الفصل الثاني

نَشْأَةُ الْفَارِسِ

١

كَانَ هَذَا الْفَارِسُ مِنْ عَامَّةِ الشَّعْبِ، وَلَمْ يَكُنْ أَبُوهُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُتَوَسِّطَ الْحَالِ … وَقَدْ رَبَّاهُ تَرْبِيَةً حَسَنَةً، فَنَشَأَ عَلَى حُبِّ التَّضْحِيَةِ، وَالتَّفَانِي فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ؛ حَتَّى اشْتَهَرَ بِشَجَاعَتِهِ، بَيْنَ الْأَصْدِقَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ.

وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ مَأْرَبٍ١ إِلَّا أَنْ يُقَدِّمَ صَنِيعًا٢ يُقَدِّرُهُ جَمِيعُ النَّاسِ. وَكَانَ طَرِيقُ الشُّهْرَةِ لِلشَّبَابِ — فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ — أَنْ يَخُوضُوا غِمَارَ الْمَعَارِكِ٣ ضِدَّ أَعْدَاءِ الْوَطَنِ.

وَفِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، رَأَى الْفَارِسُ عِنْدَ أَبِيهِ لِجَامًا جَمِيلًا يَحْتَفِظُ بِهِ فِي مَكَانٍ أَمِينٍ. سَأَلَ الْفَارِسُ وَالِدَهُ عَنْ هَذَا اللِّجَامِ.

فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: «هَذَا يَا بُنَيَّ، لِجَامٌ مَسْحُورٌ، وَرِثْتُهُ عَنْ جَدِّكَ. وَسَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي حَيَاتِكَ، وَحَيَاةِ أُمَّتِكَ … وَسَيَكُونُ وَسِيلَةً تُنْقِذُ بِهَا الشَّعْبَ مِنْ عَدُوٍّ لَدُودٍ٤. هَا هُوَ ذَا اللِّجَامُ أَتْرُكُهُ وَدِيعَةً٥ عِنْدَكَ. فَاحْتَفِظْ بِهِ، حَتَّى يَجِيءَ الْوَقْتُ الَّذِي تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ.»

٢

وَذَاتَ يَوْمٍ: ظَهَرَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَوْطِنِهِ تِنِّينٌ كَبِيرٌ٦، فَزِعَ النَّاسُ مِنْهُ. كَانَ ثُعْبَانًا هَائِلَ الْجِسْمِ، لَمْ يَرَ لَهُ أَحَدٌ شَبِيهًا فِي طُولِهِ وَضَخَامَتِهِ، وَشِدَّةِ بَأْسِهِ وَقُوَّتِهِ. كَانَ فَمُهُ يَرْمِي بِاللَّهَبِ، وَيَقْذِفُ بِسُمِّهِ كُلَّ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ: فَكَمْ أَحْرَقَ مِنْ زَرْعٍ، وَقَتَلَ مِنْ أَشْخَاصٍ، وَعَطَّلَ مِنْ أَعْمَالٍ، وَامْتَصَّ مِنْ دِمَاءٍ، وَأَهْلَكَ مِنْ حَيَوَانٍ! لَقَدْ كَانَ كَالْكَابُوسِ الْمُخِيفِ عَلَى صَدْرِ هَذَا الشَّعْبِ الْوَادِعِ الْأَمِينِ، وَقَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ اسْمُ: «الْأَصَلَةِ» لِبَشَاعَتِهِ، وَكِبَرِ حَجْمِهِ وَقُوَّتِهِ.

كَانَ هَذَا التِّنِّينُ غَرِيبَ الشَّكْلِ، لَا يُشْبِهُ أَيَّ ثُعْبَانٍ مِنْ ثَعَابِينِ الْأَرْضِ. كَانَ لَهُ ذَنَبُ ثُعْبَانٍ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ رُءُوسٍ ضَخْمَةٍ. كُلُّ رَأْسٍ مِنْهَا يَخْتَلِفُ عَنِ الْآخَرِ.

الرَّأْسُ الْأَوَّلُ: رَأْسُ أَسَدٍ. وَالرَّأْسُ الثَّانِي: رَأْسُ مَاعِزَةٍ. أَمَّا الرَّأْسُ الثَّالِثُ، فَكَانَ رَأْسَ ثُعْبَانٍ. وَكَانَ فِي كُلِّ رَأْسٍ مِنْ هَذِهِ الرُّءُوسِ الثَّلَاثَةِ فَمٌ وَأَنْفٌ وَعَيْنَانِ، وَفِي كُلِّ فَمٍ أَنْيَابٌ حَادَّةٌ. وَمِنْ كُلِّ أَنْفٍ يَخْرُجُ دُخَانٌ كَثِيفٌ٧ حَارٌّ، وَنَارٌ حَامِيَةٌ. أَمَّا الْعُيُونُ فَقَدْ كَانَتْ لَامِعَةً وَاسِعَةً حَمْرَاءَ، وَكَأَنَّهَا جَمَرَاتٌ مُتَّقِدَةٌ … وَكَانَ هَذَا التِّنِّينُ إِذَا هَاجَ، وَقَفَ عَلَى ذَنَبِهِ، وَدَارَ كَمَا تَدُورُ الرَّحَى، وَأَخَذَ يَقْذِفُ بِالسُّمِّ وَاللَّهَبِ وَالدُّخَانِ إِلَى مَدًى بَعِيدٍ.

