الناس

كان في بلدنا «طرفة»، لم تكن كبيرة ولا عالية أو ذات سيقان وفروع، كانت ضئيلة الحجم، قصيرة قميئة ورقها كورق العبل رفيع وأسطواني، ولونها أخضر قاتم، ولا تعرف ربيعًا أو خريفًا؛ فهي تُورق على الدوام، ولا تعرف ضعفًا ولا قوة، فهي لا تنمو ولا تصغر، ولم يزد حجمها أو ينقص طوال أجيال.

ولا يدري أحد كيف نبتت تلك الشجرة في بلدنا؛ إذ إن شجر الطرف نادر الوجود في الأرض الطمي، فهو لا ينمو إلا في مناطق المستنقعات. وكذلك لا يدري أحد لماذا اختارت ناحيتنا بالذات.

كل ما نعلمه أن أهل بلدنا اعتقدوا فيها، ونظرًا لواحدانيتها حفَّ بها نوع من التقديس، وآمن الناس أن لا بد وراء وجودها سرٌّ باتع وكبير.

ومنذ أجيال وأهل بلدنا لا يتبرَّكون بها فقط، ولكنهم يستخدمونها كدواء لأمراض العيون. ما من كائنٍ وجعته عينه إلا ووصف له أحدهم ورق الطرفة. تذهب بعد الفجر إلى الشجرة وتنتظر إلى أن يهبط الندى، ثم تأخذ عدة عقل من أوراقها وتكسرها، فيسيل منها لزج تقطر في العين الموجوعة منه قطرتان لا ثالث لهما. وبإذن واحد أحد يحل الشفاء.

وأغرب ما في الأمر أن الشفاء كان يحل فعلًا. صحيحٌ أنه في أحيانٍ كثيرة لم يكن يحل الشفاء. أحيانًا كان يتضاعف المرض، وأحيانًا نادرة كان يحل العمى أو العور، ولكن الناس لم يكونوا يعزون بالفشل إلى ورق الطرفة بقدر ما يعزونه إلى نجاسة المريض مثلًا أو أحد من أهله، أو أن المرض قد زاد واستمكن، أو أنك لا بد قد أخطأت ولم تنتظر حتى يهبط الندى.

ووعينا نحن فوجدنا شجرة الطرفة من معالم بلدنا الأزلية تحفُّ بها القداسة وتكتنفها الأسرار، فكنا نخاف منها ونرهبها، ونتخيلها بقامتها القصيرة وورقها الرفيع المسنون كعجوزٍ شمطاء تقطع الطريق إلى الترعة، أو كأنها خالتنا أم الغول.

وشببنا فوجدنا اعتقاد أهل بلدنا فيها لا يتزلزل أو يُصيبه وهن. غزا الطب الريف، وافتُتحت في البنادر عيادات رمد ومستشفيات، وهم مُصرون على تلك الشجرة فخورون بها، يحمدون الله على وجودها في بلدنا دون سواها، ويُكنون لها أعمق التقدير، حتى ليكاد الواحد منهم يقرأ الفاتحة إذا ما مر عليها.

والعجيب أن الاعتقاد فيها كان شاملًا. الكل يؤمن بها؛ الكبير والصغير، والفقير وصاحب القرشين، بل امتد هذا الإيمان إلى ما جاورنا من قرًى، وأصبح من المناظر المألوفة في بلدنا أن ترى أناسًا جالسين بعد الفجر حول شجرة الطرفة، ينتظرون في صمت وفي رهبة هبوطَ الندى.

وأصبحنا تلامذة وتعلَّمنا، وعرفنا التاريخ والجغرافيا والهندسة والطب وقانون الغازات لبويل.

وبدأنا نكفر بشجرة الطرفة.

وكان أكثرنا حماسًا ابن الصرَّاف الطالب بكلية الزراعة الذي لم يكفِه الكفر والإلحاد بالطرفة، بل راح يضيق بأهل بلدنا أنفسهم سخافتهم وعقولهم الجامدة الضيقة التي تحجَّرت على الإيمان بشجرة لا حول لها ولا قوة.

