّرَ لَهُما تِلْكَ الْأَلْغازَ الْغامِضَةَ.

اِسْتَأَنَفَ «ابْنُ آوَى» قَوْلَهُ، مُشِيرًا إِلَيْهِما: «لَوْنُ الْأَسَدِ، وَلَوْنِي، وَلَوْنُكُما: مُتَقارِبٌ. أَمَّا لَوْنُ صاحِبِكُما، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَرِيبٌ عَنَّا؛ كَما هُوَ غَرِيبٌ عَنْكُما. أَغابَ عَنْكُما هٰذا أَيُّها الصَّاحِبانِ؟ لَوْنُ الْبَياضِ يَفْضَحُنا فِي الْغابَةِ فِي النَّهارِ وَاللَّيْلِ لِأَعْيُنِ النَّاظِرِينَ، وَيُعَرِّضُنا لِغاراتِ الْغادِرِينَ، وَكَيْدِ الْمُعْتَدِينَ، مِنْ أَشْرارِ الصَّيَّادِينَ. أَمَّا لَوْنُ الْحُمْرَةِ وَلَوْنُ السَّوادِ، فَلا يَكادانِ يَظْهَرانِ لِأَنْظارِ الصَّيَّادِينَ، مِنْ خِلالِ الْأَشْجارِ الكَثِيفَةِ الْمُشْتَبِكَةِ.»

جَزِعَ الثَّوْرانِ مِمَّا سَمِعا. دَبَّ إِلَى قَلْبَيْهِما الرُّعْبُ والْفَزَعُ.

كُلٌّ مِنَ الثَّوْرَيْنِ حَسِبَهُ صادِقًا فِي نُصْحِهِ وتَحْذِيرِهِ.

سَأَلاهُ مُتَلَهِّفَيْنِ: «فَبِماذا تُشِيرُ عَلَيْنا، أَيُّها النَّاصِحُ الْأَمِينُ؟»

قالَ: «ابْنُ آوَى» وَهُوَ يَنْبُشُ الْأَرْضَ بِأَظْفارِه: «أَرى أَنْ تَتْرُكا أَمْرَهُ لِسَيِّدِي الْأَسَدِ؛ فَهُوَ كَفِيلٌ بِالْقَضاءِ فِي أَمْرِهِ، وتَخْلِيصِكُما مَعًا مِنْ أَذِيَّتِهِ وشَرِّهِ.»

قالَ الثَّوْرانِ: «لِيَكُنْ لَكَ وَلِصاحِبِكَ الْأَسَدِ ما تُرِيدانِ.»

(٣) مَعَ الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ

أَسْرَعَ «ابْنُ آوَى» إِلَى الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ، لِيَتَحَدَّثَ إِلَيْهِ.

أَقْبَلَ «ابْنُ آوَى» عَلَيْهِ بِالتَّحِيَّةِ، فَعَجِبَ لِزِيارَتِهِ كُلَّ الْعَجَبِ.

أَطالَ «ابْنُ آوَى» حَدِيثَهُ مَعَ الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ فِي شُئُونٍ شَتَّى، حَتَّى أَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَأَنِسَ بِهِ، وَارْتاحَ إِلَيْهِ.

أَنْشَأَ «ابْنُ آوَى» يُحَدِّثُهُ عَنْ صاحِبَيْهِ، مُحَذِّرًا إِيَّاهُ مِنَ الْإِخْلادِ بِثِقَتِهِ إِلَيْهِما، بَعْدَ ما تَكَشَّفَ لَهُ مِنْ فُنُونِ مَكْرِهِما الشَّدِيدِ بِهِ، وَكَيْدِهِما الْعَظِيمِ لَهُ.

لَمْ يَفْهَمِ الثَّوْرُ الْأَبْيَضُ ماذا يَعْنِيهِ «ابْنُ آوَى» بِهٰذِهِ الْأَلْغازِ.

قالَ لِلثَّعْلَبِ: «لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُصَدِّقَ حَرْفًا مِمَّا فاجَأْتَنِي بِهِ. لَقَدْ عِشْتُ ما عِشْتُ مَعَ صاحِبَيَّ الثَّوْرَيْنِ الْأَلِيفَيْنِ، فَلَمْ أَعْهَدْ فِيهِما مَكْرًا، وَلَمْ أَعْرِفْ مِنْهُما غَدْرًا. فَما قَوْلُكَ هٰذا؟»

اِبْتَدَرَهُ «ابْنُ آوَى» قائِلًا: «تَدْفَعُنِي مَحَبَّتِي إِيَّاكَ، وَإِخْلاصِي لَكَ، أَلَا أُخْفِيَ عَنْكَ ما عَرَفْتُهُ مِنْ لُؤْمِ صاحِبَيْكَ. كانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّكَ أَنْ كُنْتُ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْهُما، وَاسْتَمَعْتُ — دُونَ أَنْ يَرَيانِي — إِلَى ما دارَ مِنْ حِوَارٍ بَيْنَهُما، فَعَرَفْت ما يُضْمِرَانِهِ مِنْ شَرٍّ، وَما يُبَيِّتَانِهِ لَكَ مِنْ أَذِيَّةٍ وَضُرٍّ.»

