الفصل الرابع

الْعَوْدَةُ إِلَى الْوَطَنِ

١

كَمْ كَانَ بِوُدِّ الْفَارِسِ أَنْ يَبْقَى مَعَ الْجَوَادِ بَقِيَّةَ عُمْرِهِ سَعِيدًا بِتِلْكَ الْحَيَاةِ الْهَانِئَةِ! وَلَكِنَّ الْفَارِسَ كَانَ دَائِمَ التَّفْكِيرِ فِي وَطَنِهِ. وَكُلَّمَا تَصَوَّرَ التِّنِّينَ، وَمَا يُحْدِثُهُ مِنَ التَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ، وَدَّ أَنْ يَقْطَعَ دَابِرَهُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؛ فَيُرِيحَ الْأَهْلِينَ مِنْ أَذَاهُ …

•••

كَانَ عَلَيْهِ إِذَنْ أَنْ يَرْحَلَ إِلَى وَطَنِهِ، لِيُحَقِّقَ الْوَعْدَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِيُرْضِيَ ضَمِيرَهُ وَيُسْعِدَ قَوْمَهُ. وَقَرَّرَ أَنْ يُفَاجِئَ «الْأَصَلَةَ» فِي غَدِهِ.

هَكَذَا بَاتَ «فَارِسُ الْفَوَارِسِ» يَحْلُمُ سَوَادَ لَيْلِهِ بِتَحْقِيقِ غَايَتِهِ؛ حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، نَهَضَ مُمْتَلِئًا شَجَاعَةً وَعَزْمًا.

٢

مَسَحَ الْفَارِسُ بِيَدِهِ الشَّفِيقَةِ عَلَى ظَهْرِ الْجَوَادِ، لِيُوقِظَهُ.. ثُمَّ تَنَاوَلَا الْفَطُورَ مَعًا. وَجَلَسَا قَلِيلًا إِلَى الْعَيْنِ، فَشَرِبَا مِنْهَا حَتَّى ارْتَوَيَا. ثُمَّ لَبِسَ الْفَارِسُ مَلَابِسَ الْحَرْبِ، وَاسْتَعَدَّ لِمُقَاتَلَةِ التِّنِّينِ.

وَفَهِمَ الْجَوَادُ مَا يُرِيدُ الْفَارِسُ؛ فَمَدَّ رَقَبَتَهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: «ضَعِ اللِّجَامَ الْمَسْحُورَ فِي فَمِي، وَسَأَصْحَبُكَ إِلَى حَيْثُ تُرِيدُ.»

وَضَعَ الْفَارِسُ اللِّجَامَ فِي فَمِ الْجَوَادِ، وَرَبَتَ عَلَى ظَهْرِهِ وَلَاطَفَهُ. ثُمَّ رَكِبَهُ، وَأَدَارَ رَأْسَهُ جِهَةَ الشَّرْقِ. وَانْدَفَعَ الْجَوَادُ بِالْفَارِسِ يُسَابِقُ الرِّيحَ فِي طَيَرَانِهِ. وَلَمْ تَمْضِ إِلَّا سَاعَاتٌ ثَلَاثٌ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى وَادِي «الْأَصَلَةِ» … وَهُنَاكَ أَشَارَ إِلَى الْجَوَادِ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ … فَهَبَطَ فَوْقَ رَأْسِ الْجَبَلِ الْمُجَاوِرِ لِوَادِي التِّنِّينِ … وَاخْتَفَى بِصَاحِبِهِ فِي سَحَابَةٍ كَثِيفَةٍ.

كَانَ الْجَوَادُ ذَكِيًّا وَاعِيًا. لَقَدْ خَافَ أَنْ يَتَنَبَّهَ التِّنِّينُ إِلَى قُدُومِ الْفَارِسِ؛ فَتَفْسُدَ الْخُطَّةُ، وَتَضِيعَ الْفُرْصَةُ. فَلَوْ عَرَفَ التِّنِّينُ بِمَقْدَمِهِمَا، لَفَتَكَ بِهِمَا.

