الأسبابُ والخَلق

من المتفق عليه اقتران الحوادث بالأسباب، يقول بذلك العلماء والفلاسفة كما يقول به عامة الناس في أقوالهم التي تجري مجرى العادة.

فالأسباب موجودة لا خلاف فيها من أحد، ولكن الخلاف الأكبر في السبب: ما هو؟ وماذا يعمل؟ وهل الأسباب العاملة عنصر مستقل في الكون، والحوادث المعمولة عنصر آخر يخالفه في الكنه والقوة؟ وهل السببية قوة تنتقل بين الأشياء والحوادث، أو هي قوة خاصة ببعض الأشياء والحوادث؟

لكل شيء سبب، ما في ذلك خلاف.

ولكن ما هو السبب؟

هل هو موجد الشيء الذي خلقه ولولاه لم يخلق؟

أو هو حادث سابق للشيء، أو مقترن به يلازمه كلما حدث على نسق واحد؟

أما أن السبب هو موجد الشيء فيمنعه في العقل اعتراضات قوية كأقوى ما يكون الاعتراض في المسائل الفكرية.

فكل ما يقرره العقل وهو واثق منه أن سبب الشيء يسبقه، أو يقترن به كلما حدث على نسق واحد.

ولكن السبق لا يستلزم الإيجاد، ويضربون لذلك مثل النور والصوت في قذيفة المدفع؛ فإن العين ترى النور قبل أن تسمع الأذن صوت القذيفة، ولا يقول أحد: إن النور هو سبب الصوت! أو إنه هو سبب القذيفة! وإن تكررت رؤيته وسماع الصوت بعده مئات المرات أو ألوف المرات، وكذلك صياح الديكة قبل طلوع النهار، ووصول قطار الصبح قبل قطار الضحى، ودخول المرءوسين في الصباح قبل دخول الرئيس إلى الديوان، وغير ذلك من المتلاحقات التي تقترن على ترتيب واحد، ولا يستلزم تلاحقها أن يكون السابق منها موجدًا لما لحقه؛ بأي معنى من معاني الإيجاد.

كذلك يعترض العقل على السببية على المعنى المتقدم بأن التلازم بين الأسباب والنتائج في وقائع الطبيعة ليس تلازمًا عقليًّا كتلازم المقدمة والنتيجة في القضايا العقلية، وإنما هو تلازم المشاهدة والإحصاء، وغاية ما نملكه فيه أن نسجل هذه المشاهدة أو هذا الإحصاء.

فحدوث الصوت من القذيفة يقع على التواتر كما نسمعه، ولكن لا يلزم عقلًا من تسلسل الحوادث التي تقع مع القذيفة أن نسمع ذلك الصوت، وإنما تستلزم حدوثه؛ لأنه قد حدث قبل ذلك مرات، ولا زيادة على ذلك في دواعي الاستلزام.

فكل ما هنالك — مما يسمى بالأسباب الطبيعية — إنما هو مقارنات في الحدوث، ولا تفسير فيها أمام العقل لتعليل الإيجاد.

قال الإمام الغزالي يرد على الفلاسفة:

إن الخصم يدعي أن فاعل الاحتراق هو النار فقط، وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار، فلا يمكنه الكف عما هو طبعه، ولكن هذا غير صحيح؛ إذ إن فاعل الاحتراق هو الله تعالى بواسطة الملائكة أو بغير واسطة، وأما النار فهي جماد لا فعل لها، وليس للفلاسفة من دليل على قولهم إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به.

ويقرب من رأى الغزالي هذا قول نيوتن صاحب مذهب الجاذبية في ملحق التعريفات.

فإنه يضرب المثل بجسم يتحرك من ألف إلى باء، ومن باء إلى جيم، ومن جيم إلى دال، فلا يمكن أن يقال في هذه الحالة: إن حركة الجسم من ألف إلى باء هي سبب حركته التالية من باء إلى جيم أو من جيم إلى دال! ويشبه هذا المثل مثل أصحاب ديكارت عن ساعة تدق، وساعة أخرى تدق بعدها على الدوام، فلا يمكن أن يقال: إن دقات الساعة الأولى هي سبب منشئ لدقات الساعة الثانية! وهكذا كل تلاحق في الحوادث والمشاهدات.

