الفصل الرابع

النفس

(٦١) تعريف النفس

(أ) يتضمن كتاب النفس مقالات ثلاث: الأولى مقدمة في علم النفس وحصر مسائله وآراء الفلاسفة وتمحيصها، والثانية في حد النفس بالإجمال وفي النفس النامية والنفس الحاسة، والثالثة قي النفس الناطقة وفي القوة المحركة، وسنجمل في هذا العدد المقالة الأولى والقسم الأول من الثانية، ثم نلخص باقي الأقسام على التوالي، أما «الطبيعيات الصغرى» فنقتبس منها أشياء قليلة في الكلام على المخيلة والذاكرة.

(ب) النفس للجسم الحي بمثابة الصورة والطبيعة لغير الحي أي إنها مبدأ الأفعال الحيوية على اختلافها، فعلم النفس جزء من العلم الطبيعي؛ لأن موضوعه مركب من مادة وصورة، وهو أشرف جزء؛ لأنه يفحص عن أكمل وأشرف صورة من بين الصور الطبيعية، وهو عظيم الفائدة في الفحص عن الحقيقة بأكملها؛ «لأن العلوم العقلية والخلقية إنما تنشأ من رجوع النفس على ذاتها وتعرف أحوالها.» والمنهاج القويم في هذا العلم مزاج من الاستقراء والقياس، فنحن لا ندرك النفس في ذاتها فيجب أن نبدأ بالظواهر النفسية أي الأفعال الصادرة عن الحي من حيث هو كذلك، وهذه الظواهر؛ إذ ترتب ترتيبًا علميًّا تعرفنا بمصادرها المباشرة وهي القوى النفسية، وهذه تعرفنا بالنفس، بل يجب أحيانًا قبل النظر في بعض الأفعال دراسة موضوعاتها، فمثلًا في دراسة القوة الحاسة المحسوس هو الأول الذي يعرفنا بالإحساس، وفي دراسة القوة العاقلة المعقول هو الذي يعرفنا بالتعقل.١

(ﺟ) قلنا: إن علم النفس جزء من العلم الطبيعي، وقد يسلم بذلك من جهة الحياة النباتية، ولكن الأمر يحتاج إلى إيضاح من جهة الحياة الحسية والعقلية لما يبدو من مباينة أفعالهما للمادة مباينة ظاهرة، وأرسطو يقرر أن الانفعالات — مثل الغضب والخوف والرجاء والفرح والبغض والمحبة — لا يمكن أن تصدر عن النفس وحدها، ولكنها تصدر عن المركب من النفس والجسم كما سنبين الآن، وأن الاحساس فعل النفس بمشاركة العضو الحاس المعد لإدراك المحسوس كالعين والأذن، وأن التعقل ولو أنه خاص بالنفس إلا أنه مفتقر للتخيل ولا يتحقق التخيل من غير الجسم، وإذن فجميع الأفعال النفسية في الأجسام الحية متعلقة بالجسم وداخلة في العلم الطبيعي، وسيأتي الدليل على القضيتين الثانية والثالثة (٦٢–ب، ٦٣–ب).

أما الأولى فيدل عليها أولًا أنه في نفس الوقت الذي يحدث فيه انفعال نفسي يحدث تغير في الجسم. وثانيًا أن المرء قد يعرض له ما هو خليق أن يشعره بالخوف أو الغضب فلا يخاف ولا يغضب، ثم تجده أحيانًا أخرى يهتاج لأهون الأسباب؛ لأن جسمه مهتاج أو مجهد، وثالثًا أنه يمكن استشعار الخوف دون أي سبب خارجي مثلما نرى عند العصبيين والسوداويين، فإن الهم والجزع ناشئان عندهم من اختلال الجسم، فإذا كان ذلك فواضح أن الانفعالات صور متحققة في مادة، ويجب أن يشتمل حدها على العنصرين فلا يقال مثلًا على طريقة الجدليين: إن الغضب شهوة الانتقام، ولا على الطريقة المألوفة عند الطبيعيين: إن الغضب غليان الدم حول القلب، بل يجمع بين الحدين فيقال: الغضب توارد الدم إلى القلب مع شهوة الانتقام، وعلى ذلك فليس التعبير الصحيح أن يقال: إن النفس تخاف أو تغضب، بل إن الإنسان يغضب أو يخاف بالنفس، من حيث إن الانفعال يحدث عندما تحكم النفس بأن الحال تدعو إليه، كما أنه لا يصح القول بأن النفس تبني أو تحيك، وإنما يجب أن نقول: إن الإنسان يحيك ويبني بالنفس، ولسنا نقصد بهذا أن الحركة هي في النفس بل إنها تارة تصدر عنها وطورًا تنتهي إليها.٢ فأرسطو يضع النفس والجسم جزأين لجوهر واحد متحدين اتحاد الهيولى والصورة، لا جوهرين تامين كما يفعل أفلاطون، ونظرته في الانفعالات أصدق من نظرة ديكارت ولنج ووليم جيمس وغيرهم من المحدثين الذين يضعون الجسم من جهة والنفس — أو الظواهر النفسية — من جهة ثم يحارون في التوفيق بينهما.
(د) ويستعرض أرسطو الآراء على عادته للإفادة من حقها واجتناب باطلها واستخراج مسائل العلم فيقول: إن الفلاسفة جميعًا لاحظوا أن الحي يمتاز من غير الحي بخاصتين هما الحركة الذاتية والإدراك، فمن قال منهم بمبدإ واحد للأشياء تصور هذا المبدأ متحركًا وعالمًا وجعل النفس شيئًا منه، مثل طاليس وأنكسيمانس وهرقليطس، أو تصور المبدأ متحركًا فقط ثم حاول أن يعلل به الإدراك، مثل ديموقريطس، ومن قال بمبادئ عدة ألف النفس منها جميعًا، مثل أنبادوقليس وأفلاطون؛ لكي تدرك النفس بكل واحد من أجزائها العنصر الشبيه به في الأشياء، ثم إن كثرتهم أضافت للنفس اللطافة والبعد عن كثافة الجسمية ما أمكن.٣ وردود أرسطو طويلة نجتزئ منها بالنقط الآتية: لا يمكن أن تكون النفس جسمًا فإن التخيل والتذكر والإحساس لا تشبه ظواهر النار ولا الهواء ولا أي جسم آخر: إنها إدراك؛ والإدراك غير منقسم لا يتصور له نصف أو ربع، فمحال أن يصدر عن الامتداد المنقسم، ويقال مثل ذلك من باب أولى عن التعقل، يضاف إليه أن الوجدان يرد مختلف الظواهر النفسية إلى الوحدة، فكيف كان يتسنى ذلك لو كانت النفس مجموعة ذرات؟ وكيف كانت النفس تدرك الكثرة لو لم تكن واحدة غير منقسمة؟٤
وإذن فقد أصاب أفلاطون؛ إذ وضع النفس روحية — بالرغم من بعض تعبيراته — ولكنه يعرفها بأنها متحركة بذاتها، ومعنى هذا أنها في المكان بالذات لا بالعرض، والواقع أنها في الجسم وأن الجسم هو الذي في المكان، ثم إن التعقل — وهو عنده الوظيفة الأخرى للنفس — يبدو كأنه سكون لا حركة وبالأخص التعقل الإلهي فإنه دائمًا هو هو دون تعاقب ولا تكرار، وليس يجدي تعريف أفلاطون للنفس في تفسير الحركة البادية في الطبيعة، فإن النفس إذا كانت تتحرك بذاتها فهي تستطيع أيضًا أن لا تتحرك فتصبح الحركة العالمية ممكنة لا ضرورية، ولقد ذهب أفلاطون إلى أن للإنسان نفوسًا ثلاثًا، ولكن هذا التصور يهدم وحدة الحي، فإن الحي لا يستمد وحدته من الجسم، والجسم مفتقر بطبعه لمبدإ يرده واحدًا، والواقع أن النفس واحدة، وأنها كلها في الجسم كله، يقابل أفعالها المتعددة قوى فيها متعددة، يدل على ذلك أن النباتات والحيوانات الدنيا إذا قسمت كان من أقسامها أحياء من ذات النوع، كل منها حاصل على جميع قوى النفس المقسومة قائم بجميع وظائف نوعه، والتعليل الوحيد أن النفس واحدة بالفعل كثيرة بالقوة، ولا يقدح في ذلك أن الحشرات الناتجة عن القسمة لا تعمر، فإن قصر عمرها راجع إلى أن القسمة تضعف فيها آلات البقاء.٥

