الفصل الأربعون

السياحة

يحتاج الكاتب والمفكر والصحفي والفيلسوف إلى أن يتركوا بلادهم من وقت لآخر كي يقتحموا خطرًا جديدًا أو يدرسوا مشكلة بشرية لم يعرفوها مجابهة وإن كانوا قد سمعوا أو قرأوا عنها، وهم يحتاجون إلى أن يفروا من الوسط المحيط بهم إلى وسط آخر حيث يجدون عادات تستحق التفكير والاتخاذ.

وكل ذلك يتم بالسياحة، ولكن السائح المفكر يزيد على ذلك بأن يجد في السياحة خلوة فكرية لم يجدها وهو في وطنه؛ لأننا حين ننأى بالذهن والجسم عن بلادنا نستطيع في هذه الخلوة أن نتخلص من تلك الاعتبارات والمركبات اليومية التي تنشب في عواطفنا من الصحيفة ومن العائلة ومن حديث الأصدقاء.

ولذلك تجد في هذه الخلوة صفاء ذهنيًّا وقدرة على الممايزة بين القيم الأخلاقية والروحية، لا نجد مثلها ونحن مرتبطون بالاعتبارات والمركبات التي تلابسنا ونحن في وطننا.

ولكن السياحة قد طرأ عليها طارئ جديد نقص من قيمتها هو هذه الطائرة التي جعلت الكثيرين مِنَّا يطوفون ويجولون في أنحاء العالم وكأنهم يشاهدون صورًا سينمائية، وهم بذلك يحتسون من مشاهد العالم الطبيعية والمدنية دون أن يعبوا، فلا يجدون الخلوة التي تحملهم على تأمل القيم والممايزة بين ما في الوطن وما في القطر الأجنبي، كما أنهم لا يجدون الفرصة لدرس المشكلات والعادات والاستمتاع بالاختبارات.

وإني لأؤثر أن أبقى شهرًا كاملًا في قرية أو مدينة فرنسية أتعرف فيه إلى بعض سكانها، وأطعم بطعامها وأشرب نبيذها، وأتلبث في النظر إلى مشاهدها وأزور بعض بيوتها وأسهر لياليها، وأستيقظ مبكرًا أسير في طرقها، وأقرأ على مهل جرائدها، وأناقش قارئيها، على أن أطير إلى عواصم أوروبا حيث أنزل في فنادقها الكبرى وأرى أثاثها واللألأة في مصابيحها أقضي في كل واحدة منها ثلاثة أو أربعة أيام.

يجب أن نسيح فنقيم ولا نعبر، ونتلبث ولا نتعجل، ونعب من المكان الواحد ولا نحتسي من الأماكن العشرة، ونترك عقلية الساعة والطائرة، ونعود إلى عقلية السفينة بل السفينة الشراعية إذا استطعنا.

لقد خرج ابن بطوطة من مراكش فوصل إلى الصين، وقضى في ذلك نحو عشرين سنة، وعرف الدنيا في عصره بما لا يعرفها آخر، أما نحن فنطير هذه المسافة في يوم أو يومين فلا نعرف شيئًا ولا نزداد علمًا، ولا نجد الفرصة للخلوة أو المقارنة بين القيم الوطنية والقيم الأجنبية.

كان ابن بطوطة يسيح بالسفينة والجواد والجمل، وكان يقيم السنة أو السنتين في الهند أو الصين أو آسيا الصغرى، وكان بذلك سائحًا عظيمًا، أما نحن فإننا نسيح بالطائرة ولا نقيم إلا ساعات ولا نرى إلا المشاهد السينمائية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