وقد ظهر الفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم بعد هؤلاء فبسط القول في مسألة السببية بسطًا وافيًا يفسر هذه الآراء المجملة، ولا يخرج عن فحوى ما قدمناه.

وإذا نظرنا إلى أصول الأسباب الكبرى تعذر على العقل أن ينسب الظواهر الطبيعية إلى هذه الأسباب التي تلازمها ثم يقف عندها، فمن العسير على العقل أن يسلم أن الظواهر المادية هي أسباب الحوادث بطبيعة مستمدة منها ملازمة لها، مستقرة فيها؛ لأن التسليم بهذا تسليم بوجود مئات أو ألوف من المادات كلها خالد، وكلها موجود بذاته، وكلها مع ذلك مؤثر في غيره، وهو مستحيل.

فهل هناك ألوف من المادات، أو هناك مادة واحدة؟ إن كان هناك ألوف من المادات كلها خالد بصفاته وطبائعه، فمن العجيب في العقل أن يكون الخالد مؤثرًا في خالد مثله، وأن يوجد الشيء منذ الأزل بطبيعته وخصائصه؛ ليؤثر في شيء آخر موجود مثله منذ الأزل بغير تلك الخصائص وغير تلك الصفات.

أما إن كانت هذه الخصائص تحولات ترجع إلى مادة واحدة في القدم فقد بطل أنها هي أسباب الحوادث بطبعها، وتعين أن تكون عارضة مؤثرة بما أودع فيها على حسب تلك التحولات، والتي ترجع في النهاية إلى مصدر واحد لا تعدوه.

فالعقل ينتهي في مسألة الأسباب إلى نتيجة واحدة تصح عنده بعد كل نتيجة؛ وهي أن الأسباب ليست هي موجدات الحوادث، ولا هي مقدمة عليها بقوة تخصها دون سائر الموجودات، ولكنها مقارنات تصاحبها ولا تغني عن تقدير المصدر الأول لجميع الأسباب وجميع الكائنات.

وهذا هو حكم القرآن الكريم.

هناك سنة في الطبيعة: سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا.١
وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا،٢  وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا.٣

ولكن الخلق كله مرجعه إلى إرادة الله، أو إلى كلمة الله.

إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ،٤  إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ،٥  سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ.٦

وكل شيء في السماء والأرض بإذن الله.

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.٧  وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ.٨  لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ.٩  وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ.١٠

والذي ينساق عندنا في مساق العقل أن الحوادثَ، كبيرَها وصغيرها، لا يمكن أن تحدث إلا بأمر الخلق المباشر من إرادة الله.

فلا ينساق عندنا في مساق العقل أن الحادثة تحدث بفعل الأسباب أو النواميس، ثم بفعل الإرادة الإلهية؛ لأن الناموس لا يملك وحده قدرة الانطلاق والتوافق التي يسبب بها ألف حادث على نسق واحد، ولا بد له من القدرة التي يتابع بها هذا التسبب مرة مرة، وحادثًا حادثًا، بلا فرق هنا بين الجملة والتفصيل.

فلا فرق هنا بين الحادث الذي يقع مرة واحدة، والحادث الذي يقع ملايين ملايين المرات؛ فكلها تتوقف في بادئ الأمر على إرادة الخلق والإنشاء: كُن فَيَكُونُ.١١

وإنما كُن فَيَكُونُ تقريب إلى الذهن في المجاز، والأمر أهون من ذلك جدًّا في إرادة الخلاق.

وإنما يهال الذهن المغلق بهذا التقدير؛ لأنه يظن أن مسألة الخلق مسألة حمل وانتقال، وتحريك أثقال، وحيرة بين الأرقام والمقادير الموزعة في آفاق الفضاء السحيق، وهي — على هذا الظن — شيء تختلف فيه القدرة على القليل، والقدرة على الكثير.

