نهاية الاستعمار

أخذ الاستعمار في الزوال لأنه مرحلة من مراحل التاريخ التي لا توجد للدوام، ولا بد أن تنتهي بانتهاء دورها عند زوال أسبابها ووصولها إلى غاية مداها. ومن أسباب زوال هذه الأدوار أنها تجربة من تجارب الأمم في عالم المجهول، وأنها تنطوي على كثيرٍ من الأغلاط والمساوئ، كما تنطوي على كثيرٍ من الخطأ في التقدير ومن سوء الحساب عند القائمين بها والعاملين عليها.

إلا أن هذه المرحلة — مرحلة الاستعمار — كانت بدعة بين المراحل التاريخية بكثرة ما فيها من مزالق الاقتحام، ومفاجآت المجهول، وكانت أشواطها كلها كأنها خطوات متعسفة يبتدئ بها السالك طريقه، ويتوسطه قبل أن يعلم أنه قد ضل الطريق، ثم يقف بين الحيرة والعناد، ويصر على العناد؛ لأنه لا يستطيع الرجوع ولا يستطيع التسليم بالضلال.

وقد قيل — بحَقٍّ — إن مرحلة الاستعمار الحديث قد بدأت في وقتٍ واحدٍ مع عصر الاستكشاف، أو عصر البحث عن الطريق المجهول.

وكانت في الواقع بحوثًا كثيرة وطرقًا متعددة، فمِن ذاهبٍ إلى الغرب ليصل إلى الشرق من طريقٍ مجهولٍ حول الكرة الأرضية، ومِن ذاهبٍ إلى الجنوب ليصل إلى الشرق من طريق الطواف حول القارة الأفريقية، ومِن ذاهبٍ إلى الشمال ليصل إلى الشرق من ناحية القطب خلال الأقطار الروسية، ومِن ذاهبٍ إلى البحر الأحمر يريد أن يصل بينه وبين بحر الروم بسكةٍ من سكك البر أو مجرى من مجاري الماء.

كانت بحوثًا كثيرة عن طرق كثيرة.

وكذلك كانت بحوث الاستعمار التي افتتحت مع بحوث الاستكشاف في عصرٍ واحدٍ، كلها كانت من المغامرات وكلها كانت من المقامرة على المجهول؛ ولهذا كان خطأ الحساب وسوء التقدير أكبر أسباب الخيبة التي أصابت الاستعمار في منتصف الطريق أو قبل منتصف الطريق، وتقترن بهذه الأسباب الكثيرة أسباب أخرى من أخطاء المستعمرين، ومن نقائض الاستعمار نفسه في صميم تكوينه، وهي ليست بالشيء القليل.

مصادفة الموقع الجغرافي

فمن الأسباب العرضية التي دفعت ببعض الأمم إلى ميدان الاستعمار، أن هذه الأمم كانت في موقعٍ جغرافيٍّ يسوقها إلى الميدان، وما استعدت له غير هذا الاستعداد — العُرْفي — الذي جاء من طريق المصادَفَة.

لماذا تكون البرتغال وهولندا وبلجيكا بين دول الاستعمار التي ملكت من المستعمرات ما لم تملكه كثير من الدول الكبار؟

لا سبب لذلك غير أنها كانت تقيم على شواطئ البحر الأطلسي، وكان البحر الأطلسي هو طريق الماء الوحيد المفتوح للبحث والتجربة بعد امتناع التجارة في بحر الروم، أو بحر الأبيض المتوسط.

وهذا سببٌ كافٍ لابتداء التجربة والمحاولة، ولكنه غير كافٍ للاستمرار والبقاء في الميدان، وبخاصةٍ بعد انكشاف المجهول، وتطوُّر الأغراض التي من أجلها بحَثَ الباحثون عن الطريق، وابتدءوا خطواتهم الأولى في تجارب الاستعمار.

وَلْنضرب المثل ببعض هذه «التطورات» في أمةٍ واحدةٍ، لعلها هي أسبق الأمم إلى هذا الميدان، ونعني بها أمة البرتغال.

فهذه الأمة قليلة العدد، قليلة الموارد الصناعية، قليلة العلاقة بالأمم الأخرى في القارة الأوروبية، وكان همها الأكبر أن تعثر على الطريق الذي ترسو عليه السفن، وأن تتغلب على السفن المنافسة لها في البحار المقصودة.

ومن المصادفات أن الدول التي كانت تزاحمها كانت يومئذٍ في شاغلٍ عن مزاحمتها؛ لأن الدول الإسبانية كانت تسيطر على شواطئ هولندا وبلجيكا، وكان الكشافون الإسبان متجهين إلى البحث عن طريق الهند في البحار الغربية على آثار «كولمبس» المشهور.

أما السفن التي كانت تزاحم سفن البرتغال في البحار الشرقية، فلم تكن مستعدة بالأسلحة الحديثة التي استعدت بها سفن البرتغال، ولم تكن في تركيبها صالحة لجميع أغراض الملاحة، أو أغراض الحروب البحرية، فلم تقدر على مقاومة السفن البرتغالية في هذه المنافسة الهوجاء.

وما كادت هذه الدولة السابقة إلى الميدان أن تظفر بالغلب على طريق الملاحة، حتى تبيَّنَ لها أن نقل التجارة وحده لا يكفي لاجتناء الغنائم المُنتظَرَة من هذا الطريق؛ فإنها لم تكن دولة صناعية، ولم تستطع أن تنافس الدول التي توافرت لديها أدوات الصناعة الكبرى، وقد أخذت هذه الصناعة الكبرى يومئذٍ في الظهور، أوشكت دول الصناعة أن تستولي على الأسواق، كما استولت على المعامل والصناعات.

نقص الموارد المنتظرة

والدول الصناعية الكبرى ما شأنها في هذا الصراع الذي انهزمت فيه البرتغال؟ هل سلمت من أخطاء التقدير، ومن سوء الحساب، ومن اختلاف الأغراض بين خطوات الاستعمار في بداءتها، وخطوات بعد التقدم إلى منتصف الطريق؟

كلا!

إن المشكلة جاءت هنا من اجتماع الصناعة والتجارة في يدٍ واحدةٍ؛ فلا بد للدول المستعمرة من موارد تحتكرها للحصول على الخامات، ولا بد لها من أسواقٍ تحتكرها لتصريف مصنوعاتها بغير مزاحَمَةٍ، ولا بد لها مع هذا وذاك من حراسة الطريق، ومن حراسة الموارد المحتكرة لجلب الخامات والموارد المُحتَكَرة لتصريف المصنوعات.

•••

والبرتغال إنما هي مَثَل واحد استحقت التقديم؛ لأنها كانت في طليعة السباق العالمي إلى الاستعمار، ولكنها لم تنفرد بالمفاجأة بين الدول الكثيرة التي خرجت معها، أو لحقت بها في هذا السباق؛ إذ كانت هذه الدول جميعًا قد فوجئت بعد حينٍ بما أخلف حسابها في أمرٍ من الأمور، ولم تمضِ عليهن أعوامٌ معدودات حتى علمن أن الغرض الأول، الذي خرجن للبحث عنه لا يغني زمنًا طويلًا في هذه المهمة، ولا يكفل لهن الثبات والنجاح بعد انكشاف الطرق المجهولة، التي خطر لهن في بادئ الأمر أن العثور عليها هو القِبلَة المقصودة وخاتمة المطاف.