قالَ الثَّوْرُ الْأَبْيَضُ، وَقَدِ اغْتَمَّتْ نَفْسُهُ أَشَدَّ الاِغْتِمامِ: «فَماذا عَرَفْتَ مِنْ سِرِّهِما، واطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِما؟»

قالَ «ابْنُ آوَى» مُقَطِّبًا جَبِينَهُ، مُتَظاهِرًا بِالتَّأَلُّمِ: «سَمِعْتُهُما يَتَحَدَّثانِ عَنْكَ حَدِيثَ لَئِيمٍ ماكِرٍ، حاقِدٍ غادِرٍ. كانَ حَدِيثُهُما فِي شَأْنِكَ حَدِيثًا طَوِيلًا، سَمِعْتُ طَرَفًا يَسِيرًا مِنْهُ، وَهُوَ قَدْرٌ كافٍ لِلدَّلالَةِ عَلَى ما فِي قَلْبَيْهِما مِنْ كَيْدٍ.»

اِنْخَدَعَ الثَّوْرُ الْأَبْيَضُ بِما سَمِعَ مِنْ هٰذِهِ الْأَقْوالِ.

صَدَّقَ ما أَخْبَرَهُ بِهِ «ابْنُ آوَى» الْخَبِيثُ فِي حَدِيثِهِ مَعَهُ.

سَأَلَهُ أَنْ يُفْضِيَ إِلَيْهِ صَرِيحًا بِما قالَهُ صاحِباهُ عَنْهُ.

قالَ «ابْنُ آوَى»: «سَمِعْتُ الثَّورَ الْأَحْمَرَ يَقُولُ لِصاحِبِهِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ: «الثَّوْرُ الْأَبْيَضُ — كَما تَعْرِفُهُ أَنْتَ — شَرِهٌ أَكُولٌ. إِنَّهُ يَأْكُلُ — وَحْدَهُ — ضِعْفَ ما نَأْكُلُهُ نَحْنُ، مُجْتَمِعَيْنِ. لَوْ بَقِيَ مَعَنا، لَأَكَلَ ما تَحْوِيهِ الْغابَةُ مِنْ طَيِّباتِ الشَّجَرِ، وَلَذائِذِ الثَّمَرِ، وَبَقِينا نَحْنُ نَبْحَثُ عَنْ شَيْءٍ نَأْكُلُهُ!»

سَأَلَهُ الثَّوْرُ الْأَسْوَدُ: «فَماذا نَصْنَعُ بِهِ؟ وَكَيْفَ نَتَخَلَّصُ مِنْهُ؟ ماذا عِنْدَكَ مِنْ رَأْيٍ لِعِلاجِ هٰذِهِ الْمُشْكِلَةِ؟»

أَجابَهُ الثَّوْرُ الْأَحْمَرُ: «ما أَيْسَرَ عَلَيْنا أَنْ نَلْتَقِيَ عِنْدَه فِي صَباحِ الْغَدِ، وَنَهْجُمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ نائِمٌ، قَبْلَ أَنْ يَصْحُوَ مِنْ رُقادِهِ، فَنَفْتَرِسَهُ، وَنَسْتَرِيحَ مِنْ شَرِّهِ، وَتَخْلُصَ لَنا الْغابَةُ بِأَشْجارِها وَأَثْمارِها، لا يُزاحِمُنا فِي مِلْكِها أَحَدٌ.»

قالَ الثَّوْرُ الْأَسْوَدُ: «نِعْمَ الرَّأْيُ ما رَأَيْتَ!»

بِهٰذا الْقَوْلِ أَنْهَى الثَّعْلَبُ الْماكِرُ وِشايَتَهُ الْكاذِبَةَ.

جَزِعَ الثَّوْرُ الْأَبْيضُ. صَدَّقَ ما قالَهُ الْواشِي الْخَبِيثُ.

ظَهَرَتْ عَلَى وجْهِهِ أَماراتُ الْغَضَبِ والْخَوْفِ.

سَأَلَ «ابْنَ آوَى» أَنْ يُشِيرَ عَلَيْهِ بِما يَرَى.

