الفصل العاشر

ثلاث غرف

أسرع هانو عابرًا غرفة الاستقبال إلى البهو حيث كان يجلس مساعده مورو. وألقى إليه أمرًا دون أن ينظر نحوه أو يتوقف عن السير.

قال: «أحضر المفاتيح يا مورو.» ثم تبعه مورو وريكاردو، لينحرف يسارًا ثم يمينًا مُجدَّدًا في نهاية الممر، ويدخل إلى الجناح حيث ينام السيد ريكاردو. كان المفوض هيربستال قد أعدَّ لنفسه مكانًا في منتصف هذا الجناح. فتح هانو الباب.

وقال: «سيدي المفوض، أقترح الآن أن نزور غرفتَي نوم الفتاتين.»

نهض المفوض على الفور. وقال: «أنا رهن إشارتك.»

كانت إيفيلين ديفينيش تقيم بغرفة في الجناح نفسه ولكنها كانت أقرب إلى ظهر المنزل. تقدمهم مورو نحوها وأخرج مفتاحًا من جيبه وفتح الباب. وقف هانو على عتبة الباب مانعًا إياهم من الدخول.

وقال: «يبدو أن ثمة قليلًا من الأدلة التي يمكنها أن تُفيدنا في هذه الغرفة.»

من خلفه، انحنى السيد ريكاردو محاوِلًا أن يحصل على رؤية أفضل ولكن دون جدوى. ولكنه لمح غرفةً نظيفة ومرتَّبة وكأن الخادمة خرجت منها الآن. كانت النافذة مغلقةً وتُطل على طريق تحفه أشجار داكنة. كان ثمة غطاء فراش من الحرير الرمادي مبسوطًا على السرير. كان كل مقعد حيث من المفترض أن يكون. عبر هانو الغرفة متجهًا نحو النافذة. كانت نافذةً على الطراز الإنجليزي، ولم يكن إطارها مغلقًا بمزلاج. رفع الإطار السفلي من النافذة ونظر خارجًا. كانت الشرفة تمتد حول طرف المنزل وحتى حوالي ربع طول الجناح، وكانت أرضيتها تمتد من تحت النافذة وحتى حافة الطريق الذي تحفه الأشجار الداكنة. لم تكن هناك أي علامات على سطحها الجاف. أغلق هانو النافذة واستدار نحو الغرفة مُجدَّدًا. كانت ثمة خزانة مُعلَّق بها بعض الفساتين، وصندوق ذو أدراج يحتوي على المزيد من أدوات الحمام الخاصة. التفت هانو نحو ريكاردو.

وقال: «هل تذكر لون الفستان الذي ارتدته السيدة ديفينيش ليلة أمس؟»

«كان أخضر.»

سأله هانو وهو يقف بجانب الخزانة المفتوحة: «هل تراه هنا؟»

«لا.»

«يجدر بنا أن نرن الجرس لاستدعاء ماريان.»

رن هانو الجرس، وبينما كان في انتظارها، فحص المكتب الصغير بجانب النافذة الذي كانت تستقر على سطحه نشافة حبر ودواة حبر ذات صينية من الأقلام وحقيبة مستندات صغيرة. كانت نشافة الحبر نظيفةً كحال الأرضية خارج النافذة. كان مظهر الأقلام يدل على أنها لم تُستخدم منذ أمد بعيد. فتح هانو حقيبة المستندات. كانت تحتوي على بعض إيصالات دفع من متاجر في بياريتز، ودفتر شيكات من مصرف لندن. فحص هانو دفتر الشيكات. كانت بعض الشيكات موجهةً إلى «صاحبة الحساب نفسها» بمبالغ صغيرة. أعاد هانو كل شيء إلى مكانه الأصلي وابتسم في أسًى إلى السيد ريكاردو.

وقال: «لا يوجد خطاب من صديق! هذا صحيح! كانت هذه الشابة وحيدةً وفقيرة. لقد دفعت مقابل هذه الرحلة عبر البحار عشية عيد ميلادها.»

كانت ثمة طاولة زينة يغمرها ضوء المصباح الكهربي، وكانت تلك هي قطعة الأثاث الوحيدة التي يبدو عليها قليل من عدم الترتيب. كان غطاء علبة مسحوق تجميل زجاجية كبيرة مفتوحًا، كانت فُرش الشعر، ذات الظهر المصنوع من صدف السلاحف ومنقوش عليها الحروف الأولى من اسم إيفيلين قبل زواجها — إ. ب. — باللون الذهبي، متناثرةً هنا وهناك. وكانت مروحة ورقية ملقاةً بإهمال، ووعاء صغير مفتوح الغطاء يحتوي على أحمر شفاه جاف، وقلم أحمر شفاه من دون غطاء. أومأ هانو برأسه وزمَّ شفتَيه بينما كان يفحص هذه الفوضى. ثم التفت نحو الباب قبل أن تفتحه ماريان مباشرة.

وسأل: «ماريان، هل يمكنك أن تخبريني بالملابس المفقودة من خزانة ملابس هذه المرأة المسكينة؟»

هزَّت ماريان كتفيها. وقالت: «ليس هذا شيئًا عسيرًا؛ فهي لم تكن تمتلك الكثير من الملابس، تلك المسكينة الوديعة!» من بين جميع التعبيرات غير المناسبة التي سمعها السيد ريكاردو في حياته، كانت كلمة «وديعة» لوصف كائن تُحرِّكه أهواؤه ومفعم بالحقد الأسود مثل إيفيلين ديفينيش، هي الأسوأ. كانت سخافتها مذهلة.

قالت ماريان وهي تتحسس صف الملابس المُعلَّقة في الخزانة: «سيدي، ثمة أشياء مفقودة؛ الفستان الذي ارتدته السيدة ليلة أمس، وعباءة.»

قال هانو مندهشًا: «آه! عباءة!»

«أجل يا سيدي، عباءة من الساتان البني، مطرزة بأناقة بفرو الأرمين الأبيض، وياقة كبيرة وأساور وحواف من الأرمين الأبيض أيضًا. حصلت السيدة على هذه العباءة قبل أن تسوء أحوالها. فمن المُؤكَّد أنها لم تكن لتتمكن من شراء عباءة بمثل جمالها في وضعها الحالي.»