كان الغرض الأكبر من حملات الاستكشاف أن تنتهي إلى طريق الهند من الغرب، أو من حوله القارة الأفريقية، وكان الرجاء المأمول — أو الرجاء الصالح — كما وصفوه يومئذٍ أن يعثر الرحَّالون على الموانئ التي ترسو عليها السفن في أمانٍ؛ لتفرغ وَسْقها وتعود بوَسْقٍ جديدٍ من خيرات الشرق وذخائره، بعد امتناعها من طريق البحر الأبيض المتوسط وما إليه.

فلما تحقَّق هذا الغرض وُوجِدَت الموانئ الصالحة للتبادل المنشود، ظهر أولًا أن بضائع أوروبا غير مرغوب فيها بين الشرقيين، ثم ظهر أن التنافس بين الرحَّالين المستشكفين يوشك أن يصعد بأثمان السلع الشرقية صعودًا لا يقل عن صعودها من جرَّاء الحجر عليها في طريق البحر الأبيض المتوسط وما إليه، وظهر بعد ذلك أن النزول في الموانئ لا يكفي لتحقيق البيع أو تحقيق الشراء، بل لا بد معه من سيطرةٍ على داخل البلاد لضمان الاحتكار وصد المزاحمين، وقمع المقاومة من جانب الشرقيين أبناء البلاد، ومن جانب الغربيين المنافسين في التجارة والاستكشاف.

ولما تقدمت معامل الصناعة الكبرى في القارة الأوروبية ظهرت مشكلة جديدة لم تكن في الحساب، وهي مشكلة الحصول على الخامات، وتصريف البضائع المصنوعة في أسواقٍ محميةٍ من مساومة المنافسين ومناظرة المخترعين والمبتدعين، وتفاقمت هذه المشكلة بعد أن أصبحت للغرب مصنوعات يرغب فيها الشرقيون، وقد كانت المصنوعات الأوروبية مزهودًا فيها بينهم قبل تقدُّم المعامل والآلات الصناعية الحديثة؛ لأن مصنوعات الأيدي في الشرق كانت أدق وأمتن من مثيلاتها عند الأوروبيين، وكانت مع دقتها ومتانتها أجمل منظرًا ومخبرًا على الأقل في أذواق الشرقيين، كما تعودوها على أشكالها المأنوسة منذ مئات السنين.

واختل الحساب في كل مستعمرةٍ من المستعمرات بلا استثناء من هذه الناحية، وهي ناحية الجمع بين طلب الخامات وتصريف البضائع المصنوعة، فلم يتفق قَطُّ أن يتم الجمع بينها في مستعمرةٍ واحدةٍ تؤخذ منها الخامات، وتُبَاع فيها المصنوعات، وكثيرًا ما وُجِدت المصنوعات حيث لا توجد الأسواق، وكثيرًا ما اصطدمت المطامع والسياسات من أجل ذلك حتى وقعت الحرب غير مرةٍ بين الدول المستعمرة، وتبيَّنَ منها — حتى في ذلك العهد — أن خسارة الاستعمار أكبر من جدواه، وأنه لا بد من الاتفاق على تقسيم الغنائم على وجهٍ من الوجوه، وإلا فلا غنمية لأحدٍ من المتنازعين على جميع الوجوه.

وفي هذا الشوط ضمنت الدول الصغيرة أن تستبقي ما ملكته على ضعفها منعًا للنزاع عليه بين الدول القوية الطامعة فيه، وتراضوا جميعًا — جهد ما استطاعوا — على ترك كل نصيبٍ لصاحبه، واجتناب المنازعات الدولية في هذا الميدان، اكتفاءً بالمنافسات التجارية، أو بمناورات السياسة التي لا تنتهي إلى الصدام أو تجريد السلاح.

الاحتكار

وتيسَّرَ الاحتكار بموافقة الجميع بعد أن كان احتكارًا مغتصبًا أو مختلسًا في غفلة الآخرين، فمَن استولى على جهةٍ من الجهات فهي له بأسواقها وأسعارها وخاماتها وبضائعها، يرفع منها ما يرفع ويضع منها ما يضع كما يشاء، وقد كان الاحتكار منذ البداءة ضرورة لا محيد عنها لكلٍّ من المستعمرين فيما استولى عليه، ولكنه كان في الوقت نفسه جرثومة الداء التي كمنت في أحشاء الاستعمار حتى قضت عليه بعد قرنٍ واحدٍ، وانتهت به إلى الباب المفتوح في أواخر القرن التاسع عشر، ذلك الباب الذي أريد به أن يُفتَح ليدخله المستعمرون جميعًا، فإذا به الباب الذي يخرجون منه تباعًا، ولا يزالون يخرجون!

•••

لقد كانت حركة الكشف عن طريق التجارة المجهول أشبه شيء — كلها — بمحاولة التاجر أن يكشف عن سر الصناعة المجهول؛ ليحتكرها ويذود المنافسين عليها، فكانت كل سفينة تصل إلى بقعةٍ من الأرض تبادر إلى رفع العلم عليها، وتسجيلها باسم الدولة وباسم الكنيسة، كأنها حوزة مغلقة في وجود الطارئين عليها من أصحاب الرحلات المتتابعة، واستطاعت البرتغال وإسبانيا أن تتفقا من مبدأ الأمر على الاحتكار؛ لأنهما سلكتا في الاستكشاف طريقين لا تنازُع بينهما، فاتجهت كشوف البرتغال إلى الطواف حول أفريقيا، واتجهت كشوف إسبانيا إلى الطواف حول الكرة الأرضية، وكانت كلتا الدولتين من أتباع الكنيسة البابوية، فحرصت الكنيسة على التوفيق بينها وسد ذرائع النزاع التي أوشكت أن تشجر بينها على أثر الرحلات الكشفية في مجاهل الأرض والماء، وبلغت قسوة الاحتكار أشدها في الجهات المتفق على تركها لدولةٍ من الدولتين، فصدر أمر الملك حنا الثاني البرتغالي في منتصف القرن الخامس عشر بإغراق كل سفينةٍ يلقاها عمال الدولة على سواحل غانا، أو الاستيلاء عليها بغير سؤال، ومتى استولت الدولة على سفينة غريبة وجب إلقاء مَن فيها من الربانية والنواتية فريسةً للقروش وحوش البحر المشهورة في تلك المياه، ولما اشتركت في ميدان الاستعمار دول الغرب، التي لا تدين بالطاعة للكنيسة البابوية — كإنجلترا وهولندا — سلكت في الاحتكار مسلكها الذي يوافق نظام الحكم فيها، فأصدرت إنجلترا عدة قوانين لتنظيم المعاملات الاستعمارية، أشهرها القوانين الثلاثة التي اشتهرت باسم قانون الملاحة (سنة ١٦٦٠)، واسم قانون التصدير (سنة ١٦٦٦)، واسم قانون رسم الزراعة (سنة ١٦٧٣)، وحرمت بقانون الملاحة حمل البضائع التي تدخل بلادها أو تخرج منها على غير السفن الإنجليزية، وفرضت على كل سفينة أن تودع في خزانة الدولة ضمانًا ماليًّا تستصفيه الدولة في حالة المخالفة، وأوجبت بقانون التصدير أن تكون البضائع المرسلة إلى المستعمرات مشحونة من أحد الموانئ الإنجليزية، وفرضت بقانون الرسوم الزراعية ضريبةً مقرَّرة على جميع الغلال والمحاصيل التي تُنقَل من مستعمرةٍ إلى أخرى، وأمرت لأجل ذلك بإحصاء جميع المزارع التي تنتج تلك الغلَّات والمحاصيل، وحَصْر منتجاتها ومقادير الصادرات والبقايا المتخلفة منها. وقد كانت هذه القيود تسخط أناسًا كثيرين من رعايا الدولة الإنجليزية، كما تسخط الغرباء الذين يعاملونها من أبناء الدول الأجنبية؛ لأن أصحاب السفن أيقنوا من اضطرار التجار والزرَّاع إلى حمل البضائع على سفنهم دون غيرها، فرفعوا الأسعار وغالوا بتقدير الأجور، ولأن إحصاء المزارع قيَّدَ الزرَّاع، وحال بينهم وبين حرية الاختيار في تقدير الأصناف والمساحات على حسب الظروف العاجلة، وأضَاعَ فُرَصَ الربح في غير الأسواق الإنجليزية.