أَجابَهُ «ابْنُ آوَى»: «مِنْ حُسْنِ حَظِّكَ أَنَّ مَوْلايَ الْأَسَدَ مُعْجَبٌ بِحُسْنِ أَخْلاقِكَ، وَنُبْلِ صِفاتِكَ. طالَما حَدَّثَنِي الْأَسَدُ عَنْ شَوْقِهِ إِلَيْكَ، وَتَفْضِيلِكَ عَلَى أَخَوَيْكَ، وَرَغْبَتِهِ فِي الاِجْتِماعِ بِكَ، وَالاِئْتِناسِ بِحَدِيثِكَ. والرَّأْي عِنْدِي أَلَّا تَعُودَ إِلَى صاحِبَيْكَ، وَإِنَّما تَذْهَبُ إِلَى عَرِينِ الْأَسَدِ، مُحْتَمِيًا بِهِ مِنْهُما، لِتَأْمَنَ غَدْرَ صاحِبَيْكَ وَأَذاهُما، سَتَجِدُنِي فِي أَصِيلِ هٰذا الْيَوْمِ مَعَ مَوْلايَ الْأَسَدِ، حَيْثُ نَلْقاكَ بِما أَنْتَ أَهْلٌ لَهُ مِنَ الرِّعايَةِ وَالْعَطْفِ وَالتَّكْرِيمِ».

(٤) أَوَّلُ الْفَرائِسِ

أَسْرَعَ «ابْنُ آوَى» إِلَى الْأَسَدِ، وَحَدَّثَهُ بِكُلِّ ما دارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَثْوارِ الثَّلاثَةِ مِنْ مُناقَشَةٍ وحِوارٍ.

اِبْتَهَجَ الْأَسَدُ بِما وُفِّقَ إِلَيْهِ وَزِيرُهُ «ابْنُ آوَى»، وَشَكَرَهُ عَلَى بَراعَتِهِ وَفِطْنَتِهِ، وَذَكائِهِ وَحُسْنِ حِيلَتِهِ.

حانَ وَقْتُ الْأَصِيلِ، الْمَوْعِدُ الَّذِي حَدَّدَهُ «ابْنُ آوَى» لِكَيْ يَلْتَقِيَ الثَّوْرُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسَدُ مَعًا.

ذَهَبَ الثَّوْرُ الْأَبْيَضُ إِلَى عَرِينِ الْأَسَدِ، وَهُوَ آمِنٌ مُطْمَئِنٌ، لِيَشْكُرَهُ عَلَى فَضْلِهِ ومِنَّتِهِ، وَما وَعَدَهُ بِهِ مِنْ تَأْمِينِهِ وَحِمايَتِهِ.

لَمْ يَكَدْ «أَبُو فِراسٍ» يَرَى الثَّوْرَ الْأَبْيَضَ حَتَّى هَشَّ لَهُ وَبَشَّ.

أَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ مُرَحِّبٌ بِزِيارَتِهِ، فَرِحٌ بِحُضُورِهِ.

كانَتْ فُرْصَةً ثَمِينَةً نادِرَةً لَمْ يُضَيِّعْها الْأَسَدُ.

كانَ الْأَسَدُ يَتَرَقَّبُ هٰذِهِ الْفُرْصَةَ بِفارِغِ الصَّبْرِ.

وَثَبَ الْأَسَدُ الْباطِشُ عَلَى الثَّوْرِ الْأَبْيضِ، وَهُوَ مُسْتَسْلِمٌ لَهُ، يَحْسَبُهُ مُتَحَمِّسًا لِلِقائِهِ، مُتَوَثِّبًا لِلسَّلامِ عَلَيْهِ.

اِنْقَضَّ عَلَيْهِ الْأَسَدُ بِكُلِّ قُوَّتِهِ، حَتَّى قَضَى عَلَيْهِ!..

وَما أَسْرَعَ أَنْ جَعَلَ يَلْتَهِمُ مِنْهُ ما يُشْبِعَ بِهِ جُوعَهُ!..

(٥) مَعَ الثَّوْرِ الْأَحْمَرِ

بَعْدَ أَيَّامٍ ذَهَبَ «ابْنُ آوَى» إِلَى مَكانِ الثَّوْرَيْنِ مِنَ الْغابَةِ.

رَأَى الثَّوْرَ الْأَحْمَرَ وَحْدَهُ. لَمْ يَدَعِ الْفُرْصَةَ تُفْلِتُ مِنْهُ.

أَقْبَلَ عَلَيْهِ، يَبُثُّهُ شَوْقَهُ إِلَيْهِ. ظَلَّ يُحادِثُهُ وَيُسامِرُهُ، وَيُحاوِرُهُ وَيُداوِرُهُ؛ حَتَّى أَنِسَ بِهِ، وَأَخْلَدَ بِثِقَتِهِ إِلَيْهِ.

