الْفَرَجُ بَعْدَ الصَّبْرِ
١
طَالَ انْتِظَارُ الْفِدَائِيِّ لِلْجَوَادِ الطَّيَّارِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَيْأَسْ. وَقَدْ كَانَ يُفَكِّرُ فِي قَوْمِهِ حِينَمَا كَانَ بَعِيدًا عَنْ وَطَنِهِ … ثُمَّ يَتَصَوَّرُ الْخَسَارَةَ الْكُبْرَى الَّتِي تُصِيبُهُمْ مِنَ «الْأَصَلَةِ»، وَيَذْكُرُ أَنَّهُمْ وَضَعُوا فِيهِ آمَالَهُمْ.
كَانَ يَخْطُرُ لَهُ — أَحْيَانًا — أَنْ يَعُودَ إِلَى بِلَادِهِ لِيُقَاتِلَ «الْأَصَلَةَ» مِنْ غَيْرِ الْجَوَادِ الْمُجَنَّحِ؛ فَإِمَّا كُتِبَ لَهُ النَّجَاحُ وَالْفَوْزُ، وَإِمَّا لَقِيَ الْهَلَاكَ! وَلَكِنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّهَا مُخَاطَرَةٌ لَا تُفِيدُ.
وَذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَمَا كَانَ يُفَكِّرُ فِي ذَلِكَ، نَبَّهَهُ الطِّفْلُ الذَّكِيُّ إِلَى صُورَةٍ مَرْسُومَةٍ فِي الْمَاءِ. نَظَرَ الْفَارِسُ إِلَى الْمَاءِ، فَرَأَى صُورَةً عَجِيبَةً، أَشْبَهَ بِطَائِرٍ كَبِيرٍ، يَظْهَرُ عَلَى ارْتِفَاعٍ شَاهِقٍ فِي الْهَوَاءِ. كَانَتْ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ تَنْعَكِسُ عَلَى جَنَاحَيْهِ الْفِضِّيَّيْنِ، فَيَشِعُّ مِنْهُمَا بَرِيقٌ شَدِيدٌ.
قَالَ الصَّبِيُّ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: «أَبْشِرْ أَيُّهَا الْبَطَلُ، فَإِنَّ الصُّورَةَ الَّتِي تَرَاهَا الْآنَ لَيْسَتْ إِلَّا صُورَةَ الْجَوَادِ الْمُجَنَّحِ، الَّذِي جِئْتَ مِنْ أَجْلِهِ، وَذُقْتُ الْمُرَّ فِي سَبِيلِ الْحُصُولِ عَلَيْهِ.»
قَالَ الْبَطَلُ: «لَقَدْ عَوَّضَ اللهُ صَبْرِي خَيْرًا، وَأَرْجُو أَنْ يُوَفِّقَنِي إِلَى الْفَوْزِ بِهَذَا الْجَوَادِ؛ حَتَّى أَعُودَ إِلَى بِلَادِي، وَأُنْقِذَ قَوْمِي، و…»

٢
أَدْرَكَ «فَارِسُ الْفَوَارِسِ» أَنَّ هَذِهِ فُرْصَةٌ ذَهَبِيَّةٌ، يَجِبُ أَلَّا يَتْرُكَهَا تَمُرُّ، مَهْمَا بَذَلَ فِي سَبِيلِهَا مِنْ كَدٍّ وَمَجْهُودٍ … وَهَا هُوَ ذَا الْجَوَادُ يَقْتَرِبُ قَلِيلًا قَلِيلًا مِنَ الْأَرْضِ، كَمَا تَفْعَلُ الْحَمَائِمُ، حِينَ تَهُمُّ بِالنُّزُولِ عَلَى مَوْضِعِ الْحَبِّ.