وسلك الهولنديون مسلك الإنجليز في احتكار التجارة والزراعة لأنفسهم في مستعمراتهم، فما استطاعوا منعه بالقوانين منعوه وشددوا في تحقيق منعه، وما بقي بعد ذلك من منفسٍ للتجارة الحرة ضيَّقوه بالإجراءات الإدارية والمحاكمات القضائية التي تنتهي بإدانة المتهمين في جميع الأحوال، ومنها محاكمات اتُّهِمَ فيها رعايا الدول الأجنبية بالتواطؤ مع أبناء البلاد الوطنيين على قلب نظام الحكومة، وصدر فيها الحكم بالموت على المتهمين المعترفين بجريمتهم، كما جاء في الأحكام الصادرة عليهم.

وتشبَّثَ المستعمرون بخطة الاحتكار في كل بقعةٍ من الأرض وضعوا أيديهم عليها، ولو لم يقدروا على إلحاقها بدولتهم في صورةٍ من صور الاستعمار المصطلح عليها، وأسلوبهم في حكم السودان مَثَل من أمثلة الاحتيال على فرض الاحتكار على شكلٍ من الأشكال، حيثما تمكَّنُوا من فرضه وملكوا السلطة القادرة على تحقيقه؛ فالإنجليز قد دخلوا السودان باسم الحكومة المصرية، وأعلنوا ذلك فرارًا من مساومة الدول لا حفاظًا على الحقوق المصرية؛ إذ كان فتح السودان باسمهم غنيمة تفتح أبواب المساومة على تبادل الغنائم، وتتيح للدول المناقشة لهم أن تطالبهم بغنيمةٍ مساويةٍ لهذه الغنيمة في عُرف «المقايضات» السياسية، ولكنهم لمَّا فتحوا السودان باسم مصر تعرَّضُوا لمحظورٍ آخَر، وهو محظور الامتيازات الأجنبية التي كانت عامة مرعية في جميع البلاد التي كانت تدين يومئذٍ للسيادة العثمانية، ومتى قبلوا تطبيق الامتيازات الأجنبية في السودان غلَّت هذه الامتيازات أيديهم عن الاحتكار، وجاز للأجانب جميعًا كل ما يجوز للإنجليز بحكم المعاهدات الدولية؛ فخرجوا من هذا المحظور بحيلة الأحكام العُرْفية التي ظلت مضروبة على السودان إلى آخِر يومٍ من أيام الإنجليز فيه، وتأتَّى لهم بحجة هذه الأحكام العُرْفية أن يُبطِلوا ما شاءوا من النُّظُم، ويقرروا ما شاءوا من الإجراءات الموقوتة أو الدائمة؛ لأنهم في حالة استثناء يُبَاح فيها ما لا يُبَاح في جميع الأحوال.

وعلى الجملة يُقَال: إن الاحتكار والاستعمار صنوان لا يفترقان. وينبغي أن نؤكد هذه الحقيقة كل التوكيد في هذا المقام؛ لأنها تكشف القناع «أولًا» عن حقيقة الدعوى التي روَّجها المستعمرون باسم أمانة الرجل الأبيض في البلاد الشرقية، فإنهم ذهبوا إلى البلاد الشرقية متنازعين متقاطعين لا يطيق الرجل الأبيض منهم ظِلَّ الرجل الأبيض في جواره، ما لم يكن شريكًا له في حصةٍ من حصص الاحتكار.

وينبغي توكيد هذه الحقيقة «ثانيًا»؛ لأنها هي الحقيقة التي تفسِّر لنا نهاية الاستعمار في أوائل القرن العشرين. فكلما انقضى الاحتكار في مكانٍ انقضى فيه الاستعمار على أثره، ويجوز لنا أن نقول إن قوة الاستعمار تُقَاس بقوة الاحتكار، وإنه كلما لانت قبضة الاحتكار في بقعةٍ من بقاع الأرض لانت قبضة الاستعمار بمقدار ذلك، فلا استعمار حيث تتساوى الفرص، ويتساوى النفوذ، وتتساوى الحكومة المستعمرة وغيرها من الحكومات الأجنبية في علاقتها بوطنٍ من الأوطان.

الباب المفتوح

وعلى غير اختيار من الدول قبلت سياسة الباب المفتوح بعد التفاهم على الاحتكار الصارم كل منها فيما ملكته من الأرض، أو ساومت عليه لاعتباره من مناطق نفوذها على سُنَّة المبادلة والتقسيم، وإنما قبلت سياسة الباب المفتوح بعد التشدد في الاحتكار؛ لأن هذه السياسة كانت بديلًا من الأزمات والقلاقل والحروب التي تتوالى نذرها وتعطِّل التجارة والصناعة جميعًا، ولا تنحصر أضرارها في نقص الثمرات والأرباح، وظهرت في «المحيط الدولي» أممٌ كثيرةٌ لم يكن لها حساب في أيام الكشف والاستصلاح والبحث عن طرق التجارة والأسواق، فظهرت روسيا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة إلى جانب إنجلترا وفرنسا وهولندا وبلجيكا، من كبار الدول وصغارها التي ورثت تركة الاستعمار وصمدت آخِر الأمر في المضمار، وليست هذه الدول الحديثة من هوان الشأن بالمكان الذي يتجاهله المستعمرون أو يحمدون العاقبة إذا تجاهلوه.