قال هانو: «أشكرك.» ثم جال ببصره لمرة أخيرة في أرجاء الغرفة وأضاف قائلًا: «والآن، سنذهب إلى غرفة الآنسة الأمريكية. من المُرجَّح أن تتمكَّني من مساعدتنا هناك أيضًا يا ماريان.»

figure
قال هانو: «والآن، سنذهب إلى غرفة الآنسة الأمريكية. ماريان، هلَّا ساعدتِنا؟»

رفعت ماريان يديها. وقالت: «بالنسبة إلى الآنسة ويبل، أيها السادة! الأمر مختلف تمامًا! إنها ستسافر من هنا إلى أمريكا مباشرة؛ لذا فقد أحضرت جميع حاجياتها. إذا كنتم مغرمين بالملابس الفاخرة، فسترون الكثير منها، أعدكم بذلك. هذا بالإضافة إلى صناديق لم تُفتح قط. يا إلهي! وأحذية وجوارب! وكوفيات وعباءات! أوه، يبدو أنك تُحب الملابس الفاخرة يا سيدي. بالنسبة إليَّ، وسأكون صريحةً معك، لا أحترم كثيرًا الرجل الذي يذهب هنا وهناك ليشاهد الملابس النسائية.»

فكَّر السيد ريكاردو، إذا كان هناك شخص وديع، فسوف يكون هانو من جهاز الأمن العام في باريس. وقفت ماريان واضعةً يديها على فخذيها، وبدا أنها فهمت المساعدة المطلوبة منها على نحو خاطئ تمامًا. كان مستاءً تمامًا من اقتحام الشرطة قصر سوفلاك بهذه الطريقة. كانت قد رأت سيدتها الشابة المحبوبة تفقد الوعي، كما لو أنها تلقَّت لكمةً من شخص عديم الشفقة. تساءل السيد ريكاردو عما إذا كان سلوكها العنيف يخفي عدم خوف مما قد يُسفر عنه هذا التحقيق. ولكنها جعلت هانو الضخم الجثة يعبس وكأنه رجل منحل عاجز. ولكن، كان هانو يبدو ضعيفًا للغاية، لدرجة أن مفوض الشرطة، الذي احمرَّ وجهه من رؤية كرامة الرجل تُهان هكذا، لم يصدق عينَيه أو أذنيه.

فقال: «طلبت منك أن تريني فساتين الآنسة الجميلة يا ماريان؛ لأني أريد أن أراها ترتديها مرةً أخرى.» ولكن بدا أن ماريان لم تقتنع؛ فقد استدارت نحو الباب بلفة مزدرية من رأسها وسارت على طول الممر عابرةً الباب الأمامي مجددًا واستدارت عند نهاية الرواق نحو البرج.

كان ثمة باب في مواجهتها، وفي الركن بزاوية، كان هناك باب آخر، مع ألواح من الزجاج الخشن عند الجزء العلوي منه. فتحت ماريان مزلاج هذا الباب. كان ثمة سلم حجري حلزوني ضيق، مثبت في الجدار نفسه، يُؤدِّي نحو الأعلى. صعدت ماريان السلم حتى وصلت إلى بسطة صغيرة وتوقفت أمام باب آخر. على هذا الباب، كانت رسالة مثبتة بدبوس تقول:

ماريان، أرجو ألَّا يوقظني أحد في الصباح.

وجَّه هانو سؤالًا لماريان، قائلًا: «هل هذا خط يد الآنسة؟»

«نعم يا سيدي. أنا من يُعطي رجل البريد الخطابات. هذا خط يد الآنسة.»

وافقها هانو قائلًا: «بلا أدنى شك.»

أخرج مورو مفتاحًا آخر وفتح الباب، وتبعت المجموعة كلها هانو إلى داخل غرفة كبيرة ذات نافذة واحدة واسعة تُطل على الحديقة وساحل جيروند الشاسع. كانت النافذة مفتوحة، ووقف هانو عندها. كان المد قد انقلب مجددًا وأصبح في اتجاه البحر، وكان مجرى النهر مُرصَّعًا بسفن صغيرة رأسية، وقد طوت أشرعتَها ومؤخراتِها مُوجَّهةً نحو بوردو التي تلوح من بعيد. صبغت أشعة الغسق الذهبية لشهر سبتمبر الريف بلون جميل. في الأخاديد التي تفصل بين كروم العنب، كان الفلاحون يحنون ظهورهم ويفردونها ثم يحنونها مجددًا، وللحظات، ألجم الجميعَ التناقضُ بين السلام الذي يعم العالم في الخارج والغموض الذي يكتنف هذه الغرفة.

وكان هانو أولَ من يكسر هذا الصمت؛ فقد صاح وهو ينظر حوله: «أها! ثمة نقاط اختلاف أخرى في هذه الغرفة يا ماريان، إلى جانب الملابس.» وكانت جميع الأشياء المرتبة في غرفة إيفيلين ديفينيش، غير مرتبة على الإطلاق في هذه الغرفة. كان الفستان الفضي الذي ارتدته جويس ويبل ملقًى في إهمال على أحد المقاعد، وكانت إحدى فردتَي حذائها الفضي ملقاةً في أحد الأركان، وكانت الأخرى ملقاةً في منتصف الغرفة، وكانت جواربها مُكوَّمةً على مقعد آخر. كان واضحًا أن جويس، بعدما صعدت من غرفة الاستقبال، غيَّرت فستانها وحتى حذاءها وجواربها في عجلة كبيرة.

فتح هانو خزانةً عند الجدار الأيمن من الغرفة. كانت الخزانة مليئةً بالفساتين والأردية الأنيقة مُعلَّقةً في نظام.

قالت ماريان وهي تشير إلى صندوق طويل ذي أدراج عند الجدار الخلفي بجانب الباب: «هناك ملابس أخرى في الدرج السفلي.» انحنى هانو وفتحه. كانت به بعض التنورات والمعاطف، ولكنها كانت جميعها مطويةً في نظام. التفت هانو نحو ماريان وتحدث معها بنبرة سلطوية مفاجئة.

«لقد كنتِ ممتعةً للغاية يا ماريان، بكل تأكيد. ولكننا لم نأتِ هنا لكي نستمتع. والآن، أخبريني مباشرةً إذا ما كان بإمكانك أن تعرفي أن ثمة فستانًا ناقصًا من الخزانة أو الدرج.»

قالت ماريان دون أن تتزحزح قيد أنملة: «لا أعرف.»

«أو أي عباءة.»

«لا أعرف. لقد أقامت الآنسة في قصر سوفلاك لمدة أسبوعين، ولم أرَها سوى مرة أو مرتين مرتديةً عباءةً في المساء عندما تكون خارج المنزل في الشرفة.» توجَّهت نحو الخزانة وفحصت الملابس المُعلَّقة به. وقالت وهي تلمس عباءةً لامعة من قماش اللاميه: «نعم، كانت ترتدي دائمًا هذه العباءة.»

قال هانو: «أشكرك. لا أريد أن أُعطِّلك عن عملك أكثر من ذلك.»

أغلقت ماريان باب الخزانة وخرجت من الغرفة. سار هانو نحو الفراش الذي كان ظهره مستندًا إلى الجدار المقابل للخزانة وقاعدته تمتد نحو منتصف الغرفة. كانت مفارش السرير مبعثرة، وملابس النوم مُكوَّمة، والوسادة ملقاةً على أحد الجانبين. رفع هانو أغطية الفراش. كان الغطاء السفلي مستويًا وممتدًّا بإحكام على المرتبة من دون تجعيدة واحدة على سطحه.

قال المفوض: «نعم، الأمر واضح. لم ينم أحد في هذا الفراش منذ ترتيبه.»

أشار هانو إلى السيد ريكاردو ليقترب منه.

وقال له: «دعنا الآن نستوضح المسألة التي طرحتها يا صديقي. تذهب السيدة ديفينيش إلى غرفتها. وتقف للحظات أمام طاولة زينتها لتُصفِّف شعرها وتضع مسحوق تجميل على وجهها، وتُعدِّل ما تلف من هيئتها من أجل الأمسية. ثم تضع عباءتها من الساتان البني عليها، وتفتح نافذتها وتتسلَّل إلى الخارج. إلى أين كانت ذاهبة، هذا ما لا نعلمه. ولكنها لم تمسَّ أغطية فراشها. لا! ولمَ تفعل؟ إذا لم تكن تنوي العودة، فلا سبب يدفعها إلى التظاهر بأنها نامت في فراشها. وإذا فعلت، فلا يزال ثمة احتمال أقل ترجيحًا أنها كانت تنوي النوم في فراشها عندما تعود. هل هذا واضح؟»

وافقه السيد ريكاردو قائلًا: «أجل.»

ولكن لنفكر في حالة جويس ويبل! لقد ذهبت إلى غرفتها أيضًا. وغيرت ملابسها في عجلة، ثم … وفتح ذراعيه على امتدادهما، وقال: «اختفت أيضًا. ولكن فراشها كان مبعثرًا. إذا كانت تنوي العودة والنوم فيه، فسأسألك مجددًا، لمَ بعثرته؟ وإذا لم تكن تنوي العودة، فما الفائدة من التظاهر بأنها نامت فيه؟ هناك ملاحظة موضوعة على الباب تقول: «لا توقظيني يا ماريان!» إذا لم تكن تنوي العودة، فقد أخذت احتياطاتها. فلن يبحث عنها أحد حتى موعد الغداء. لمَ تُبعثر فراشها أكثر مما فعلت السيدة ديفينيش تَعِسة الحظ؟ لقد أصبحت المسألة واضحةً وضوح الشمس الآن.»

لم يكن السيد ريكاردو لديه أدنى فكرة عن طبيعة المسألة الشهيرة التي من المفترض أنه طرحها، ولكنه أومأ برأسه في حماسة وتفهُّم.

سأل هانو: «بالطبع.»

«هل خرجت الآنسة ويبل من هذه الغرفة بمحض إرادتها؟» ثم واصل حديثه بينما ظهر الذهول على وجه ريكاردو، قائلًا: «نعم، هذا هو السؤال.»

قال ريكاردو مُعارِضًا: «ولكن، لم تصدر أي جلبة.»

«لا، لم تصدر أي جلبة سمعها أحد ممن في المنزل، ولكني ظَلِلت أطرح على نفسي هذا السؤال. كانت تنوي الذهاب إلى مكانٍ ما؛ يبدو هذا جليًّا من حقيقة أنها غيَّرت ملابسها في عجلة. ثمة ١٠٠ سؤال يدور في ذهني. هل كانت تنوي الخروج مع ديفينيش؟ هل كانت تنوي ملاحقتها؟ هل من المصادفة أنها كانت ذاهبة إلى حيث تنوي الذهاب في نفس ليلة ذهاب إيفيلين ديفينيش إليه؟ ولكن السؤال الأهم من كل هذه الأسئلة هو التالي. هل ذهبت حقًّا بمحض إرادتها؟ بفرض أنها أُجبرت على الذهاب …»

قاطعة السيد ريكاردو قائلًا: «أتقصد بالقوة؟»

«وبواسطة أشخاص لم يلاحظوا تلك الكتابة على الباب؛ لأنهم إما كانوا يتحركون في الظلام، وإما كانوا متعجلين. إذا ما بعثروا الفراش، فربما تمر بضع ساعات قبل اكتشاف اختفاء الشابة. ستعثر ماريان على الفراش مبعثرًا. حسنًا، لا بد إذن أن الآنسة قد استيقظت مبكرًا. وربما كانت تتجوَّل بين كروم العنب.» ثم التفت نحو رفاقه فجأةً وصاح:

«ليُفسِّر لي أحدكم سببًا آخر لبعثرة الفراش. وسأكون ممتنًّا للغاية.»

كانت ثمة نبرة قلق وألم عميقين في صوت هانو جعلت كل من الغرفة يشعر بالقلق. لم يكن يحاول خداع أحد في تلك اللحظة لاستعراض براعته. فكان ينقل بصره بين وجوههم في توقٍ للحصول على تفسير مقنع غير ذلك التفسير الوحيد الذي توصَّل إليه بنفسه.

«هل يمكنك أن تفعل يا سيدي المفوض؟»

«لا.»

«وأنت يا مورو! أنت!»

«لا يا سيد هانو.»

«وأنت يا سيد ريكاردو، أطرح عليك السؤال نفسه على استحياء، فأنت أول من اكتشف، من بيننا جميعًا، ما تعنيه هذه الفوضى المصطنعة.»

أشاح بوجهه في كآبة بعيدًا عن الفراش، ثم انحنى فوق طاولة الكتابة التي توجد أمام النافذة ولكنها تبعد عنها قليلًا. كان ثمة دفتر ورق نشاف جلدي موضوعًا على سطحها ومغلقًا. فتحه هانو وعلى الفور سقط نصف فرخ من ورق النشاف على الأرض. التقطه هانو. كانت حافته الداخلية متعرجة. قارنه هانو ببقية الأفرُخ.

وقال: «نصف هذه الأوراق مقطوعة، ولكننا لن نعثر عليها.»

كانت هناك سلة للورق المهمل بجانب الطاولة ولكنها كانت فارغة. وكان هناك درج في الطاولة. ولكنه لم يكن يحوي أي ورق نشاف، بل كان يحتوي بدلًا منه على كومة من الخطابات المفتوحة والمعادة مجددًا إلى أظرفها. جلس هانو على المقعد أمام الطاولة وبدأ يقرأ الخطابات سريعًا ووجهه مستقبل النافذة وظهره مستدبر الغرفة.

قال هانو مخاطبًا نفسه أكثر مما كان يخاطب أيًّا ممن يجلسون خلفه: «آه! إن لها أصدقاء، هذه الشابة.» ثم صمت للحظات، وعاد يقول: «من يكون برايس كارتر؟»

جفل السيد ريكاردو عندما سمع الاسم، وصاح هانو من دون أن يدير رأسه نحوه:

«أنت تعرفه إذن يا صديقي.»

رد عليه السيد ريكاردو: «لا، أعرف القليل عنه فحسب. كان خطيب ديانا تاسبورو في السابق.» استدار هانو نحوه في مقعده، وقال ببطء وخطاب مفتوح في يده: «ماذا تقول؟» تذكر السيد ريكاردو بوضوح المعلومات التي أعطتها له جويس ويبل عن هذا الشاب عندما التقاها في لندن، ولكنه كان لا يزال يذكر بوضوح أكبر الارتباك الذي انتابها وهي تُخبره بها.

«برايس كارتر شاب كان يعمل في وزارة الخارجية، ولكنه تركها ليُجرِّب حظَّه في عالم الأعمال ويُصيب حظه من الثراء؛ لأنه لم يكن يود أن يكون زوجًا فقيرًا لامرأة ثرية. ولكنه خُلع.»

تذكَّر ريكاردو تلك الكلمة الوصفية وقالها.

كرر هانو الكلمة قائلًا: «خُلع؟ خُلع؟ هذا تعبير اصطلاحي.» وكانت الدهشة تبدو على قَسَمات وجهه بوضوح تشير أن ثمة تعبيرًا اصطلاحيًّا لا يعرفه.

«أعني أن ديانا تاسبورو فسخت خطبتها منه.»

«أوه!»

التفت هانو مجددًا نحو الدرج. وبدأ يبحث وسط كومة الأظرف وعثر على خطاب آخر بخط اليد نفسه، ثم خطاب ثالث، وقرأها جميعها بتمعُّن. ثم نظر خلفه نحو ريكاردو مبتسمًا.

وقال: «سأخبرك بنبوءَة. هذا الشاب سيصبح ثريًّا في عالم الأعمال. إنه لا يضيع وقتًا، ذلك الوغد.» وتظاهر بأن الخطاب أحرق أصابعه وألقاه على الطاولة، ثم عاد يلتقطه مجددًا بحذر، وهو يقول: «إن خطابات برايس كارتر كالجمر الملتهب. يا إلهي، إنها تغلي!» وضع أصابعه في سخرية في فمه ونفخ فيها، ثم اختفى تظاهره دفعةً واحدة. فقد راودته فكرة جديدة فجأة، فتصلَّب جسده، وتحوَّل من رجل إلى تمثال حجري.

وقال أخيرًا: «نعم. نعم.» ثم واصل فحصه للدرج في حماسة شديدة. لم يعثر لبعض الوقت على شيء يثير اهتمامه، ثم أسند ظهره إلى مقعده مُحدِّقًا في ورقة.

«ليس من السهل قراءة هذا التوقيع. هل تعرف أحدًا باسم بريفر؟»

هز ريكاردو رأسه نفيًا، وقال: «هناك من يُسمى بريور.»

«حقًّا؟ هو الاسم إذن. بريفر. هنري بريفر، ويملك مختبرًا للعقاقير في ليدز.»

قفز السيد ريكاردو من مكانه.

وقال: «أوه!»

سأله هانو: «هل تعرفه؟»

«نعم، أعرفه هو أيضًا. السير هنري بريور. إنه طبيب شهير كرَّس حياته للبحث العلمي.»

قال هانو: «صديق غريب لفتاة شابة تهوى الموضة.»

كان السيد ريكاردو، باعتباره أحد مواطني العالم، في موضع يسمح له بأن يُقَوِّم صديقه فيما يتعلَّق بالنظام الاجتماعي.

شرح ريكاردو ببعض التواضع: «إننا لا نعيش وفقًا لتصنيفاتنا ومراكزنا الاجتماعية مثلما تفعلون في فرنسا. لا، إننا معتادون على حياة أكثر تحرُّرًا. تتناول ممثلاتنا الغداء مع صفوة المجتمع، ويتنزَّه أطباؤنا البارزون مع الفتيات.»

أومأ هانو برأسه في تواضع، وقال: «لا بد أن الأمر ممتع للغاية بالنسبة إلى الأطباء البارزين.» شعر السيد ريكاردو بالفضول تجاه ما يحويه الخطاب، فاقترب من الطاولة. ولكن قبل أن يتمكن من أن يلمح أيًّا مما يحويه، طواه هانو، وأعاده إلى داخل الظرف، ووضع الظرف في جيبه. بعد ذلك، ومن منطلق احترامه للعلم، لم ينفخ في أصابعه ليبردهما. ثم نهض من أمام الطاولة، وقال بينما يغلق الدرج: «سأحتفظ بهذا الخطاب، وأرجو ألَّا يذكره أي منكم لأحد. سننسى اسم بريفر! حسنًا!» ثم أغمض عينَيه للحظات وعاد يفتحهما مجددًا، وقال: «قُضي الأمر إذن. ولن تُذكر ليدز. حسنًا!» كرَّر أداءه السابق مُغمضًا عينَيه، وقال مخاطبًا السيد ريكاردو الذي كان ينظر له في استياء واضح: «آه! أنا أتصرف بطريقة هزلية، أليس كذلك؟ نعم، ولكنني لا أعيش دائمًا ضمن تصنيفي ومركزي الاجتماعي. أنا في ذلك أُشبه ذلك الذي نسيت اسمه. هيا بنا!»

جال ببصره لمرة أخيرة في أرجاء الغرفة. كانت طاولة الزينة عند الجدار نفسه الذي توجد خزانة الملابس عنده في مقابل السرير. وكانت النافذة وطاولة الكتابة بين الجدارين. كانت ثمة مجموعة من المصابيح المكورة مثبتةً في منتصف السقف. كان ثمة مصباح عادي بجانب الفراش، ومصباحان على طاولة الزينة، وعلى الجدار الخلفي كان مثبتًا مصباحان جداريان كهربيان. حفظ هانو كل هذه التفاصيل وتقدَّم الطريق هابطًا السلم الحجري وصولًا إلى الممر المائل.

وقال وهو يعصر مقبض الباب القريب منه: «هذه غرفة الآنسة تاسبروف.»

صحَّح له ريكاردو الاسم قائلًا: «تاسبورو.»

«هذا ما قلت: «تاسبروف».»

ظل واقفًا ممسكًا بمقبض الباب يقيس المسافة بين البابين.

ثم سأل ريكاردو: «هل كان ذلك الشيء، الذي مر أمامك في الشرفة خارج المنزل، شخصًا؟ هل من المحتمل أن يكون وطواطًا أو بومة؟»

«لا، لقد كان شخصًا. أنا واثق بذلك.»

«ولكن لا ريب لديك في هُوية ذلك الشخص، أليس كذلك؟»

«على الإطلاق.»

«وهل اختفى الظل عبر نافذة هذه الغرفة التي أقف أمام بابها؟»

«نعم.»

«هل كان ذلك في الثانية والنصف صباحًا؟»

«نعم.»

«حسنًا! لقد استوضحنا الأمر»، وأدار هانو مقبض الباب ودخل غرفة نوم ديانا تاسبورو للمرة الثانية.

كان السيد ريكاردو ينتظر في تلك اللحظة على أحر من الجمر. وكاد يدفع هانو من طريقه من فرط توقه للوصول إلى تلك اللوحة المُعلَّقة على الجدار فوق الفراش ويكشف السر الذي تحويه. ولكنه تلقَّى واحدةً من أقوى خيبات الأمل التي تلقَّاها في حياته. فقد وجد نفسه يُحدِّق في نسخة من النسخ الكثيرة للوحة قناة البندقية الكبرى لتينتوريتو. كان السيد ريكاردو قد رأى تلك الزوارق، والخيال الباهت لقصر رئيس قضاة البندقية، وقبة سانتا ماريا ديل سالوت، مئات المرات على جدران مئات غرف النوم، ونام تحتها أيضًا عدد المرات نفسه. لم يكن ثمة سر في هذه اللوحة لكشفه، أو لغز في تمثيلها الصامت للبندقية لحله. ألقى السيد ريكاردو نظرةً مؤنبة على المحقق الذي أسرع ليقف إلى جواره.

سأله هانو: «ألم ترَ شيئًا فيها؟»

«لا شيء.»

«إذن، لا بد من أنه لا يوجد شيء لرؤيته.»

لا شيء لرؤيته؛ لا! ولكن كانت عينا هانو تلمعان بهذا البريق العجيب، ذلك التحفُّز الغريب في سلوكه، واللذان رآهما ريكاردو من قبل في هذا المكان نفسه. حتى صوته كان يتهدج من فرط الانفعال. ومرةً أخرى، هذه الغرفة تحتوي على معلومات مهمة عليه اكتشافها. اللوحة؛ مجرد مزحة، بل مزحة سخيفة أيضًا. ولكن المزحات السخيفة التي تُلقى عنك باستمتاع كانت جزءًا من الثمن الذي عليك دفعه مقابل الإثارة التي تطمح في الحصول عليها من صداقتك به. كتم السيد ريكاردو شكواه في نفسه وحدق مُقطِّبًا جبينه في الغرفة بحثًا عن ذلك الشيء الذي تغير وحفَّز هانو. للأسف! لم يعثر على شيء. كانت هناك المرآة، وطاولة الكتابة ذات الصليب، وزجاجات العطر نفسها على طاولة الزينة؛ لا، تحيَّر السيد ريكاردو. لمح هانو يراقبه وشبح ابتسامة مرتسم على شفتَيه.

قال هانو بسرعة: «غريب، أليس كذلك؟»

رد السيد ريكاردو رافضًا أن يكون عُرضةً للسخرية والاستهزاء إن كان قادرًا على منع ذلك: «للغاية. غريب للغاية.»

«إذا كنت قد اكتفيت، فثمة غرفة أخرى علينا زيارتها قبل أن تعود مُضَيِّفتُنا ومدير أعمالها. فلن يعجبهما أن يجدا الشرطة تدس أنفها في الأسرار الحميمية التي لا دخل لها بها. ولكن، للأسف، هذا ما يجب أن تفعله الشرطة خلال تحقيقاتها. لذا، دعونا لا نسبب الكثير من الإزعاج قدر إمكاننا. مورو، اطلب من السيد المفوض أن يُعيِّن حارسًا ليُراقب الطريق ويُحذِّرنا حال عودة السيارة.»

ولكن لم يكن المفوض متحمسًا لأن يُقصي شرف حزامه الثلاثي الألوان من تحقيق هانو. فأومأ إلى مورو.

وقال: «ستجد أندرو بيش في الغرفة التي نشغلها. ويمكنك أن تُعيِّنه حارسًا عند النقطة التي تراها مناسبة.»

ذهب مورو مُتردِّدًا ليُنفِّذ ما طُلب منه.

قال المفوض مخاطبًا هانو: «أندرو بيش شاب ذكي. لن يقاطعنا أحد.»

كان السيد ريكاردو يدرك أن هانو يعلم جيدًا أنه أصبح مطلوبًا منه حاليًّا أن يتعجَّل في إنهاء ما يفعل. تقدَّم هانو الطريق إلى الشرفة بالقرب من النافذة الطويلة عند قوس البرج، ومر بسرعة على طول واجهة المنزل، وعَبَرَ الطريق الذي تحفه الأشجار وخَرَجَ إلى مساحة مفتوحة من الأرض المكسوة بالعشب التي بُني الشاليه عليها. ثم توقف للحظات عند حافة هذه المساحة من الأرض. ولكن لم يتمكن من رؤية أي حركة داخل الشاليه، وكان هناك ستار من الأشجار يحجبهم عن مجال رؤية العمال في أقبية وأحواض النبيذ. رغم ذلك، عبر هانو الأرض العشبية عدوًا، وفتح البوابة البيضاء وأصبح عند مدخل الشاليه بسرعة تتناقض مع بنيته الضخمة. كان الباب موصدًا ولكنه لم يكن مقفلًا بالمفتاح. انفتح الباب على ممر ضيق يوجد باب عند كل من طرفيه، ومن خلفه يوجد درج، وعَبْرَ عتبة باب، لمحت المجموعة مطبخًا. توقف هانو في الممر مرةً أخرى للحظات واضعًا إصبعه على فمه. ولكنه لم يسمع أي صوت.

قال هانو في راحة: «لقد انتهى الخدم من تنظيف الشاليه وعادوا إلى القصر. إنه فارغ.»

ثم سمع صوت أقدام تعدو مسرعةً على الحصى من خلفه. فاستدار ليرى القادم. كان القادم هو مورو بعد أن أنهى المهمة التي كلَّفه بها المفوض، وقال: «أصبح هناك حارس يراقب الطريق.»

ردَّ هانو: «حسنًا!» لم يُبدِ أي اهتمام بالغرف في الطابق الأرضي، ولكنه صعد الدرج في سرعة. كان هناك حمام وغرفة ملابس على أحد جانبي قمة الدرج، وغرفة نوم طويلة على الجانب الآخر، مع نافذة عند كل من طرفَي الممر. توجَّه هانو من فوره نحو النافذة التي تُطِل على الأرض العشبية ومن خلفها طريق الأشجار.

وسأل السيد ريكاردو: «هل كانت الأضواء التي رأيتها منارةً هنا؟»

«نعم.»

كانت الغرفة تُنار في الليل بأضواء كهربية. كان ثمة مصباح عادي موضوع على طاولة بجانب الفراش، وبضع مصابيح معلقة على الجدران.

كرَّر هانو الكلمة قائلًا: «نعم.» ولكن لم تكفه هذه الإجابة. كانت ثمة طاولة تُرى في منتصف الغرفة في موازاة النافذة. فحص بعينَيه الأشياء الموضوعة عليها — كتاب، وقلم حبر، وعلبة ورق ملاحظات، وأظرُف، ونشافة، وزجاجة حبر، وقلم رصاص — ولكنه كان يبحث عن شيء بعينه، ولم يكن ما يبحث عنه موجودًا. كانت هناك بعض الخزانات مصفوفةً على جدارٍ الواحدة بجانب الأخرى. فتحها هانو بالترتيب. وفي إحداها، كانت هناك ملابس معلقة على شماعات، وفي الثانية، كانت ملابس روبن ويبستر الداخلية مرتبةً في أرفف. وفي الثالثة، التي كانت تحتوي على أرفف أيضًا، كانت توجد ربطات عنقه، وياقاته، وجواربه، ومناديله مصنفةً في مجموعات. ولكنها لم تكن تشغل إلا رفين فقط، وكان في الخزانة ثلاثة أرفف. كان يشغل الرف الثالث أشياء متفرقة؛ صندوق ياقات جلدي، وبعض الزجاجات، وقارورة حرارية، وطبق. أغلق هانو باب الخزانة واستدار حول نفسه، وصفَّق بيديه وفرك راحتيهما معًا بينما كانت ابتسامة تزحف على وجهه ببطء. لقد وجد ما كان يبحث عنه؛ لا ريب في ذلك. ولكن لم يكن السيد ريكاردو يولي اهتمامًا كبيرًا به. لقد عثر على شيء ما هو أيضًا. نعم، لقد طرأت بباله فكرة.

فصاح وهو يقف بجانب النافذة: «هانو، طرأت ببالي فكرة.» وخلال لحظات، كان هانو يهز ذراعه وقد ملأ الإعجاب والتحمس وجدانه.

وقال: «فكرة! حقًّا! هذا أمر نادر الحدوث! قلها! لا تتركني معلقًا هكذا! صُغ هذه الفكرة التي لا تُقدَّر بثمن بكلمات لا تُقدَّر بثمن!»

«هل ستسخر مني؟»

«صديقي!» حملت هذه الكلمة الكثير من اللوم.

«حسنًا إذن. لقد قست طول الجناح في القصر بنظري.»

قال هانو: «لم أُفكِّر في ذلك! ولكني بدأت التفكير في ذلك الآن.»

«على اليسار، عند نهاية الجناح، بانحراف في عكس اتجاهنا، توجد نافذة غرفتي.»

كوَّر هانو يديه في محاكاة لشكل نظارات الأوبرا المقربة ووضعهما أمام عينَيه.

وقال بجدية: «أرى ذلك. هذا أمر استثنائي.»

«هناك، أمامنا مباشرة، نافذة غرفة إيفيلين ديفينيش.»

ألقى هانو بجسده على مقعد، وصاح: «أوه! إنها هي حقًّا. حسنًا، إذن! هيا، هاتِ ما عندك!»

«حسنًا إذن! لقد أخبرتك عن نظرة الكراهية الشديدة التي وجَّهتها إيفيلين ديفينيش نحو جويس ويبل عندما كان روبن ويبستر ينحني فوق مقعدها.»

«لقد فعلت! لقد فعلت!»

«ألم تفهم بعد؟ لقد ذهبت إيفيلين ديفينيش إلى الشاليه حيث يقيم بمحض إرادتها عندما غادرت غرفتها ليلة أمس. لقد ذهبت إلى حبيبها روبن ويبستر.»

اختفت كامل الحماسة من وجه هانو الضخم. وبدا الإحباط جليًّا في طريقة تصرُّفه المتبلِّدة. هزَّ رأسه في إيماءة إلى السيد ريكاردو تحمل أرقَّ أنواع اللوم، ووضع يده الضخمة على صدره ضاغطًا ليهدئ خيبة الأمل المستعرة في قلبه.

وقال بحزن: «صديقي، لقد أوصلتني إلى درجة من الحماس خطرة على من هم في مثل عمري، ثم ألقيت بي من علٍ واصطدمت بالأرض بقوة أكبر من اصطدام إبليس بها عندما سقط من السماء! كيف طاوعك قلبك على فعل ذلك! كيف طاوعك قلبك على فعل ذلك!»

رمق المفوض هيربستال، الذي لا يعرف شيئًا عن تقلب مزاج هانو، السيدَ ريكاردو في لوم. إلا أن السيد ريكاردو لم يتخلَّ عن موقفه.

وقال بحدة: «لقد جاءت إيفيلين ديفينيش إلى هذا الشاليه، وإلى روبن ويبستر.»

قال هانو: «ولكن لم يكن روبن ويبستر هنا.»

«لم يكن هنا!»

حدَّق السيد ريكاردو في وجه محقق جهاز الأمن العام في شفقة. نعم، لقد ولَّت أيام المحقق العظيم. إن هذه القضية وخفاياها وتداخلاتها كثيرة للغاية على هذا العقل الذي كان يومًا عظيمًا وعبقريًّا. ولكن لم يكن يصح أن يُحرجه السيد ريكاردو أمام زملائه. يجب أن يجعله يعدل عن موقفه بهدوء وسلاسة.

فقال: «لقد نسيت يا سيد هانو. لقد رأيت الأنوار التي أضاءها ويبستر تتسلَّل عبر هذه النافذة. ورأيته يطفئها.»

قفز هانو واقفًا على قدميه على الفور.

وقال: «لا، لا، لا! أنا أتذكَّر كلماتك جيدًا. لقد رأيت الأنوار ترتعش ثم تنطفئ. نعم، في وقت قولك لها، فكَّرت أنها كلمات غريبة. والآن، دعنا نرى. إذا ما أضأت مصباحًا كهربيًّا، فإنه ينطفئ ويعم الظلام على الفور. وإذا انصهر سلك، يحدث المثل. ولكن إذا ما ارتعش نور المصباح ثم انطفأ، فإن السبب في ذلك يرجع إلى أنه قد تلف. والآن، دعنا نرى.»

أنار جميع مصابيح الغرفة الواحد تلو الآخر، وأصدرت جميعها ضوءًا. ثم أطفأها مجددًا، واختفى ضوء كل منها في سرعة لحظية.

وقال: «لقد رأيت ذلك!»

ثم عاد إلى الخزانة الثالثة ومن رفها الثالث، أخرج الطبق ووضعه على الطاولة.

وقال: «هذا ما رأيته يرتعش ثم ينطفئ.»

اصطدم هيربستال والسيد ريكاردو أحدهما بالآخر بينما كانا يسرعان لفحص الطبق. ورأيا في قاع الطبق قطعةً من فتيل أسود، وقطعةً صغيرة من الشمع بدا أنها ذابت وتجمَّدت مجددًا.

تلعثم السيد ريكاردو وهو يقول: «أنا لا أفهم.»

«ولكن الأمر واضح. لقد أضاء صديقي الشاب ويبستر هذه الشمعة وتركها تحترق لتنير الغرفة حتى يقول السيد ريكاردو، أو أي أحد آخر ينظر في هذا الاتجاه، لنفسه: «يا لهذا الشاب المجتهد! يا له من كنز!» ولكن للشمعة طول معين، ومن المتعارف عليه أنها ستنطفئ في وقت ما، وسيقول السيد ريكاردو، إذا كان لا يزال مستيقظًا: «لقد تأخر الوقت، لا بد أنه ذهب لينام. يجب ألا يُدمِّر الكنز صحته. إننا لا نعثر على أمثاله بسهولة».»

كان هذا ما حادث به السيد ريكاردو نفسه تمامًا، وبدأ وجهه يحمر بشدة بينما يستمع إلى هذا التفسير.

«ولكنه كان في الحقيقة خارج الشاليه. نعم، كل شيء على ما يرام، ولكنه نسي ارتعاش الضوء عندما يخبو لهب الشمعة ويقفز، ثم ينطفئ. آه! إن السيد ويبستر شخص مثير للاهتمام. إلى أين ذهب عندما ترك الشمعة تحترق؟ وماذا كان يفعل؟»

أعاد هانو الطبق بحرص إلى مكانه على رف الخزانة وأغلق بابها. في تجويف صغير في الجدار الذي يستند إليه رأس الفراش، كان ثمة بعض الكتب مرصوصة. سار هانو نحو الكتب وقرأ عناوينها بصوتٍ مسموع. كانت مجموعةً غريبة للغاية من الكتب ليحتفظ بها رجل بجانب فراشه، وفي رأي السيد ريكاردو، لم يكن من المرجح أن يؤدي بعضها إلى إصدار تلك الأفكار الجميلة التي يجدر بالمرء أن يُفكِّر فيها لتساعده على النوم.

قرأ هانو بصوتٍ عالٍ: «يوميات كازانوفا. أفضل أعمال رويسبروك، الصوفي؛ الآنسة دو موبا؛ الاقتداء بالمسيح؛ الدفن في الجرار؛ الفتاة ذات العينين الذهبيتين. يا له من شخص مثير للاهتمام، السيد ويبستر! يا لها من مجموعة عجيبة من الكتب!»

أمسك بكتاب «الآنسة دو موبا» وفتحه على صفحة الغلاف.

وقال متفهمًا: «نعم. روبن ويبستر.»

أعاد الكتاب إلى مكانه وأمسك أحد أعداد يوميات كازانوفا عشوائيًّا. كان هذا الكتاب أيضًا يحمل اسم روبن ويبستر على صفحة الغلاف. كان تجليد الكتاب الثالث الذي أخذه من على الرف أكثر اهتراءً من الكتب الأخرى، الأمر الذي أدهش السيد ريكاردو. فقد كان هذا الكتاب هو «أفضل أعمال رويسبروك، الصوفي»، وكان من غير المُرَجَّح أن تجد كتابًا مثل هذا مستخدمًا بصورة مُتكرِّرة في غرفة مدير كروم عنب. فتح هانو الكتاب. كان تقطيب الصفحات مفككًا، ولم تكن صفحة الغلاف موجودةً من الأساس.

ولكن، كان السيد ريكاردو يقف الآن بجانب هانو، ولكنه لم يكن ينظر من فوق كتفه، فلم تُمكِّنه ضخامة جسم هانو من ذلك، بل كان يختلس النظر من حول مرفقه، وبينما كان هانو يغلق الكتاب صاح محتجًّا من إهمال صديقه المحقق: «صديقي، أنت لم تعد قوي الملاحظة! كيف وصلتَ إلى هذه الحال؟»

صاح هانو بصوتٍ متحسِّر على جميع الأخطاء التي يرتكبها: «أخبرني أنت! أخبرني بسرعة!»

«صفحة غلاف هذا الكتاب ليست مفقودةً بسبب تفكك الكتاب. لا، على الإطلاق. لقد طُويت نحو كعب الكتاب وكُورت، ثم قطعت بحرص وعن عمد.»

عاد صوت هانو ليكتسب قوته مجددًا.

وقال: «لقد لاحظت ذلك. نعم، نعم. لا تزال ثمة بقايا من العبقرية التي عُرف بها هانو. لقد قُطعت صفحة الغلاف.»

صاح السيد ريكاردو شاعرًا بالظفر: «ولكن لماذا؟ الأمر واضح تمامًا. لقد غيَّر روبن ويبستر اسمه.»

ردَّ هانو: «فلنرَ.» ثم أخذ كتاب «الاقتداء بالمسيح». وكانت صفحة غلاف هذا الكتاب أيضًا مقطوعةً بحرص. ظل واقفًا يحدق في الكتاب لفترة طويلة. ثم أعاد الكتاب إلى مكانه ببطء، وقال ببطء مماثل: «ثمة تفسير آخر. وهو يقنعني أكثر من سابقه. فهو يفسر لي شيئًا عن روبن ويبستر ظل يُحيِّرني طَوال اليوم.»

وواصل بحثه مسرعًا بين الأدراج بلمسات خفيفة مثل النساء، وخفة يُحسد عليها. لم يتبقَّ سوى صندوق قديم، وفوق غطائه المغلق كان هناك غليون أو اثنان، ومضرب تنس، ودليل هاتف، وخريطة، ومجلة أمريكية، تلك الأشياء المتفرقة التي يجمعها الرجال. أزاح هانو هذه الأشياء جانبًا، وفتح الصندوق. أخرج هانو منه دِثارًا ومعطفًا ثقيلًا وألقاهما على الأرضية، ثم وقف منتصبًا ممسكًا في يده صندوقًا رخيصًا مستطيل الشكل مرصعًا بلؤلؤة كبيرة. هز الصندوق وسُمع صوت خشخشة في داخله في خفوت. حاول فتح الغطاء، ولكنه كان مقفلًا، فجلس إلى الطاولة. كان القفل رخيصًا مثل الصندوق. أخرج هانو من جيبه مجموعةً من الأدوات المعدنية الصغيرة المُعلَّقة في حَلْقَة. انتقى من بينها ملقطًا وسرعان ما انفتح الصندوق.

ثم قال: «أوه!»، وألقى على الطاولة حوالي ثمانية أو عشرة خطابات؛ إذا كان يمكن أن يُقال عنها إنها خطابات. فمن زاوية رؤية السيد ريكاردو على الجانب الآخر من الطاولة، كانت تبدو وكأنها ملاحظات، وكان أغلبها مكتوبًا بالقلم الرصاص، وجميعها مكتوبًا في عجلة. قرأها هانو سريعًا، وتغيَّرت ملامح وجهه.

وقال ببطء: «آه!» ورفع عينَيه نحو السيد ريكاردو وأومأ برأسه مؤكدًا صحة تخمينه.

قال هانو الذي بدا أنه مسرور من مشاركة السيد ريكاردو في القضية حتى هذه اللحظة: «نعم، نعم!» ولكن بما أنه لم يكن مسموحًا للسيد ريكاردو أن يرى حتى التوقيع الذي ذُيلت به هذه الخطابات، فلم يؤثِّر فيه هذا السرور كثيرًا. أعاد هانو الخطابات إلى الصندوق، والتفت نحو مورو.

وقال: «يجب أن تُصوِّر هذه الخطابات، على الفور. أعتقد أن الأمر لن يستغرق منك بضع دقائق.»

قال مورو وهو يتجه نحو الباب: «سأُحضر كاميرتي واللوح الصغير لفردها.»

ولكن استدعاه هانو. وقال: «لا. إن صديقنا …» ثم قطع جملته. وعاد يقول: «قد يعود صديقنا السيد روبن فجأةً ويجعلنا نغادر دون أن نستكمل عملنا. من الأفضل أن تأخذها إلى غرفتنا، وتُصوِّرها بأقصى سرعة ممكنة وتعيدها، إذا ما توفر لك الوقت لتفعل. وإذا لم تتمكَّن من ذلك، فسيكون ذلك من سوء حظك. سنحتفظ بالصندوق على أمل ألَّا يُكتشف اختفاؤه في وقت قريب.»

كان يتحدث بثقة كبيرة، ولكنه كان يجلس «على أحر من الجمر» عندما ذهب مورو ليُنفذ ما طُلب منه. كان يذرع الغرفة جيئةً وذهابًا بين الطاولة والنافذة، وينظر إلى الطريق، ثم يفحص مُجدَّدًا ركنًا كان قد فحصه من قبلُ وكان مظهره بالكامل يدل على أنه لا يطيق الانتظار. وفي نهاية المطاف، جلس إلى الطاولة مجددًا وضم يديه معًا أمام وجهه.

وسأل فجأة: «لمَ قد يحتفظ رجل بخطابات موجهة له من امرأة داخل صندوق مغلق؟ هل يمكنك أن تخبرني بالسبب؟»

ابتسم جوليوس ريكاردو. فقد كانت الإجابة بَدَهية. وردَّ قائلًا: «لأنه مغرم بها. قد تتذكَّر أني رأيته ينحني على ظهر أحد المقاعد. وتأكَّدت ملاحظتي بصرخته التي أطلقها هذا الصباح عندما اكتشفنا اختفاء جويس ويبل.»

نظر هانو بفضول إلى السيد ريكاردو.

وسأله: «هل تعتقد أن جويس ويبل هي من أرسلت تلك الخطابات، أو الملاحظات، أو القصاصات المكتوبة؛ أيًّا كان ما تطلقه عليها؟»

قال السيد ريكاردو لائمًا برفق: «لست بحاجة لأن أرى التوقيع الذي يُذيِّلها، والذي أخفيته ببراعة، لكي أعرف يا صديقي.»

التفت هانو نحو هيربستال فجأة.

وقال: «وماذا عنك أيها المفوض؟ لمَ قد يحتفظ رجل بخطابات موجهة له من سيدة في صندوق مغلق؟ هل ستقول مثل ما قيل؟ هل لأنه مغرم بها؟»

قال المفوض وهو يهز كتفيه: «ربما.»

قال هانو متشككًا: «حسنًا، ربما كان الأمر كذلك. ولكني أقول مجددًا إن ثمة تفسيرًا آخر، وأنا أفضِّله أكثر من الآخر.»

عاد مورو إلى الغرفة أثناء حديثه ممسكًا بالصندوق المرصع بين يديه. وقال: «أُنجز الأمر.»

قفز هانو من مقعده، وأعاد قفل الصندوق بملقطه، وأعاده إلى المكان الذي كان مخبأً به. وقال والراحة تكاد تقفز من وجهه: «جيد، لنذهب الآن! فقد سمحت للسيارة بالعودة!»

وغادر الرجال الثلاثة الشاليه وعادوا إلى شرفة المنزل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