قالَ «ابْنُ آوَى» لِلثَّوْرِ الْأَحْمَرِ، بِصَوْتٍ خافِتٍ: «أُخْبِرُكَ بِأَنِّي سَمِعْتُ أَمْسِ حَدِيثًا عَجَبًا، لَمْ يطاوِعْنِي قَلْبِي عَلَى كِتْمانِهِ عَنْكَ، وَأَنْتَ أَخٌ كَرِيمٌ، وَصَدِيقٌ حَمِيمٌ.»

سَأَلَهُ الثَّوْرُ الْأَحْمَرُ مُتَحَبِّبًا إِلَيْهِ، مُقْبِلًا عَلَيْهِ: «سَتَجِدُنِي — أَيُّها الصَّدِيقُ الْعَظِيمُ — شاكِرًا لَكَ أًجْزَلَ الشُّكْرِ، إِذا أَفْضَيْتَ بِهٰذا الْحَدِيثِ الْعَجِيبِ إِلَيَّ، وَشَفَعْتَهُ بِما تُشِيرُ بِهِ عَلَيَّ. وَإِنَّ إِخْلاصَكَ لِي، لَيَدْعُوكَ أَلَّا تُخْفِيَ شَيْئًا عَنِّي.»

قالَ «ابْنُ آوَى» مُتَظاهِرًا بِالْحُزْنِ والْجَزَعِ: «اَلْحَقُّ أَنِّي ظَلِلْتُ — حَتَّى أَمْسِ — شَدِيدَ الْإِعْجابِ بِكَ، وَبِصاحِبِكَ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، إِذْ أَراكُما مُتَحابَّيْنِ مُتَصافِيَيْنِ. كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّكُما مَثَلٌ رائِعٌ لِلْإِخاءِ، وَصادِقِ الْمَوَدَّةِ وَالْوَفاءِ. وَلٰكنْ ظَهَرَ لِي أَنِّي غَيْرُ مُصِيبٍ فِي هٰذا الظَّنِّ.»

ظَهَرَ الْجَزَعُ عَلَى وَجْهِ الثَّوْرِ الْأَحْمَرِ، لَمَّا سَمِعَ هٰذا الْكَلامَ. حَسِبَ «ابْنَ آوَى» صادِقًا فِيما أَفْضَى بِهِ إِلَيْهِ.

سَأَلَهُ مُتَلَهِّفًا: «أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ أَلَّا تَكْتُمَ عَنِّي ما تَعْلَمُ. ماذا عَرَفْتَ مِنْ سِرِّهِ، واطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ؟!»

أَجابَهُ «ابْنُ آوَى»: «كانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّكَ أَنْ لَقِيتُ صاحِبَكَ مُنْذُ ساعاتٍ، وَحَدَّثَنِي بِما يُضْمِرُهُ لَكَ مِنْ شَرٍّ وَما تَنْطَوِي عَلَيْهِ نَفْسُهُ الْخَبِيثَةُ مِنْ مَكْرٍ وَغَدْرٍ.»

اِشْتَدَّ فَزَعُ الثَّوْرِ الْأَحْمَرِ مِمَّا قالَهُ «ابْنُ آوَى».

ضاقَ صَدْرُهُ بِما سَمِعَ مِنْ حَدِيثِ الثَّعْلَبِ الْعَجِيبِ.

سَأَلَهُ أَنْ يُفَسِّرَ لَهُ ما غَمَضَ، وَيُفْصِحَ لَهُ عَمَّا أَرادَ.

أَقْبَلَ عَلَيْهِ «ابْنُ آوَى» مُتَرَدِّدًا، وقالَ لَهُ مُتَوَدِّدًا: «يَدْفَعُنِي إِخْلاصِي لَكَ، وإِعْجابِي بِفَضائِلِكَ، وحُسْنُ تَقْدِيرِي لِطِيبَةِ قَلْبِكَ، وكَرِيمِ شَمائِلِكَ: أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِما عَرَفْتُ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ صاحِبِكَ الْمُنافِقِ الْكَبِيرِ، ذٰلِكَ الَّذِي يُخْفِي لَكَ فِي قَلْبِهِ عَكْسَ ما يُظْهِرُ، وَيُبْدِي لَكَ بِلِسانِهِ عَكْسَ ما يُضْمِرُ.

لَقِيتُ صاحِبَكَ الثَّوْرَ الْأَسْوَدَ مُنْذُ ساعاتٍ. سَأَلْتُهُ عَنْك، فَلَمْ يُجِبْ. كَرَّرْتُ لَهُ سُؤَالِي، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَمْتَنِعَ عَنِ الْجَوابِ.