وقد شعر المستعمرون بضرورة التفاهم على نظامٍ من قبيل نظام الباب المفتوح قبل تطبيق هذا النظام على نطاقٍ واسعٍ في السياسة العالمية، فاتفقت فرنسا وإنجلترا سنة ١٨٩٨ على نظامٍ سموه بنظام «عدم التمييز» non-discrimination في نيجيريا وداهومي وساحل الذهب وساحل العاج، وأعلنت بلجيكا الفُرَص المتساوية في مستعمرة الكونغو؛ لتجمع من المكوس الجمركية بعض نفقات الولاية، وتدفع حملات التشهير بمظالم الاستعمار البلجيكي في المستعمرات الأفريقية، وانعقد مؤتمر الجزيرة سنة ١٩٠٦ لتقرير نظام الباب المفتوح في المغرب الأقصى، مع التفاهم على تقسيم مناطق النفوذ بين الفرنسيين والإسبان، وتعددت في الشرق الأقصى معاهدات الدول التي سُمِّيت بالمعاهدات الدولية، أو المعاهدات القائمة على نظام الباب المفتوح، اشتركت فيها إنجلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا والولايات المتحدة، وغيرها من الدول الكبيرة أو الصغيرة، وأصبح من النصوص المألوفة في كل معاهدةٍ تُعقَد مع الصين أن كل امتيازٍ تمنحه الصين إحدى الدول — فيما بعدُ — يُعتبَر امتيازًا عامًّا لجميع الدول بغير حاجةٍ إلى تعميم النص باتفاقٍ جديدٍ. ثم جاء ميثاق عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، فجعل نظام الباب المفتوح ركنًا من أركان السياسة العالمية، ومبدأ من المبادئ المقررة لحفظ السلام واتقاء الحروب، وقررت المادة الثانية والعشرون من الميثاق أن مسألة الوصاية على المستعمرات المحكومة مسألةً دوليةً تنظر فيها عصبة الأمم، ويرجع الأمر فيها إلى لجنةٍ دائمةٍ من لجان العصبة تُشرِف على أعمال الدول ذوات الوصاية أو الانتداب، وتقرر — بموجب الميثاق — أن حرية الشعوب من جميع الأجناس أصلٌ من أصول الحقوق الإنسانية مرهون بموعده القريب، وأن تقرير الاستقلال على درجاتٍ لا يُبطِل حق الاستقلال ولا يُسقِط دعواه، بل هو اعترافٌ به لا اختلاف فيه، إلا أن يكون من قبيل الاختلاف على سن الوصاية في معاملة بعض القاصرين.

وليس عمل المؤرخ هنا أن يبحث عن نصيب هذه المبادئ من إخلاص الدول التي تعلنها، أو سوء نيتها في إعلانها منذ اللحظة الأولى؛ فإن تقرير المبدأ في المعاملات الفردية أو المعاملات الدولية خطوة لا يُستَهان بها من الوجهة العملية الواقعية، فضلًا عن الوجهة النظرية أو الأدبية، وقد يكون الناس جميعًا على دخلةٍ سيئةٍ في أمر المبادئ الأخلاقية التي يعلنونها ويسرُّون غيرها، بل ينقضونها بما يعملونه، ويحتالون لإخفائه أو يجهرون به غير مكترثين ولا متحرجين، ولكننا مع ذلك لا نستطيع أن نقول إن تقرير مبادئ التحريم في الجرائم والمنكرات سواء والسكوت عنها أو الجهر بإباحتها وإعفاء مَن يقترفها من العقوبة، ومبدأ «الباب المفتوح» واحد من هذه المبادئ الهامة التي يقترن بها — ولا شك — تاريخ نهاية الاستعمار، ومسارعة الأمم إلى تقريره وتوكيده بعد الحرب العالمية الأولى يدل على حقائق كثيرة لا محل فيها للمغالطة، ولا للنفاق ولا لحسن النية أو سوئها في التنفيذ؛ لأن العبرة بما تدل عليه من الوقائع المتمثلة في شعور بني الإنسان، ومن أَجْلها تقرَّرَ مبدأ الباب المفتوح في الميثاق.

والوقائع التي يدل عليها إثبات المبدأ في ميثاق عصبة الأمم أن العالَم خرج من الحرب بأثرٍ متفَقٍ عليه عن خطر الاحتكار على السلام، وأن الأمم لا أمان لها من حروب أخرى إذا بقي الاحتكار على علَّاته غير مستنكرٍ وغير محدود، ولا يكون هذا الشعور العالمي إلا دليلًا على مرحلةٍ جديدةٍ في تاريخ الاستعمار، يتبعها لا محالة عمل جديد ظاهر الأثر في خطط الحاكمين وحقوق المحكومين.

ضرائب الهجرة وضرباتها

ومما قيل عن الباب المفتوح: إنه سهم أصاب الاستعمار من يده؛ لأن المستعمرين اضطروا إلى فتح الباب إجابةً لمطالب المستعمرين، ولكن الاستعمار قد أُصِيبَ من يده بأكثر من سهمٍ واحدٍ، ومن هذه السهام ما هو أقرب مرمى وأشد إصماءً من مصاب الاستعمار بسهم التنافس بين شركائه المتفرقين من شتى الدول والحكومات؛ إذ كانت بعض هذه الدول تُصَاب بأيدي أبنائها وروادها المهاجرين إلى الأطراف النائية بحثًا عن الذهب، أو بحثًا عن الأرض الصالحة للمقام، ولم يسجل تاريخ الاستعمار في خطواته الأولى ضربة أصابته في صميمه، كالضربة التي جاءته من المستعمرات البريطانية والإسبانية في بلاد العالم الجديد، فإن الثورة التي قضت على الاستعمار البريطاني في أمريكا الشمالية، إنما كان قوامها أناسًا من الإنجليز يعاونهم مواطنون لهم من الهولنديين والجرمان، وسائر المهاجرين إلى الشمال من الأوروبيين، وكذلك كانت ثورات الجنوب التي انتهت باستقلال الحكومات المختلفة في القارة الجنوبية عن إسبانيا صاحبة السيادة عليها، فقد كان قوامها من المهاجرين الإسبان والبرتغاليين وأبنائهم المولدين، ولو كان الاستعمار نظامًا قابلًا للدوام لما قضى عليه أبناؤه بأيديهم قبل انقضاء جيلين من تاريخ الهجرة إلى البلاد المستعمرة. وهكذا يأبى الاستعمار المشاركة في المنفعة، ولو كان المشتركون فيها من جنسٍ واحدٍ أو من أمةٍ واحدةٍ، فلما اختلف المستعمرون المقيمون في أوطانهم والمستعمرون المهاجرون إلى الأقطار النائية، وجب أن يذهب أحد الفريقين فذهب البعيد من الغنيمة، وبقي القريب منها، وثبت مرة أخرى أن الاحتكار قوام الاستعمار، يعيش الاستعمار ما عاش الاحتكار، ويموت بموته في كل جوارٍ.

