الفرائضُ والعباداتُ

الفريضة الدينية أدب يراد به صلاح الفرد أو صلاح الجماعة.

ومن محاسن الفرائض الإسلامية أن كل فريضة منها تؤدي إلى المقصدَيْنِ، وتُجعل لإنسان ذي ضمير، ولجماعة ذات ضمير.

فصلاة الجماعة — في يوم الجمعة — واجب على المسلمين مقدم على البيع والشراء ومطالب المعاش: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ.١

نعم، خير من مطالب المعاش، ولا شك أن تعلو الجماعة سرًّا وعلانية — في يوم من الأيام — عن صغائر الشح والجشع وهموم الدنيا؛ لتخرج من ضيق هذه الشواغل المحصورة، وتعرف لحياتها غايةً أرفعَ من هذه الغاية، وقسطاسًا أقومَ من هذا القسطاس، وتذكر ما ينفعها ذِكْرُهُ كلما استغرقها ذكر المنافع والغوايات، وترى عظماءها وصغراءها معًا في ساحة واحدة، بين يدي العظمة الإلهية التي تطامن من كبرياء العظيم، وترفع من رجاء الصغير.

وإذا صلى المسلم منفردًا في سائر الأيام فهو في انفراده لا يغيب عنه شعوره بآصرة القربى بينه وبين الجماعة الإسلامية في أقطار الأرض من شمال إلى جنوب ومن مشرق إلى مغرب؛ لأنه يعلم أنه في تلك اللحظة يتجه وجهة واحدة مع كل مسلم على ظهر الأرض يؤدي فريضة الصلاة، ويستقبل معه قبلة واحدة، ويدعو بدعاء واحد، وإن تباعدت بينهم الديار.

وحسبه أن يقف بين يدي الله خمس مرات من مطلع الشمس إلى مغيبها؛ لتمتزج حياته بالعنصر الإلهي، ويتمثل الوازع الأعلى نصب عينيه ما بين كل صلاة وصلاة … إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ،٢ ولا شيء أقمن بالنهي عنهما من الشعور بوزرهما كلما تمرست النفس بالدنيا بضع ساعات من ليل أو نهار.

•••

والزكاة مصلحة للجماعة؛ لأنها تقيم دعائم التعاون بين المجدودين والمحرومين، وتعالج مشكلة الفقر والحاجة علاجًا يقوم على التعاطف والولاء بين من يعول ومن يعال، وهي إلى هذا رياضة للنفس يأخذ منها الواهب كما يأخذ الموهوب؛ لأنها تعودها نبل التضحية بالمال العزيز على النفوس، وتعلمها مغالبة الحرص والسماح بالبذل والإيثار، وتلقي في روعها أنها مسئولة عن غيرها فيما تكسبه بسعيها وتدبيرها، فتشعر بتكافل الجماعة شعورًا يخرجها من ضيق الأثرة والانفراد.

•••

والحج «مؤتمر عالمي» يعقده المسلمون مرة في موعده المعلوم من كل عام، يجتمعون فيه إلى صعيد واحد، فيتعارفون ويتشاورون، ويفضي بعضهم إلى بعض بما يعلمون من أحوالهم وما يشكون من متاعبهم ورزاياهم، ويستعيدون ماضيهم كرة بعد كرة، فلا يصبرون طويلًا على حاضر دون ذلك الماضي العظيم، ونعم العمل المشترك عمل لا ينقطع عامًا من الأعوام، ولا يزال حافزًا للهمم باعثًا للذكرى كلما تجدد على مر السنين.

أما الفرد فله من الحج رياضة على المشقة ومنشط من طول اللبث والجمام، وعلم بما يجهله المقيم في مكانه، وهو علم يستفاد من السياحة ولا يستفاد من غيرها، ويحث عليه القرآن الكريم؛ لأنه يفتح البصائر والقلوب، ويقشع عمى الأبصار، وحجاب الأسماع: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.٣

والصيام في مظهره الاجتماعي يعطينا مظهر أسرة عظيمة — من مئات الملايين — تنتشر في جوانب الأرض وتقترن شعائرها الدينية كل يوم بأمس ما يحس الإنسان في معيشته اليومية؛ وهو أمر الطعام والشراب ومتع الأجساد؛ ملايين من الناس في جوانب الأرض يطعمون على نظام واحد ويمسكون عن الطعام على نظام واحد، ويستقبلون ربهم على نظام واحد، وقلما انتظمت أسرة بين جدران بيت على مثل هذا النظام.

أما الفرد فيستفيد منه خير ما يستفيده الإنسان في حياته الروحية أو حياته الخلقية؛ وهو ضبط النفس وشحذ عزيمتها وقدرتها على الفكاك من أسر العادات وتطويع الجسد لدواعي العقل والروح.

والصيام الإسلامي هو أجدى ضروب الصيام في تحقيق هذا المقصد؛ لأنه يجدد القدرة على ذلك كل يوم مدى شهر من شهور السنة، ولا يكون قصاراه نقلة واحدة من عادة شهور إلى عادة شهور.

ويقول بعض المتعللين بقواعد الصحة: إن الصيام على هذا النحو يخل بوظائف الهضم وما يتصل بها من الوظائف الجسدية! وهو قول لا يؤيده الواقع المشاهد في اختلاف أحوال البنية الحية في تدبير طعامها وشرابها على اختلاف المنبت والإقليم وعادات المعيشة، وما رأينا الناس قد احتاجوا قط إلى تربية اجتماعية قوية أو تربية فردية عالية، إلا كان قوامها ترويض الجسد على طعام غير طعامه المألوف وتعريضه لطوارئ من تقلبات الجو وتقلبات المعيشة غير التي تعَرض لها ونشأ عليها، كذلك تربى الجيوش، وكذلك يربى الملوك والأمراء.

وتلحق «بفكرة» الفرائض الدينية فكرة العيدين في الإسلام؛ وهما: عيد الفطر، وعيد الأضحى، فعيد الفطر تحية للواجب، وعيد الأضحى تحية للفداء، وليس للنفس الإنسانية غاية من الأدب بعد رياضتها على الواجب ورياضتها على الفداء.

ومدار هذه الفرائض كلها على السماحة واليسر لا على العسر والإرهاق.

وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.٤  وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.٥  يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.٦

تلك رءوس الفرائض التي تعلمها المسلمون من كتابهم.

•••

إن كانت للجماعة البشرية عقيدة دينية فلا بد للعقيدة الدينية من شعائرَ، وليس بين هذه الشعائرِ ما هو خير للمعتقدين من شعائر الإسلام.

١  الجمعة: ٩.
٢  العنكبوت: ٤٥.
٣  الحج: ٤٦.
٤  آل عمران: ٩٧.
٥  الحج: ٧٨.
٦  البقرة: ١٨٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