وَلَمْ تَمْضِ ثَوَانٍ، حَتَّى طَوَى الْجَوَادُ جَنَاحَيْهِ الْفِضِّيَّيْنِ، وَأَخَذَ يَجْرِي مُسْرِعًا نَحْوَ «عَيْنِ الدُّمُوعِ»، وَشَرِبَ الْجَوَادُ مِنَ الْعَيْنِ، حَتَّى ارْتَوَى. وَأَكَلَ مَا حَلا لَهُ مِنَ الْأَعْشَابِ الْخُضْرِ حَتَّى شَبِعَ. ثُمَّ انْطَلَقَ يَجْرِي وَيَقْفِزُ عَلَى الْأَرْضِ فِي خِفَّةٍ وَنَشَاطٍ.
وَاسْتَعَدَّ الْفَارِسُ، فَاخْتَفَى عَنْ عَيْنَيِ الْجَوَادِ. أَخَذَ يَتَرَقَّبُ فُرْصَةً يُحَقِّقُ فِيهَا غَرَضَهُ النَّبِيلَ. وَمَا هِيَ إِلَّا لَحَظَاتٌ، حَتَّى رَقَدَ الْجَوَادُ عَلَى الْعُشْبِ الْأَخْضَرِ، وَأَخَذَ يَتَقَلَّبُ عَلَى ظَهْرِهِ تَارَةً، وَعَلَى جَنْبِهِ تَارَةً، حَتَّى انْتَهَى مِنْ رِيَاضَتِهِ الْحَبِيبَةِ.
•••
فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ جَمَعَ «فَارِسُ الْفَوَارِسِ» كُلَّ مَا يَمْلِكُ مِنْ قُوَّةٍ وَشَجَاعَةٍ، وَانْطَلَقَ إِلَى الْجَوَادِ فِي هُجُومٍ خَاطِفٍ. وَفِي حَرَكَةٍ بَارِعَةٍ، قَفَزَ عَلَى ظَهْرِهِ قَفْزَةً جَرِيئَةً!
٣
تَمَكَّنَ الْفَارِسُ مِنَ الْجَوَادِ، وَاسْتَقَرَّ عَلَى ظَهْرِهِ.
وَلَكِنَّ الْجَوَادَ غَضِبَ وَاغْتَاظَ حِينَ شَعَرَ بِرَاكِبِهِ، وَاشْتَدَّ غَيْظُهُ وَهَاجَ … وَسَرَتِ الرِّعْشَةُ فِي جَسَدِهِ مِنْ شِدَّةِ غَضَبِهِ؛ فَقَفَزَ بِالْفَارِسِ قَفَزَاتٍ عَنِيفَةً، وَحَاوَلَ أَنْ يَقْذِفَ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ … وَلَكِنْ لَمْ تَنْفَعْ هَذِهِ الْمُحَاوَلَاتِ!

وَأَخِيرًا قَلَبَ الْجَوَادُ جِسْمَهُ فَجْأَةً، فَصَارَ ظَهْرُهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَصَارَتْ قَدَمَاهُ وَبَطْنُهُ إِلَى السَّمَاءِ. وَأَصْبَحَ الْفَارِسُ مُعَرَّضًا لِلْهَلَاكِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَكَادَ يَسْقُطُ مِنْ هَذَا الِارْتِفَاعِ الْعَظِيمِ.
وَلَكِنَّ الْفَارِسَ كَانَ حَذِرًا، فَلَمْ يُصَبْ بِسُوءٍ.
لَوَى الْجَوَادُ رَقَبَتَهُ لِيَرَى وَجْهَ رَاكِبِهِ، وَحَاوَلَ أَنْ يَعَضَّهُ …
٤
كَانَ «فَارِسُ الْفَوَارِسِ» شُجَاعًا، ذَكِيًّا، يَعْمَلُ حِسَابًا لِكُلِّ طَارِئٍ، وَيُعِدُّ الْعُدَّةَ لِكُلِّ احْتِمَالٍ، فِي سُرْعَةٍ وَحُسْنِ تَصَرُّفٍ … كَمَا كَانَ وَاعِيًا لَا تُفْلِتُ مِنْهُ فُرْصَةٌ.