تَعَجَّبْتُ مِنْ صَمْتِهِ، وشَكَكْتُ فِي أَمْرِهِ، وسَأَلْتُهُ: «لِماذا أَنْتَ حاقِدٌ عَلَى صاحِبِكَ الثَّوْرِ الْأَحْمَرِ؟»

تَرَدَّدَ وأَحْجَمَ! عَرَفْتُ أَنَّهُ يُضْمِرُ شَرًّا، ويُبَيِّتُ لَكَ ضُرًّا.

ظَلِلْتُ أُحاوِرُهُ وأُداوِرُهُ، حَتَّى عَلِمْتُ أَنَّهُ عازِمٌ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْكَ، لِتَصْفُوَ لَهُ الْغابَةُ وَحْدَهُ، فَلا يَكُونَ لَهُ فِيها شَرِيكٌ.

سَأَلْتُ الثَّوْرَ الْأَسْوَدَ: «أَيُّ حِيلَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَلْجَأَ إِلَيْها؟»

فَما راعَنِي مِنْهُ إِلَّا قَوْلُهُ: «فِي مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنَ الْغابَةِ، سَمِعْتُ صَوْتَ «الْكَرْكَدَّنِ»، وَهُوَ — كَما تَعْلَمُ — أَقْوَى حَيَوانٍ فِي الْغابَةِ. سَأَذْهَبُ إِلَيْهِ فِي صَباحِ الْغَدِ، وَأُخْبِرُهُ بِأَنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أُسَهِّلَ لَهُ طَرِيقَ الْوُصُولِ إِلَى صاحِبِي والظَّفَرِ بِهِ، حَتَّى تَصْفُوَ لِيَ الْغابَةُ.»

جَزِعَ الثَّوْرُ الْأَحْمَرُ مِمَّا قالَهُ لَهُ «ابْنُ آوَى».

سَأَلَهُ مُتَفَزِّعًا: «فَبِماذا تُشِيرُ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ؟»

أَجابَهُ «ابْنُ آوَى»: «مِنْ حُسْنِ حَظِّكَ أَنَّ الْأَسَدَ يُفْرِدُكَ بِإِعْجابِهِ وَمَوَدَّتِهِ، وَإِخْلاصِهِ وَمَحَبَّتِهِ. سَأُخْبِرُ الْأَسَدَ بِما سَمِعْتُ، وَهُوَ الْكَفِيلُ بِأَنْ يَدْفَعَ أَذاهُ عَنْكَ.»

لَمْ يَتَمالَكِ الثَّوْرُ الْأَحْمَرُ أَنْ شَكَرَ مُحَدِّثَهُ «ابْنَ آوَى» عَلَى ما أَظْهَرَ لَهُ مِنْ إِخْلاصٍ وَمَوَدَّةٍ، وَتَقْدِيرٍ وَمَحَبَّةٍ.

(٦) مَعَ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ

أَسْرَعَ «ابْنُ آوَى» ذاهِبًا إِلَى الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ. بَدَأَهُ بِالتَّحِيَّةِ، وَتَظاهَرَ لَهُ بِالْمَوَدَّةِ. ظَلَّ يُناقِلُهُ الْكَلامَ. وَيُبادِلُهُ الاِبْتِسامَ، حَتَّى اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَعَوَّلَ فِي أَمْرِهِ عَلَيْهِ، وَإِذا «ابْنُ آوَى» يُفاجِئُهُ مُسائِلًا إِيَّاهُ: «كيْفَ تَرَى صاحِبَكَ الثَّوْرَ الْأَحْمَرَ؟»

تَعَجَّبَ الثَّوْرُ الْأَسْوَدُ مِنَ السُؤَالِ، وَقالَ لَهُ فِي لَهْجَةِ الْواثِقِ: «كانَ مِنْ حَسَناتِ الزَّمَنِ أَنْ تَجْمَعَنِي الْغابَةُ بِمِثْلِهِ. إِنَّهُ نِعْمَ الصَّاحِبُ وَالصَّدِيقُ؛ فَهُوَ أَكْرَمُ مِثالٍ لِأَوْفَى رَفِيقٍ.»

قاطَعَهُ «ابْنُ آوَى» قائِلًا، وَهُوَ يَبْتَسِمُ فِي وَجْهِهِ: «ما رَأَيْتُ أَكْرَمَ مِنْكَ نَفْسًا، وَأَطْهَرَ مِنْكَ قَلْبًا. إِنَّما تَنْظُرُ أَنْتَ يا صاحِبِي فِي مِرْآةِ نَفْسِكَ؛ فَتَرَى فَضائِلَكَ الْعَظِيمَةَ، وَمَزاياكَ الْكَرِيمَةَ، فَتَنْسُبُها إِلَى سِواكَ. لٰكِنَّ مَحَبَّتِي لَكَ وَحِرْصِي عَلَيْكَ، يِأْبَيانِ عَلَىَّ أَنْ أُخْفِيَ عَنْكَ ما أَعْلَمُ مِنْ بَواطِنِ الْأُمُورِ.»