(ﻫ) وبعد النقد ووضع المسائل يعرض أرسطو تعريفين للنفس، ونحن نمهد لهما بالتقسيمات الآتية مأخوذة من مجموع كلامه وإن لم ترد على هذا الوجه في موضع واحد فنقول: أنواع الحياة ثلاثة: نامية وحاسة وناطقة، والحاس منه ما هو ثابت في الأرض ومنه ما هو متحرك، فتكون درجات الحياة أربعًا: النامية والحاسة والمتحركة بالنقلة والناطقة، ثم إن الحاسَّ والناطق نازع طبعًا إلى الخير الذي يدركه بالحس أو بالعقل، فتكون أجناس القوى النفسية خمسة: النامية والحاسة والناطقة والنازعة والمحركة، ويظهر من هذا أن الحياة والنفس لا تقالان بالتواطؤ بل بالمماثلة، بحيث لا تعد النفس جنسًا تحته أنواع بل شبه جنس؛ لأن كل نفس فهي قائمة برأسها.

نأتي إلى التعريفين: فمن جهة كونها شبه جنس يعرفها بأنها «كمال أول لجسم طبيعي آلي»، وهو يعني بقوله: «كمال أول» أن النفس صورة الجسم الجوهرية وفعله الأول، كما أن قوة الإبصار صورة الحدقة، أما الأفعال الثانية فهي التي تصدر عن المركب بفضل النفس أي هي الحاصلة باستعمال الوظائف، وبقوله: «لجسم طبيعي» أن الجسم الحي يمتاز من الجسم الصناعي الذي ليس له وجود ذاتي، والموجود بالذات أجزاؤه، وبقوله: «آلي» أنه مؤلف من آلات — أعضاء — وهي أجزاء متباينة مرتبة لوظائف متباينة، أما البذرة فهي حي بالقوة البعيدة؛ لأنها قابلة للآلات وللنفس ولكنها خلو منها، وباعتبار أنحاء الحياة يعرف النفس بأنها «ما به نحيا ونحس وننتقل في المكان ونعقل أولًا»، وهذا تعريف بالمعلولات الصادرة عن النفس، وهو أبين بالإضافة إلينا من التعريف الأول المأخوذ من العلة، ولتعدد الأنواع الحية لا تؤخذ واو العطف — «نحيا ونحس و…» — على التركيب؛ بل على التفصيل؛ فإن النفس مبدأ الحياة على جميع أنحائها متى وجدت هذه الأنحاء كلها أو بعضها.٦

(٦٢) النفس النامية والنفس الحاسة

(أ) تقال الحياة أولًا على النامية؛ لأنها مشتركة بين الأجسام الحية جميعًا، فهي موجودة في النبات دون الحس والعقل، ولا يوجد الحس والعقل بدونها في الحيوان الأعجم والإنسان، وللنفس النامية وظيفتان: النمو، والتوليد، والحي ينمو أو يتناقص في جميع أجزائه على السواء، لا كالجماد الذي يزداد في جهة واحدة أعلى أو أسفل يمينًا أو شمالًا، والحي يحيا وينمو ما دام يقبل الغذاء، وليست التغذية مجرد إضافة مادية، وليس نمو الحي ناتجًا عن مجرد فعل العناصر الداخلة في تركيبه كما يزعم أنبادوقليس وديموقريطس، وإنما هذه العناصر مساعدة فقط، والفاعل النفس، والتغذية تمثيل شأنه أن يحول المباين شبيهًا؛ أي إن الغذاء يفقد صورته ويتخذ صورة المغتذي، على أن الغذاء ليس مباينًا بالمرة؛ لأن التغذية لا تتم بأي شيء، ولكنه مباين بالفعل شبيه بالقوة، لذلك نرى الحي يختار مواد معينة يأكلها ويشربها، ويختار في هذه المواد ما يلائمه فيتمثله ويفرز ما لا يلائمه، فالغذاء لحم ودم وعظم بالقوة، والشيء لا يصير كذا بالفعل إلا وهو كذا بالقوة.