وأقرب من هذا المرمى إلى مقتل الاستعمار سهمه النافذ الذي أصيب به في منبته وبين ذويه وأوليائه؛ فالمهاجرون إلى القارتين الأمريكيتين قومٌ منفصلون عن مقامهم الأول، منقطعون عنه في مقامٍ بعيدٍ جعلوه لهم وطنًا جديدًا بديلًا من الوطن العتيق، ولكن المستعمرين — بعد قرنٍ واحدٍ من الزمان — منوا بالمعارضين لهم بين ظهرانيهم مقيمين معهم في عُقْر دارهم، مشاركين لهم في ولاية الحكم، أو في الخضوع له حينًا بعد حينٍ، ونعني بهؤلاء جميع الطوائف التي كانت محرومة من الحقوق النيابية، ثم حصلت عليها شيئًا فشيئًا من أواسط القرن الثاني عشر إلى أواسط القرن العشرين.

كانت أزمة الحكومات في عصر الرحلات الكشفية محصورة بين أيدي المحتكرين للبقاع والضياع، ومعهم بعض المحتكرين للغلات والثمرات التي تأتي من تلك البقاع أو من تلك الضياع، ثم نشأت حركة التجارة العالمية ونشأت على آثارها حركة الصناعة الكبرى، فاتسعت دائرة الحكومة ودخل في زُمرة الحاكمين أناسٌ لم يحسبوا قَطُّ من قبلُ إلا في عداد المحكومين الخاضعين لولاة الأمر بغير مشورةٍ، وبغير صوتٍ مسموعٍ في حالتي الرضى والسخط، أو حالتي الموافقة والاعتراض. فلما تكاثر مع الزمن عدد المشتركين في الحكم أصيب الاستعمار من مقتله القديم، أو أصيب — بعبارةٍ أخرى — من جانب الاحتكار كما يُصَاب في كل حينٍ.

ذلك أن الصناعة الكبرى قد نشأت وأنشأت معها أصحاب المعامل وعمَّالها المُسخَّرين في خدمتها، وكان أصحاب المعامل وعمَّالها سواء في مبدأ الأمر في طلب حصتهم من السلطة الحكومية، ثم افترق هؤلاء وهؤلاء، فأصبحت كل زيادة في حصة العمَّال نقصًا في حصة أصحاب المعامل والأعمال، وانتشر الأمر على الاحتكار لازدياد حصص المطالبين بالمشاركة فيه، ولكنه بقي زمنًا في بلاده وهو قادر على إرضاء هؤلاء المطالبين، كما بقي هؤلاء المطالبون زمنًا وهم راضون باليسير، أو قانعون بما أصابوه كارهون.

كان «إنجلز» يقول إن العمال في إنجلترا عمَّال بالنسبة إلى أصحاب الأموال في بلادهم، ولكنهم «برجوازيون» بالنسبة إلى شعوب المستعمرات التي تملكها الدولة البريطانية؛ لأنهم يظفرون بالأجور العالية على حساب الأيدي العاملة بالأجور القليلة من أبناء الشعوب المحكومة.

وربما صح كلام «إنجلز» في جملته، إذا نظرنا إلى السياسة الاستعمارية التي صمد عليها العمال الإنجليز بعد حصولهم على حقوق الانتخاب، ووصولهم إلى دستور الوزارة، ولكن الواقع أن اشتراك الكثيرين في حقوق الانتخاب قد أصاب الاستعمار بالجرح القاتل الذي استطاع إخفاءه، والصبر عليه في أيام السلم إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن الجريح الذي يحارب غير الجريح الذي يطوي جرحه في سلام؛ فلم يحتمل هذا الاستعمار الجريح وطأة المجهود العنيف في الحرب العالمية الأولى إلا بشق النفس، والمجازفة بالبقية الباقية من الرمق الضئيل، فلما أعقبتها الحرب العالمية التالية بلغ الجهد مبلغه الذي لا تُجدِي فيه المغالطة والتسويف، وانكشفت عقابيل الحرب عن استعمارٍ جريحٍ منزوف الجراح.

وقد حافظ المحتكرون على غنائم الاستعمار يومَ كانوا يحتكرونها وينفردون بجميع مواردها، ثم حافظوا عليها يومَ بقيت منها بقية مرموقة تساوي عناء المدافعة عنها، ثم حافظوا على الاستعمار بعد نفاذ غنائمه حقبةً من الزمن؛ لأن شهوة الاستعمار في أواخر عهده قد استحالت من الوجاهة النافعة إلى الوجاهة الفخرية ذهابًا مع التقاليد المأثورة والسمعة الموروثة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يحافظوا على استعمارهم بعد أن لصقت به شبهة الحروب ووصمة النفاق، وزالت منه حتى الوجاهة الفخرية بلا طائلٍ ولا عوض ولا أمان.

أسباب دينية

وهناك أسباب يصح أن تُسمَّى بالأسباب الدينية، لا تُهمَل في صدد الكلام على العقبات التي واجهت الاستعمار في خطواته الأولى، وكان لها بعض الأثر في تعويق سيره أو إضعاف قبضته على ضحاياه، وتتلخص هذه الأسباب الدينية في ارتباط سياسة أوروبا الغربية بسياسة الكنيسة في عصرٍ من أحرج عصورها، وأشدها اشتباكًا بأزمات الخصومة والمقاومة، ومحاولة الثبات في وجه التيارات العصرية التي كانت تجري في غير مجراها، ويكفي للإبانة عن قوة هذه الأسباب أن الانشقاق بين الهيئات الدينية والهيئات السياسية، وكان فوق ذاك عصر النهضة الذي تضاربت فيه تيارات الفكر والمصالح الاجتماعية في كل اتجاه.

وقد كانت إسبانيا والبرتغال من الدول التي ارتبطت سياستها بالكنيسة كل الارتباط، وتليهما فرنسا في أحوال كثيرة غير الأحوال التي يتغلب فيها دعاة الثورة والانفصال، وكانت الصبغة الدينية غالبة على سياسة الحكومات في أوروبا الغربية، وفي شبه جزيرة الأندلس على الخصوص؛ لاشتباكها زمنًا طويلًا بالحروب المتوالية بينها وبين مسلمِي الأندلس والمغرب الأقصى، واستمرار هذا الاشتباك بعد رحلات الكشف حول القارة الأفريقية، حيث كان الرحَّالون والكشَّافون يصطدمون بالعرب حول القارة شرقًا وغربًا إلى سواحل الهند الشرقية، وقد تقدَّمَ أن أميرًا هنديًّا سأله «فاسكو دي جاما» عما ينشده برحلته إلى الشرق، فقال: «أبازير ومسحيين». وتقدَّمَ أن الرحَّالين كانوا يسجلون حقوق الكشف في سجلات الكنيسة لتخويلهم حق الفتح، وحق الدعوة باسمها إلى الدين. وحدث في الأقطار الأمريكية التي ارتادها الفرنسيون أن القساوسة كانوا يحرمون على مخالفي الكنيسة دخول تلك الأقطار، ويخرجونهم منها إذا دخلوها بغير إذن من المراجع الدينية، ويرى بعض المؤرخين أن فشَلَ الاستعمار الفرنسي في العالَم الجديد يعود إلى هذا الخطر، الذي أبعد من ميدان التعمير والتوطين نخبةً من ذوي الآراء المستقلة والأمزجة القوية التي تشتد بين أصحابها نزعةُ التطلُّع إلى التجديد.