٣

فَزِعَ الْأَهْلُونَ لِمَا أَصَابَهُمْ مِنْ خَسَائِرَ فَادِحَةٍ.٨

وَكَانُوا يُسَمُّونَ بَطَلَ قِصَّتِنَا: «فَارِسَ الْفَوَارِسِ». وَشَعَرَ الْجَمِيعُ أَنَّهُ لَنْ يُخَلِّصَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ بُؤْسٍ وَعَذَابٍ إِلَّا هَذَا الْبَطَلُ الَّذِي يُحِسُّ إِحْسَاسَ الشَّعْبِ، وَيَتَأَلَّمُ لِمَا يُصِيبُ أُمَّتَهُ مِنْ آلَامٍ …

وَوَجَدَ «فَارِسُ الْفَوَارِسِ» أَنَّ عَلَيْهِ وَاجِبًا لَا بُدَّ أَنْ يُؤَدِّيَهُ، فَهَا هُوَ ذَا الشَّعْبُ قَدْ وَضَعَ آمَالَهُ فِيهِ.

وَهَا هُمْ أُولَاءِ النَّاسُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا فِدَائِيٌّ فِي مِثْلِ بُطُولَةِ «فَارِسِ الْفَوَارِسِ»، وَأَنَّهُ — وَحْدَهُ — قَادِرٌ عَلَى مُنَازَلَةِ هَذَا الْعَدُوِّ اللُّدُودِ، وَالْقَضَاءِ عَلَيْهِ، وَإِنْقَاذِ الْأَهْلِينَ مِنْ مَصَائِبِهِ. وَعَزَمَ عَزْمًا أَكِيدًا عَلَى قَتْلِ «الْأَصَلَةِ»، وَلَوْ كَلَّفَهُ ذَلِكَ فِقْدَانَ حَيَاتِهِ.

وَأَخَذَ يَرْسُمُ الْخُطَّةَ الَّتِي تَكْفُلُ لَهُ النَّصْرَ عَلَى عَدُوِّهِ … فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَرَأَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَى «الْأَصَلَةِ»؛ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِالْحِيلَةِ، وَإِعْدَادِ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ. فَمَاذَا يَفْعَلُ هَذَا الْبَطَلُ؟ تَذَكَّرَ «الْجَوَادَ الْمُجَنَّحَ»؛ فَقَدْ كَانَ النَّاسُ كَثِيرًا مَا يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ، وَيَصِفُونَهُ بِالْقُوَّةِ الْهَائِلَةِ. وَلَكِنْ: كَيْفَ يَحْصُلُ عَلَى هَذَا الْجَوَادِ؟

وَهُنَا تَذَكَّرَ اللِّجَامَ الْمَسْحُورَ. لَقَدْ آنَ٩ الْأَوَانُ لِلِاسْتِفَادَةِ مِنْ هَذِهِ الْوَدِيعَةِ النَّفِيسَةِ … إِنَّ هَذَا اللِّجَامَ هُوَ مِفْتَاحُ نَجَاحِهِ فِي مُغَامَرَتِهِ الشَّاقَّةِ. كَانَ هَذَا اللِّجَامُ مُحَلًّى بِالْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ، وَكَانَ شَدِيدَ التَّأْثِيرِ فِي الْأَفْرَاسِ، فَلَمْ يُلَجَمْ بِهِ فَرَسٌ — مَهْمَا يَكُنْ جَامِحًا — إِلَّا خَضَعَ وَهَدَأَ، وَأَصْبَحَ سَلِسَ الْقِيَادِ.١٠

٤

وَحِينَ تَأَكَّدَ الْبَطَلُ أَنَّ الْفُرَصَ كُلَّهَا مُنَاسِبَةٌ لِتَحْقِيقِ آمَالِهِ، وَإِنْقَاذِ أُمَّتِهِ، أَسْرَعَ بِالسَّفَرِ إِلَى «عَيْنِ الدُّمُوعِ» … وَوَصَلَ — فِي سَيْرِهِ — اللَّيْلَ بِالنَّهَارِ أَيَّامًا وَأَسَابِيعَ، حَتَّى بَلَغَ هَذِهِ الْعَيْنَ … حَيْثُ قَابَلَ الْفَلَّاحَ الْعَجُوزَ، وَالصَّبِيَّ الذَّكِيَّ، وَسَمِعَ مِنْهُمَا تِلْكَ الْأُسْطُورَةَ الَّتِي حَدَّثْتُكَ عَنْهَا مِنْ قَبْلُ. وَلَازَمَهُ الصَّبِيُّ الشُّجَاعُ زَمَنًا طَوِيلًا، فَقَوِيَ أَمَلُهُ فِي أَنْ يَعُودَ — إِلَى بِلَادِهِ — بِالنَّجَاحِ وَالتَّوْفِيقِ.

أسئلة الفصل الثاني

(س١) ماذا كان يرجو الناس من «فارس الفوارس»؟
(س٢) إذا هاج التنين: فماذا كان يعمل؟
(س٣) لم سافر الفارس لعين الدموع؟
(س٤) صف اللجام المسحور.
(س٥) كيف وصل اللجام لأبي الفوارس؟
١  مأرب: حاجة
٢  صنيعاً: فضلًا ومعروفًا.
٣  يخوض غمار المعارك: يقاتل.
٤  لدود: شديد الخصومة.
٥  وديعة: أمانة.
٦  تنين كبير: ثعبان هائل.
٧  دخان كثيف: دخان متراكم بعضه فوق بعض.
٨  فادحة: عظيمة.
٩  آن: حان.
١٠  سلس: سهل لين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