ثم إن للنمو والمقدار في المركب الطبيعي حدًّا ونسبة، أما في الصناعي فلا، وليس ينمو الحي اتفاقًا وإلى غير نهاية؛ بل هو يتخذ حجمًا وشكلًا هما هما في كل نوع، والنسبة والحد تابعان للصورة لا للمادة أي للنفس لا للجسم، فإن المادة لا تترتب بذاتها بل بمرتب، وأما التوليد فيحفظ النوع كما أن الاغتذاء يحفظ الفرد «والتوليد مشاركة في الدوام والألوهية بقدر ما يستطيع الكائن المائت، وهذه المشاركة مطلب جميع الموجودات وغاية أفعالها الطبيعية؛ فبالتوليد يبقى الكائن المائت لا هو هو بل شبيهًا بنفسه، لا واحدًا بالعدد بل واحدًا بالنوع.»٧
(ب) والمذهب الآلي عاجز عن تفسير الاغتذاء والتمثيل وتكوُّن الحي في صورة ومقدار معينين وولادة الحي حيًّا شبيهًا به، على أن أرسطو كان يعتقد بالتولد الذاتي في بعض الحيوانات الدنيا أي بتولدها اتفاقًا من الطين أو من مواد متعفنة٨ «بقوة المادة» وقد اضطر إلى هذا الاعتقاد لما كان يبدو من مطابقته للواقع، وهو يريد بالمادة هنا جسمًا ماديًّا له كيفياته لا الهيولى، ويُشبه قوةَ المادة هذه تحدث كائنًا حيًّا من غير جرثومة تحت تأثير الحرارة؛ بقوةِ الجسم المريض يبرأ بحرارة عارضة دون تدخل الطبيب؛ فإن من شأن الطبيب أن يحدث الحرارة بالفن فتعمل الطبيعة على البرء، فإذا ما حدثت الحرارة اتفاقًا قامت الطبيعة بعملها كذلك.
والمذهب الآلي عاجز عن تفسير النفس الحاسة، فإنها لو كانت مؤلفة من مبادئ الأشياء للزم أن الحواس تحس أعضاءها، وأنها تحس في غير حضور المحسوسات من حيث إنها حاصلة على العناصر التي هي موضوع إحساس، والواقع ينقض النتيجتين، والسبب أن العضو ليس هو الحاس بالذات بل بالقوة المتحدة به؛ وأن القوة الحاسة ليست بالفعل بل بالقوة فقط، وتخرج إلى الفعل بتأثير المحسوس؛ فإنها لا تحس دائمًا، حتى اللمس وهو منتشر في الجسم كله لا يؤدي وظيفته دائمًا أو على الأقل لا يحس دائمًا جميع الكيفيات التي يستطيع أن يحسها، ليست إذن القوى الحاسة مادية، ويتبين ذلك أيضًا من أن انفعالها ليس من قبيل الحركة أو الاستحالة المعروفة في الطبيعيات والتي شأنها أن يفسد بها المنفعل شيئًا فشيئًا بتأثير الفاعل، وإنما هو انفعال من نوع آخر ليس له اسم خاص، وليس فيه تدرج، لا يفسد به الحس؛ لأنه قوة صرفة من غير صورة، ولكنه يخرج من القوة فيقبل صورة المحسوس ويتكمل بها مع بقائه هو هو،٩ والعضو نفسه يجب أن يحقق هذا الشرط بالقدر الذي تطيقه المادة، وهو في الواقع نوع من المزاج والوسط بين الأضداد في المحسوسات، بحيث لا يحس إلا ما يزيد عن كيفيته هو، ولأنه وسط فهو يستطيع أن يصير واحدًا من الضدين أي ينفعل به في حين أنه لا ينفعل بما يعادله في الكيفية، إن ما يجب أن يدرك الأبيض والأسود ينبغي أن لا يكون بالفعل لا هذا ولا ذاك بل أنْ يكون كليهما بالقوة، وعضو اللمس لا ينبغي أن يكون بالفعل حارًّا ولا باردًا.١٠
فوضع الحس قوة غير معينة، والعضو وسطًا بين الأضداد، ضروري لفهم الإحساس؛ فإن الإحساس تمثيل كالاغتذاء ولكنهما يفترقان في أن المغتذي يتمثل الغذاء بمادته أي يحيله إلى ذاته بينما الحاس يتمثل بالمحسوس أي يستحيل إلى صورة المحسوس استحالة طبيعية في العضو — كتمثل الشبكية بصورة الشيء — ومعنوية في القوة الحاسة، والاستحالة الطبيعية شرط لإدراك الحس ولكنها غير كافية لتفسير الإحساس؛ فالهواء ينفعل بالرائحة ويصير رائحًا لا مدركًا للرائحة، ونحن هنا بإزاء حالة من حالات اتحاد النفس بالجسم الذي ذكرناه عند الكلام على الانفعالات النفسية بالإجمال (٦١–ﺟ)، والاستحالة المعنوية قبول الحس صورة المحسوس دون مادته كما يقبل الشمع صورة الخاتم دون معدنه «فليس الحجر هو الذي في النفس بل صورته»،١١ ولأن النبات خلو من مثل هذا التوسط بين الأضداد، ومن مبدإ كفيل بقبول صور المحسوسات دون مادتها، فهو لا يحس مع انفعاله بالملموسات كالحرارة والبرودة انفعالًا ماديًّا وانقلابه حارًّا أو باردًا،١٢ ولأن الحس قوة صرفة فالإحساس «موضوعي»: إذا ما تأثر الحس بالصورة المحسوسة أضافها حالًا وبالطبع إلى علتها الخارجية؛ لأنه يشعر باتحاده بهذه العلة ويدرك حضور الشيء طبقًا للمبدأ الذي تقرر في الطبيعة (٥٧–أ) من أن الفعل والانفعال يقومان في المنفعل.
وعلى ذلك فالحس بالفعل والمحسوس بالفعل شيء واحد، وحينما يرن الصوت مثلًا ويسمعه السامع، في هذه اللحظة يحدث معًا الصوت بالفعل والسمع بالفعل، فقول ديموقريطس: إن الإحساس اختراع أو اصطلاح قول باطل؛ لأن الإحساس يقتضي المحسوس كما يقتضي المتحرك المحرك.١٣
