الفصل الرابع والثلاثون

كلمات الكاتب

كان «هربرت سبنسر» المفكر الإنجليزي يقول إنه يستطيع أن يتعرف إلى صناعة من يُحَدِّثُهُ ويقف على أخلاقه واتجاهاته بعد ربع ساعة فقط من الحديث معه.

وقد يكون هربرت سبنسر مبالغًا في قوله، ولكن مما لا شك فيه أننا نستطيع أن نعرف الكاتب الذي نقرأ له من الكلمات التي تتكرر في مؤلفاته أو مقالاته؛ ذلك أن الكلمة لا تتكرر عنده إلا لأنها تتميز مكانًا مكينًا في نفسه، فهي تدل على نزعته واتجاهه وفلسفته.

وفي عصرنا تستطيع أيها القارئ أن تميز بين كاتبين، وتعرف مَن منهما يرفعك ويزيدك حيوية وكأنه يصب الدم الأحمر في شرايينك، ومن منهما يخفضك ويكسر جناحك وينصح لك بأن ترضى من الغنيمة بالإياب وكأنه يصب الصفراء في عروقك.
  • كلمات الأول: التي تتكرر فيما يكتب هي: اليقظة، النهضة، التنوير، الارتقاء، التطور، الكفاح، الشخصية، الإيجابية، المجتمع، المستقبل، العلوم، الشعب، الإنسانية، الاشتراكية، الحرية، المساواة، داروين.
  • وكلمات الثاني هي: الانسجام، الارتياح، الرضى، القناعة، العقبات، الأخطار، الصعوبات، الترف، المستحيل، فقط، التقاليد، الفكاهة، النكتة، التفوق، اللذة، أبو نواس، القدر، الحظ، الموت.

ونحن حين نختار ما نقرأ يجب أن يكون حافزنا الانتفاع والارتفاع، وكما نعنى باختيار طعامنا للجسم كذلك يجب أن نعنى باختيار ما نقرؤه باعتباره طعامًا للنفس.

وهذه الكلمات التي تتكرر فيما يكتبه الكاتب إنما هي أنغام نفسه التي تنتقل إلى القارئ فيكبر بها أو يصغر، ويحس منها بالأمل أو اليأس، ويُقْدِمُ بها أو يُحْجِمُ، ويتقلص بها أو ينبسط.

إن الكلمات أفكار وإحساسات، والكاتب الحسن هو الذي يعطيك الأفكار الخصبة فتفكر، كما يعطيك الإحساسات الأنيقة فتجمل نفسك وتتأنق في عيشك.

ولن تستطيع أن تقرأ كاتبًا يسب ويلعن دون أن تحس البغض وتتلوث نفسك أنت بالسباب والبغض، ولن تستطيع أن تقرأ كاتبًا يستهتر دون أن تحس أنت بالاستهتار في نفسك.

اختر كاتبك بأكثر من العناية التي تختار بها خبازك، واختر الكاتب الذي يبعث في قلبك الشجاعة والذكاء والجد والصحة، لا الكاتب الذي يملأك يأسًا ومرضًا ويرقص أمامك ويقول النكتة ويسليك وكأنه يعزيك عن حياتك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