حِينَذَاكَ خَضَعَ الْجَوَادُ، بَعْدَ هِيَاجٍ، وَأَصْبَحَ — فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ — أَلِيفًا أَنِيسًا، سَاكِنًا هَادِئًا.
مَا أَعْجَبَ هَذَا الَّذِي حَدَثَ! اعْتَدَلَ الْجَوَادُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَقْلُوبًا، وَهَبَطَ بِالْفَارِسِ إِلَى الْأَرْضِ بِرِفْقٍ وَهُدُوءٍ، وَتَبَدَّلَ حَالُهُ مِنْ قُوَّةٍ وَعُنْفٍ إِلَى خُضُوعٍ وَضَعْفٍ … وَنَظَرَ إِلَى الْفَارِسِ فِي تَذَلُّلٍ وَخُشُوعٍ، وَعَيْنَاهُ مُبَلَّلَتَانِ بِالدُّمُوعِ.
فَابْتَسَمَ الْفَارِسُ لِلْجَوَادِ، وَأَخَذَ يَتَوَدَّدُ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ يُلَاطِفُهُ، وَيُطَمْئِنُهُ، وَيَتَحَسَّسُ جِسْمَهُ بِيَدِهِ فِي عَطْفٍ وَحَنَانٍ. ثُمَّ هَمَسَ فِي أُذُنِهِ فِي رِفْقٍ وَتَوَدُّدٍ، مُؤَكِّدًا لَهُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ شَرًّا، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ عَوْنَهُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الشَّرِّ، وَتَخْلِيصِ قَوْمِهِ مِنَ الْآلَامِ …
٥
هَكَذَا تَبَدَّلَتْ حَالُ الْجَوَادِ، فَأَصْبَحَ أَوْفَى صَدِيقٍ لِصَاحِبِهِ: «فَارِسِ الْفَوَارِسِ». أَصْبَحَ لَا يُطِيقُ فِرَاقَهُ، بَعْدَ أَنْ كَانَ — مُنْذُ وَقْتٍ قَصِيرٍ — لَا يُطِيقُ رُؤْيَتَهُ …
رَكِبَ الْفَارِسُ الْجَوَادَ، فَطَارَ بِهِ إِلَى قِمَّةِ الْجَبَلِ الْعَالِي، وَوَقَفَ يَنْتَظِرُ نُزُولَ صَاحِبِهِ … فَهِمَ الْفَارِسُ مَا يُرِيدُ الْجَوَادُ، فَأَسْرَعَ بِالنُّزُولِ عَنْ ظَهْرِهِ … وَكَانَ لَا يَزَالُ مُمْسِكًا بِاللِّجَامِ الْمَسْحُورِ.
نَظَرَ الْفَارِسُ إِلَى عَيْنَيِ الْجَوادِ، فَرَأَى فِيهِمَا أَمَارَاتِ الْوَفَاءِ، فَأَخَذَ يَرْبِتُ عَلَى ظَهْرِهِ مُتَوَدِّدًا، وَقَالَ لَهُ: «أَيُّهَا الرَّفِيقُ النَّبِيلُ، أَنَا لَا أُجْبِرُكَ عَلَى صُحْبَتِي. لَنْ أَسْمَحَ لِنَفْسِي أَنْ أُصَادِقَكَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْكَ. لَا تَظُنَّ يَا رَفِيقِي أَنِّي أُقَيِّدُ حُرِّيَتَكَ، فَلَا مَعْنَى لِلصُّحْبَةِ إِذَا كَانَ الصَّدِيقُ يُسِيءُ فِيهَا إِلَى الصَّدِيقِ!»