(ﺟ) ويدل لفظ المحسوس على ثلاثة أنواع من الموضوعات: اثنان مدركان بالذات والثالث بالعرض، أما الاثنان الأولان فأحدهما المحسوس الخاص لكل حاسة، والآخر المحسوس المشترك بين الحواس جميعًا، ونعني بالمحسوس الخاص ذلك الذي له حاسة معينة معدة لقبوله بحيث لا تستطيع حاسة أخرى أن تحسه، والذي يمتنع الخطأ فيه متى كانت الحواس سليمة ولم تؤثر فيها المخيلة والشهوة: فاللون محسوس البصر، والصوت محسوس السمع، والطعم محسوس الذوق، أما اللمس فله موضوعات عدة «الحار والبارد، اليابس والرطب، الأملس والخشن، الصلب واللين» فهو مجموعة حواس، وإن أخطأ الحس فليس يخطئ في موضوعه أي في اللون أو الصوت مثلًا بل في ماهية الشيء الملون أو الصائت وفي مكانه؛ فإن الحس إنما ينفعل بالشيء لا من حيث إن هذا الشيء هو شيء معين بل من حيث إن له كيفية معينة هي التي تؤثر في الحس، وأما المحسوسات المشتركة فهي: الحركة والسكون والعدد والشكل والمقدار، تدركها الحواس جميعًا وتدركها بالحركة فمثلًا نحن ندرك المقدار بحركة اليد أو بحركة العين تطوف به؛ غير أن اليد تدركه بواسطة الصلابة وتدركه العين بواسطة اللون، وبإدراك المقدار ندرك الشكل؛ إذ إن الشكل حد المقدار، وندرك السكون بعدم الحركة، وندرك العدد باليد أو بالعين تحسان أشياء منفصلة، وأخيرًا المحسوس بالعرض؛ فهو مثل أن ندرك أن هذا الأبيض ابن فلان، فإن هذا الإدراك الثاني محسوس بالعرض؛ لاتصاله عرضًا بالأبيض، ولأن الحس لا ينفعل به من حيث هو كذلك.١٤
وهذا التقسيم أوفى وأدق من التقسيم الذي أذاعه جون لوك إلى كيفيات أولية هي المحسوسات المشتركة مضاف إليها المقاومة — الصلابة — وكيفيات ثانوية هي المحسوسات الخاصة ما عدا المقاومة، فإن لوك قسمها إلى ما هو موضوعي وما هو غير موضوعي في اعتباره، وأما أرسطو فقد اعتبرها كلها موضوعية وقسمها بحسب إدراكنا إياها، وقد رأينا أن المحسوسات المشتركة تدرك تبعًا للمحسوسات الخاصة فكيف تكون هذه ذاتية وتكون تلك موضوعية؟ وكيف تكون المقاومة موضوعية وتكون باقي المحسوسات الخاصة ذاتية وكلها محسوسة على السواء؟ ثم إن لهذا التمييز الدقيق بين أنواع المحسوسات أهمية كبرى في تقدير ما يسمى عادة بخطأ الحواس وما هو في الحقيقة خطأ تأويل أو تصديق حاسة في غير موضوعها الخاص، ونحن نصحح الأخطاء بسهولة: نصحح الإحساس الحاضر بالتجربة السابقة، مثل ما نصحح إحساسنا حركة الشاطئ ونحن في السفينة بعلمنا أن الشاطئ غير متحرك فنحكم بأن السفينة هي التي تتحرك، ونصحح الإحساس الحاضر بالتجربة الحاضرة، مثل ما إذا حركنا بين الأصابع شيئًا من لب الخبز فنحسه بعد برهة اثنين ولكن البصر لا يرى سوى واحد، ونصحح الإحساس بالعقل والبرهان؛ فإننا نعلم بالعقل أن الشمس لكي ترسل أشعتها على الأرض كلها يجب أن تكون بعيدة جدًّا، ولكي تنطبع صورتها على العين مع بعد المسافة يجب أن تكون عظيمة المقدار، فليست هي إذن بالمقدار الذي يراه البصر.١٥
(د) والحواس آلات حياة كما أنها آلات إدراك، وهي تترتب من هذين الوجهين ترتيبًا عكسيًّا: فباعتبارها مدركة، البصر أول؛ لأنه يظهرنا على موضوعات أكثر، خاصة ومشتركة وبالعرض، وعلى فوارق أكثر؛ فإن الأشياء جميعًا ملونة ومن ثَمة داخلة في نطاقه، والسمع في المحل الثاني؛ لأنه وسيلة التفاهم والتعليم والترقي، وكان يفضل البصر من هذه الناحية ويتقدم عليه لولا أن هذا الفضل ليس له بالذات بما هو حس الأصوات، ولكنه يرجع إلى العقل الذي يدرك دلالات الأصوات، ثم الشم لمشابهته البصر والسمع في بعد علته عن جسم الحاس، وأخيرًا الذوق فاللمس؛ والسبب واضح مما تقدم.١٦ وبالنظر إلى أهمية الحواس في حفظ حياة الحيوان، اللمس أول؛ لأنه ضروري بالإطلاق لوجود الحيوان، وهو ما من أجله يقال للحي: إنه حساس، يدرك به النافع والضار واللاذ والمؤلم؛ فهو أساس النزوع من طلب وهرب، وهو حاسة الطعام والشراب؛ لأنه حاسة الحار والبارد والرطب واليابس وهي كيفيات المأكول والمشروب، أما سائر الحواس فلا تفيد الوجود بل كمال الوجود؛ لذلك قد لا توجد في بعض الحيوان مع وجود اللمس، أضف إلى ذلك أنه أساسها جميعًا فهو منبث في الجسم كله وهي مركبة عليه، ويليه الذوق؛ لأنه مرتب كذلك لحفظ الحيوان ولا غنى عنه، ثم الشم فإنه أقل ضرورة منهما، أما البصر والسمع فهما من هذه الوجهة كماليان، ولئن ظهرت لهما فائدة حيوية في الحيوانات العليا فذلك بالعرض لا بالذات.١٧