٣

نَظَرَ الْفَارِسُ مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ إِلَى الْوَادِي، فَرَأَى مَا أَحْزَنَهُ وَآلَمَهُ، وَمَلَأَ نَفْسَهُ غَمًّا وَهَمًّا: هَذِهِ هِيَ أَرْضُ قَوْمِهِ قَدْ أَصْبَحَتْ جَرْدَاءَ، وَهَذِهِ هِيَ آثَارُ التِّنِّينِ: لَهِيبٌ وَنَارٌ، وَتَخْرِيبٌ وَدَمَارٌ! وَهَذِهِ عِظَامُ الدَّوَابِّ وَالْمَاشِيَةِ الَّتِي قَتَلَهَا التَّنِّينُ وَحَرَّقَ أَجْسَادَهَا! وَهَذِهِ مَنَازِلُ قَوْمِهِ قَدْ أَصْبَحَتْ مُهَدَّمَةً، وَهَجَرَهَا أَهْلُوهَا …

رَأَى الْفَارِسُ كُلَّ ذَلِكَ، فَغَلَى الدَّمُ فِي عُرُوقِهِ، وَعَزَمَ عَزْمًا أَكِيدًا عَلَى تَخْلِيصِ وَطَنِهِ مِنَ الْبَلَاءِ. أَطَالَ الْفَارِسُ التَّفْكِيرَ، وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: «هَذِهِ آثَارُ التِّنِّينِ؛ وَلَكِنْ أَيْنَ هُوَ؟ وَكَيْفَ أَلْقَاهُ؟ وَمَتَى؟»

وَنَظَرَ هُنَا وَهُنَاكَ، فَرَأَى أَعْمِدَةً ثَلَاثَةً مِنَ الدُّخَانِ الْأَسْوَدِ صَاعِدَةً فِي الْجَوِّ، وَأَخَذَتْ تَصْعَدُ وَتَصْعَدُ، حَتَّى اقْتَرَبَتْ مِنْ قِمَّةِ الْجَبَلِ. ثُمَّ تَجَمَّعَتِ الْأَعْمِدَةُ الثَّلَاثَةُ، وَامْتَزَجَتْ — بَعْضُهَا بِبَعْضٍ — حَتَّى أَصْبَحَتْ عَمُودًا وَاحِدًا مِنَ الدُّخَانِ الشَّدِيدِ السَّوَادِ …

٤

عَرَفَ الْفَارِسُ أَنَّ الْمَغَارَةَ الَّتِي يَسْكُنُهَا التِّنِّينُ غَيْرُ بَعِيدَةٍ، فَأَشَارَ إِلَى جَوَادِهِ إِشَارَةً، فَهِمَ مِنْهَا أَنْ يَهْبِطَ بِهِ الْوَادِيَ. وَأَخَذَ الْجَوَادُ الذَّكِيُّ يَهْبِطُ، فِي خِفَّةٍ وَحَذَرٍ، حَتَّى أَصْبَحَ قَرِيبًا جِدًّا مِنْ قَاعِ الْوَادِي، حَيْثُ غَارُ «الْأَصَلَةِ» …

نَظَرَ «فَارِسُ الْفَوَارِسِ» دَاخِلَ الْمَغَارَةِ، فَرَأَى: وَيَا هَوْلَ مَا رَأَى! رَأَىَ جِسْمًا ضَخْمًا فِي مِثْلِ ضَخَامَةِ الْجَبَلِ، قَدِ الْتَفَّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَخَرَجَتْ مِنْهُ رُءُوسٌ ثَلَاثَةٌ.

الرَّأْسُ الْأَوَّلُ: رَأْسُ ثُعْبَانٍ هَائِلٍ. وَالثَّانِي: رَأْسُ أَسَدٍ كَاشِرٍ قَدْ بَرَزَتْ أَنْيَابُهُ. وَأَمَّا الرَّأْسُ الثَّالِثُ: فَرَأْسُ عَنْزٍ شَرِسَةٍ … مَنْظَرٌ مُرْعِبٌ مُخِيفٌ! لَوْ رَآهُ أَحَدٌ غَيْرُ الْفَارِسِ الْبَطَلِ، لَفَرَّ هَارِبًا.

•••

لَكِنَّ «فَارِسَ الْفَوَارِسِ» لَا يَعْرِفُ الْفِرَارَ، وَلَا يَعْرِفُ الْخَوْفُ إِلَى قَلْبِهِ سَبِيلًا.إِنَّه مَثَلٌ رَائِعٌ لِلشَّجَاعَةِ وَالثَّبَاتِ وَالْإِقْدَامِ. لَمْ يَهْرُبْ، وَلَمْ يَخَفْ … بَلِ ازْدَادَ ثَبَاتًا وَشَجَاعَةً، وَعَزْمًا وَتَصْمِيمًا.