ومهما يكن من صواب هؤلاء المؤرخين، فالأمر المتفق عليه بين المؤرخين أن إسبانيا والبرتغال — وتليهما فرنسا — كانت أقل الدول نجاحًا في تجارب الاستعمار، وهذه هي الدول التي بدأت تجاربها وهي مرتبطة بسياسة روما في أحرج أوقاتها وأثقلها بالأعباء، بين مخالفات الأمس ومغامرات الغد المجهول.

النهضات الوطنية

والمصاب الأخير الذي ابتُلِيَ به الاستعمار إنما جاءه من فرائسه وضحاياه، أو من حيث كان يحتسب المصاب الأول، لو كانت حوادث هذه الدنيا تجري على الترتيب في حساب المترقبين والمتوقعين.

وهذا المصاب على تأخيره في الزمن لم يكن أخيرًا في قوته، ولا في خطره وبُعْد مرماه وسعة أثره؛ لأن رفض الاستعمار من جانب فرائسه وضحاياه خليق أن يضارع جميع القوى الخارجية، التي تحتمله أو تجاريه وتحيطه بالمساعدة والتمكين.

ولم تتأخر مقاومة الاستعمار من جانب المصابين به؛ لأنهم رفضوه بعد قبول أو أنكروه بعد ولاء، فإن كراهة الحكم الأجنبي طبيعة في النفوس لا تحتاج إلى تعليم ولا إلى تنبيه، وما من إنسانٍ يحس أن أجنبيًّا يحكمه إلا أحس مع هذا الاحساس البغيض بهوانٍ في نفسه، ونخوة تستثيره إلى الغضب والمقاومة، فلا يسلس قياده للحاكم الدخيل عليه. إلا أن الاستعمار لم يغلب فرائسه وضحاياه بالخوف وحده في مبدأ أمره، ولم يُخضِعهم بقوة الجيوش والأساطيل دون غيرها بعد الصدمة الأولى، التي فوجئوا بها على حين غرةٍ أو على غير علمٍ منهم بمَواطِن ضعفهم وهزيمتهم، ومواطن قوته وانتصاره، وما حدث قَطُّ في تاريخ الصراع بين الشعوب أن قويًّا منتصرًا أخضع قومًا لسلطانه بمحض القوة المادية، أو رهبة السلاح دون سواها، وإنما يُخضِعهم ويطيل خضوعهم له أن يروِّعهم بشيءٍ من الإعجاب يملأهم ثقة بامتيازه ورجحانه، ويزعزع ثقتهم بأنفسهم بين يديه، وكأنهم بذلك يعترفون له بالحث الذي يدَّعِيه، وينكرون على أنفسهم الحق في مقاومته وتحديه، وهذا هو السلاح الأكبر الذي يصيب الضحية بمثل الشلل النفساني، فلا تقدر على الحراك حتى تفيق من غشية ذلك الإعجاب.

وهكذا حدث بين المستعمرين وضحاياهم بعد صدمة الاستعمار الأولى؛ فإن هؤلاء الضحايا تمكَّنَ من نفوسهم شعورٌ مخيفٌ برجحان المستعمرين عليهم في العلم والنظام، والقدرة على تصريف الأمور وتذليل العقبات وتدارك الأخطاء، حتى خُيِّلَ إليهم أن الخضوع لهم ضربة لازب، وأن التمرد عليهم ضربٌ من المحال.

وكانت غاشية لا حيلة فيها بعد الصدمة الأولى، ولكنها لم تلبث طويلًا حتى أخذت تنقشع من هنا وهناك، وتنكشف عن الحقيقة كلما تكشفت للمغلوبين مَواطِن القوة فيهم ومَواطِن الضعف في الغالبين، ووضح بعد قليل أن الزمن مع المغلوبين، وأن العاقبة لهم بعد حين، وزاد في تمكين هذه الثقة من نفوس ضحايا الاستعمار أنها جاءت على مهلٍ فترةً بعد فترةٍ، ودرسًا بعد درسٍ، ومحاولةً بعد محاولةٍ، ونجاحًا بعد نجاحٍ، فكانت كالبناء الذي يرتفع على أساسه طبقةً بعد طبقةٍ، ولا تعجل طبقة منه إلى مكانها قبل أن تستقر دونه طبقةٍ تسندها وتدعم جذورها.

كانت في أوروبا نفسها حركات وطنية ظفرت بالاستقلال، فكانت مثالًا للقدوة ومبعاثًا للأمل في قلوب طلاب الحرية من الشرقيين.

وانتصرت في إبَّان سطوة الاستعمار دولة اليابان الشرقية على دولةٍ من أكبر دول الغرب وأضخمها اسمًا بين الشرقيين المصابين بالاستعمار على الخصوص، وتلك هي دولة الروس القيصرية التي كانت تمثِّل العتوَّ والطغيان على كل دولةٍ مستقلةٍ في الشرق، من تركيا إلى إيران إلى الصين إلى اليابان.

ونشبت الحرب العالمية الأولى، فكانت كأنها المعركة في بيت الأرباب خرجت منها الأصنام المرهوبة حطامًا فوق حطامٍ، وجاءت هذه الأصنام في خلالها تطلب النجدة من عبادها، وتقضي على البقية الباقية من شعائر عبادتها، فظفرت بالنجدة وضيَّعت معالم الربوبية، وخرج المنتصرون منها يُمْلُون الشروط على المنهزمين، ويتلقون الشروط من رعاياهم المشاركين لهم في بلائهم وانتصارهم المطالبين لهم بحصتهم، وفاءً بما كالوا لهم أيام الحرب من وعودٍ وما أبرموه من عهودٍ.

وظل المستعمرون بعد الحرب الأولى في حالةٍ تُتِيح لهم أن يراوغوا في إنجاز وعودهم وعهودهم، أو يعجِّلوا الوفاء بها في كثيرٍ من التمويه والتزييف، إلى أن كانت الحرب العالمية الثانية ولمَّا تندمل جراح الأولى، فبلغ المِطال بين الغريم والمدين غاية مداه؛ فلا مناص من إحدى اثنتين: سداد أو إفلاس.

هذا كله وضحايا الاستعمار يتيقظون ويتقدمون ويضيفون دراية التعلم إلى دراية الخبرة من مراس الحوادث، ومعاملة الأمم، والاطلاع على حقائق الأحوال في بلاد الأقوياء والضعفاء على السواء، وأنفع ما تعلموه في هذه الآونة أنهم عرفوا مبلغ قدرتهم على المقاومة والمطالبة، وعرفوا أنها قدرة لا يستخف بها القوي ولا تَدَعه على اطمئنانٍ إلى ما في يديه من غنائم الاستعمار وأسلابه، ولعلها لا تحرمه الغنيمة والسلب كل الحرمان، بل لعلها غير مطلوب منها أن تجشمه كل ذلك الحرمان، فإنها إذا جعلت خسارته أكبر من ربحه، وجعلت قلقه واضطرابه أرجح من أمنه واطمئنانه؛ كان ذلك حسبها من نجاحٍ وحسبه من خذلان.