(ﻫ) وبعد الحواس الظاهرة الحواس الباطنة وهي: الحس المشترك والمخيلة والذاكرة،١٨ فأما الحس المشترك فله ثلاث وظائف؛ الأولى: إدراك المحسوسات المشتركة — بما فيها الزمان — والمحسوسات بالعرض، فإن هذا الإدراك يستعين بالتخيل والتذكر فلا بد من قوة واحدة يلتقي عندها الإحساس الظاهر والتجربة السابقة وتكون الصلة بينهما. الوظيفة الثانية: إدراك الإدراك أي الشعور، فبالحس المشترك يدرك الإنسان نفسه رائيًا أو سامعًا … إذ إن الحس لا ينعكس على ذاته لارتباطه بعضو مادي، وليس فعله من جنس موضوعه حتى يدركه؛ فالرؤية ليست ملونة ولا السمع صائتًا وهكذا، فلا بد أن تنتهي الحواس الظاهرة إلى مركز مشترك. والوظيفة الثالثة: التمييز بين المحسوسات في كل حس باعتباره جنسًا كالتمييز بين الأبيض والأخضر والحامض والمالح، وبين موضوعات الحواس المختلفة كالتمييز بين الأبيض والحلو مثلًا؛ فإن هذا التمييز لا يمكن أن يصدر عن الحواس أنفسها؛ إذ إن كلًّا منها معين إلى موضوع، فيجب أن يصدر عن قوة واحدة تجتمع عندها الإحساسات فتضاهي بينها، أما مركز الحس المشترك فهو عند أرسطو القلب، وحجته في ذلك أن شرط الإحساس الحرارة، والقلب هو الذي يوزع الحرارة مع الدم في أطراف الجسم.١٩
(و) ويترك الإحساس أثرًا يبقى في قوة باطنه هي المخيلة فتستعيده وتدركه في غيبة موضوعه؛ فالتخيل إحساس ضعيف، وبينهما فوارق؛ الأول: أن الإحساس متعلق بالشيء، والتخيل مستقل عنه. الثاني: أن الإحساس صورة مطابقة للشيء، وقد يكون التخيل اختراعًا أي تأليفًا، وهو كذلك إما عفوًا كما في الحياة الحسية المشتركة بين الحيوان والإنسان، وإما بالتفكير عند الإنسان وحده. الفارق الثالث: أن الإحساس مفروض علينا، والتخيل تابع للإرادة في موضوعه وفي زمنه نتخيل ما نشاء ومتى نشاء، والمخيلة تساعد على تأويل الإحساس الحاضر بالصور المحفوظة فيها، وهي التي تكوِّن «الصور اللاحقة» إيجابية وسلبية، مثال ذلك: إذا تأملنا مدة من الزمن لونًا ما أبيض أو أخضر ثم حولنا البصر إلى شيء فإنا نرى هذا اللون منبسطًا على الشيء، وإذا حدقنا في الشمس أو في لون ساطع ثم أغمضنا العينين فإن هذا اللون يبدو إلى الأمام في الاتجاه المعتاد للبصر؛ ثم ينقلب قرمزيًّا فأرجوانيًّا فأسود ثم يتلاشى، والتعليل أن التأثير القوي ينتشر في العضو كله ويتمكن فيه ويعاند التأثيرات الأخرى. وللمخيلة شأن كبير في الأحلام فهي المصدر الذي تنبعث منه صور الإحساسات السابقة فتظهر في النوم وتخدع الحالم؛ لأن ذهنه منصرف عن كل شاغل خارجي ولا يستطيع ما يستطيعه اليقظان من مراجعة حاسة بأخرى، وكذلك القول في التخييل في حالة المرض أو الانفعال القوي فإنهما يهيجان الصور فتجتمع وتفترق فتخيل أشياء كثيرة.٢٠
(ز) والذاكرة قائمة على المخيلة؛ فإن الذكر ممتنع من غير التخيل، وهما في بعض الحالات يتشابهان إلى حد يتعذر معه التفريق بينهما، غير أنهما يفترقان في أن المخيلة تقتصر على إدراك الصورة بينما الذاكرة تدرك أن هذه الصورة هي صورة شيء قد سبق إدراكه، فهي تتعلق بالماضي، ومما يدل على تمايزهما أنه قد توجد في الذهن صورة فنعتبرها مجرد صورة، وهي صورة شيء عرض لنا في الماضي، وقد توجد في الذهن صورة هي مجرد صورة فنظنها مذكورة، والذاكرة قد تؤدي وظيفتها عفوًا وقد تستحثها الإرادة، ويسمى هذا النوع الثاني تذكرًا وهو خاص بالإنسان؛ لأنه يستلزم التفكير، وتستعين الإرادة فيه بالحركات النفسية التي صاحبت الإحساس وبالحركات البدنية أيضًا — المخية — فإن هذه وتلك مسلسلة يتبع لاحقها سابقها على حسب قوانين معينة، كما يتبين إذا أردنا أن نتذكر جملة أو بيتًا من الشعر فإنا نأخذ في ترديد اللفظة الأولى ولا نزال في ذلك حتى نظفر بالكل، فالذكر والتذكر متوقفان على تداعي أو ترابط الصور والحركات، وعلاقة اللاحق بالسابق إما ضرورية كالعلاقة بين العلة والمعلول فإن كلًّا منهما يذكر بالآخر، وإما ناشئة بالعادة وهو الأغلب، وفي هذه الحالة اللاحق إما شبيه السابق وإما ضده وإما قرينه في الملاحظة الأولى، وكلما تكرر التداعي توثقت العلاقة بين الطرفين فننتقل من الواحد إلى الآخر عفوًا بفعل العادة، وأحيانًا تنشأ العادة من غير تكرار متى كان الإحساس قويًّا أو اهتمامنا به شديدًا.٢١