ثُمَّ مَسَحَ عَلَى جِسْمِ الْحِصَانِ، وَاسْتَمَرَّ يَقُولُ: «هَلْ يُضَايِقُكَ هَذَا اللِّجَامُ السِّحْرِيُّ، يَا رَفِيقِي؟ هَلْ تَخْضَعُ لِي، لِأَنَّ هَذَا اللِّجَامَ بِفَمِكَ؟ وَهَلْ أَصْبَحْتَ صَدِيقًا لِي خَوْفًا مِنَ اللِّجَامِ؟ لَا! لَا! أَنَا أَوَدُّ أَنْ تَكُونَ الصَّدَاقَةُ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ صَدَاقَةً حَقِيقِيَّةً. لَا صَدَاقَةً تَجْنِي عَلَى حُرِّيَّتِكَ. هَأَنَذَا أَنْزِعُ اللِّجَامَ مِنْ فَمِكَ! هَأَنَذَا أُطْلِقُ سَرَاحَكَ! فَافْعَلْ مَا بَدَا لَكَ، أَيُّهَا الْجَوَادُ الْوَفِيُّ النَّبِيلُ!»
وَرَفَعَ الْفَارِسُ اللِّجَامَ الْمَسْحُورَ، وَقَالَ لِلْجَوَادِ: «اخْتَرْ مَا تَشَاءُ: لَكَ أَنْ تُلَازِمَنِي طُولَ الْحَيَاةِ أَوْ تَتْرُكَنِي أَبَدًا فَلَا تَعُودُ.»
صَارَ الْجَوَادُ حُرًّا بَعْدَ أَنْ رُفِعَ مِنْ فَمِهِ اللِّجَامُ؛ فَانْتَهَزَ الْفُرْصَةَ، وَانْطَلَقَ مِنْ فَوْرِهِ، وَطَارَ فِي أَجْوَازِ الْفَضَاءِ … وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ غَابَ عَنْ عَيْنِ الْفَارِسِ الشُّجَاعِ …

وَمَضَتْ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ، وَلَمْ يَعُدِ الْجَوَادُ. وَبَدَأَ الْفَارِسُ يَنْدَمُ عَلَى تَسَرُّعِهِ فِي حُسْنِ الظَّنِّ بِهِ. عَجَبًا! مَاذَا حَدَثَ؟ هَا هُوَ ذَا الْجَوَادُ يُسَابِقُ الرِّيحَ فِي طَيَرَانِهِ! هَا هُوَ ذَا يَعُودُ إِلَى الْفَارِسِ، وَيُقْبِلُ عَلَيْهِ! هَا هُوَ ذَا يَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ، وَيَقْتَرِبُ مِنْ رَفِيقِهِ عَنْ طَوَاعِيَةٍ وَاخْتِيَارٍ. حَقًّا: إِنَّهُ جَوَادٌ أَصِيلٌ، لَا يُخْلِفُ الْعَهْدَ وَلَا يَخُونُ.
•••
عَادَتِ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى قَلْبِ «فَارِسِ الْفَوَارِسِ»، وَأَيْقَنَ أَنَّ نَظْرَتَهُ إِلَى الْجَوَادِ لَمْ تَخِبْ، وَفِرَاسَتَهُ فِيهِ كَانَتْ صَادِقَةً. فَأَخَذَ يَمْسَحُ عَلَى جَسَدِهِ فِي رِفْقٍ، وَالْجَوَادُ إِلَى جِوَارِهِ هَادِئٌ أَلِيفٌ …
وَأَقْبَلَ اللَّيْلُ، وَنَامَ الصَّدِيقَانِ جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ، وَلَفَّ الْفَارِسُ ذِرَاعَهُ حَوْلَ رَقَبَةِ الْجَوَادِ … وَلَمْ يَعُدْ أَحَدُهُمَا يُطِيقُ فِرَاقَ صَاحِبِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَعِيدًا بِصُحْبَتِهِ لِلْآخَرِ، مُخْلِصًا لَهُ كُلَّ الْإِخْلَاصِ.