•••

رَاحَ الْفَارِسُ يُمْعِنُ النَّظَرَ فِي رُءُوسِ «الْأَصَلَةِ» الثَّلَاثَةِ. رَأَى رَأْسَ الْأَسَدِ وَرَأْسَ الْعَنْزِ نَائِمَيْنِ. وَكَانَ رَأْسُ الثُّعْبَانِ وَحْدَهُ مُسْتَيْقِظًا … وَكَانَ يَتَحَرَّكُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَفِيهِ عَيْنَانِ مُلْتَهِبَتَانِ، كَأَنَّهُمَا جَمْرَتَانِ.

وَكَانَتْ أَعْمِدَةُ الدُّخَانِ الثَّلَاثَةُ تَتَصَاعَدُ مِنْ أُنُوفِ الرُّءُوسِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعًا. وَكَانَتِ الرُّءُوسُ الثَّلَاثَةُ تَبْدُو لِمَنْ يَرَاهَا كَأَنَّهَا رُءُوسُ وُحُوشٍ ثَلَاثَةٍ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ مَنْ يَرَاهَا أَنَّهَا رُءُوسُ تِنِّينٍ وَاحِدٍ.

٥

رَأَى الْجَوَادُ الْمُجَنَّحُ هَذَا الْمَنْظَرَ الْمُخِيفَ؛ فَأَجْفَلَ وَصَهَلَ. سَمِعَ «التِّنِّينُ» صَهِيلَ الْحِصَانِ، فَدَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى خَارِجِ الْغَارِ فِي مِثْلِ لَمْحِ الْبَصَرِ، وَمَدَّ فَكَّيْهِ لِيَلْتَقِمَ فَرِيسَتَهُ. وَتَحَرَّكَ «التِّنِّينُ» — بِذَيْلِهِ وَرُءُوسِهِ الثَّلَاثَةِ — حَرَكَاتٍ غَاضِبَةً. كَيْفَ يَجْرُؤُ أَحَدٌ أَنْ يَقْتَحِمَ عَلَيْهِ مَغَارَتَهُ؟! وَمَنْ هَذَا الَّذِي حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ؟!

رَأَى «فَارِسُ الْفَوَارِسِ» هَذَا الْمَنْظَرَ الْمُفَزِّعَ؛ فَاشْتَدَّ بَأْسُهُ، وَقَوِيَ قَلْبُهُ، وَعَظُمَتْ شَجَاعَتُهُ، وَالْتَهَبَتْ حَمَاسَتُهُ … وَلِمَ لَا، وَالشَّعْبُ قَدْ ذَاقَ الْمُرَّ مِنْ هَوْلِ هَذَا التِّنِّينِ؟! لَا بُدَّ مِنَ الْفَوْزِ. لَا بُدَّ مِنَ الِانْتِصَارِ! وَهَمَز١ الْفَارِسُ جَوَادَهُ هَمْزَةً خَفِيفَةً، وَقَالَ: «هَذَا هُوَ الْمَوْقِفُ الَّذِي أَسْتَعِينُ فِيهِ بِكَ، وَالَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَتَيْتُ بِكَ مِنْ «وَادِي الدُّمُوعِ».

سَاعِدْنِي، أَيُّهَا الْجَوَادُ النَّبِيلُ. عَاوِنِّي عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِي الْإِنْسَانِيِّ الْجَلِيلِ! لَقَدْ صَارَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الْوَحْشِ الْكَاسِرِ، إِمَّا مَوْتٌ وَإِمَّا حَيَاةٌ! وَلَا تَنْسَ أَنِّي أَقْسَمْتُ أَنْ أُهْلِكَ هَذَا التِّنِّينَ أَوْ أَمُوتَ!»

figure
كَانَ الْجَوَادُ عِنْدَ حُسْنِ الظَّنِّ بِهِ، فَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِي تَقْدِيمِ الْمَعُونَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْعَصِيبِ.٢ وَسُرْعَانَ مَا اسْتَجَابَ إِلَى نِدَاءِ الْفَارِسِ الرَّفِيقِ. وَانْدَفَعَ الْجَوَادُ الْمُجَنَّحُ الشُّجَاعُ نَحْوَ التِّنِّينِ، حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى بُعْدِ ذِرَاعٍ مِنْهُ، وَهُنَا انْتَهَزَ الْفَارِسُ الْفُرْصَةَ، فَصَوَّبَ إِلَى عَدُوِّهِ ضَرْبَةً مِنْ سَيْفِهِ أَصَابَتْهُ فِي الصَّمِيمِ.