(٦٣) النفس الناطقة

(أ) ارتأى الأقدمون أن العقل نوع من الحس وأنه قوة جسمية بحجة أن العقل يدرك الجسميات وأن الشبيه يدرك الشبيه، ولكن هذا القول الأخير لا يمكن إطلاقه؛ إذ إن الإدراك الخاطئ ليس إدراك الشبيه، ثم إن جميع الحيوان يحس ولكن أقله يعقل وهو الإنسان، وإذن فليس التعقل والحس واحدًا؛ وإلا لكان جميع الحيوان يعقل من حيث إن جميعه يحس. ويمتاز العقل من المخيلة أيضًا، فإن التخيل متعلق بإرادتنا كما ذكرنا أما الحكم على الأشياء — وهو فعل العقل — فلا يتعلق بالإرادة؛ إذ إنه صادق أو كاذب بالضرورة أما الصورة فلا، ونحن حينما نحكم على شيء بأنه مخيف نشعر بالخوف، ولكنا بإزاء الصورة المخيفة مرسومة قد لا ننفعل أو ننفعل قليلًا جدًّا، وعلى كل حال فالانفعال غير مصحوب بتصديق،٢٢ هذا إلى أن العقل يدرك الصورة الكلية أي الماهية، بينما الحس يدرك الصورة الجزئية أي العوارض المتشخصة فيها الماهية، والعقل قوة صرفة كالحس وإلا لما استطاع أن يتعقل الموضوع كما هو؛ إذ لو كانت له صورة أو كيفية خاصة لحالت دون الصورة المعقولة أن تتحقق فيه، فطبيعته أنه بالقوة، كاللوح لم يكتب فيه شيء بالفعل، غير أنه أمعن من الحس في معنى القوة؛ إذ إنه يدرك ماهيات الأشياء جميعًا في حين أن الحس لا يدرك سوى المحسوسات من حيث هي كذلك، فالعقل «مفارق» أي ليس له عضو يعينه إلى موضوع ويشاركه في فعله، وهذه المفارقة تفسر لنا أيضًا كيف أن انفعاله يختلف عن انفعال الحس فإن الحس لا يستطيع الإدراك بعد الثأثير العنيف، كالسمع لا يدرك الصوت بعد أصوات قوية ولا يدرك البصر والشم بعد ألوان ساطعة وروائح شديدة، أما العقل فبالعكس يستطيع بعد تعقل موضوع شديد المعقولية أن يتعقل موضوعات أدنى معقولية، والسبب في ذلك أن الحس لاتحاده بعضو يتأثر بفعل الشيء فيه بينما العقل مفارق لكل عضو وغير منفعل انفعالًا طبيعيًّا كالحس. ويلي هذه القوة الصرفة قوة أقرب؛ فإن العقل بعد أن يخرج إلى الفعل يحفظ صورة الموضوع الذي تعقله ويستطيع أن يستعيدها، فهو بالإضافة إلى هذه الاستعادة بقوة أقرب إلى الفعل من القوة الأولى السابقة على العلم — ويسمى حينئذ عقلًا بالملكة — والعقل يدرك الماهيات مباشرة ويدرك الجزئيات المتحققة فيها الماهيات بانعكاسه على الحس الذي هو مدرك الجزئيات بأعراضها، فالعقل يدرك الكليات والجزئيات جميعًا، ولكن باختلاف، فهو يدرك ماهية الماء ويدرك أن هذا المعلوم بالحس ماء،٢٣ وباعتباره مدركًا للماهيات في أنفسها يسمى عقلًا نظريًّا، فإذا ما حكم على الجزئيات بأنها خير أو شر فحرك النزوع إليها أو النفور منها سمي عقلًا عمليًّا، والفرق بين الحس والعقل من هذه الجهة أن الحس يدرك اللاذ أو المؤلم في حقيقتة المتشخصة، والعقل العملي يدرك الخير والشر من حيث هما كذلك وهما معقولان كالحق والباطل.٢٤
(ب) والمعقولات موجودة بالقوة في الصور المحسوسة، سواء المجردات الرياضية والكيفيات الجسمية — لا مفارقة كما ذهب إليه أفلاطون — لهذا لا يمكن التعلم أو الفهم من غير الإحساس، فإن المحروم حاسة محروم المعارف المتعلقة بها، ولهذا يجب أن تصاحب التعقل صورة خيالية، ولو أن التخيل متمايز من الإيجاب والسلب كما قدمنا، وليست المخيلة مشاركة للعقل في تعقله كمشاركة العين لقوة الإبصار، وإنما هي لازمة لتقديم مادة التعقل.٢٥
ولما كان العقل بالقوة فلا بد من شيء بالفعل يستخلص المعقولات من الماديات ويطبع بها العقل فيخرجه إلى الفعل، وهذا الشيء بالفعل هو «العقل الفعال»، ولم ترد هذه التسمية في كتب أرسطو كما أنه لم يقل «العقل المنفعل» سوى مرة واحدة سنشير إليها فيما بعد ونبين أنه أراد بهذا التعبير شيئًا آخر غير العقل الذي يخرج من القوة إلى الفعل والمذكور هنا، والتسميتان من الشراح وضعوهما بناء على ألفاظ أرسطو ومذهبه العام، ونظرًا لأهمية هذا البحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية ولغموض كلام أرسطو في مواضع رئيسية غموضًا كان مثار جدل كثير منذ زمان طويل، نترجم هنا عباراته ثم نعود إليها بالشرح، قال: «يجب أن يكون في النفس تمييز يقابل التمييز العام بين المادة وبين العلة الفاعلية التي تحدث الصور في المادة. وفي الواقع نجد في النفس من جهة واحدة العقل المماثل للمادة من حيث إنه يصير جميع المعقولات، ومن جهة أخرى العقل «المماثل للعلة الفاعلية»؛ لأنه يحدثها جميعًا، وهو بالإضافة إلى المعقول كالضوء بالإضافة إلى الألوان يحولها من ألوان بالقوة — في الظلمة — إلى ألوان بالفعل، وهذا العقل «الفعال» هو القابل للمفارقة، وهو غير منفعل «أصلًا» غير ممتزج بمادة؛ لأن ماهيته أنه فعل، والفاعل أشرف دائمًا من المنفعل، والمبدأ — العلة — أشرف من المادة … وبعد أن يفارق يعود ما هو بحسب ماهيته، وهو وحده من حيث هو كذلك خالد ودائم، غير أننا لا نتذكر «في حال المفارقة»؛ لأنه غير منفعل بينما العقل المنفعل فاسد، ومن غير هذا فليس شيء يفكر.»٢٦