سَأَلَهُ الثَّوْرُ الْأَسْوَدُ وَقَدْ ثارَتْ نَفْسُهُ لِمَعْرِفَةِ السِّرِّ: «خَبِّرْنِي أَيُّها النَّاصِحُ الْأَمِينُ: ماذا تَعْنِي بِقَوْلِكَ؟»

أَجابَهُ «ابْنُ آوَى»: «لَقَدْ أَحْسَنْتَ الظَّنَّ بِصاحِبِكَ، وَلٰكِنْ لا تَنْسَ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ غَفْلَةٌ، وَأَنَّ سُوءَ الظَّنِّ عِصْمَةٌ! لَوْ أَنِّي قابَلْتُكَ أَمْسٍ، لَوَافَقْتُكَ عَلَى كُلِّ ما سَمِعْتُهُ الْآنَ، مِنْ ثًناءٍ عَلَى صاحِبِكَ، وَمِنْ إِعْجابٍ بِهِ، وَتَقْدِيرٍ لَهُ!.. وَلٰكِنَّ الْمُصادَفَةَ وَحْدَها كَشَفَتْ ما لَمْ يَكُنْ لِي فِي حِسابٍ. كانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّكَ أَنْ لَقِيتُ صاحِبِكَ الثَّوْرَ الْأَحْمَرَ، مُنْذُ وَقْتٍ قَلِيلٍ! سَأَلْتُهُ عَنْكَ. فَلَمْ يُجِبْ! عَجِبْتُ مِنْ سُكُوتِهِ، وَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ مُتَوَدِّدًا، أُسائِلُهُ عَمَّا يَرِيبُهُ مِنْكَ، وَيَجْعَلُ قَلْبَهُ حاقِدًا عَلَيْكَ. لَمْ يِلْبَثْ أَنْ أَفْضَى إِلَيَّ بِما خَوَّفَنِي وَرَعَّبَنِي، وَفَزَّعَنِي وَرَوَّعَنِي، حَتَّى إِنِّي لا أَكادُ أُصَدِّقُ أُذُنَيَّ! يَأْبَى عَلَىَّ إِعْجابِي بِأَخْلاقِكَ وَفَضائِلِكَ، وَتَقْدِيرِي لِمَزاياكَ وَشَمائِلِكَ، أَنْ أُخْفِيَ عَنْكَ ما عَلْمِتُ، وَأَضَنَّ عَلَيْكَ بِما سَمِعْتُ، وَإِنْ كُنْتُ حَقًّا آسِفًا أَشَدَّ الْأَسَفِ، مُتَعَجِّبًا أَشَدَّ الْعَجَبِ، مِنْ أَنْ يغْدِرَ أَحَدُ الصَّاحِبَيْنِ بِصاحِبِهِ، وَتَنْقَلِبَ مَوَدَّتُهُما عَداوَةً!»

سَأَلَهُ الثَّوْرُ الْأَسْوَدُ، وَقَدْ مَلَأَ الْغَيْظُ قَلْبَهُ: «أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ — يا «ابْنَ آوَى» — أَنْ تَعْجَلَ بِالشَرْحِ وَالتَّوْضِيحِ، فَقَدْ ضاقَ صَدْرِي بِما سَمِعْتُ مِنْ تَلْمِيحٍ!»

قالَ «ابْنُ آوَى»: «ظَلِلْتُ أُجاذِبُ صاحِبَكَ الْحَدِيثَ، وَأُغْرِيهِ بِالْكَلامِ، حَتَّى أَفْضَى إِلَيَّ بِما فِي نَفْسِهِ.

قالَ لِيَ الثَّوْرُ الْأَحْمَرُ، فِيما قالَ: «ضاقَ صَدْرِي بِصُحْبَةِ هٰذا الصَّدِيقِ الْأَنانِيِّ الْأَكُولِ. ظَلِلْتُ أُفَكِّرُ فِي طَرِيقَةٍ تُخَلِّصُنِي مِنْ صَداقَتِهِ، وَتُرِيحُنِي مِنْهُ. اهْتَدَيْتُ آخِرَ الْأَمْرِ إِلَى خُطَّةٍ بارِعَةٍ تُرِيحُنِي مِنْهُ إِلَى الْأَبَدِ. أَنا ذاهِبٌ صَباحَ غَدٍ إِلَى «الْكَرْكَدَّنِ»؛ لِأُغْرِيَهُ بِقَتْلِ صاحِبِي. وَمَتَى تَمَّ لِي ذٰلِكَ، صَفَتْ لِيَ الْغابَةُ وَحْدِي.»