وأتْبَعَ التقدم في المعرفة تقدُّم في العمل والصناعة، فنشأت بين الأمم المحكومة أعمال ناجحة يتولاها أبناؤها، وصناعات متقدمة يملكها أغنياؤها، ويديرها خبراؤها وصنَّاعها، ولعل المزاحمة هنا أيضًا لم تبلغ بالصناعة الوطنية أن ترجح على صناعة المستعمرين بعد طوال العهد بإتقان العمل وحُسن الإدارة، وانتشار النفوذ اللازم للتصريف والترويج، ولكن الصناعة الوطنية لا يُطلَب منها أن تبلغ هذا المبلغ في ميدان المزاحمة العالمية، وإنما يُطلَب منها أن تجعل المزاحمة عملًا كثيرَ الأعباء قليلَ الجدوى، تزيد أعباؤه في تكاليف الاستعمار وأخطاره، وتقلِّل من جدواه وضمان عقباه …

ظاهرة طبيعية صغيرة تقرِّب إلينا صورةَ هذه الظاهرة المتشعبة في أطوار الإنسانية، وإن كانت لا تماثلها في جميع خصائصها: إن الضغط الجوي يهشم القدح الصغير إذا خلا هذا القدح من الهواء، ولكن هذا القدح الصغير لا يحتاج إلى مقدارٍ من الهواء كالمقدار الذي يخفق في أجواء الفضاء ليدفع عنه ضغطها الساحق، بل يكفيه ملؤه من هواءٍ ليحمي نفسه من السحق، ولو كان من زجاجٍ أو ورقٍ هزيل.

فما هو إلا أن امتلأت أمم الأوطان المستعمرة بقوتها الوطنية، حتى تسنى لها أن تصمد في المقاومة، وتأمن السحق والفناء في مقاومتها، وسرت عدوى المقاومة إلى الأوطان التي تخلَّفت عن سائر الأمم المحكومة التي تقدَّمَتْ في مضمار العلم والحضارة، فنهضت للمطالبة بالحقوق شعوبٌ لم تكن لتجسر على رفع الصوت لولا صدى الأصوات التي سمعتها من زميلاتها في الأَسْر والضِّيْق، وشوهدت آثار هذه العدوى الصالحة بين الشعوب الآسيوية والشعوب الأفريقية في أوقاتٍ متقاربة، فهبَّتْ للمطالبة بالاستقلال التام شعوبٌ كانت تقنع بالحكومة الذاتية، وترضى بشكلٍ من أشكالها المحدودة لو لم تسبقها زميلاتها وشبيهاتها إلى نصيبٍ أوفى من نصيبها، وحريةٍ أوسع من حريتها.

وسرت العدوى بين الطرف الآخَر كما سرت بين هذا الطرف المغلوب؛ سرت إلى المستعمرين فاضطرت أشدهم قسوةً التخفيف من قسوته، وجعلت حاكم الشعوب المتخلِّفة حريصًا على الاقتداء بحاكم الشعوب المتقدمة في أساليب الترضية والمحاسنة، أو في أحابيل التهدئة والمراوغة، وفعلت هذه العدوى المحتومة فعلها المشكور في تخفيف القيود وتحسين الأحوال.

هذه النهضات الوطنية كانت ولا ريب أهم العوامل التي ضعضعت قوى الاستعمار فيما مضى، ولا تزال تُجهِز عليه في دور النزع والاحتضار، فلولا هذه النهضات الوطنية لما كانت سائر العوامل العالمية كافية لإخراج المستعمرين من مستعمراتهم في هذه الفترة الوجيزة بالقياس إلى أعمار الشعوب، ومهما يكن من كثرة المصاعب حول المستعمرات، فالحاكم المطمئن إلى داخل مستعمرته خليق أن يصبر على المصاعب الخارجية، وأن يطاولها فترة أخرى، موكولًا إلى مشيئته بعد ذلك في البقاء أو الخروج.

فالنهضات الوطنية — وإن لم تكن هى العامل الوحيد الذي قضى على الاستعمار — قد كانت هي العامل الوحيد الذي لا غنى عنه في النهاية للقضاء عليه.

إلا أن هذه النهضات قد لقيت من الظروف العالمية أقوى المشجعات وأنفع الأعوان، وسواء جاءت هذه الظروف العالمية مقصودةً أو غير مقصودة، فهي ولا ريب قد وُجِدَت في أوانها وحققت فوائدها بتدبيرٍ مقصودٍ، أو على الرغم من كل تدبيرٍ مقصودٍ …

كان من دواعي القضاء على الاستعمار أن العلاقات العالمية قد أخذت في الاتساع والاشتباك، قبل أن يستقر الاستعمار على قرارٍ وطيدٍ.

وكان اشتباك العلاقات العالمية أول أسباب النزاع بين المستعمرين الأقوياء، فكان هذا الاشتباك — من ثَمَّ — أول مسالك «الباب المفتوح»، وأشد الضربات التي أصابت الاحتكار في مقتله من أيدي الأقوياء.

ولم تَزَلِ العلاقات العالمية تشتبك بين الأقطار المتباعدة بمواصلات البر والبحر والهواء، ولم تَزَلْ مع هذا تشتبك بمعاملات التجارة والصناعة، ومطالب التصدير والتوريد، ولم تزل مع هذا وذاك تشتبك بالأخبار المسموعة والمقروءة التي تملأ الكرة الأرضية في صباحها قبل أن يهبط عليها المساء، أو في مسائها قبل أن يُشرِق عليها الصباح، فأصبحت كل بقعةٍ من بقاع الأرض عَصَبًا في جهازٍ واحدٍ من بنيةٍ واحدةٍ، تضطرب في أقصى العالم هنا فيضطرب لها أقصاه من هناك، وأصبحت كل أمةٍ تسكن في بقعةٍ من تلك البقاع شيئًا محسوسًا حاضر الأثر في السياسة العالمية، لا يتجاهله الأقوياء ولا يخرجونه من الحساب، بل ربما أخرجوا من حسابهم أمثالهم الأقوياء؛ لأنهم فرغوا من أمرهم واستعدوا لهم بعدتهم، وتربصوا بهم إلى حتفهم، فلا حيلة فيهم ولا علاقة بينهم غير العداء السافر أو العداء المستور. أما الأمم الضعيفة فلا غنى لهم عن إرضائها على وجهٍ من الوجوه، وليس في وسعهم أن يحتاطوا لها أو يأمنوا أذاها في أحرج المواقف وأعنف الأوقات، وماذا يمنع الأمة الضعيفة مثلًا أن تعرقل مواصلاتها أيامًا يتوقف عليا مجرى القتال في أكبر الميادين؟ وماذا يمنعها أن تعرقل سيل البترول من ينبوعه إلى مصبه القريب أو البعيد؟ وماذا يمنعها أن تعرقل التموين باحتجاز ما عندها، أو احتجاز المؤنة العابرة في أرضها؟

كل هذا وأشباهه سهل على الأمم الضعيفة في إبَّان الحرج، وكله مما يخشاه الأقوياء، ولا سبيل لهم إلى إتقانه إلا باستعمار العالم بأسره وهم لا يتفقون عليه، أو باسترضاء الضعفاء وهذا الذي اضطرتهم الحوادث إليه.