نقول: يؤخذ من هذا النص أولًا أن في النفس عقلًا مماثلًا للمادة، ولهذا السبب سمي بالهيولاني وبالمنفعل لا لكونه ماديًّا، وعقلًا مماثلًا للعلة الفاعلية هو الفعال، وهو في النفس أيضًا بدليل قوله: «نجد في النفس» وقوله: «وبعد أن يفارق» فلا سبيل إلى القول مع إسكندر الإفروديسي أنه الله، ولا إلى اعتبار ابن سينا وابن رشد معبرين عن فكر أرسطو؛ إذ يجعلان العقل الفعال مفارقًا للإنسان. ويؤخذ ثانيًا أن العقل الفعال يجرد الصور المعقولة ويتيح للمنفعل أو الهيولاني أن يتحد بها كما يتحد الحس بموضوعه، فالهيولاني أو المنفعل هو المتعقل وأما الفعال فهو المجرد، وهذا طبقًا للمبدأ العام «أن ما هو بالقوة يصير بالفعل بتأثير شيء هو بالفعل.» وقوله: «قابل للمفارقة» هو المقصود لا «مفارق» بالفعل، ولو أن اللفظ اليوناني يحتمل المعنيين؛ وذلك لما أوضحناه الآن، ولقول أرسطو: «وبعد أن يفارق»، مما لا يدع مجالًا للشك، وقوله: «هذا العقل هو» يشعر أن العقل الفعال وحده قابل للمفارقة دون العقل المنفعل، ولكنه قال عكس ذلك في الفصل السابق، فالمراد: «وهذا العقل أيضًا»؛ لأن السبب واحد من الجهتين، وهو أن إدراك العقل للمجردات يستلزم أن يكون هو مجردًا، غير أن قوله: «والفاعل أشرف من المنفعل» يدل على مفاضلة بين العقلين وتفضيل الفاعل على المنفعل وهذا إشكال، أو هو يدل على أنه إذا كان المنفعل مفارقًا، فالفعال أحرى أن يكون مفارقًا من حيث إنه أشرف، وقوله: «غير منفعل» يعني أنه دائم بالفعل وليس فيه شيء بالقوة يتطلب التحقيق، وقوله: «غير ممتزج بمادة»، يعني أنه غير متحد بعضو ولكنه يعمل دون عضو.

(ﺟ) والعبارات التالية خاصة بالخلود، ولقد كان أرسطو مقلًّا في هذه المسألة بخلاف أفلاطون، ويا ليته كان صريحًا مع هذه القلة! يقول: «وبعد أن يفارق يعود ما هو بحسب ماهيته» أي إن العقل الفعال ولو أنه غير منفعل إلا أن اتصاله بالجسم يُظلم طبيعته فلا يستعيد صفاءها إلا بانتهاء هذا الاتصال، ويقول: «وهو وحده خالد»، فكأنه ينفي الخلود عن المنفعل وقد سبق له عكس ذلك، وفي نصوص أخرى سنذكرها الآن يثبت بقاء العقل من غير تمييز بين منفعل وفعال، ثم يقول: «غير أننا لا نتذكر؛ لأنه غير منفعل» ويعني أن العقل الفعال لما كان غير منفعل فليس يحفظ أي أثر من ظروف الحياة، فإذا ما فارق انعدمت الذاكرة؛ لأن «الفكر كالمحبة والبغض ليس انفعال العقل بل انفعال الشخص، لهذا حين يفسد الشخص لا تبقى ذكرى ولا صداقة.»٢٧ وهنا دليل آخر على أن أرسطو لم يكن يرى العقل الفعال مستقلًّا عن النفس وخالدًا وحده، فإنه يقول: «غير أننا لا نتذكر» يقصد النفس كلها وإلا فإن مثل هذا التأويل يؤدي إلى وضع صورتين في الجسم الإنساني هما النفس مبدأ الحياة والعقل الفعال مبدأ التعقل، وهذا ينافي مذهب أرسطو منافاة صريحة في أن الموجود الطبيعي واحد بصورته الواحدة، ويقربه من رأي أفلاطون في النفوس الثلاث وقد أنكره أرسطو (٦١–د) وهو إنما يريد، كما قد دل على ذلك في غير ما موضع، أنه كما أن النفس كلها صورة الجسم كله، فإن قوى النفس صور لأجزاء الجسم — كقوة الإبصار فهي صورة الحدقة — وقوى النفس لا تبقى «فاعلة» بعد فساد مادتها إلا العقل «بالإطلاق» فهو باقٍ؛ لأنه ليس صورة لمادة.٢٨ نعود إلى كلامه فنجده يقول: «بينما العقل المنفعل فاسد» وهذا هو الموضع الوحيد الذي يذكر فيه «العقل المنفعل» فليس يصح تقييده بلفظ لم يطلقه هو صراحة على ما سمي بعده بالعقل المنفعل؛ لذلك يذهب بعض الشراح إلى أن العقل المنفعل المذكور هنا إنما المقصود به المخيلة وهي قوة للمركب وتسمى عقلًا بالمشاركة من جهة أنها تطيع العقل وتتبع إشارته، ومن جهة أن العقل يعتمد على ما تقدمه إليه من الصور الجزئية يجرد منها المعقولات،٢٩ وأرسطو نفسه يقول عن التخيل: إنه نوع من التعقل.٣٠ ويقول ابن سينا: «وهذا الشيء يسمى … عقلًا فعالًا كما يسمى العقل الهيولاني بالقياس إليه عقلًا منفعلًا أو يسمى الخيال بالقياس إليه عقلًا منفعلًا آخر.»٣١ سيما وأن أرسطو قد أثبت أن العقل بالإطلاق غير فاسد، ورد على الاعتراض المأخوذ من ضعف الفكر في الشيخوخة بأنه ناشئ لا من انفعال النفس بل من انفعال الشخص القائمة فيه كما يحدث في السكر والمرض، وأن مثل العقل كمثل الحس، فالشيخ إن استعاد عينًا جيدة أبصر كالشاب، وإذن ففعل العقل يضعف بفساد — أو بضعف — عضو باطن، أما العقل في ذاته فغير منفصل.٣٢