ثم أصبحنا كلنا نُجاهر بهذا الكفر، وما لبث ضيقنا وسخطنا أن تحوَّل إلى حركة ودعوة، وجاء اليوم الذي أعلنا فيه الجهاد، وقسَّمنا أنفسنا؛ فريق يخطب في المساجد ويقول: يا أهالي الطرفة تُعمي كل ذي عينين. وفريق يلفُّ على الناس والمصاطب ويقول: يا إخواننا، الحكومة فتحت مستشفيات عليكم بها ودعوا الطرفة. وفريق وقف بجوار الشجرة يستقبل كل من جاء ويشرح له، ويحاول أن يثنيه عن عزمه. وكان الناس ينظرون إلينا ونحن نفتح أفواهنا ونُخرج منها كلامًا سريعًا كثيرًا، ويهزون رءوسهم ويقولون لبعضهم البعض: كلام حلو يا أخي، كلام مضبوط.

واعتبرنا أن المسألة قد انتهت، وأن عيون الناس قد سلمت على أيدينا، وأننا نستحق على مجهوداتنا تماثيل شكر وآيات تكريم، ولكننا بعد مُضيِّ أيامٍ اكتشفنا أن الناس لم تكفَّ عن استعمال أوراق الطرفة، ولا حتى اختفى الجالسون تحت الشجرة ينتظرون هبوط الندى.

وقلنا إلى الجهاد من جديد.

وظللنا أيامًا كثيرة نكلم الناس ونناقشهم ونضرب لهم الأمثال فيهزون رءوسهم ويوافقون، بل يغالي بعضهم في لوم نفسه ويقول: لا مؤاخذة يا فندي انت وهو، أصلنا جهَلة والجاهل أعمى، والعتب على النظر.

ولا نتركهم حتى يبدو عليهم الاقتناع الصادق الأكيد … وما إن يمرض منهم مريض حتى تكون أوراق الطرفة هي أول دواء يوصف وأول ما يُستعمل.

وظللنا أعوامًا كثيرة نحاول ونيئس، ونيئس ونفشل. وكالعادة لم يستمر جهادنا كثيرًا، فما لبثنا أن نفضنا أيدينا من الأمر، وقد بدا أن ليس ثمة قوة تستطيع زلزلة إيمان الناس بالطرفة.

ولكن ابن الصراف، وكان نحيفًا عصبيًّا عنيدًا، وإن كان قد أصابه اليأس كما أصابنا إلا أنه لم يُسلِّم بالهزيمة، وظل الأمر يشغل باله ويكاد لا يفكر في غيره.

وذات يوم عنَّت له فكرة، فأخذ أوراقًا من الطرفة وذهب إلى أستاذ في كليته، وحكى له الحكاية، وطلب منه تحليل الأوراق.

وفوجئنا حين أثبت التحليل أن في الورق نسبة من كبريتات النحاس التي تُصنع منها القطرة.

وأشعنا الخبر في البلدة، أشعناه ونحن نصفِّق ونهلِّل وكأننا اكتشفنا كنزًا كان مجهولًا. وقلنا للناس: لا ضير عليكم من استعمال الطرفة؛ ففي أوراقها قطرة.

وهزَّ الناس رءوسهم بلا حماس وغمغموا: جالكو كلامنا؟

كل ما حدث أنه حين مرَّت أعوامٌ كثيرة، وعُدْنا إلى بلدنا موظفين وخبراء ومحترمين، وجدنا أن شجرة الطرفة لم يعد لها ذلك التقديس القديم، وأنها هزيلةٌ شاحبة لم يعد حولها منتظرون ولا تُخيف كما تُخيف أم الغول.

ووجدنا الناس قد كفوا عن استعمال أوراقها في علاج العيون، وحين كنا نسألهم عن السبب ونحن مذهولون، كانوا يهزون رءوسهم ويقولون: سيبك يا شيخ، القطرة برضك أنضف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