ولكننا نحن — معشر البشر — قد رأينا بأنفسنا أن الموجودات المادية تنتهي في حسابنا إلى معانٍ ومعادلات رياضية، فالإيجاد إذن بالنسبة لصاحب الوجود المطلق هو مسألة معقولات تقع لأنها قائمة في العقل المحيط بجميع الكائنات، ولا فرق بين ما يقع منها كثيرًا متواترًا، أو يقع قليلًا نادرًا، ولا بين البعيد منها والقريب؛ لأنه لا بعيد في العقل المطلق ولا قريب، ولا حاجة إلى انتقال ولا حمل أثقال!

•••

وتأتي هنا مسألة المعجزات: فما هي المعجزات؟ وما هو موقعها من التفكير السليم؟

موقعها على ما قدمناه أنها شيء لا يخالف العقل، ولكنه يخالف المألوف والمتواتر في المحسوس.

فإذا كان كل عمل من الأعمال خلقًا مباشرًا في إرادة الله فلا فرق في حكم العقل بين وقوع المعجزة، ووقوع المشاهدات المتكررة في كل لحظة، ولا يكون الاعتراض على المعجزة أنها شيء يرفضه العقل، ولا يجوز في التفكير، وإنما يكون الاعتراض الصحيح: هل هي وقعت فعلًا أو لم تقع؟ وهل هي لازمة أو غير لازمة للإقناع؟

فلا يُمتنع عقلًا أن تقع المعجزة، وإنما الذي يُمتنع عقلًا أن تقع عبثًا لغير ضرورة مع إمكان الاستغناء عنها، إذا تبين أن إقناع المكابرين كان ممكنًا بغيرها.

هل يمكن أن تتغير نواميس الكون، وقوانين الطبيعة كلها دفعة واحدة؟

نعم، يمكن.

ولا فرق في ذلك بين تغييرها في فترة ما، وتغييرها في جميع الآفاق والأكوان.

ولكن الذي لا يمكن هو وقوع التغيير عبثًا، مع إمكان اجتنابه والاستغناء عنه … وهكذا ينبغي أن يكون البحث في حقائق المعجزات.

لأن تغيير الحوادث كلها في قدرة العقل المطلق أهون من تغيير الفرض في عقل الرياضي وهو مغمض العينين، هذه قضية عقلية مجردة يستوي فيها حساب الكثير، وحساب القليل، ولكن الشيء الذي لا يقع في العقل المطلق هو العبث الذي لا يساغ في العقل المطلق، ولا في سائر العقول.

وقد أشار القرآن الكريم إلى الخوارق من باب الإعجاز، أو من باب السحر، فردها كلها إلى السبب الأخير، الذي ترد إليه جميع الأسباب؛ وهو إرادة الخالق أو إذن الله.

أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ.١٢  وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ.١٣

فكان هاروت وماروت يفعلان ما يفعله أصحاب الحيل العجيبة، وهم يقولون قبل ذلك: إنها من خفة اليد، أو استهواء الأبصار، وفتنة العقول!

وأيًّا كان ما فعلاه فالحكم فيه وفي جميع الخوارق أن العقل لا يمنع وقوعه منعه للمستحيل، وأن المرجع فيه إلى مطابقته للحكمة الإلهية، وضرورة التوسل به أو إمكان التوسل بغيره في مقام الإقناع.

١  الأحزاب: ٣٨، الأحزاب: ٦٢.
٢  الأحزاب: ٦٢.
٣  الإسراء: ٧٧.
٤  يس: ٨٢.
٥  النحل: ٤٠.
٦  مريم: ٣٥.
٧  الأعراف: ٥٧.
٨  الأعراف: ٥٨.
٩  سبأ: ٣.
١٠  آل عمران: ١٤٥.
١١  البقرة: ١١٧، آل عمران: ٤٧، آل عمران: ٥٩، الأنعام: ٧٣، النحل: ٤٠، مريم: ٣٥، يس: ٨٢، غافر: ٦٨.
١٢  آل عمران: ٤٩.
١٣  البقرة: ١٠٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