أو يمكن تفسير النص الذي نحن بصدده بأن فعل التعقل ينتهي لارتباطه بالتخيل وامتناع التخيل بفساد الجسم، أما العقل نفسه فباقٍ، والعبارة الأخيرة «ومن غير هذا فليس شيء يفكر» يدل ظاهرها على أن «هذا» يعود على العقل المنفعل المذكور قبله مباشرة «ويستقيم المعنى أيًّا كان المراد بالعقل المنفعل»، ولكن بعض الشراح يرده إلى العقل الفعال ويضع الجملة السابقة بين قوسين، وهذا التاويل وتأويلات أخرى كثيرة إنما اصطنعها الناظرون في هذا الموضع من المقالة الثالثة؛ لغموض أقوال أرسطو واضطرابها، وقد حاولنا أن نوضحها ونلائم بينها بقدر الإمكان.

(د) تبقى مسألة أصل هذا العقل الخالد — أو النفس الناطقة — ونحن نجد عند أرسطو قولًا فيها متفقًا مع رأيه في مباينة العقل للمادة وسموه عليها وإن كان يعوزه بعض البيان: هذا القول هو: «أما العقل فيلوح تمامًا أنه يأتي فينا وهو حاصل على وجود ذاتي وغير فاسد»٣٣ بينما سائر الصور الطبيعية تخرج من «قوة المادة» وتعود إليها، ولسنا نستطيع أن نقول: إن النفس الناطقة مخلوقة؛ فإن أرسطو لم يعرف فكرة الخلق، ولا أن نقول بالتناسخ؛ لأنه يلح في أن العلل الفاعلية فقط لها وجود سابق على معلولاتها أما العلل الصورية فمساوقة لمعلولاتها في الوجود، وأن كل ما يمكن الفحص عنه هو بقاء الصورة بعد انحلال المركب لا سبقها على تأليفه،٣٤ وإذن فمن أين يأتي العقل؟ المسألة معلقة.
١  م١ ف١، وم٢ بداية ف٤.
٢  م١ ف١ وف٤.
٣  م١ ف٢.
٤  م١ ف٣ وف٥.
٥  م١ ف٥ ص٤١١ ع ا س٢٦ وما بعده. وم٢ ص٤١٣ ع ب س١٣ وما بعده.
٦  عن التعريف الأول: م٢ ف١، عن الثاني: م٢ ف٢.
٧  م٢ ف٤ «وهو الخاص بالحياة النامية» ص٤١٥ ع ا وب.
٨  تكوين الحيوان م٣ ف١١ ص٦٧٢ ع ا س٨. وما بعد الطبيعة م٧ ف٧ ص١٠٣٢ ع ا س٣٠ وف٩ ص١٠٣٤ ع ب س٤–٦.
٩  م٢ ف٥.
١٠  م٢ ف١١. ويقال مثل ذلك في سائر الحواس.
١١  م٣ ف٨ ص٤٣١ ع ب س٣٠.
١٢  م٢ ف١٢.
١٣  م٣ ف٢ ص٤٢٥ ع ب س٢٥–٣٢ وص٤٢٦ ع ا س١٥–٢٧.
١٤  م٢ ف٦ وم٣ ف١ ص٤٢٥ ع ا س١٥–٢٠. وما بعد الطبيعة م٤ ف٥ ص١٠١٠ ع ب س٢–٢٨.
١٥  كتاب تعبير الرؤيا في الأحلام ف٢.
١٦  م٢ ف٧–١١ في مواضع متفرقة.
١٧  م٣ ف١٢. ويقول بعض العلماء الآن: إن الحواس تظهر في الجنين على هذا الترتيب.
١٨  هنا تبدأ المقالة الثالثة باليونانية، ولكنها عند العرب وبعض اللاتين لا تبدأ إلا بالفصل الرابع في اليونانية؛ أي إن المقالة الثانية عندهم تحوي كل الكلام على الحواس الباطنة وتبدأ الثالثة بالكلام على العقل.
١٩  م٣ ف١ وف٢.
٢٠  م٣ ف٣ ص٤٢٨ ع ب س١٠ وما بعده. كتاب تعبير الرؤيا في الأحلام ف١–٣.
٢١  كتاب الذكر والتذكر.
٢٢  كتاب النفس م٣ ف٣.
٢٣  م٣ ف٤. وإدراك العقل للجزئيات مذكور في ص٤٢٩ ع ب س١٠–٢٤ من هذا الفصل، ولكن النص غامض جدًّا، وقد عولنا على نص أصرح وارد في ف٧ ص٤٣١ ع ب س١–٢٠.
٢٤  م٣ ف٧ من ص٤٣١ ع ب إلى نهاية الفصل.
٢٥  م٣ ف٨ وم١ ف١ ص٤٠٣ ع ا س٦–١٠.
٢٦  م٣ ف٥.
٢٧  م١ ف٤ ص٤٠٨ ع ب س٢٦–٣٠.
٢٨  م٢ ف١ ص٤١٣ ع ا س٤ وم٢ ف٢ ص٤١٣ ع ب س٢٤.
٢٩  ثامسطيوس ويتابعه القديس توما في شرحه على كتاب النفس م٣ درس١٠.
٣٠  م٣ بداية ف١٠.
٣١  كتاب النجاة ص٣١٥-٣١٦.
٣٢  م١ ف٤ ص٤٠٨ ع ب س١٨–٢٦.
٣٣  م١ ف٤ ص٤٠٨ ع ب س١٨، وفي كتاب «تكوين الحيوان» م٢ ف٣ ص٧٣٦ ع ب س٢٨: أن العقل الفعال يأتي من خارج ويحل في الجنين.
٣٤  ما بعد الطبيعة م١٢ ف٣، وتكوين الحيوان في الموضع المذكور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