بل قد اضطرتهم الحوادث كارهين في مآزق الحرب العالمية إلى إمداد الأمم المغلوبة بالسلاح لمقاومة أعدائهم وأعدائها من المستعمرين الآخَرين، فسلم اليابانيون أسلحتهم للوطنيين في إندونيسيا حين حاقت بهم الهزيمة، فكانت هذه الأسلحة عونًا قويًّا لأبناء البلاد في مناضلة الهولنديين، ما كانوا ليظفروا به طواعيةً من طغاة اليابان ولا من طغاة أوروبا، لولا هذا المأزق الذي لا حيلة لهم فيه …

•••

وعلينا أن نذكر هذه العبرة — عبرة العوامل المشتركة — عند البحث في أطوار التاريخ العظمى، التي تشمل بآثارها أممًا كثيرةً ولا تنحصر فى أمةٍ واحدةٍ.

فالنهضات الوطنية، ونهاية الاحتكار، واشتباك العلاقات العالمية، كلها أطوار متساوقة متقاربة في أوقاتها وآثارها، لا يعمل منها عاملٌ واحدٌ بغير مساندةٍ من العوامل المصاحبة له في أوانه، ولا يتأتى أن تنفصل وتتفرق في مواقيتها؛ لأنها بطبيعتها تنبع من مصادرَ كثيرةٍ ولا تجري في مجرى واحدٍ.

على أن الاستعمار أنواع شتى، تختلف مصائره باختلاف أنواعه واختلاف أطوار الحوادث في كل نوعٍ منها.

وأشهر أنواع الاستعمار هي الاستعمار الاقتصادي، واستعمار التوطن، واستعمار الموقع أو الاستحكامات العسكرية، وقد كان للأطوار العالمية أثر في كل نوعٍ من هذه الأنواع غير الأثر الذي تعرَّض له النوع الآخَر، وإن كانت كلها تتجه إلى الإدبار، وتشعر كلَّ يومٍ بمشقةٍ جديدةٍ في سبيل الاحتيال على البقاء بين التيارات المتعارضة.

أصبح الاستعمار الاقتصادي كبير التكاليف بين المزاحمة من جهة والمقاومة من جهةٍ أخرى، فانهدم من أساسه بكثرة تكاليفه؛ لأنه لا يكون استعمارًا اقتصاديًّا إذا لم يكن يسير التكاليف موافقًا لأول مبادئ الاقتصاد.

أصبح هذا الاستعمار الاقتصادي خسارة صريحة، أو ربحًا يسهل الاستغناء عنه عند النظر إلى نفقاته وأعبائه، ومنها نفقات الحراسة والمقاومة والاستعداد الدائم لمطالب الدفاع أو مطالب الهجوم، وإذا أُضيفَ إلى هذه الأعباء أن الدولة التي تستأثر بحكم المستعمرة لا تستأثر بأسواقها ولا بخاماتها، ولا بسياستها الخاضعة على نحوٍ من الأنحاء لدواعي السياسة العالمية؛ فهي في الواقع لا تستأثر بشيءٍ غير متاعب الحكم ونفقاته، وما بقي للدولة الحاكمة بعد هذه المتاعب ذهبت به منافسة الصناعة الوطنية، وارتفاع أجور الأيدي العاملة فيها حقبةً بعد حقبةٍ، فلا اختيار لهذه الدولة بعد الموازنة بين الصفقتين غير الجلاء والتراجع بسلام.

والمَخْرَج من استعمار التوطن أصعب من ذلك كثيرًا في جميع الأحوال، وعلى جميع الفروض، أيًّا كانت نتيجة الموازنة بين الصفقتين من خسارةٍ صريحةٍ، أو من ربحٍ متعبٍ محفوف بالأخطار …

فإذا كان في البلد المحكوم مليون من المستعمرين الأجانب، يملكون فيه الأرض والمرافق، ويزرعون فيه ويتجرون، فليست المشكلة هنا مشكلة ربح أو خسارة، ولا هي مشكلة ربح بثمنٍ بخسٍ أو ربح بثمنٍ غالٍ، ولكنها مشكلة الجلاء الذي يقتلع المستعمرين من جذورهم، أو البقاء الذي يدغمهم في سواد الأمة المحكومة على طول الزمن طائعين أو كارهين.

ولكن ما هي النهاية على أية حال؟ إذا كان جلاء المليون عسيرًا، فأعسر منه فناء عشرات الملايين، وبخاصة حين يكون الزمن إلى جانب هؤلاء الملايين، ومعه الظروف العالمية وظروف السياسة الداخلية في البلد المسيطر على المستعمَرة؛ فلا نهاية لهذا النضال غير التسليم بحقيقة الحال، وحقيقة الحال أن الأجنبي المستعمِر مغلوب على الحالين في الحل والترحال، كيفما كان المآل.

أما استعمار الموقع، أو الاستحكامات العسكرية، فلا فائدة فيه للدولة القوية إلا إذا توافرت له شروطه الضرورية، وأهم هذه الشروط أن تشعر الأمة الضعيفة باشتراكها في الخطر الذي يدعو إلى استخدام ذلك الموقع عند وقوع الحرب، أو قبل وقوعها في أيام السلام، فإذا كانت الأمة الضعيفة لا تشعر بخطرٍ يهددها، فالدولة القوية التي تحتل مواقعها على الرغم منها تحارب عدوين بدلًا من عدوٍّ واحدٍ، وليس هذا من الحيطة التي يطمئن إليها المستعمرون، ولا سيما الحيطة في إبَّان القتال.

ومن الشروط الضرورية لاستعمار الموقع أن يوافِق المصالَح الاقتصادية لكلا الطرفين، وأن يقترن — مع تبادل المصلحة — بتبادل الرضى والاحترام، وألا يكون استخدام الموقع افتياتًا على حرية الأمة التي تملكه وتملك الحق في الإذن باستخدامه عند لزومه، وإلا تساوى عندها الطرفان: مَن يستولي على الموقع احتياطًا قبل القتال، ومَن يستولي عليه اغتصابًا بعد الفراغ من القتال.

ومن الشروط الضرورية لاستعمار الموقع في عصر العلاقات العالمية أن تكون له صبغة عالمية مشتركة، ولا تكون المصلحة فيه مقصورة على دولةٍ واحدةٍ، وبهذه الصفة يمتنع فيه التحكم والاضطرار، ويجري العمل فيه على سُنَّة الوساطة والتحكيم بين الشركاء كما يجري بين الأنداد والنظراء، ولا تزيد فيه حقوق أحدٍ بمقدار ما تزيد الفروض والواجبات باتفاقٍ معروفٍ بين الجميع.

•••

وصفوة القول في مصير الاستعمار أن العالم يشهد في العصر الحاضر نهاية الاستعمار بجميع أنواعه، وأنه منتهٍ إلى الزوال لا محالة كلما ظهر للأقوياء والضعفاء أن إثمه أكبر من نفعه، وأن علاقة التفاهم والاختيار أسلم للأقوياء من علاقة الإرهاب والاغتصاب …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