•••

وَرَجَعَ الْجَوَادُ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْوَرَاءِ فِي مِثْلِ لَمْحِ الْبَصَرِ؛ فَقَدْ هَاجَ التَّنِّينُ وَمَاجَ، وَثَارَ وَغَضِبَ، وَأَخَذَ يَزْفِرُ وَيُدَخِّنُ، وَتَحَرَّكَ نَحْوَ الْفَارِسِ يُرِيدُ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ. رَأَى الْجَوَادُ ذَلِكَ، فَانْتَهَزَ فُرْصَةً كَرَّ فِيهَا عَلَى التِّنِّينِ، لِيُمَكِّنَ صَاحِبَهُ الْفَارِسَ مِنَ التَّغَلُّبِ عَلَى هَذَا الْوَحْشِ الْهَائِجِ.

وَنَظَرَ الْفَارِسُ إِلَى التِّنِّينِ، فَأَدْرَكَ أَنَّهُ قَطَعَ رَأْسَ الْعَنْزِ … فَحَمِدَ اللهَ، وَزَادَ أَمَلُهُ فِي النَّجَاحِ … وَبَدَأَ يَسْتَعِدُّ لِلْقَضَاءِ عَلَى بَقِيَّةِ الرُّءُوسِ.

٦

اشْتَدَّ غَضَبُ «التِّنِّينِ» حِينَ رَأَى الْفَارِسَ يُعَاوِدُ الِاقْتِرَابَ مِنْهُ، وَتَضَاعَفَتْ ضَرَاوَتُهُ.٣ وَتَجَمَّعَتْ قُوَّتُهُ فِي رَأْسَيِ الْأَسَدِ وَالثُّعْبَانِ، وَانْدَفَع هَذَانِ الرَّأْسَانِ يَرْمِيَانِ بِالْجَمَرَاتِ، وَيَقْذِفَانِ بِاللَّهَبِ إِلَى أَبْعَدِ الْمَسَافَاتِ، وَيُرْسِلَانِ دُخَانًا يَخْنُقُ الْأَنْفَاسَ، وَيُعْمِي الْعُيُونَ.

•••

فَمَاذَا صَنَعَ الْجَوَادُ الْمُجَنَّحُ؟

figure

لَمْ تُفَارِقِ الْجَوَادَ شَجَاعَتُهُ، فَانْدَفَعَ بِصَاحِبِهِ فِي حَذَرٍ شَدِيدٍ، وَسُرْعَةٍ خَاطِفَةٍ؛ حَتَّى أَصْبَحَ مِنَ «التِّنِّينِ» عَلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ … وَأَتَاحَ لِصَاحِبِهِ فُرْصَةً أُخْرَى. وَانْتَهَزَ الْفَارِسُ الْفُرْصَةَ، فَسَدَّدَ ضَرْبَةً قَوِيَّةً إِلَى أَحَدِ الرَّأْسَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ.

اشْتَدَّ هِيَاجُ «التِّنِّينِ»، وَانْدَفَعَ نَحْوَ الْجَوَادِ وَالْفَارِسِ يُرِيدُ قَتْلَهُمَا. وَكَادَ يَتِمُّ لَهُ مَا أَرَادَ، لَوْلَا أَنَّ الْجَوَادَ رَجَعَ فِي سُرْعَةِ الْبَرْقِ إِلَى الْوَرَاءِ. وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْلَمِ الْفَارِسُ وَلَا الْجَوَادُ، فَقَدْ لَمَسَ فَكُّ «التِّنِّينِ» الْبَطَلَ، فَمَزَّقَ كَتِفَهُ، وَأَصَابَ جَنَاحَ الْجَوَادِ إِصَابَةً خَفِيفَةً … لَكِنَّ «التِّنِّينَ» خَسِرَ رَأْسَهُ الثَّانِيَ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ: خَسِرَ رَأْسَ الْأَسَدِ، بَعْدَ أَنْ فَقَدَ رَأْسَ الْعَنْزِ.

٧

اشْتَدَّ غَيْظُ التِّنِّينِ وَهَاجَ، حَتَّى كَادَ يَتَقَطَّعُ مِنَ الْغَيْظِ وَالْغَضَبِ. لَقَدْ قُطِعَ رَأْسَاهُ …! فَجَمَعَ فِي الرَّأْسِ الْبَاقِي كُلَّ قُوَاهُ … أَرْسَلَ الثُّعْبَانُ عَمُودًا كَثِيفًا مِنَ الدُّخَانِ الْأَسْوَدِ الْمُلْتَهِبِ، وَتَدَفَّقَ مِنْ فِيهِ سَيْلٌ مِنَ الْجَمْرِ وَالنَّارِ، وَأَخَذَ يَقْذِفُ بِهِ إِلَى مَسَافَاتٍ بَعِيدَةٍ، وَاشْتَعَلَتْ غَيْظَتُهُ، وَأَصْبَحَ رَأْسُهُ أَشْبَهَ بِالْبُرْكَانِ الثَّائِرِ.

