الفصل الثالث عشر

وجهات نظر متباينة

أعطى هانو أمرًا للحارس. قال: «خذ هذا الحذاء وغَطِّه جيدًا وأعطه إلى سكرتير المفوض. ثم أخبر مساعدي بعدما ينتهي من عمله عند حوض الزهور أن يأخذ قوالب آثار الأقدام أيضًا ويغطيها.»

التقط كوربي الحذاء وأسرع يجري على الطريق لينفذ ما أُمر به. وتبعته بقية مجموعة البحث على الطريق نفسه ولكن بسرعة أبطأ.

وعندما أصبحوا على مسافة ٢٠ ياردة من المنزل، ظهر رجل ضئيل الحجم بدين يرتدي زي كاهن ويضع حزامًا قرمزيًّا على خصره على عتبة نافذة غرفة الاستقبال، ونظر حوله في حذر. كانت ثمة هالة غريبة من السرية تُحيط بمظهره. وعلى الرغم من أن هانو بدا غارقًا تمامًا في أفكاره، فقد رآه على الفور. فتوقف عن السير، وأشار للآخرين بأن يتوقفوا أيضًا.

وسأل بصوت خافت: «من هذا؟»

ردَّ عليه المفوض هيربستال: «إنه القس فاورييه.»

قال هانو: «آه، نعم!»

ولكنه لم يواصل السير.

بل همس قائلًا: «اثبتوا مكانكم»، فوقفوا يراقبون تحركات القس محتمين بالأشجار.

تسلَّل القس على أطراف أصابعه إلى حافة الشرفة، ثم دار حولها فاحصًا النوافذ العليا للبرجَين. وعندما اطمأنَّ أن لا أحد يراه من نقاط الرؤية هذه، تحرك على طول الأرضية الحجرية في اتجاه طريق الأشجار، ولكنه كان يتحرك ببطء دون أن يرفع عينَيه عن الأرض وكأنه يتوقَّع أن يتعثَّر في عقبة. وعندما وصل إلى باب غرفة الطعام الزجاجي، تنبَّه مجددًا. ونظر إلى داخل الغرفة، ووقف على أصابع قدميه حتى يتمكن من الرؤية بصورة أفضل، ثم عبر الشرفة بوثبة متعثرة عديمة الصوت، وألصق وجهه بالزجاج.

همس السيد ريكاردو في انزعاج: «هذا غريب للغاية.» كان مشهد قس يتلصص من المشاهد غير المقبولة بالنسبة إليه.

قال هانو: «صهٍ!»، ثم قال مخاطبًا نفسه: «كَم من الوقت بقي القس في غرفة الاستقبال ليُقدِّم تعازيه؟»

أجابه المفوض.

قال: «لم يكن نيافة القس ينتظر من الأساس. لا، أنا متأكد! أعتقد أن هناك شيئًا يود قوله، ما دام ينتظر هكذا. أوه! إن القس رجل ملتزم بالرسميات. ولقد التقى سيدات سوفلاك حقًّا.»

قال هانو وقد ظهرت في صوته نبرة تنم عن الاهتمام: «أوه! هل فعل؟ أخبرني بما حدث أيها المفوض.»

«لقد جاء قبل أن تعود وصديقك من فيلبلانش. وطلب مني أن آذن له بأن يُقدِّم خدماته الكهنوتية للسيدات. صحيح أن السيدات يتبعن المذهب البروتستانتي، ولكن في مثل هذه الفاجعة، يُنسى الاختلاف بين المعتقدات.»

قال هانو مُعلِّقًا برفق: «وهل أعطيته الإذن؟»

أجاب هيربستال في حزم: «من دون أدنى تردد.»

أمال هانو رأسه. لا يمكن حتى للمحققين المشهورين من جهاز الأمن العام في باريس أن يُعادوا مفوضي الشرطة إذا كانوا يودون أن تسير تحقيقاتهم بسلاسة.

قال هانو مُعلِّقًا، وكأن لا شيء سمعه حتى تلك اللحظة أسعده أكثر من ذلك: «وكنا تحت رقابة القس طَوال هذه المدة.»

رد عليه هيربستال: «لم يحدث شيء من هذا القبيل. قابل القس الآنسة تاسبورو أولًا، ولم يقضِ وقتًا طويلًا معها. ثم توجَّه على الفور إلى غرفة السيدة تاسبورو التي توجد في الجناح الخلفي ولا تُطِل على هذه الناحية من الأساس.»

فكَّر السيد ريكاردو أن ثمة خطأً فيما قال. من المهم معرفة متى غادر القس الغرفة في ذلك الجناح وتسلَّل إلى غرفة الاستقبال. ولكنه لم يصرِّح، وقال لنفسه: «يبدو أن المفوض مصاب بعقدة فاورييه.» ترك الأمر برمته في يد هانو، ولكن كان هانو قد عاد مجددًا لمراقبة الشرفة بعينين لا تطرفان.

بعدما اطمأنَّ القس أن لا أحد في غرفة الاستقبال قد يراه، استدار نحو غرفة ديانا تاسبورو وعاد يسير بالطريقة الشاردة نفسها في ذلك الاتجاه.

أطلق هانو صافرةً خافتة، وسأل المفوض من دون أن يرفع عينَيه عن الشرفة ولو للحظة واحدة: «هل قابل ديانا تاسبورو في غرفتها في ذلك البرج هناك؟»

«بالطبع.»

«والآن، ها هو يعود إلى الغرفة رغم أنها فارغة. نعم، كما يقول صديقي السيد ريكاردو، هذا أمر في غاية الغرابة.»

اقترب القس من البرج أكثر فأكثر، ثم دخل فجأةً عبر الباب. بدا أن هانو كان يتوقَّع أن يفعل ذلك. فخرج من مخبئه كلمح البصر. وعدا بسرعة لا تتناسب مع ضخامة بنيته. ووصل إلى الشرفة قبل حتى أن يبدأ رفاقُه بالتحرك. ثم عدا عبر الشرفة دون صوت كما لو كان يرتدي حذاءً مطاطيًّا مراعيًا أن يظل قريبًا من نوافذ المنزل. ثم توقف عند الزاوية التي يصنعها بروز البرج. لا ريب في أنه لم يسمعه أحد، وأنه لا يمكن أن يراه أحد حيث يقف. ومن ناحية أخرى، لم يكن ليتمكن من رؤية أي شيء يفعله القس داخل غرفة ديانا تاسبورو. ولكن بدا أنه لا يمانع ذلك. فقد ظل واقفًا في مكانه في صبر تام. كان أصدقاؤه قد أصبحوا في نطاق السمع قبل أن يظهر القس الذي كان لا يزال يتصرف وكأنه فيلسوف غارق في تأملاته ولا يعرف إلى أين تقوده قدماه. غير أن حدثًا مفاجئًا أيقظه من هذه الحالة. فقد تسلل هانو خلفه وانحنى وقال في أذنه: «نيافة القس.»

استدار القس حول نفسه في ارتباك شديد. ورفع هانو، الذي كان ممسكًا بالقناع الملفوف بالمنديل في يده اليسرى، قبعته بيده اليمنى وانحنى في احترام.

وقال: «لا ريب في أنك لاحظت أن إعادة التنظيم البسيطة قد تمت، أليس كذلك؟»

رغم أن العبارة كانت غريبةً على سمع السيد ريكاردو والمفوض، فإنها كانت تحمل معنًى واضحًا تمامًا بالنسبة إلى القس فاورييه. فقد بدا الرعب جليًّا في عينيه، وهرب الدم من وجنتَيه، تاركًا إياهما مرقطتَين ببقع حمراء، واصفرَّ أنفه والجلد تحت عينَيه بلون الشمع. وبدا وجهه في ثانية واحدة وكأنه انكمش ونحِل. كان رجلًا قد بلغ من العمر أرذله. ولكنه كان يملك روحًا شابة. فرفع رأسه عاليًا، وحلَّ محل الرعب في عينَيه لمعة تحدٍّ. ونصَبَ قامته، ثم التفت قليلًا نحو المفوض هيربستال، وقال بصوتٍ جاف: «لا ريب في أن هذا الرجل هو السيد هانو الشهير الذي يتحدث بالألغاز. فالألغاز هي الطريق المختصر لتحقيق الهيبة والشهرة، كما أنها تبدو مخيفةً للغاية بالنسبة إلينا نحن معشر الريفيين ذوي الفهم البطيء.»

كان هذا إعلان حرب واضحًا وصريحًا؛ تخيَّل السيد ريكاردو، بطريقته الخاصة، القس الضئيل والمحقق الضخم وكأنهما داود وجالوت. لا ريب في أن هانو قد وضع فخًّا، ولكن رفض القس الوقوع فيه. والآن، بعد أن تمالك نفسه، ووقف يرتجف قليلًا من قمة رأسه وحتى أخمص قدمَيه، ليس من الخوف، بل من تركيز إدراكه بالكامل، بدا كرجل ضئيل من الأفضل الحذر منه. وتساءل السيد ريكاردو عمَّا إذا كان يُخفي مقلاعًا في ثيابه، مجهزًا بحجر كبير وثقيل.

قال هانو: «إذا كنت قد واريت ما أعنيه يا نيافة القس حتى لا يتمكَّن أحد من فهم ما أقصد إلا أنت، ويبدو أنك فعلت، فيجدر بك أن تشكرني على مراعاتي، لا أن تلومني. ولكن بما أنك لا تُحب ألغازي، فسأسألك الآن بكل وضوح عن سبب وجودك داخل غرفة الآنسة منذ لحظات مع مراعاة ألَّا يراك أحد؟»

«سأُجيبك بأن عليَّ واجبات يجب أن أؤديها، مثلك تمامًا يا سيد هانو. ويمكن القول إن واجباتي تبدأ من حيث تنتهي واجباتك أنت، وهذه هي الحقيقة. وجميع هذه الواجبات مؤسفة، وشاقة، وسرية. ولكن إذا أردت أن يبارك قس مسكين واجباتك، أيًّا كانت»، وأضاف بنبرة مرحة: «فلا أُمانع في أن أمنحك إياها.» ثم سار مبتعدًا بانحناءة بسيطة، إلا أن هانو دار على عقبَيه كجندي، قفز إلى جواره بدقة تامة، وكأنه ترس يتطابق مع مسننات عجلة.

وقال في هدوء: «بالتأكيد. سألقي القبض على المجرم أولًا، ثم تنقذ أنت روحه بعد ذلك. أرى أن هذا توزيع صحيح لواجبات كلٍّ منا. ولكننا نشترك في الواجب الثالث نفسه أيها القس.»

figure
ابتعد القس مرتعبًا. فقال هانو في هدوء: «بالتأكيد. سأُلقي القبض على المجرم أولًا، ثم تُنقذ أنت روحه بعد ذلك.»

قال القس: «بل ألف واجب يا سيد هانو. ظَلِلت أُعلِّم الناس الدين طَوال ٣٠ عامًا، ولكني لم أصل إلى نهاية واجباتي بعد.»

«ولكن ثمة واجب واحد أهم منها جميعها.»

أدرك القس الضئيل أن الضربة آتية.

فقال: «أُدرك ذلك يا سيد هانو.»

«واجب المواطن الصالح.»

«صحيح ما قلت.»

«وفي ظل ضغوط هذا الواجب الثالث، قد يتداخل واجب أو اثنان في بعض الأحيان.»

كان الرجلان يسيران جنبًا إلى جنب بعيدًا عن المفوض والسيد ريكاردو. ولم يمانع السيد ريكاردو ذلك؛ فقد كانا لا يزالان ضمن نطاق سمعه. ولكن، رغم أن القس لم يُبدِ أي أمارات على التعجل، كان ينحرف بثبات نحو باب غرفة الاستقبال.

ردَّ القس: «عندما يحين ذلك الوقت، أُؤكِّد لك أني سأؤدي واجبي على أكمل وجه.»

«لقد حان ذلك الوقت أيها القس.»

«لا أعتقد ذلك يا سيد هانو، وأنا الوحيد الذي يمكنه تحديد ذلك.»

«أرجو منك أن تنظر في هذه المسألة بتمعُّن أكبر يا نيافة القس.»

كان الحوار برمته جافًّا، ورسميًّا، ومُهذَّبًا، رغم أنه من حين لآخر كنت تسمع نبرة صوت غاضبة، أو كلمة لاذعة يتم التراجع عنها سريعًا، ما أظهر العداء الشديد بين الرجلَين. ولكن جعل هذا الاحتقار القس فاورييه يزل.

فقال بشفتَين مضمومتَين: «إن أي شيء تقوله يا سيد هانو سيجعلني بالطبع أُمعِن التفكير في كل شيء.» وسرعان ما استغلَّ هانو هذه الزلة.

فقال: «إن ما أقول مجرد مثال يا سيدي. على سبيل المثال، هناك مسألة سرقة ملابسك الكهنوتية ليلة أمس.»

ارتجَّ وجدان القس. وكان الدليل على ذلك هو أن توقَّف عن السير وصمت لثانية. ثم عاد يتحدَّث بنبرة تنم عن لوم الذات:

«سيد هانو، لقد كنت أتحدث بلا مبالاة في هذا المنزل ليلة أمس. أنا أشعر بالخجل، وفرضتُ على نفسي كفارات معينة عقابًا. وجدت ملابسي الكهنوتية مُعلَّقةً في غرفتي الكنسية صباح اليوم، وارتديتها في وقت مبكر عند الساعة السادسة، عندما سعيت للحصول على بركة القديس متَّى لكروم العنب الخاصة بنا أمام جمهور متواضع مكون من امرأتَين مسنتَين فحسب.»

بدت الدهشة واضحةً على وجه هانو. فصاح: «هل أُعيدت إليك في الساعة السادسة من صباح اليوم؟»

ابتسم القس.

وقال: «نحن، من لا نعمل في مهنتك نفسها يا سيد هانو، يُسمح لنا بأن نمتلك روحًا متسامحة بما يكفي لأن نعتقد بأنها لم تُسرق من الأساس.»

قال هانو بخشونة: «هذا غير مقبول.» كان الرجلان يقفان وجهًا لوجه، وكان القس يُخفي ما يعرف خلف قسمات وجهه الجامدة، وبينما كان هانو ينظر إليه من أعلى كما لو كان يستجوبه. وأُهملت المجاملات المُهَذَّبة على غرار «نيافة القس» و«السيد هانو» مثلما تُهمل النساء فساتين السنة الماضية القديمة. وقال هانو: «إنك لم تعثر على ملابسك الكهنوتية كاملةً في غرفتك الكنسية صباح اليوم. فهناك واحد في مشرحة فيلبلانش ملطخ بدماء شابة تناولت العشاء معك على الطاولة نفسها في هذا المنزل ليلة أمس، وقُتلت بوحشية بعد ذلك.»

كتم السيد ريكاردو بالكاد صيحةً كادت تفر من بين شفتَيه، عندما فهم استقراء هانو الدقيق بأن ثوب الكاهن هو نفسه قطعة الكتان الناعم الممزقة التي كانت جثة إيفيلين ديفينيش ملفوفةً فيها. ولكن كان القس هو من أطلق تلك الصيحة. وفغر فاه، ووقف في مكانه يُحدِّق في وجه المحقق، وأصبح أشبه بتمثال يُجسِّد الرعب.

ثم تلعثم وهو يقول: «هل أنت واثق بهذا الرجس؟» ولكنه لم ينتظر إجابةً عن سؤاله. فقد تخلَّى عن جميع دفاعاته. ولم يكن يمتلك حجرًا ضخمًا أو مقلاعًا لإطلاقه. فسار مترنحًا نحو أريكة وألقى بجسده الثقيل عليها، وعبث في ملابسه حتى أخرج منديلًا مسح به جبهته. ولكن لم يكن ليتركه هانو في شأنه. فتقدَّم منه ووقف أمامه. وأخرج فجأةً القناع من تحت غطائه كاشفًا عن جماله الغريب المُنفِّر، ووضعه أمام عينَي القس.

وسأله: «هل تعرف فيمَ يُستخدم هذا؟»

قال القس وطيف ابتسامة يرتسم على وجهه: «يُستخدم في وقت المهرجان.» لم يكن قد نظر إلى القناع عن كثب. ولكن كان هانو يُمسك به بحيث لا يمكن لعيني القس أن تتجنَّبا النظر إليه، فنظر إليه، وعاد ينظر إليه، ثم أبعد جسده عنه كما لو أن لمسه قد ينقل له عدوى. ثم نهض واقفًا.

فقال هانو وهو يقف أمامه: «كانت هناك امرأة شابة تعيش في هذا المنزل ليلة أمس، ولكنها قُتلت بوحشية.»

ثم التفت نحو القس الذي قال: «فليرحمها الله.»

«ولكن اختفت أيضًا فتاة لا تزال في مقتبل العمر، فتاة تستمتع بحياتها، وتُلهم الآخرين أن يفعلوا المثل. ماذا عنها يا نيافة القس؟»

«سأدعو ألَّا يصيبها مكروه.»

«ولكن لا شيء آخر تساعدني به!» رنَّ صوت هانو في جميع أركان الشرفة والحديقة. كانت كلماته مليئةً باللوم، بل وأكثر من اللوم؛ الاتهام. ولكن لا حياة لمن تنادي. فقد كانت عينا القس تُحدِّقان في تلك اللحظة في الأفق البعيد. هل انتهت حياة أو اثنتان؟ هل تعرَّضت لبضع ساعات من المعاناة؟ لم يكن القس فاورييه ينظر إلى الحديقة، ولا إلى وادي جيروند، ولا إلى الساحل المرتفع خلف نهر جيروند. بل كان يتأمل في أن حياة امرأة أو اثنتين، أو معاناتهما لبضع ساعات، لن تُغيِّر شيئًا في صيرورة الزمن.

قال في احترام شديد: «سيدي، لقد ارتُكبت جريمة مريعة. وربما كان هناك تفسير مُخيف لهذه الجريمة. إنك تعرف ما حدث أكثر مما أعرف أنا. أرجو أن تعذرني.»

كان هانو يرى أنه انكسر. وأنه عانى عصر اليوم من صدمة ليس من المُرَجَّح أن يتعافى منها. بل إن هانو أفسح الطريق أمامه وتركه يمر حتى اختفى داخل نافذة غرفة الاستقبال المفتوحة من دون أي محاولة أخرى لمنعه. ولكن بمجرد أن انصرف القس فاورييه، تغيَّر سلوك هانو. فظلَّ يُحدِّق في النافذة عابسًا كطفل صغير.

ثم قال بصوت خافت: «يا للماكر العجوز! إنه يعرف أكثر بكثير مما سيخبرنا. ولكنه، على أي حال، أخبرني بأكثر بكثير مما كان يود إخباري به عبر عزوفه عن إخباري بأي شيء من الأساس.»

ثم التفت نحو السيد ريكاردو، وقال: «لقد تناولت العشاء هنا ليلة أمس، وكذلك القس فاورييه، أليس كذلك؟»

«بلى.»

أمسك هانو بذراع ريكاردو وجذبه ليجلس بجانبه على الأريكة. وقال: «أخبرني على الفور بكل ما قاله هذا الرجل ليلة أمس؛ وبكل ما فعل.»

كل ما فعل! نعم، كان هناك شيء فعله. تذكَّر السيد ريكاردو المشهد … كان هناك شيء ما قد قيل … نعم … وسكت القس عن الكلام … وصنع حركةً بسيطة بيده … نعم!

قال السيد ريكاردو: «حلَّت لحظة عندما رسم علامة الصليب تحت مفرش الطاولة.»

قال هانو في إصرار وهو يضغط على ذراع صديقه: «أوه! أخبرني بما حدث في تلك اللحظة!»

قال السيد ريكاردو: «دعني أتذكَّر! لم يحدث شيء مهم وإلا لكنت تذكرته. نعم! شعرت بالحيرة في تلك اللحظة. كنت أشعر بالحيرة بكل تأكيد!»

علَّق هانو في صبر: «أمر غريب أن تشعر بالحيرة.»

«نعم، هذا صحيح. ولكني كنت متحيرًا.» ثم ابتهج السيد ريكاردو. فلم تخنه ذاكرته. فقد تذكَّر جيدًا أنه كان متحيرًا.

قال هانو: «حسنًا يا صديقي، ثمة أمر أشعرك بالحيرة.»

ردَّ عليه السيد ريكاردو بقليل من خيبة الأمل: «هذا صحيح. أؤكد لك أنني لا يمكن أن أتحيَّر إلا إذا كان هناك أمر يجعلني متحيرًا. ولكن ماذا كان؟»

«أجل! ماذا كان؟ تخيَّل مشهد طاولة العشاء في ذاكرتك. السيدة تاسبورو هنا، والقس هناك …»

صاح السيد ريكاردو فجأةً: «وجدتها. أحدهم … كان يجلس بالقرب مني … مهلًا! على الجانب نفسه من الطاولة؛ أجل!» رفع يده في الهواء وبدا التركيز الشديد على وجهه. وصاح: «إيفيلين ديفينيش! كانت قد ارتجفت فجأةً وبعنف.»

«أجل».

«وشخص ما؛ أوه، بالطبع، كان هذا ما حيَّرني»؛ ثم أسند السيد ريكاردو ظهره على ذراع الأريكة وجلس راضيًا عن نفسه.

قال هانو بأكثر نبرات صوته رقة: «ولكنك لم تخبرني بما جعلك تشعر بالحيرة.»

ولكن، صاح السيد ريكاردو متألِّمًا، وقال: «أنت تؤلم ذراعي.»

كانت أصابع هانو قابضةً على الذراع وكأنها قيد. فأرخى قبضته على الفور. وقال: «آسف يا صديقي.»

قال السيد ريكاردو لائمًا بينما كان يُدلِّك ذراعه المكدومة: «يجدر بك أن تأسف. ستكون هناك كدمة كبيرة في هذا المكان غدًا. المرة الأخيرة التي آلمتني ذراعي كما تؤلمني الآن، كانت بعد تجمع لهواة الرماية في الريف. لم أكن بارعًا في استخدام القوس … وكان هذا في أحد بيوت بيركشاير … نعم! دعني أتذكر! كان بيت مَن؟»

كان هذا منذ مدة. كان السيد ريكاردو قد بدأ يراجع في ذهنه أسماء معارفه في بيركشاير ليعرف من استضاف هذا التجمع، عندما علَّق هانو قائلًا:

«لقد ارتجفت إيفيلين ديفينيش فجأةً وبعنف إذن.»

حدَّق السيد ريكاردو لثانية أو نحوها في وجه رفيقه وأعاد ذهنه من بيركشاير على متن أول قطار سريع.

وقال لهانو بجدية: «لم يكن يجدر بي أن أنحرف عن إخبارك بما كنت أُخبرك به. نعم، ارتجفت إيفيلين ديفينيش، وصاحت جويس ويبل أيضًا بعنف، وقالت: «لا جدوى من النظر لي يا إيفيلين. لست أنا من يوزِّع البرودة.» بدا لي حينئذٍ أن ثمة هيستيريا خفيةً لدى كلٍّ من إيفيلين وجويس ويبل. لا ريب في أن كلتيهما كانتا عصبيتين؛ وخاصةً جويس. فقد تغيَّر صوتها الخافت العذب بطبيعته، ليُصبح أجش وقاسيًا. لم أتمكن من اكتشاف أي سبب للانفعالات التي تسيطر على هاتين المرأتين الشابتين. ولكنها ظهرت فجأةً، واختفت أيضًا فجأةً - مثل وميض البرق. ولكن فهم القس ما يحدث. فرسم علامة الصليب في الخفاء، ولم يتحدث مطلقًا حتى انتهى العشاء. لم ينطق كلمةً واحدة! لم يفعل شيئًا سوى الجلوس يراقب ما يحدث على طاولة العشاء بعينين لامعتين … مثل … مثل … عيني طائر!»

ربت هانو على ركبة صديقه، وجلس متجهِّمًا. وكرَّر عبارة: «لست أنا من يُوزِّع البرودة.» ثم رفع عينَيه نحو هيربستال، وقال: «هذه عبارة غاية في الغرابة أيها المفوض. ولكن ذلك الماكر العجوز فهم ما تعنيه. يجب علينا أن نفهم ما تعنيه أيضًا. فأنا أعتقد أنها مفتاح حل القضية برمتها.»

ثم نهض كما لو أن كل ما يريده من الشرفة والحديقة قد انتهى. ولكن قبل أن يتمكَّن من الابتعاد، سمع صوت سيارة تقترب وتقف أمام الجانب الآخر من المنزل.

فقال: «لقد عاد المتجولان.» ثم أخرج ساعته ونظر فيها.

وقال: «إنها السادسة!»

كان الوقت قد مر سريعًا بالنسبة إلى مجموعة الرجال في الشرفة. لم يُصدِّق السيد ريكاردو أن ثلاث ساعات قد مرت منذ أن غادرت ديانا تاسبورو وروبن ويبستر ليرسلا برقيةً من بوياك.

قال هانو: «كان أفضل ما فعلاه هو أن خرجا من المنزل.» وأخرج من جيبه علبة سجائر سوداء مُغلَّفةً بورق أزرق فاتح. وقدَّم سيجارةً إلى المفوض هيربستال، الذي أخذها، وسيجارةً أخرى إلى السيد ريكاردو، الذي لم يأخذها. ثم أشعل عود ثقاب كبريتيًّا، وراقبه والنار تشتعل فيه، وأشعل سيجارة المفوض في احترام. ثم أشعل سيجارته، وعاد ليجلس، وبدأ يقص في هدوء حكايةً عن تجربة قديمة مرَّ بها عندما كان مبتدئًا في سلك الشرطة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