قالَ الثَّوْرُ الْأَسْوَدُ لِمُحَدِّثِهِ «ابْنِ آوَى»: «أَيُرِيدُ أَنْ يُغْرِيَ بِيَ «الْكَرْكَدَنَّ»، وَأَنا لا أَقْوَى عَلَى دَفْعِ أَذاهُ، إِذا لَمْ يَكُنْ لِيَ الثَّوْرُ الْأَحْمَرُ ناصِرًا وَمُعِينًا؟»

قالَ «ابْنُ آوَى»: «ذٰلِكَ ما دَبَّرَهُ لَكَ، لِلْإِيقاعِ بِكَ.»

سَأَلَهُ الثَّوْرُ الْأَسْوَدُ: «فَبِماذا تُشِيرُ عَلَيَّ؟»

أَجابَهُ «ابْنُ آوَى» وَهُوَ يَتَصَنَّعُ الْجِدَّ فِي كَلامِهِ: «لا تَنْسَ أَنَّ الْأَسَدَ مُعْجَبٌ بِكَ، يُظْهِرُ الاِرْتِياحَ إِلَيْكَ. سَأَذْهَبُ إِلَيْهِ الْآنَ، لِأَشْرَحَ لَهُ ما عَرَفْتُ مِنْ قِصَّتِكَ؛ وَهُوَ وَحْدَهُ الْكَفِيلُ بِحِمايَتِكَ وَرِعايَتِكَ، فَلا يَنالُكَ أَذًى. تَسْتَطِيعُ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى عَرِينِ الْأَسَدِ بَعْدَ ساعَةٍ واحِدَةٍ. سَتَجِدُنِي عِنْدَهُ: أُرَحِّبُ بِكَ، وَأُمَهِّدُ الْأَمْرَ لَكَ.»

(٧) عِنْدَ الْأَسَدِ

كانَ الشَّيْخُ «نُعْمانُ» وَالْفَتَى «جَحْوانُ» والْفَتاةُ «جُحَيَّةُ» يَسْتَمِعُونَ — فِي شَوْقٍ — إِلَى «جُحا» وَهُوَ يَقُصُّ قِصَّتَهُ.

وَلَمَّا بَلَغَ مِنْها هٰذا الْمَبْلَغَ، صاحَتْ «جُحَيَّةُ»: «أُؤَكِّدُ أَنَّ الثَّوْرَ الْأَسْوَدَ لَقِيَ مِنَ الْأَسَدِ، مِثْلَ ما لَقِيَ — مِنْ قَبْلِهِ — صاحِبُهُ الثَّوْرُ الْأَبْيَضُ، سَواءً بِسَواءٍ!»

قالَ «جَحْوانُ»: «لا رَيْبَ فِيما تَقُولِينَ، يا أُخْتاهُ.»

قالَ أَبُوهُما: «صَدَقْتُما، أَيُّها الْعَزِيزانِ، فِيما تَرَيانِ. لَمْ يَكُنْ حَظُّهُ مِنَ الْأَسَدِ أَحْسَنَ مِنْ حَظِّ صاحِبِهِ. لَمْ يَكَدْ يَراهُ الْأَسَدُ، حَتَّى وَثَبَ عَلَيْهِ وافْتَرَسَهُ.»

قالَ الشَّيْخُ «نُعْمانُ»: «أَغْلَبُ الظَّنِّ أَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي اخْتَرَعَها «ابْنُ آوَى» كانَتْ كَذِبًا وَتَضْلِيلًا، جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا. أَغْلَبُ الظَّنِّ أَنَّ «الْكَرْكَدَّنَ» لَمْ يَكُنْ فِي الْغابَةِ، وَأَنَّ ذٰلِكَ كانَ مِنَ اخْتِراعِ الثَّعْلَبِ «ابْنِ آوَى» وافْتِرائِهِ؛ لِيُحْكِمَ خُطَّتَهُ، وَيُؤَكِّدَ مُؤَامَرَتَهُ، وَيَسْبُكَ حِيلَتَهُ!»

قالَ «أَبُو الْغُصْنِ جُحا»: «صَدَقْتَ، يا أَخِي، صَدَقْتَ! كانَتْ قِصَّةُ «الْكَرْكَدَّنِ» مِنْ نَسِيجِ خَيالِهِ، كَما قُلْتَ.»

قالَتْ «جُحَيَّةُ»: «فَماذا صَنَعَ الْأَسَدُ بِالثَّوْرِ الْأَحْمَرِ؟»

قالَ «جَحْوانُ»: «لَمْ يَكُنْ فِي حاجَةٍ إِلَى حِيلَةٍ يَصْطَنِعُها «ابْنُ آوَى» لِيُقَدِّمَهُ لِصاحِبِهِ الْأَسَدِ. أَصْبَحَ الثَّوْرُ الْأَحْمَرُ — بَعْدَ هَلاكِ رَفِيقَيْهِ — عاجِزًا عَنْ مُقاوَمَةِ الْأَسَدِ: فَقَدَ نَصِيرَيْهِ، لَمَّا دَبَّتِ الْفُرْقَةُ وَالْخِلافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخَوَيْهِ.»

قالَ الشَّيْخُ «نُعْمانُ»: «لا رَيْبَ أَنَّ الْأَسَدَ ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَافْتَرَسَهُ، كَما افْتَرَسَ — مِنْ قَبْلِهِ — صاحِبَيْهِ!»

قالَ «جُحا»: «لَقَدْ وَضَحَ لِلثَّوْرِ الْأَحْمَرِ أَنَّ الْأَسَدَ آكِلُهُ، فَصاحَ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى أَظْفارِ الْأَسَدِ، تُوشِكُ أَنْ تَنْشَبَ بِهِ: «أَلَا إِنِّي أُكِلْتُ: يَوْمَ أُكِلَ الثَّوْرُ الْأَبْيَضُ!»

قالَ الشَّيْخُ «نُعْمانُ»: «هٰذا حَقٌّ! فَلَوْ أَنَّ الثِّيرانَ الثَّلاثَةَ بَقِيَتْ مُجْتَمِعَةً، مُتَسانِدَةً مُتَآزِرَةً، لَما اسْتَطاعَ ذٰلِكَ الْأَسَدُ أَنْ يَنالَ مِنْها مَأْرَبًا، وَلٰكِنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْها كُلِّها واحِدًا واحِدًا، وَقَدْ دَبَّتْ بَيْنَها الْوِشاياتُ، فَأَشاعَتْ فِيها الْفُرْقَةَ وَالْخِلافَ!»

قالَ «جُحا»: «تِلْكَ خاتِمَةٌ طَبِيعِيَّةٌ، وَنِهايَةٌ حَتْمِيَّةٌ.»

قالَتْ «جُحَيَّةُ»: «قُبِّحَ الْوُشاةُ؛ وَيا وَيْلَ مَنْ يَنْخَدِعُ بِما يُزَيِّفُونَ مِنْ قَوْلٍ، وَيَرْكَنُ إِلَى ما يُزَيِّنُونَ، مِنْ إِغْراءٍ!»

يُجاب مِمَّا فِي هذه الحِكاية عن الأسئلة الآتية

(س١) لِمَنِ اسْتَجابَ «جُحا»، للرَّغبةِ في أن يحْكِيَ قِصَّة؟
(س٢) ما هِيَ كُنْيَةُ الأسد؟ وما هِيَ كُنية الثعلب؟
(س٣) لماذا كان يَعْجِز الأسدُ عن افْتراس الثِّيران الثلاثة؟
(س٤) بماذا أشار الثعلب «ابنُ آوَى» على الأسد «أبي فِراسٍ»، لكي يتمكَّنَ من افْتِراسِ الثِّيران الثلاثة؟
(س٥) بماذا خدع الثعلبُ الثَّوْرين: الأحمر والأسود؟
(س٦) بماذا فسَّر الثعلبُ ضِيقَ الأسدِ بالثور الأبيض؟
(س٧) بماذا أوْقع الثعلبُ بين الثَّوْرِ الأبْيَضِ وصاحبِه؟
(س٨) بماذا أشار الثعلبُ على الثورِ الأبْيَضِ للنجاة؟
(س٩) كيف استقبل الأسدُ الثَّوْرَ الأبيض؟ وماذا صنع معه؟
(س١٠) بماذا أوقع الثعلب بين الثَّوْرِ الأحمر والثور الأسود؟
(س١١) كيف فسَّر الثعلب «ابنُ آوى» لِلثَّوْرِ الأحْمَرِ عَداوةَ الثَّوْرِ الأسْوَدِ له؟
(س١٢) ما اسمُ الحيوانِ الذي زعم الثعلبُ أنَّ الثَّوْرَ الأسود سيذهب إليه، ليُخَلِّصَه من الثور الأحمر؟
(س١٣) بماذا أوقع الثعلبُ بين كلٍّ من الثور الأحمر والأسود؟
(س١٤) ماذا فهِم أبناءُ «جُحا» من مصير الثَّوْرِ الأسود؟
(س١٥) ماذا قال الثَّوْرُ الأحْمَرُ، حين أحَسَّ أنَّ الأسدَ سيفْتِكُ به؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