مَاذَا كَانَ مَوْقِفُ الْبَطَلِ أَمَامَ هَذَا الْهُجُومِ الْجَبَّارِ؟ مَاذَا كَانَ مَوْقِفُهُ — فِي هَذَا الْوَقْتِ — وَجُرْحُهُ يَنْزِفُ مِنْهُ الدِّمَاءُ؟ هَلْ دَبَّ الْخَوْفُ إِلَى قَلْبِهِ؟ هَلْ تَرَاجَعَ أَمَامَ هَذَا الْخَطَرِ الدَّاِهِم.

لَقَدْ زَادَهُ ذَلِكَ عَزْمًا عَلَى عَزْمٍ، وَهَجَمَ عَلَى التِّنِّينِ فِي عُنْفٍ، وَانْقَضَّ عَلَيْهِ انْقِضَاضَ الصَّاعِقَةِ.

اشْتَدَّ غَضَبُ التِّنِّينِ، وَانْقَضَّ عَلَى الْفَارِسِ وَالْجَوَادِ كَالْجَبَلِ، وَقَذَفَ بِجِسْمِهِ الْهَائِلِ عَلَى الْمُجَنَّحِ وَرَاكِبِهِ، وَحَاوَلَ أَنْ يَخْنُقَهُمَا، وَأَوْشَكَ أَنْ يَلْتَفَّ حَوْلَهُمَا، وَأَخَذَ يَقْذِفُ صَوَاعِقَ اللَّهَبِ،٤ وَيُرْسِلُ سُحُبَ الدُّخَانِ.
أَدْرَكَ الْجَوَادُ حَرَجَ الْمَوْقِفِ، فَانْدَفَعَ فِي طَيَرَانِهِ إِلَى أَعَالِي السَّمَاءِ. فَمَا كَانَ مِنَ الثُّعْبَانِ إِلَّا أَنْ شَدَّدَ الضَّغْطَ عَلَيْهِمَا؛ حَتَّى سُدَّتْ أَمَامَهُمَا أَبْوَابُ النَّجَاةِ، وَكَادَا يَفْقِدَانِ كُلَّ أَمَلٍ فِي الْحَيَاةِ … وَهُنَا ظَهَرَتْ قُوَّةُ الْفَارِسِ، وَتَجَلَّى ثَبَاتُ قَلْبِهِ، وَصِدْقُ شَجَاعَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَأَغْمَدَ سَيْفَهُ فِي صَدْرِ التِّنِّينِ!٥
حِينَذَاكَ ضَعُفَتْ قُوَّةُ التِّنِّينِ، وَخَارَتْ٦ عَزِيمَتُهُ، وَهَوَى٧ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَخَذَ يِلْفِظُ أَنْفَاسَهُ الْأَخِيرَةَ، وَيَنْفُثُ مِنْ جَوْفِهِ نِيرَانًا حَامِيَةً … حَتَّى مَاتَ. وَانْتَصَرَ الْبَطَلُ بَعْدَ كِفَاحٍ طَوِيلٍ.

•••

وَعَرَفَ الشَّعْبُ أَخْبَارَ النَّصْرِ، فَتَنَفَّسَ النَّاسُ نَسِيمَ الْحُرِّيَّةِ وَالْأَمَانِ وَالِاطْمِئْنَانِ …

أسئلة الفصل الرابع

(س١) ما أثر تخريب الأصلة لديار قوم الفارس في نفسه؟ وما مظاهر التخريب؟
(س٢) ضع الكلمات الآتية في جمل مفيدة: التنين — صهيل — صواعق — مغارة.
(س٣) متى رفع التنين رأسه خارج الغار؟
(س٤) متى ظهرت قوة الفارس وثبات قلبه؟
(س٥) لم عاد الناس لوطنهم بعد فراقه؟
١  همز جواده: شكه بسن.
٢  العصيب: الشديد.
٣  تضاعفت ضراوته: اشتدت عداوته.
٤  صواعق اللهب: نارًا شديدة.
٥  أغمد سيفه في صدر التنين: وضعه فيه.
٦  خارت: ضعفت.
٧  هوى: سقط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